تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

( 19 ) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أيها المشركون ، أي : تطلبوا من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين .

فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ حين أوقع اللّه بكم من عقابه ، ما كان نكالا لكم وعبرة للمتقين وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الاستفتاح فَهُوَ خَيْرٌ لأنه ربما أمهلتم ، ولم يعجل لكم النقمة . وإن تعودوا إلى الاستفتاح وقتال حزب الله المؤمنين نَعُدْ في نصرهم عليكم .

وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ أي : أعوانكم وأنصاركم ، الذين تحاربون وتقاتلون ، معتمدين عليهم ، شَيئا وأن الله مع الْمؤمنين .

ومن كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا عدده ، وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين ، تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان .

فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات ، فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه ، وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه ، لما انهزم لهم راية [ انهزاما مستقرا ]{[338]} ولا أديل عليهم عدوهم أبدا .


[338]:- زيادة من هامش ب.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

وعندما يصل السياق إلى تقرير . . أن الله موهن كيد الكافرين . . يتجه بالخطاب إلى الكافرين ، أولئك الذين استفتحوا قبيل المعركة ، فدعوا الله أن يجعل الدائرة على أضل الفريقين وآتاهما بما لا يُعرف وأقطعهما للرحم - كما كان دعاء أبي جهل وهو استفتاحه : أي طلبه الفتح من الله والفصل - فدارت الدائرة على المشركين ! . . يتوجه إليهم بالخطاب ، ساخرا من استفتاحهم ذاك ؛ مؤكدا لهم أن ما حدث في بدر إنما هو نموذج من السنة الجارية وليس فلتة عارضة ؛ وأن جموعهم وكثرتهم لن تغير من الأمر شيئا ؛ لأنها السنة الجارية : أن يكون الله مع المؤمنين :

( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح . وإن تنتهوا فهو خير لكم . وإن تعودوا نعد ، ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت . وأن الله مع المؤمنين ) . .

إن تستفتحوا فتطلبوا من الله أن يفتح بينكم وبين المسلمين ، وأن يهلك أضل الفريقين وأقطعهما للرحم . . فقد استجاب الله ، فجعل الدائرة عليكم ، تصديقاً لاستفتاحكم ! لقد دارت الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم ! ولقد علمتم - إن كنتم تريدون أن تعلموا - من هم أضل الفريقين وأقطعهما للرحم !

وعلى ضوء هذه الحقيقة ، وفي ظل هذا الإيحاء ، يرغبهم في الانتهاء عما هم فيه من الشرك والكفر والحرب للمسلمين ، والمشاقة لله ورسوله :

( وإن تنتهوا فهو خير لكم ) . .

ومع الترغيب الترهيب :

( وإن تعودوا نعد ) . .

والعاقبة معروفة ، لا يغيرها تجمع ، ولا تبدلها كثرة :

( ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت ) . .

وماذا تفعل الكثرة إذا كان الله في جانب المؤمنين ?

( وأن الله مع المؤمنين ) . .

إن المعركة على هذا النحو لن تكون متكافئة أبداً ؛ لأن المؤمنين - ومعهم الله - سيكونون في صف ؛ والكفار - وليس معهم إلا ناس من البشر من أمثالهم - سيكونون في الصف الآخر . والمعركة على هذا النحو مقررة المصير !

ولقد كان مشركو العرب يعرفون هذه الحقيقة . فإن معرفتهم بالله سبحانه لم تكن قليلة ولا سطحية ولا غامضة ؛ كما يتصور الناس اليوم من خلال تأثرهم ببعض التعميمات التاريخية . ولم يكن شرك العرب متمثلا في إنكار الله - سبحانه - ولا في عدم معرفتهم الحقيقة . . إنما كان يتمثل ، أكثر ما يتمثل ، في عدم إخلاصهم العبودية له ؛ وذلك بتلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غيره ؛ وهو ما لم يكن متفقاً مع إقرارهم بألوهية الله ومعرفتهم لحقيقته . .

ولقد مر بنا في استعراض أحداث الموقعة من كتب السيرة : أن خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري - أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري - بعث إلى قريش ، حين مروا به ، ابنا له بجزائر أهداها لهم ؛ وقال لهم : إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا . قال : فارسلوا إليه مع ابنه : أن وصلتك رحم ! قد قضيت الذي عليك . فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم . ولئن كنا إنما نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة .

كذلك مر بنا قول الأخنس بن شريق لبني زهرة - وهو مشرك وهم مشركون - : يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم ، وخلص لكم صاحبكم مخرقة بن نوفل . . . الخ

ومثله استفتاح أبي جهل نفسه - فرعون هذه الأمة كما قال عنه رسول الله [ ص ] - وهو يقول : " اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة " . .

وكذلك قوله لحكيم بن حزام وقد جاءه رسولا من عتبة بن ربيعة ليرجع عن القتال : " كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد " !

فهكذا كان تصورهم للحقيقة الإلهية ، واستحضارهم لها في كل مناسبة . ولم يكن أمرهم أنهم لا يعرفون الله ؛ أو لا يعرفون أنه ما لأحد بالله من طاقة ، أو لا يعرفون أنه هو الذي يحكم ويفصل بين الجبهتين حيث لا راد لحكمه ! إنما كان شركهم الحقيقي يتمثل ابتداء في تلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غير الله ، الذي يعرفونه ويعترفون به على هذا النحو . . الأمر الذي يشاركهم فيه اليوم أقوام يظنون أنهم مسلمون - على دين محمد - كما كان المشركون يظنون أنهم مهتدون على دين أبيهم إبراهيم ! حتى لكان أبو جهل - وهو أبو جهل - يستفتح على الله فيقول : " اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف - وفي رواية : اللهم أضل الفريقين وأقطعهما للرحم - فأحنه الغداة " !

فأما تلك الأصنام التي عرف أنهم يعبدونها ، فما كان ذلك قط لاعتقادهم بألوهية لها كألوهية الله - سبحانه - ولقد صرح القرآن الكريم بحقيقة تصورهم الاعتقادي فيها وبسبب تقديمهم الشعائر لها في قوله تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) . . فهذا كان مبلغ تصورهم لها . . مجرد شفعاء عند الله . . وما كان شركهم الحقيقي من هذه الجهة ؛ ولا كان إسلام من أسلم منهم متمثلاً في مجرد التخلي عن الاستشفاع بهذه الأصنام . وإلا فإن الحنفاء ، الذي اعتزلوا عبادة الأصنام هذه وقدموا الشعائر لله وحده ما اعتبروا مسلمين ! إنما تمثل الإسلام في الاعتقاد والشعائر وإفراد الله سبحانه بالحاكمية . والذين لا يفردون الله سبحانه بالحاكمية - في أي زمان وفي أي مكان - هم مشركون . لا يخرجهم من هذا الشرك أن يكون اعتقادهم أن لا إله إلا الله - مجرد اعتقاد - ولا أن يقدموا الشعائر لله وحده . . فإلى هنا يكونون كالحنفاء الذين لم يعتبرهم أحد مسلمين - إنما يعتبر الناس مسلمين حين يتمون حلقات السلسلة ، أي حين يضمون إلى الاعتقاد والشعائر ، إفراد الله سبحانه بالحاكمية ، ورفضهم الاعتراف بشرعية حكم أو قانون أو وضع أو قيمة أو تقليد لم يصدر عن الله وحده . . وهذا وحده هو الإسلام ، لأنه وحده مدلول شهادة : أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؛ كما عرف هذا المدلول في الاعتقاد الإسلامي وفي الواقع الإسلامي سواء ! . . ثم أن يتجمع هؤلاء الذين يشهدون أن لا إله إلا الله على هذا النحو وبهذا المدلول في تجمع حركي بقيادة مسلمة وينسلخوا من التجمع الجاهلي وقيادته الجاهلية !

وهذا ما ينبغي أن يتبينه الذين يريدون أن يكونوا " مسلمين " فلا تخدعهم عن حقيقة ما هم فيه خدعة أنهم

مسلمون اعتقاداً وتعبداً . فإن هذا وحده لا يجعل الناس " مسلمين " ما لم يتحقق لهم أنهم يفردون الله سبحانه بالحاكمية ، ويرفضون حاكمية العبيد ، ويخلعون ولاءهم للمجتمع الجاهلي ولقيادته الجاهلية .

إن كثيراً من المخلصين الطيبين تخدعهم هذه الخدعة . . وهم يريدون لأنفسهم الإسلام ولكنهم يُخدعون عنه . فأولى لهم أن يستيقنوا صورة الإسلام الحقيقية . . والوحيدة . . وأن يعرفوا أن المشركين من العرب الذين يحملون اسم " المشركين " لم يكونوا يختلفون عنهم في شيء ! فلقد كانوا يعرفون الله بحقيقته - كما تبين - ويقدمون له شفعاء من أصنامهم . . وكان شركهم الأساسي يتمثل - لا في الاعتقاد - ولكن في الحاكمية !

وإذا كان ينبغي للطيبين المخلصين الذين يريدون أن يكونوا مسلمين ، أن يتبينوا هذه الحقيقة ، فإن العصبة المسلمة التي تجاهد لإعادة نشأة هذا الدين في الأرض في عالم الواقع يجب أن تستيقن هذه الحقيقة بوضوح وعمق ؛ ويجب ألا تتلجلج فيها أي تلجلج ؛ ويجب أن تعرّف الناس بها تعريفاً صريحا واضحا جازما . . فهذه هي نقطة البدء والانطلاق . . فإذا انحرفت الحركة عنها - منذ البدء - أدنى انحراف ضلت طريقها كله وبنت على غير أساس ؛ مهما توافر لها من الإخلاص بعد ذلك والصبر والتصميم على المضي في الطريق !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } . .

يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ يعني : إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم وأظلم الفئتين ، وتستنصروه عليه ، فقد جاءكم حكم الله ونصره المظلوم على الظالم ، والمحقّ على المبطل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء .

قال : حدثنا سويد بن عمرو الكلبي ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ يعني بذلك المشركين ، إن تستنصروا فقد جاءكم المدد .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن ابن عباس ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا قال : إن تستقضوا القضاء ، وإنه كان يقول : وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا قلت : للمشركين ؟ قال : لا نعلمه إلاّ ذلك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : كفار قريش في قولهم : ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه ، ففتح بينهم يوم بدر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : استفتح أبو جهل ، فقال : اللهمّ يعني محمدا ونفسه أينا كان أفجر لك اللهمّ وأقطع للرحم فأَحِنْهُ اليوم قال الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : استفتح أبو جهل بن هشام ، فقال : اللهمّ أينا كان أفجر لك وأقطع للرحم فأحنه اليوم يعني محمدا عليه الصلاة والسلام ونفسه . قال الله عزّ وجلّ : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ فضربه ابنا عفراء : عوف ومعوّذ ، وأجهز عليه ابن مسعود .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صعير العدويّ حليف بني زهرة ، أن المستفتح يومئذٍ أبو جهل ، وأنه قال حين التقى القوم : أينا أقطع للرحم وآتانا بما لا يُعرف فأَحِنْهُ الغداة فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله في ذلك : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . الاَية .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . الاَية ، يقول : قد كانت بدر قضاء وعبرة لمن اعتبر .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان المشركون حين خرجوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة ، أخذوا بأستار الكعبة ، واستنصروا الله ، وقالوا : اللهمّ انصر أعزّ الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين فقال الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ يقول : نصرت ما قلتم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . إلى قوله : وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وذلك حين خرج المشركون ينظرون عيرهم ، وإن أهل العير أبا سفيان وأصحابه أرسلوا إلى المشركين بمكة يستنصرونهم ، فقال أبو جهل : أينا كان خيرا عندك فانصره وهو قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا يقول : تستنصروا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : إن تستفتحوا العذاب ، فعذّبوا يوم بدر ، قال : وكان استفتاحهم بمكة ، قالوا : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمِ قال : فجاءهم العذاب يوم بدر . وأخبر عن يوم أُحد : وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عطية ، قال : قال أبو جهل يوم بدر : اللهمّ انصر أهدى الفئتين ، وخير الفئتين وأفضل فنزلت : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .

قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهريّ ، أن أبا جهل هو الذي استفتح يوم بدر وقال : اللهمّ أينا كان أفجر وأقطع لرحمه ، فأحِنْهُ اليوم فأنزل الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .

قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير : أن أبا جهل ، قال يوم بدر : اللهمّ أقطعنا لرحمه ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحِنْه الغداة وكان ذلك استفتاحا منه ، فنزلت : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . الاَية .

قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهريّ ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، قال : كان المستفتح يوم بدر أبا جهل ، قال : اللهمّ أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة فأنزل الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن مسلم الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير ، حليف بني زهرة ، قال : لما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قال أبو جهل : اللهمّ أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة فكان هو المستفتح على نفسه .

قال ابن إسحاق : فقال الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ لقول أبي جهل : اللهمّ أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه للغداة قال : الاستفتاح : الإنصاف في الدعاء .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن يزيد بن رومان وغيره ، قال أبو جهل يوم بدر : اللهمّ انصر أحبّ الدينين إليك ، ديننا العتيق ، أم دينهم الحديث فأنزل الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . إلى قوله : وَأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ .

وأما قوله : وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فإنه يقول : وإن تنتهوا يا معشر قريش وجماعة الكفار عن الكفر بالله ورسوله ، وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، فهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم . وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ يقول : وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال أتباعه المؤمنين ، نَعُدْ : أي بمثل الواقعة التي أُوقعت بكم يوم بدر .

وقوله : وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ يقول : وإن تعودوا نعد لهلاككم بأيدي أوليائي وهزيمتكم ، ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسبيكم وهزمكم فئتكم شيئا ولو كثرت ، يعني جندهم وجماعتهم من المشركين ، كما لم يغنوا عنهم يوم بدر مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئا . وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ يقول جلّ ذكره : وأن الله مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم ، ينصرهم عليهم ، أو يظهرهم كما أظهرهم يوم بدر على المشركين .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، في قوله : وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال : يقول لقريش : وإن تعودوا نعد لمثل الواقعة التي أصابتكم يوم بدر . وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ : أي وإن كثر عددكم في أنفسكم لن يغني عنكم شيئا ، وأن الله مع المؤمنين ينصرهم على من خالفهم .

وقد قيل : إن معنى قوله : وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ وإن تعودوا للاستفتاح نعد لفتح محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا القول لا معنى له لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه عليه الصلاة والسلام حين أذن له في حرب أعدائه إظهار دينه وإعلاء كلمته من قبل أن يستفتح أبو جهل وحزبه ، فلا وجه لأن يقال والأمر كذلك إن تنتهوا عن الاستفتاح فهو خير لكم وإن تعودوا نعد لأن الله قد كان وعد نبيه صلى الله عليه وسلم الفتح بقوله : أُذنَ للّذينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا وإنّ اللّهَ على نَصْرهِمْ لَقَديرٌ استفتح المشركون أو لم يستفتحوا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ : إن تستفتحوا الثانية نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم . وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ : محمد وأصحابه .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ ففتحها عامة قرّاء أهل المدينة ، بمعنى : ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت ، وأن الله مع المؤمنين . فعطف ب «أنّ » على موضع «ولو كثرت » كأنه قال : لكثرتها ، ولأن الله مع المؤمنين ويكون موضع «أن » حينئذٍ نصبا على هذا القول . وكان بعض أهل العربية يزعم أن فتحها إذا فتحت على : وأنّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدَ الكافِرِينَ ، وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ عطفا بالأخرى على الأولى . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين والبصريين : «وإنّ اللّهَ » بكسر الألف على الابتداء ، واعتلوا بأنها في قراءة عبد الله : «وَإنّ اللّهَ لَمَعَ المُؤْمِنِينَ » .

وأولى القراءتين بالصواب ، قراءة من كسر «إن » للابتداء ، لتقضي الخبر قبل ذلك عما يقتضي قوله : وَإنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

جمهور المفسرين جعلوا الخطاب موجهاً إلى المشركين ، فيكون الكلام اعتراضاً خوطب به المشركون في خلال خطبات المسلمين بمناسبة قوله : { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } [ الأنفال : 18 ] والخطاب التفات من طريق الغيبة الذي اقتضاه قوله : { وأن الله موهن كيد الكافرين } [ الأنفال : 18 ] وذكر المفسرون في سبب نزولها أن أبا جهل وأصحابه لما أزمعوا الخروج إلى بدر استنصروا الله تجاه الكعبة ، وأنهم قبل أن يشرعوا في القتال يومَ بدر استنصروا الله أيضاً وقالوا ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه ، فخوطبوا بأن قد جاءهم الفتح على سبيل التهكم أي الفتح الذي هو نصر المسلمين عليهم .

وإنما كان تهكماً لأن في معنى { جاءكم الفتح } استعارة المجيء للحصول عندهم تشبيهاً بمجيء المُنجد لأن جعل الفتح جاءيا إياهم . يقتضي أن النصر كان في جانبهم ولمنفعتهم ، والواقع يخالف ذلك ، فعُلم أن الخبر مستعمل في التهكم بقرينة مخالفته الواقع بمسمع المخاطبين ومرآهم .

وحَمل ابن عطية فعل { جاءكم } على معنى : فقد تبين لكم النصر ورأيتموه أنه عليكم لا لكم ، وعلى هذا يكون المجيء بمعنى الظهور : مثل { وجاء ربك } [ الفجر : 22 ] ومثل { جاء الحق وزهق الباطل } [ الإسراء : 81 ] ولا يكون في الكلام تهكم .

وصيغ { تستفتحوا } بصيغة المضارع مع أن الفعل مضى لقصد استحضار الحالة من تكريرهم الدعاء بالنصر على المسلمين ، وبذلك تظهر مناسبة عطف { وإن تنتهوا فهو خير لكم } إلى قوله { وأن الله مع المؤمنين } أي تنتهوا عن كفركم بعد ظهور الحق في جانب المسلمين .

وعطف الوعيدُ على ذلك بقوله : { وإن تَعُودوا نعد } أي : إن تعودوا إلى العناد والقتال نعد ، أي نعد إلى هزمكم كما فعلنا بكم يوم بدر .

ثم أيْأسهم من الانتصار في المستقبل كله بقوله : { ولن تُغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت } أي لا تنفعكم جماعتكم على كثرتها كما لم تغن عنكم يوم بدر ، فإن المشركين كانوا يومئذٍ واثقين بالنصر على المسلمين لِكثرة عَددهم وعُدَدهم . والظاهر أن جملة : { إن تعودوا } معطوفة على جملة الجزاء وهي : { فقد جاءكم الفتح } .

و { لو } اتصالية أي { لن } تغني عنكم في حال من الأحوال ولو كانت في حال كثرة على فئةِ أعدَائِكم ، وصاحب الحال المقترنة ب ( لو ) الاتصالية قد يكون متصفاً بمضمونها ، وقد يَكون متصفاً بنقيضه ، فإن كان المراد من العَود في قوله : { وإن تعودوا } العود إلى طلب النصر للمُحق فالمعنى واضح ، وإن كان المراد منه العود إلى محاربة المسلمين فقد يشكل بأن المشركين انتصروا على المسلمين يومَ أُحُد فلم يتحقق معنى نَعُد ولا موقع لجملة : { ولن تغني عنكم فئتكم } فإن فئتهم أغنت عنهم يوم أُحُد .

والجواب عن هذا إشكال أن الشرط لم يكن بأداة شرط مما يفيد العموم مثل ( مَهْما ) فلا يُبطله تخلف حصول مضمون الجزاء عن حصول الشرط في مرة ، أو نقول إن الله قضى للمسلمين بالنصر يوم اُحُد ، ونصرهم وعلم المشركون أنهم قد غُلبوا ثم دارت الهزيمة على المسلمين ؛ لأنهم لم يمتثلوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَحوا عن الموضع الذي أمرهم أن لا يبرحوا عنه طلباً للغنيمة فعوقبوا بالهزيمة كما قال : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } [ آل عمران : 166 ] وقال { إن الذين تَولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } وقد مضى ذلك في سورة [ آل عمران : 155 ] ، وبعدُ ففي هذا الوعيد بشارة أن النصر الحاسم سيكون للمسلمين وهو نصر يوم فتح مكة .

وجملة : { وأن الله مع المؤمنين } على هذا التفسير زيادة في تأييس المشركين من النصر ، وتنويه بفضل المؤمنين بأن النصر الذي انتصروه هو من الله لا بأسبابهم فإنهم دون المشركين عدداً وعُدة .

ومن المفسرين من جعل الخطاب بهذه الآية للمسلمين ، ونسب إلى أُبيّ بن كعب وعطاء ، لكون خطاب المشركين بعد الهجرة قد صار نادراً ، لأنهم أصبحوا بُعداء عن سماع القرآن ، فتكون الجملة مستأنفة استينافاً بيانياً فإنهم لما ذُكروا باستجابة دعائهم بقوله : { إذ تستغيثون ربكم } [ الأنفال : 9 ] الآيات ، وأمروا بالثبات للمشركين ، وذكروا بنصر الله تعالى إياهم يوم بدر بقوله : { فلم تقتلوهم } إلى قوله { مُوهن كيد الكافرين } [ الأنفال : 17 ، 18 ] كان ذلك كله يثير سؤالاً يختلج في نفوسهم أن يقولوا أيكون كذلك شأننا كلما جاهدنا أم هذه مزية لوقعة بدر ، فكانت هذه الآية مفيدة جواب هذا التساؤل . فالمعنى : إن تستنصروا في المستقبل قوله فقد جاءكم الفتح ، والتعبير بالفعل الماضي في جواب الشرط للتنبيه على تحقيق وقوعه ، ويَكون قوله { فقد جاءكم الفتح } دليلاً على كلام محذوف ، والتقدير : إن تستنصروا في المستقبل ننصركم فقد نصرناكم يوم بدر .

والاستفتاح على هذا التفسير كناية عن الخروج للجهاد ، لأن ذلك يستلزم طلب النصر ومعنى { وإن تنتهوا فهو خير لكم } أي إن تمسكوا عن الجهاد حيث لا يتعين فهو أي الإمساك ، خير لكم لتستجمعوا قوتكم وأعدادكم ، فأنتم في حال الجهاد منتصرون ، وفي حال السلم قائمون بأمر الدين وتدبير شؤونكم الصالحة ، فيكون كقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تمنّوا لقاء العدو ، وقيل المراد وإن تنتهوا عن التشاجر في أمر الغنيمة أو عن التفاخر بانتصاركم يوم بدر فهو خير لكم من وقوعه . وأما قوله : { وإن تعودوا نعد } على هذا التفسير فهو إن تعودوا إلى طلب النصر نعد فننصركم أي لا يُنقص ذلك من عطائنا كما قال زهير/

سألنا فأعطيتكم وعدنا فعُدْتُم *** ومن أكثر التَسآل يوماً سيُحرم

يُعلّمهم الله صدق التوجه إليه ، ويكون موقع { ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً } زيادة تقرير لمضمون { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } وقوله : { وإن تعودوا نعد } أي لا تعتمدوا إلاّ على نصر الله .

فموقع قوله : { ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً } بمنزلة التعليل لتعليق مجيء الفتح على أن { تستفتحوا } المشعر بأن النصر غير مضمون الحصول إلاّ إذا استنصروا بالله تعالى وجملَه { ولو كثرت } في موضع الحال ، و { لو } اتصالية ، وصاحب الحال متصف بضد مضمونها ، أي : ولو كثرت فكيف وفئتكم قليلة ، وعلى هذا الوجه يكون في قوله : { وأن الله مع المؤمنين } إظهار في مقام الإضمار ، لأن مقتضى الظاهر أن يقال : وإن الله معكم ، فعدل إلى الاسم الظاهر للإيماء إلى أن سبب عناية الله بهم هو إيمانهم . فهذان تفسيران للآية والوجدان يكون كلاهما مراداً .

والفتح حقيقته إزالة شيء مجعول حَاجزاً دون شيء آخر ، حفظاً له من الضياع أو الافتكاك والسرقة ، فالجدار حاجز ، والباب حاجز ، والسد حاجز ، والصندوق حاجز ، والعِدل تجعل فيه الثياب والمتاع حاجز ، فإذا أزيل الحاجز أو فرج فيه فرجة يسلك منها إلى المحجوز سميت تلك الإزالة فتحاً ، وذلك هو المعنى الحقيقي ، إذ هو المعنى الذي لا يخلو عن اعتباره جميع استعمال مادة الفتح وهو بهذا المعنى يستعار لإعطاء الشيء العزيز النوال استعارةً مفردةً أو تمثيلية وقد تقدم عند قوله تعالى : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } [ الأنعام : 44 ] وقوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات } الآية في سورة [ الأعراف : 96 ] فالاستفتاح هنا طلب الفتح أي النصر ، والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر .

وكثر إطلاق الفتح على حلول قوم بأرض أو بلدِ غيرهم في حرب أو غارة ، وعلى النصر ، وعلى الحُكْم ، وعلى معان أُخر ، على وجه المجاز أو الكناية وقوله : { وأن الله مع المؤمنين } وقرأه نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، بفتح همزة { أن } على تقدير لام التعليل عطفاً على قوله : { وأن الله موهن كيد الكافرين } [ الأنفال : 18 ]

وقرأه الباقون بكسر الهمزة ، فهو تذييل للآية في معنى التعليل ، لأن التذييل لما فيه من العموم يصلح لإفادة تعليل المذيّل ، لأنه بمنزلة المقدمة الكبرى للمقدمة الصغرى .