ثم ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك فقال : { الله ولي الذين آمنوا } وهذا يشمل ولايتهم لربهم ، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا ، قد اتخذوه حبيبا ووليا ، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه ، فتولاهم بلطفه ومنَّ عليهم بإحسانه ، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم ، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } فتولوا الشيطان وحزبه ، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم ، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا ، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا ، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي ، فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات ، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات ، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة ، فلهذا قال تعالى : { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )
ثم يمضي السياق يصور في مشهد حسي حي متحرك طريق الهدى وطريق الضلال ؛ وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال . . يصور كيف يأخذ الله - ولي الذين آمنوا - بأيديهم ، فيخرجهم من الظلمات إلى النور . بينما الطواغيت - أولياء الذين كفروا - تأخذ بأيدهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات !
إنه مشهد عجيب حي موح . والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء ، جيئة من هنا وذهابا من هناك . بدلا من التعبير الذهني المجرد ، الذي لا يحرك خيالا ، ولا يلمس حسا ، ولا يستجيش وجدانا ، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ .
فإذا أردنا أن ندرك فضل طريقة التصوير القرآنية ، فلنحاول أن نضع في مكان هذا المشهد الحي تعبيرا
ذهنيا أيا كان . لنقل مثلا : الله ولي الذين آمنوا يهديهم إلى الإيمان . والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يقودونهم إلى الكفران . . إن التعبير يموت بين أيدينا ، ويفقد ما فيه من حرارة وحركة وإيقاع !
وإلى جانب التعبير المصور الحي الموحي نلتقي بدقة التعبير عن الحقيقة :
( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور . والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) . .
إن الإيمان نور . . نور واحد في طبيعته وحقيقته . . وإن الكفر ظلمات . . ظلمات متعددة متنوعة . ولكنها كلها ظلمات .
وما من حقيقة أصدق ولا أدق من التعبير عن الإيمان بالنور ، والتعبير عن الكفر بالظلمة .
إن الإيمان نور يشرق به كيان المؤمن أول ما ينبثق في ضميره . تشرق به روحه فتشف وتصفو وتشع من حولها نورا ووضاءة ووضوحا . . نور يكشف حقائق الأشياء وحقائق القيم وحقائق التصورات ، فيراها قلب المؤمن واضحة بغير غبش ، بينة بغير لبس ، مستقرة في مواضعها بغير أرجحة ؛ فيأخذ منها ما يأخذ ويدع منها ما يدع في هوادة وطمأنينة وثقة وقرار لا أرجحة فيه . . نور يكشف الطريق إلى الناموس الكوني فيطابق المؤمن بين حركته وحركة الناموس الكوني من حوله ومن خلاله ؛ ويمضي في طريقه إلى الله هينا لينا لا يعتسف ولا يصطدم بالنتوءات ، ولا يخبط هنا وهناك . فالطريق في فطرته مكشوف معروف .
وهو نور واحد يهدي إلى طريق واحد . فأما ضلال الكفر فظلمات شتى منوعة . . ظلمة الهوى والشهوة . وظلمة الشرود والتيه . وظلمة الكبر والطغيان . وظلمة الضعف والذلة . وظلمة الرياء والنفاق . وظلمة الطمع والسعر . وظلمة الشك والقلق . . . وظلمات شتى لا يأخذها الحصر تتجمع كلها عند الشرود عن طريق الله ، والتلقي من غير الله ، والاحتكام لغير منهج الله . . وما يترك الإنسان نور الله الواحد الذي لا يتعدد . نور الحق الواحد الذي لا يتلبس . حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع وشتى الأصناف . . وكلها ظلمات . . !
والعاقبة هي اللائقة بأصحاب الظلمات :
( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . . وإذ لم يهتدوا بالنور ، فليخلدوا إذن في النار !
إن الحق واحد لا يتعدد والضلال ألوان وأنماط . . فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سُبُل السلام فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير ، وأن الكافرين إنما وليهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات ، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات ؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] وقال تعالى : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور } [ الأنعام : 1 ] وقال تعالى : { عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ } [ النحل : 48 ] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق ، وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن ميسرة حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان عن موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد قال : يبعث أهل الأهواء{[4382]} - أو قال : يبعث أهل الفتن - فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته بيضاء مضيئة ، ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة ، ثم قرأ هذه الآية : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.