{ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ } : المقبول قولهم ، محرضين قومهم على التمسك بما هم عليه من الشرك . { أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } أى : استمروا عليها ، وجاهدوا نفوسكم في الصبر عليها وعلى عبادتها ، ولا يردكم عنها راد ، ولا يصدنكم عن عبادتها ، صاد . { إِنَّ هَذَا } الذي جاء به محمد ، من النهي عن عبادتها { لَشَيْءٌ يُرَادُ } أي : يقصد ، أي : له قصد ونية غير صالحة في ذلك ، وهذه شبهة لا تروج إلا على السفهاء ، فإن من دعا إلى قول حق أو غير حق ، لا يرد قوله بالقدح في نيته ، فنيته وعمله له ، وإنما يرد بمقابلته بما يبطله ويفسده ، من الحجج والبراهين ، وهم قصدهم ، أن محمدا ، ما دعاكم إلى ما دعاكم ، إلا ليرأس فيكم ، ويكون معظما عندكم ، متبوعا .
كما يصور طريقتهم في مقاومة هذه الحقيقة في نفوس الجماهير ، وتثبيتهم على ما هم عليه من عقيدة موروثة متهافتة . وإيهامهم أن وراء الدعوة الجديدة خبيئاً غير ظاهرها ؛ وأنهم هم الكبراء العليمون ببواطن الأمور ، مدركون لما وراء هذه الدعوة من خبيء ! ( وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ) . . فليس هو الدين ، وليست هي العقيدة ، إنما هو شيء آخر يراد من وراء هذه الدعوة . شيء ينبغي أن تدعه الجماهير لأربابه ، ولمن يحسنون فهم المخبآت وإدراك المناورات ! وتنصرف هي إلى عادتها الموروثة ، وآلهتها المعروفة ، ولا تعني نفسها بما وراء المناورة الجديدة ! فهناك أربابها الكفيلون بمقاومتها . فلتطمئن الجماهير ، فالكبراء ساهرون على مصالحهم وعقائدهم وآلهتهم !
إنها الطريقة المألوفة المكرورة التي يصرف بها الطغاة جماهيرهم عن الاهتمام بالشؤون العامة ، والبحث وراء الحقيقة ، وتدبر ما يواجههم من حقائق خطرة . ذلك أن اشتغال الجماهير بمعرفة الحقائق بأنفسهم خطر على الطغاة ، وخطر على الكبراء ، وكشف للأباطيل التي يغرقون فيها الجماهير . وهم لا يعيشون إلا بإغراق الجماهير في الأباطيل !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَانطَلَقَ الْمَلاُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىَ آلِهَتِكُمْ إِنّ هََذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } :
يقول تعالى ذكره : وانطلق الأشراف من هؤلاء الكافرين من قريش ، القائلين : أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلها وَاحِدا بأنِ امضُوا فاصبروا على دينكم وعبادة آلهتكم . فأن من قوله : أن امْشُوا في موضع نصب يتعلق انطلقوا بها ، كأنه قيل : انطلقوا مشيا ، ومضيا على دينكم . وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «وَانْطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ يَمْشُونَ أنِ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ » . وذُكر أن قائل ذلك كان عُقْبة ابن أبي مُعِيط . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد : ( وَانْطَلَق المَلأُ مِنْهُمْ ) ، قال : عقبة بن أبي معيط .
وقوله : إنّ هَذَا لَشْيءٌ يُرَادُ : أي إن هذا القول الذي يقول محمد ، ويدعونا إليه ، من قول لا إله إلا الله ، شيء يريده منا محمد يطلب به الاستعلاء علينا ، وأن نكون له فيه أتباعا ولسنا مجيبيه إلى ذلك .
{ وانطلق الملأ منهم } : وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب بعدما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . { أن امشوا } قائلين بعضهم لبعض { امشوا } . { اصبروا } واثبتوا . { على آلهتكم } على عبادتها فلا ينفعكم مكالمته ، و{ أن } هي المفسرة لأن الانطلاق عن مجلس التقاول يشعر بالقول . وقيل المراد بالانطلاق الاندفاع في القول ، و{ امشوا } من مشت المرأة إذا كثرت أولادها ومنه الماشية أي اجتمعوا ، وقرئ بغير { أن } وقرئ " يمشون أن اصبروا " { إن هذا لشيء يراد } إن هذا الأمر لشيء من ريب الزمان يراد بنا فلا مرد له ، أو أن هذا الذي يدعيه من التوحيد أو يقصده أو يقصده من الرئاسة ، والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يريده كل أحد ، أو أن دينكم لشيء يطلب ليؤخذ منكم .
الانطلاق حقيقته : الانصراف والمشي ، ويستعمل استعمال أفعال الشروع لأن الشارع ينطلق إليه ، ونظيره في ذلك : ذَهب بفعل كذا ، كما في قول النبهاني :
فإن كنتَ سيِّدنَا سدْتَنا *** وإن كنت للخال فاذْهب فَخلْ
وكذلك قام في قوله تعالى : { إذ قاموا فقالوا } في سورة [ الكهف : 14 ] .
وقيل : إن الانطلاق هنا على حقيقته ، أي وانصرف الملأ منهم عن مجلس أبي طالب . و { الملأ } : سادة القوم قال ابن عطية : قائل ذلك عقبة بن أبي معيط . وقال غير ابن عطية : إن من القائلين أبا جهل ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث .
و { أن } تفسيرية لأن الانطلاق إن كان مجازاً فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان فيه معنى القول دون حروفه فاحتاج إلى تفسيرٍ بكلام مقول ، وإن كان الانطلاقُ على حقيقته فقد تضمن انطلاقهم عقب التقاول بينهم بكلامهم الباطل { هذا ساحِرٌ } [ ص : 4 ] إلى قوله : { عُجَابٌ } [ ص : 5 ] يقتضي أنهم انطلقوا متحاورين في ماذا يصنعون . ولما أسند الانطلاق إلى الملأ منهم على أنهم ما كانوا لينطلقوا إلا لتدبير في ماذا يصنعون فكان ذلك مقتضياً تحاوراً وتقاولاً احتيج إلى تفسيره بجملة { أن امشوا واصبروا على ءَالهتِكُم } الخ . والأمر بالمشي يحتمل أن يكون حقيقة ، أي انصرفوا عن هذا المكان مكان المجادلة ، واشتغلوا بالثبات على آلهتكم . ويجوز أن يكون مجازاً في الاستمرار على دينهم كما يقال : كما سار الكرام ، أي اعمل كما عملوا ، ومنه سميت الأخلاق والأعمال المعتادة سيرة .
والصبر : الثبات والملازمة ، يقال : صبر الدابة إذا ربطها ، ومنه سمي الثبات عند حلول الضُرّ صبراً لأنه ملازمة للحلم والأناة بحيث لا يضطرب بالجزع ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } [ الفرقان : 42 ] .
وحرف { على } يدلّ على تضمين { اصبروا } معنى : اعكفوا وأثبتوا ، فحرف { على } هنا للاستعلاء المجازي وهو التمكن مثل { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] . وليس هو حرف { على } المتعارف تعدية فعل الصبر به في نحو قوله : { اصبر على ما يقولون } [ المزمل : 10 ] فإن ذلك بمعنى ( مع ) ، ولذلك يخلفه اللام في مثل ذلك الموقع نحو قوله تعالى : { فاصبر لحكم ربك } [ القلم : 48 ] ، ولا بدّ هنا من تقدير مضاف ، أي على عبادة آلهتكم ، فلا يتعدى إلى مفعول إن كان مجازاً فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان .
وجملة { إن هذا لشيءٌ يُرادُ } تعليل للأمر بالصبر على آلهتهم لقصد تقوية شكهم في صحة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها شيء أرادهُ لغرض أي ليس صادقاً ولكنه مصنوع مراد منه مقصد كما يقال : هذا أمر دُبِّر بليل ، فالإِشارة ب { هذا } إلى ما كانوا يسمعونه في المجلس من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم أن يقولوا : لا إله إلا الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وانطلق الملأ منهم}... والملأ في كلام العرب الأشراف...
{أن امشوا}... {واصبروا}: واثبتوا على عبادة {آلهتكم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وانطلق الأشراف من هؤلاء الكافرين من قريش، القائلين:"أجَعَلَ الآلِهَةَ إلها وَاحِدا" بأنِ امضُوا فاصبروا على دينكم وعبادة آلهتكم... كأنه قيل: انطلقوا مشيا ومضيا على دينكم. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: «وَانْطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ يَمْشُونَ أنِ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ»...
وقوله: "إنّ هَذَا لَشْيءٌ يُرَادُ": أي إن هذا القول الذي يقول محمد، ويدعونا إليه، من قول لا إله إلا الله، شيء يريده منا محمد يطلب به الاستعلاء علينا، وأن نكون له فيه أتباعا، ولسنا مجيبيه إلى ذلك.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
الانطلاق الذهاب بسهولة، ومنه طلاقه الوجه...
{أن امشوا واصبروا على آلهتكم} فيه وجهان:
أحدهما: اتركوه واعبدوا آلهتكم.
الثاني: امضوا على أمركم في المعاندة واصبروا على آلهتكم في العبادة، والعرب تقول: امش على هذا الأمر، أي امض عليه وألزمه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا تواصى الكفارُ فيما بينهم بالصبر على آلهتهم، فالمؤمنون أَوْلى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
انطلقوا عن مجلس أبي طالب بعد ما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجواب العتيد، قائلين بعضهم لبعض {امشوا وَاْصْبِرُواْ} فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد.
{إِنَّ هَذَا} الأمر {لشيء يُرَادُ}:... إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه. أو إن دينكم لشيء يراد؛ يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه...
ويجوز أن يراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وأنهم قالوا: امشوا، أي: أكثروا واجتمعوا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وانطلق الملأ}...قالت فرقة: هي عبارة عن إذاعتهم لهذه الأقاويل، فكأنه كما يقول الناس: انطلق الناس بالدعاء للأمير ونحوه، أي استفاض كلامهم بذلك.
{الملأ} الأشراف والرؤوس الذي يسدون مسد الجميع في الآراء ونحوه...
الملأ عبارة عن القوم الذين إذا حضروا في المجلس فإنه تمتلئ القلوب والعيون من مهابتهم وعظمتهم...
"إن هذا لشيء يراد"... قال القفال هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف؛ وكأن معناها أنه ليس غرض محمد من هذا القول تقرير الدين، وإنما غرضه أن يستولى علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{إن هذا لشيء يراد}... أن هذا الذي يدعيه من التوحيد أو يقصده من الرئاسة، والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يريده كل أحد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان العجب فكيف بالعجاب جديراً بأن يلزم صاحبه ليزداد الناظر عجباً، بين أنهم فعلوا خلاف ذلك تصديقاً لمن نسبهم إليه من الشقاق فقال: {وانطلق}.
ولما كان ما فعلوه لا يفعله عاقل، فربما ظن السامع أن المنطلق منهم أسقاط من الناس من غيرهم قال: {الملأ} أي الأشراف.
{منهم} أي لا من غيرهم فكيف بالأسقاط منهم وكيف بغيرهم، ثم حقق الانطلاق مضمناً له القول؛ لأنه من لوازمه بقوله: {أن امشوا} أي قائلاً كل منهم لذلك آمراً لنفسه ولصاحبه بالجد في المفارقة حالاً ومقالاً...
ولما كان كل منهم قد أخذ ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قلبه وسلب لبه على ما أشار إليه "ذي الذكر بل "فهو خائف من صاحبه أن يكون قد استحال عن اعتقاد التعدد بما يعرف من تزحزحه في نفسه، أكدوا قولهم: {إن هذا} أي الصبر على عبادة الآلهة {لشيء يراد} أي هو أهل للإرادة فهو أهل لئلا ينفك عنه، أو الذي يدعو إليه شيء يريده هو ولا نعلم نحن ما هو على ما نحن عليه من الحذق، فهو شيء لا يعلم في نفسه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يصور طريقتهم في مقاومة هذه الحقيقة في نفوس الجماهير، وتثبيتهم على ما هم عليه من عقيدة موروثة متهافتة. وإيهامهم أن وراء الدعوة الجديدة خبيئاً غير ظاهرها؛ وأنهم هم الكبراء العليمون ببواطن الأمور، مدركون لما وراء هذه الدعوة من خبيء! (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد).. فليس هو الدين، وليست هي العقيدة، إنما هو شيء آخر يراد من وراء هذه الدعوة.
إنها الطريقة المألوفة المكرورة التي يصرف بها الطغاة جماهيرهم عن الاهتمام بالشؤون العامة، والبحث وراء الحقيقة، وتدبر ما يواجههم من حقائق خطرة. ذلك أن اشتغال الجماهير بمعرفة الحقائق بأنفسهم خطر على الطغاة، وخطر على الكبراء، وكشف للأباطيل التي يغرقون فيها الجماهير. وهم لا يعيشون إلا بإغراق الجماهير في الأباطيل!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الأمر بالمشي يحتمل أن يكون حقيقة، أي انصرفوا عن هذا المكان مكان المجادلة، واشتغلوا بالثبات على آلهتكم. ويجوز أن يكون مجازاً في الاستمرار على دينهم... الصبر: الثبات والملازمة، يقال: صبر الدابة إذا ربطها، ومنه سمي الثبات عند حلول الضُرّ صبراً؛ لأنه ملازمة للحلم والأناة بحيث لا يضطرب بالجزع...
{على} يدلّ على تضمين {اصبروا} معنى: اعكفوا وأثبتوا، فحرف {على} هنا للاستعلاء المجازي وهو التمكن.
ولا بدّ هنا من تقدير مضاف، أي على عبادة آلهتكم، فلا يتعدى إلى مفعول إن كان مجازاً فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان...
وجملة {إن هذا لشيءٌ يُرادُ} تعليل للأمر بالصبر على آلهتهم لقصد تقوية شكهم في صحة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها شيء أرادهُ لغرض أي ليس صادقاً ولكنه مصنوع مراد منه مقصد...