تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ} (45)

يخبر تعالى أن الملائكة بشرت مريم عليها السلام بأعظم بشارة ، وهو كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، سمي كلمة الله لأنه كان بالكلمة من الله ، لأن حالته خارجة عن الأسباب ، وجعله الله من آياته وعجائب مخلوقاته ، فأرسل الله جبريل عليه السلام إلى مريم ، فنفخ في جيب درعها فولجت فيها تلك النفخة الزكية من ذلك الملك الزكي ، فأنشأ الله منها تلك الروح الزكية ، فكان روحانيا نشأ من مادة روحانية ، فلهذا سمى روح الله { وجيها في الدنيا والآخرة } أي : له الوجاهة العظيمة في الدنيا ، جعله الله أحد أولي العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار والأتباع ، ونشر الله له من الذكر ما ملأ ما بين المشرق والمغرب ، وفي الآخرة وجيها عند الله يشفع أسوة إخوانه من النبيين والمرسلين ، ويظهر فضله على أكثر العالمين ، فلهذا كان من المقربين إلى الله ، أقرب الخلق إلى ربهم ، بل هو عليه السلام من سادات المقربين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ} (45)

33

والأن نجيء إلى مولد عيسى : العجيبة الكبرى في عرف الناس ، والشأن العادي للمشيئة الطليقة :

( إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم . وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ، ويكلم الناس في المهد وكهلا ؛ ومن الصالحين . قالت : رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ قال : كذلك الله يخلق ما يشاء . إذا قضى أمرا فإنما يقول له : كن . فيكون . . ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل . ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم : أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ، فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ؛ وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ؛ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين . ومصدقا لما بين يدي من التوارة ، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ، وجئتكم بآية من ربكم ، فاتقوا الله وأطيعون . إن الله ربي وربكم فاعبدوه . هذا صراط مستقيم ) . .

لقد تأهلت مريم - إذن - بالتطهر والقنوت والعبادة لتلقي هذا الفضل ، واستقبال هذا الحدث ، وها هي ذي تتلقى - لأول مرة - التبليغ عن طريق الملائكة بالأمر الخطير :

( إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم . وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين . ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ) . .

إنها بشارة كاملة وإفصاح عن الأمر كله . بشارة بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم . . فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة . وهو الكلمة في الحقيقة . فماذا وراء هذا التعبير ؟

إن هذه وأمثالها ، من أمور الغيب التي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد . . ربما كانت من الذي عناه الله بقوله : ( أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . . . ) إلخ .

ولكن الأمر أيسر من هذا إذا أردنا أن نفهم طبيعة هذه الحقيقة الفهم الذي يصل القلب بالله ، وصنعته وقدرته ، ومشيئته الطليقة :

لقد شاء الله أن يبدأ الحياة البشرية بخلق آدم من تراب - وسواء كان قد جبله مباشرة من التراب أو جبل السلالة الأولى التي انتهت إليه من تراب ، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر في طبيعة السر الذي لا يعلمه إلا الله . سر الحياة التي لابست أول مخلوق حي ، أو لابست آدم إن كان خلقه مباشرة من التراب الميت ! وهذه كتلك في صنع الله . وليست واحدة منهما بأولى من الأخرى في الوجود والكينونة . . . .

من أين جاءت هذه الحياة ؟ وكيف جاءت ؟ إنها قطعا شيء آخر غير التراب وغير سائر المواد الميتة في هذه الأرض . . شيء زائد . وشيء مغاير . وشيء ينشىء آثارا وظواهر لا توجد أبدا في التراب ولا في مادة ميتة على الإطلاق . .

هذا السر من أين جاء ؟ إنه لا يكفي أننا لا نعلم لكي ننكر أو نهذر ! كما يفعل الماديون في لجاجة صغيرة لا يحترمها عاقل فضلا عن عالم !

نحن لا نعلم . وقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلناها - نحن البشر - بوسائلنا المادية لمعرفة مصدرها . أو لإنشائها بأيدينا من الموات !

نحن لا نعلم . . ولكن الله الذي وهب الحياة يعلم . . وهو يقول لنا : إنها نفخة من روحه . وإن الأمر قد تم بكلمة منه . ( كن . فيكون ) . .

ما هي هذه النفخة ؟ وكيف تنفخ في الموات فينشأ فيه هذا السر اللطيف الخافي على الأفهام ؟

ما هي ؟ وكيف ؟ هذا هو الذي لم يخلق العقل البشري لإدراكه ، لأنه ليس من شأنه . إنه لم يوهب القدرة على إدراكه . إن معرفة ماهية الحياة وطريق النفخة لا يجديه شيئا في وظيفته التي خلقه الله لها - وظيفة الخلافة في الأرض - إنه لن يخلق حياة من موات . . فما قيمة أن يعرف طبيعة الحياة ، وماهية النفخة من روح الله ، وكيفية اتصالها بآدم أو بأول سلم الحياة الذي سارت فيه السلالة الحية ؟

والله - سبحانه - يقول : إن النفخة من روحه في آدم هي التي جعلت له هذا الامتياز والكرامة - حتى علىالملائكة - فلا بد إذن أن تكون شيئا آخر غير مجرد الحياة الموهوبة للدود والميكروب ! وهذا ما يقودنا إلى اعتبار الإنسان جنسا نشأ نشأة ذاتية ، وأن له اعتبارا خاصا في نظام الكون ، ليس لسائر الأحياء !

وعلى أية حال فهذا ليس موضوعنا هنا ، إنما هي لمحة في سياق العرض للتحرز من شبهة قد تقوم في نفس القارىء لما عرضناه جدلا حول نشأة الإنسان !

المهم هنا أن الله يخبرنا عن نشأة سر الحياة ؛ وإن لم ندرك طبيعة هذا السر وكيفية نفخه في الموات . .

وقد شاء الله - بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة - أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقا معينا . طريق التقاء ذكر وأنثى . واجتماع بويضة وخلية تذكير . فيتم الإخصاب ، ويتم الإنسال . والبويضة حية غير ميتة والخلية حية كذلك متحركة .

ومضى مألوف الناس على هذه القاعدة . . حتى شاء الله أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان . فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى . وإن لم تكن مثلها تماما . أنثى فقط . تتلقى النفخة التي تنشىء الحياة ابتداء . فتنشأ فيها الحياة !

أهذه النفخة هي الكلمة ؟ آلكلمة هي توجه الإرادة ؟ آلكلمة : ( كن )التي قد تكون حقيقة وقد تكون كناية عن توجه الإرادة ؟ والكلمة هي عيسى ، أو هي التي منها كينونته ؟

كل هذه بحوث لا طائل وراءها إلا الشبهات . . وخلاصتها هي تلك : أن الله شاء أن ينشىء حياة على غير مثال . فأنشأها وفق إرادته الطليقة التي تنشىء الحياة بنفخة من روح الله . ندرك آثارها ، ونجهل ماهيتها . ويجب أن نجهلها . لأنها لا تزيد مقدرتنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض ، ما دام إنشاء الحياة ليس داخلا في تكليف الاستخلاف !

والأمر هكذا سهل الإدراك . ووقوعه لا يثير الشبهات !

وهكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم . . فتضمنت البشارة نوعه ، وتضمنت اسمه ونسبه . وظهر من هذا النسب أن مرجعه إلى أمه . . ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه : ( وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ} (45)

هذه بشارة من الملائكة لمريم ، عليها السلام ، بأن سيوجد منها ولد عظيم ، له شأن كبير . قال الله تعالى : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } أي : بولد يكون وجوده بكلمة من الله ، أي : بقوله له : " كن " فيكون ، وهذا تفسير قوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } [ آل عمران : 39 ] كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه { اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } أي يكون مشهورًا بهذا في الدنيا ، يعرفه المؤمنون بذلك .

وسمي المسيح ، قال بعض السلف : لكثرة سياحته . وقيل : لأنه كان مسيح{[5038]} القدمين : [ أي ]{[5039]} لا أخْمَص لهما . وقيل : لأنه [ كان ]{[5040]} إذا مسح أحدًا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى .

وقوله : { عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } نسبة له إلى أمه ، حيث لا أب له { وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } أي : له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا ، بما يوحيه الله إليه من الشريعة ، وينزل{[5041]} عليه من الكتاب ، وغير ذلك مما منحه به ، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه ، فيقبل منه ، أسوة بإخوانه{[5042]} من أولي العزم ، صلوات الله عليهم .


[5038]:في ر: "يسيح".
[5039]:زيادة من أ.
[5040]:زيادة من أ.
[5041]:في أ، و: "وينزله".
[5042]:في جـ، أ: "إخوانه"، وفي ر، و: "إخوته".