{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ }
يقول تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } وهو هذا القرآن ، المشتمل على الحكمة والأحكام ، الدالة آياته على الحقائق الإيمانية والأوامر والنواهي الشرعية ، الذي على جميع الأمة تلقيه بالرضا والقبول والانقياد .
سورة يونس مكية وآياتها تسع ومائة
نعود مرة أخرى إلى الحياة مع القرآن المكي ، بجوه الخاص ، وظلاله وإيقاعاته وإيحاءاته . بعدما عشنا فترة في هذه الظلال مع سورتي الأنفال والتوبة من القرآن المدني .
والقرآن المكي ، ولو أنه قرآن من القرآن ، يشترك مع سائره في خصائصه القرآنية العامة ؛ وفي تفرده من كل قول آخر لا يحمل الطابع الرباني الفريد العجيب ، في الموضوع وفي الأداء سواء . . إلا أن له مع ذلك جوه الخاص ، ومذاقه المعين ، الذي يعينه موضوعه الأساسي [ وهو في اختصار : حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، وحقيقة العلاقات بينهما ؛ وتعريف الناس بربهم الحق الذي ينبغي أن يدينوا له ويعبدوه ، ويتبعوا أمره وشرعه ؛ وتنحية كل ما دخل على العقيدة الفطرية الصحيحة من غبش ودخل وانحراف والتواء ؛ ورد الناس إلى إلههم الحق الذي يستحق الدينونة لربوبيته ] . . كما يعينه أسلوب العرض لهذا الموضوع . وهو أسلوب موح ، عميق الإيقاع ، بالغ التأثير ؛ حيث تشترك في أداء هذا الغرض كل خصائص التعبير ، من البناء اللفظي ، إلى المؤثرات الموضوعية على النحو الذي فصلناه من قبل ، في سورة الأنعام ، والذي سنلم به هنا إن شاء الله .
ولقد كان آخر عهدنا - في هذه الظلال - بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف - وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول - ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة - فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا . . والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وتلكما في الموضوع ، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك ! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها ، وتواجه الجاهلية بها ، وتفند هذه الجاهلية عقيدة وشعورا ، وعبادة وعملا . بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ . وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود . . في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا . . إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس ، بارتفاع وضخامة في الإيقاع ، وسرعة وقوة في النبض ، ولألاء شديد في التصوير والحركة . . بينما تمضي سورة يونس ، في إيقاع رخي ، ونبض هادئ ، وسلاسة وديعة ! . . فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا . . ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة ، وملامحها المميزة ، بعد كل هذا التشابه والاختلاف !
والموضوع الرئيسي في سورة يونس هو ذات الموضوع العام للقرآن المكي الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة . . والسورة تتناول محتوياته وفق طريقتها الخاصة ، التي تحدد شخصيتها وملامحها . . ونحن لا نملك - في هذا التقديم - إلا تلخيص هذه المحتويات واحداً واحداً في إجمال ، حتى يجيء بيانها المفصل في أثناء استعراض النصوص القرآنية :
إنها تواجه ابتداء موقف المشركين في مكة من حقيقة الوحي إلى رسول اللّه - [ ص ] - ومن هذا القرآن ذاته بالتبعية ؛ فتقرر لهم أن الوحي لا عجب فيه ، وأن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله : ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم . أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ، قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) . . ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ، قال الذين لا يرجون لقاءنا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله . قل : ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل : لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ، أفلا تعقلون ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ? إنه لا يفلح المجرمون ) . . ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ، ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين . أم يقولون افتراه ? قل : فأتوا بسورة مثله ، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) . .
وتواجه طلبهم خارقة مادية - غير القرآن - واستعجالهم بالوعيد الذي يسمعونه . فتقرر لهم أن آية هذا الدين هي هذا القرآن ؛ وهو يحمل برهانه في تفرده المعجز الذي تتحداهم به . وأن الآيات في يد الله ومشيئته ؛ وأن موعدهم بالجزاء يتعلق بأجل يقدره اللّه ، والنبي لا يملك شيئا فهو عبد من عباد الله . - وفي هذا جانب من التعريف لهم بربهم الحق وحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - : ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ، وما كانوا ليؤمنوا ، كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ، لننظر كيف تعملون ) . . ( ولكل أمة رسول ، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون . ويقولون : متى هذا الوعد ، إن كنتم صادقين ? قل : لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ، لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . قل : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ? ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ? ! ) . . ( ويقولون : لولا أنزل عليه آية من ربه ! فقل : إنما الغيب لله ، فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) .
وتواجه اضطراب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - الأمر الذي يحدثهم رسول الله [ ص ] فيه ، فيكذبون بالوحي أو يتشككون فيه ؛ ويطلبون قرآناً غيره ، أو يطلبون خارقة مادية تثبت لهم صحته - بينما هم سادرون في عبادة مالا يضرهم ولا ينفعهم من الشركاء ، على اعتقاد أنهم شفعاؤهم عند الله ؛ كما يزعمون لله الولد سبحانه بلا علم ولا بينة . . فتقرر لهم صفات الإله الحق وآثار قدرته في الوجود من حولهم ، وفي وجودهم هم أنفسهم ، وفيما يتقلب بهم من ظواهر الكون ، وما يتقلب بهم هم من أحوالوهتاف فطرتهم وأنفسهم بربها الحق عند مواجهة الخطر الذي لا دافع له إلا الله . . وهذه هي القضية الكبرى التي تستغرق قطاعات شتى من السورة ؛ والتي تتفرع عنها سائر محتوياتها الأخرى : إن ربكم اللّه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش يدبر الأمر ، ما من شفيع إلا من بعد إذنه . ذلكم الله ربكم فاعبدوه ، أفلا تذكرون ? إليه مرجعكم جميعاً ، وعد اللّه حقاً ، إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ، ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ، والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون . هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ، ما خلق الله ذلك إلا بالحق ، يفصل الآيات لقوم يعلمون .
( إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ) . . ( ويعبدون من دون اللّه مالا يضرهم ولا ينفعهم ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه . قل : أتنبؤن اللّه بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ? سبحانه وتعالى عما يشركون ) . . ( هو الذي يسيركم في البر والبحر ، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ، وجاءهم الموج من كل مكان ، وظنوا أنهم أحيط بهم ، دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ، يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) . . ( قل : من يرزقكم من السماء والأرض ? أم من يملك السمع والأبصار ? ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ? ومن يدبر الأمر ? فسيقولون : اللّه . فقل : أفلا تتقون ? فذلكم الله ربكم الحق ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ! فأنى تصرفون ? ) . . ( قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? قل : الله يبدأ الخلق ثم يعيده ، فأنى تؤفكون ? قل : هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ? قل : الله يهدي للحق . أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي ? فما لكم كيف تحكمون ? وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ، إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ، إن اللّه عليم بما يفعلون ) . . ( ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض ، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ، إن يتبعون إلا الظن ، وإن هم إلا يخرصون . هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) . . ( قالوا : اتخذ الله ولداً - سبحانه - هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض ، إن عندكم من سلطان بهذا ? أتقولون على الله ما لا تعلمون ? قل : إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ، ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ) . . ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض . ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون . هو يحيي ويميت وإليه ترجعون ) .
وتصور لهم حضور الله - سبحانه - وشهوده لكل ما يهم به البشر ، وكل ما يزاولون من نية وعمل ؛ مما يملأ الحس البشري بالرهبة والروعة ، كما يملؤه بالحذر واليقظة . . وذلك في مثل قوله تعالى في هذه السورة :
وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن . ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه . وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، إلا في كتاب مبين .
كذلك تملأ نفوسهم بالتوجس والتوقع لبأس الله في كل لحظة ، ليخرجوا من الغفلة التي ينشئها الرخاء والنعمة ؛ ولا ينخدعوا بازدهار الحياة حولهم فيأمنوا بأس الله الذي يأتي بغتة : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ، مما يأكل الناس والأنعام . حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت ، وظن أهلها أنهم قادرون عليها ، أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ، فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس . كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) . . ( قل : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ! ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ? ! ) .
وتواجه اطمئنانهم للحياة الدنيا ورضاهم بها عن الآخرة ، وتكذيبهم بلقاء الله ، بتحذيرهم من هذه الطمأنينة الخادعة ، ومن الخسارة في الصفقة الدون التي يرضونها ، وتعريفهم بأن هذه الحياة الدينا إنما هي للابتلاء ، وفي الآخرة الجزاء . . ثم تواجههم بعرض مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة ؛ وخاصة ما يتصل منها بتخلي الشركاء عن عبادهم ، وتبرئهم منهم إلى اللّه ، وتعذر الفداء من العذاب مهما كبر الفداء : ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، والذين هم عن آياتنا غافلون . أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ، تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم . دعواهم فيها : سبحانك اللهم . وتحيتهم فيها سلام . وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) . . ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ، وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا ، كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) . . ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، وترهقهم ذلة ، مالهم من الله من عاصم ، كأنما أغشيت وجوههم قطعا . من الليل مظلما ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . . ( ويوم نحشرهم جميعا ، ثم نقول للذين أشركوا : مكانكم أنتم وشركاؤكم ! فزيلنا بينهم ، وقال شركاؤهم : ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم ، إن كنا عن عبادتكم لغافلين . هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ، وردوا إلى الله مولاهم الحق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . . ( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم . قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ) . . ( ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وقضي بينهم بالقسط ، وهم لا يظلمون ) . .
ثم تواجه ما يترتب على اضطراب تصورهم للألوهية ؛ وما يترتب على تكذيبهم بالبعث والآخرة ، وما يترتب على تكذيبهم بالوحي والنذارة ، من انطلاقهم في واقع الحياة العملية يزاولون خصائص الربوبية في التشريع لحياتهم ، والتحليل والتحريم في أرزاقهم ومعاملاتهم وفق ما تصوره لهم وثنيتهم واعتقادهم بالشركاء الذين يجعلون لهم نصيبا مما رزقهم الله يأخذه السدنة والكهنة ليحلوا لهم ما يشاءون ويحرموا عليهم ما يشاءون . . وهي القضية الكبرى التي تلي قضية الاعتقاد وتنبثق منها : ( قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ? قل : آلله أذن لكم ? أم على الله تفترون ? وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ? إن الله لذو فضل على الناس ، ولكن أكثرهم لا يشكرون ) .
والسورة تحتشد - في إبلاغ تلك الحقائق التي تحتويها وتثبيتها وتعميقها واستجاشة القلوب والعقول لها - بشتى المؤثرات الموحية ، التي يحفل بها الأداء القرآني الفريد في الموضوع وفي التعبير عنه سواء . وهي مؤثرات - على عمقها وحيويتها وحركتها - تناسب شخصية السورة وطبيعتها التي تحدثنا في الفقرة الأولى عنها . . وهذه نماذج منها ، نلم بها هنا إجمالا ، حتى نستعرضها في السياق تفصيلا :
تحتشد السورة بمشاهد هذا الكون وظواهره ، الموحية للفطرة البشرية بحقيقة الألوهية ، الدالة على التدبير الحكيم ، والقصد المرسوم في بناء هذا الكون وتصريفه ، وفي الموافقات المبثوثة فيه لنشأة الحياةوالأحياء ، ولحياة الكائن الإنساني وتلبية حاجاته في حياته . . وقضية الألوهية يعرضها القرآن في هذه الصورة الحية الواقعية الموحية ؛ ولا يعرضها في أسلوب الجدل الفلسفي والمنطق الذهني ، والله خالق هذا الكون وخالق هذا الإنسان يعلم - سبحانه - أن بين فطرة هذا الإنسان ومشاهد هذا الكون وأسراره لغة مفهومة ! وتجاوباً أعمق من منطق الذهن البارد الجاف ؛ وأن هذه الفطرة يكفي أن توجه إلى مشاهد هذا الكون وأسراره ؛ وأن تستجاش لتستيقظ فيها أجهزة الاستقبال والتلقي ؛ وأنها عندئذ تهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب . . ومن ثم يكثر خطاب الفطرة البشرية - في القرآن - بهذه اللغة المفهومة . . وهذه نماذج من هذا الخطاب العميق الموحي :
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يدبر الأمر ، ما من شفيع إلا من بعد إذنه . ذلكم الله ربكم فاعبدوه . أفلا تذكرون ? . .
( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . ما خلق اللّه ذلك إلا بالحق ، يفصل الآيات لقوم يعلمون . إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ) . .
( قل : من يرزقكم من السماء والأرض ؛ أم من يملك السمع والأبصار ? ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ? ومن يدبر الأمر ? فسيقولون الله ، فقل : أفلا تتقون ? فذلكم الله ربكم الحق ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ? فأنى تصرفون ? ) .
( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) . .
( قل : انظروا ماذا في السماوات والأرض ، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) . .
وتحتشد بمشاهد الأحداث والتجارب التي يشهدونها بأعينهم ويعيشونها بأنفسهم ؛ ولكنهم يمرون بها غافلين عن دلالتها على التدبير والتقدير ، والتصريف والتسيير . . ويعرض السياق القرآني لهم مشاهد من واقعهم هم في استقبال تلك الأحداث والتجارب ؛ كما ترفع المرآة للغافل عن نفسه فيرى فيها كيف هو على حقيقته ! وهذه نماذج من ذلك المنهج القرآني الفريد :
( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما . فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ! كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ! ) . .
( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا ! قل : الله أسرع مكرا ، إن رسلنا يكتبون ما تمكرون . هو الذي يسيركم في البر والبحر ، حتى إذا كنتم في الفلك ، وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ، وجاءهم الموج من كل مكان ، وظنوا أنهم أحيط بهم ، دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق . يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) . .
وتحتشد بمصارع الغابرين من المكذبين . آناً في صورة الخبر ، وآنا في صورة قصص بعض الرسل .
وتلتقي كلها عند عرض مشاهد التدمير على المكذبين ؛ وتهديدهم بمثل هذا المصير الذي لقيه من قبلهم . فلا تغرنهم الحياة الدنيا ، فإن هي إلا فترة قصيرة للابتلاء . أو ساعة من نهار يتعارف فيها الناس ، ثم يعودون إلى دار الإقامة في العذاب أو في النعيم !
( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا . كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) . .
( واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون . فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله ، وأمرت أن أكون من المسلمين . فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا . فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ) . .
( ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين . فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا : إن هذا لسحر مبين . قال موسى : أتقولون للحق لما جاءكم . أسحر هذا ? ولا يفلح الساحرون ) . . إلى قوله تعالى في نهاية القصة : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا - حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين . آلآن ? وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ? ! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ، وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون . .
( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ? قل : فانتظروا إني معكم من المنتظرين . ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ، كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ) . .
وتحتشد بمشاهد القيامة ، تعرض عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين ، عرضا حيا متحركا مؤثرا عميق الإيقاع في القلوب . فتعرض مع مشاهد المصارع في الحياة الدنيا والتدمير على المجرمين ونجاة المؤمنين ، صفحتي الحياة في الدارين ، وبدء المطاف ونهايته حيث لا مهرب ولا فوت :
( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون - والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، وترهقهم ذلة ، ما لهم من الله من عاصم ، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .
( ويوم نحشرهم جميعا ، ثم نقول للذين أشركوا : مكانكم أنتم وشركاؤكم ! فزيلنا بينهم ، وقال شركاؤكم : ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين . هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ، وردوا إلى الله مولاهم الحق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . .
( ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ! وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) . .
ومن المؤثرات التي تحتشد بها السورة تحدي المشركين المكذبين بالوحي ، أن يأتوا بآية من مثل هذا القرآن . . ثم توجيه الرسول [ ص ] بعد دعوتهم وتحديهم ، إلى تركهم ومصيرهم - وهو مصير المكذبين الظالمين من قبلهم - والمضي في طريقه المستقيم لا يحفلهم ولا يأبه لشأنهم . . والتحدي ثم المفاصلة والاستعلاء على هذا النحو مما يوقع في قلوبهم أن هذا النبي واثق من الحق الذي معه ، واثق من ربه الذي يتولاه . وهذا بدوره يهز القلوب ويزلزل العناد :
( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ؛ ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين . أم يقولون افتراه ? قل : فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله . كذلك كذب الذين من قبلهم . فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) . .
قل : يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله . ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ، وأمرت أن أكون من المؤمنين . وأن أقم وجهك للدين حنيفا ، ولا تكونن من المشركين . ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يردك بخير فلا راد لفضله ، يصيب به من يشاء من عباده ، وهو الغفور الرحيم . . قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم . فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، وما أنا عليكم بوكيل . واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله ، وهو خير الحاكمين . .
وبهذه المفاصلة تختم السورة ويختم هذا الحشد من المؤثرات التي سقنا نماذج منها لا تستقصي ما في السورة من هذا المنهج القرآني الفريد في مخاطبة القلوب والعقول .
هذه السورة نزلت بعد سورة الإسراء . وقد حمي الجدل من المشركين حول صدق الوحي ، وحول هذا القرآن ، وما يواجههم به من تسفيه لعقائدهم ، ومن تنديد بجاهليتهم ، ومن كشف لما في كيانها من تناقض واضح . تناقض بين ما يعتقدونه من أن الله - سبحانه - هو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المدبر المتصرف في كل شيء ، القادر على كل شيء - وهي الجذور الباقية من حنيفية إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وبين ما يدعونه لله سبحانه من الولد ، حيث كانوا يدعون أن الملائكة بنات الله ، ويتخذونهم شفعاء عند الله ، ويعبدون تماثيلهم من الأصنام على هذا الاعتبار ! ثم ما ينشأ عن هذا الاضطراب العقيدي من آثار في حياتهم ؛ وفي أوله ما كان يزاوله الكهان والرؤساء فيهم من تحريم وتحليل في الثمار والأنعام ؛ وجعل نصيب منها لله ونصيب لآلهتهم المدعاة !
وعندئذ كانوا يواجهون حملة القرآن على عقائدهم المهلهلة وجاهليتهم المتناقضة بأن يكذبوا رسول الله [ ص ] في نبوته والوحي إليه من ربه ؛ ويزعمون أنه ساحر ! وأن يطلبوا منه أن يأتيهم بخارقة تدل على أن الله أوحى إليه ؛ ويفتتنون في طلب هذه الخوارق على ما ورد من ذلك في سورة الإسراء مما حكاه القرآن الكريم عنهم . في مثل قوله تعالى : ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ! قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ? وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشرا رسولا ? . . وكما قال تعالى في هذه السورة : ( ويقولون : لولا أنزل عليه آية من ربه ! ! فقل : إنما الغيب لله ، فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) . .
كذلك كانوا يطلبون من رسول الله [ ص ] أن يأتيهم بقرآن غير هذا ، لا يتعرض لآلهتهم وعقائدهم وجاهليتهم ؛ كي يستجيبوا له ويؤمنوا به ! كما قال الله عنهم في هذه السورة : ( وإذا تتلى عليهمآياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) . . وكان الرد على مثل هذا التعسف الساذج : ( قل : ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل : لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ? إنه لا يفلح المجرمون ) .
نزلت السورة في هذا الجو . وظاهر من سياقها أنها لحمة واحدة ، تواجه واقعا متصلا ؛ حتى ليصعب تقسيمها إلى قطاعات متميزة . وهذا ما ينفي الرواية التي أخذ بها المشرفون على المصحف الأميري من كون الآيات 40 ، 94 ، 95 ، 96 مدنية . . فهذه الآيات متشابكة مع السياق ، وبعضها لا يتسق السياق بدونه أصلا !
والترابط في سياق السورة يوحد بين مطلعها وختامها . فيجيء في المطلع قوله تعالى : ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم . أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق ، عند ربهم قال الكافرون ! إن هذا لساحر مبين ) . . ويجيء في الختام : ( واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ) . . فالحديث عن قضية الوحي هو المطلع وهو الختام . كما أنه هو الموضوع المتصل الملتحم بين المطلع والختام .
كذلك يبدو الترابط بين المؤثرات المختلفة في السورة . نذكر مثالا لذلك الرد على استعجالهم بالوعيد ، وتهديدهم بأنه يقع بغتة ، حيث لا ينفعهم وقتها إيمان ولا توبة . . ثم يجيء القصص بعد ذلك في السورة ، مصورا ذلك المشهد بعينه في مصارع الغابرين .
في الرد عليهم يقول : ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل : لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ، إلا ما شاء الله ، لكل أمة أجل ، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . قل : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ، ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ? ! ثم قيل للذين ظلموا : ذوقوا عذاب الخلد ، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون . .
وفي نهاية قصة موسى في السورة يجيء هذا المشهد ، وكأنه الصورة الواقعية لذلك الوعيد : 10 وزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا ، حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل ، وأنا من المسلمين . آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين . فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ، وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون . .
ثم تتساوق في ثنايا السورة بين ذلك الرد وهذه القصة مشاهد المباغتة بأخذ الله للمكذبين ؛ من حيث لا يتوقعون ولا يدرون ؛ فترسم جوا واحدا متناسقا يبدو فيه الترابط بين المشاهد والموضوعات والأداء سواء .
كذلك يجيء في حكاية قول المشركين عن رسول الله [ ص ] في أول السورة : ( قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) . . ثم يجيء في حكاية فرعون وملئه عن موسى - عليه السلام - : ( فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا : إن هذا لسحر مبين ) . .
وقد سميت السورة سورة يونس . بينما قصة يونس فيها لا تتجاوز إشارة سريعة على هذا النحو : ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ! إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ، ومتعناهم إلى حين ) . . ولكن قصة يونس - مع هذا - هي المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم ؛ فيثوبون إلى ربهم وفي الوقت سعة ؛ وهم وحدهم في تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب ، فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم قبل وقوعه بهم ، كما هي سنة الله في المكذبين المصرّين .
وهكذا نجد الترابط بكل ألوانه في سياق السورة من مطلعها إلى ختامها ، مما يجعلها وحدة متكاملة متشابكة كما أسلفنا .
وواضح من المقتطفات التي سبقت من نصوص السورة - في هذا التقديم - أن القضية الأساسية التي يتكئ عليها السياق كله هي قضية الألوهية والعبودية ، وتجلية حقيقتهما ، وبيان مقتضيات هذه الحقيقة في حياة الناس . أما سائر القضايا الأخرى التي تعرضت لها السورة كقضية الوحي ، وقضية الآخرة ، وقضية الرسالات السابقة . . فقد جاءت في صدد إيضاح تلك الحقيقة الكبرى وتعميقها وتوسيع مدلولها ؛ وبيان مقتضياتها في حياة البشر واعتقادهم وعبادتهم وعملهم .
والواقع أن تلك القضية الكبرى هي قضية القرآن كله ، وقضية القرآن المكي بصفة خاصة . فتعريف الألوهية الحقة ؛ وبيان خصائصها من الربوبية والقوامة والحاكمية ؛ وتعريف العبودية وحدودها التي لا تتعداها ؛ والوصول من هذا كله إلى تعبيد الناس لإلههم الحق ؛ واعترافهم بالربوبية والقوامة والحاكمية له وحده . . هذا هو الموضوع الرئيسي للقرآن كله . . وما وراءه إن هو إلا بيان لمقتضيات هذه الحقيقة الكبيرة في حياة البشر بكل جوانبها .
وهذه الحقيقة الكبيرة تستحق - عند التأمل العميق - كل هذا البيان الذي هو موضوع هذا القرآن . . تستحق أن يرسل الله من أجلها رسله جميعا ، وأن ينزل بها كتبه جميعا : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) . .
إن حياة البشر في الأرض لا تستقيم إلا إذا استقامت هذه الحقيقة في اعتقادهم وتصورهم ، واستقامت كذلك في حياتهم وواقعهم .
لا تستقيم أولاً إزاء هذا الكون الذي يعيشون فيه ، ويتعاملون مع أشيائه وأحيائه . . وهم حين يضطرب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية يروحون يؤلهون الأشياء والأحياء - بل يؤلهون الأشباح والأوهام ! - ويُعبدون أنفسهم لها في صور مضحكة ، ولكنها بائسة ! ، ويقدمون لها - بوحي من الكهان والمنتفعين بأوهام العوام في كل زمان وفي كل مكان - خلاصة كدهم من الرزق الذي أعطاهم اللّه . بل إنهم ليقدمون لها فلذات أكبادهم كما يقدمون لها أرواحهم في بعض الأحيان . . وهي أشياء وأحياء لا حول لها ولا قوة ، ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً . . وتضطرب حياتهم كلها ، وهم يعيشون بين الهلع والجزع من هذه الأشياء والأحياء ؛ وبين التقرب والزلفى لمخلوقات مثلهم ، عبوديتها للّه كعبوديتهم . . وذلك كما قال الله تعا : 136-5 ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . فقالوا : هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا ! فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ! ساء ما يحكمون ! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم - ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون - وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه ! - سيجزيهم بما كانوا يفترون - وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ! سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم - قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم ، وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله ، قد ضلوا وما كانوا مهتدين .
فهذه نماذج من تكاليف العبودية لغير الله في الأموال والأولاد ؛ التي تقدم لمخلوقات من خلق الله . أشياء أو أحياء ما أنزل الله بها من سلطان !
كذلك لا تستقيم حياة البشر إزاء بعضهم البعض بدون استقامة حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية في اعتقادهم وتصورهم ، وفي حياتهم وواقعهم . . إن إنسانية الإنسان وكرامته وحريته الحقيقية الكاملة لا يمكن أن تتحقق في ظل اعتقاد أو نظام لا يفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والحاكمية ؛ ولا يجعل له وحده حق الهيمنة على حياة الناس في الدنيا والآخرة ، في السر والعلانية ؛ ولا يعترف له وحده بحق التشريع والأمر والحاكمية في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية . .
والواقع البشري على مدار التاريخ يثبت هذه الحقيقة ويصدقها . فما من مرة انحرف الناس عن الدينونة لله وحده - اعتقاداً ونظاماً - ودانوا لغير الله من العباد - سواء كانت هذه الدينونة ، بالاعتقاد والشعائر أم كانت باتباع الأحكام والشرائع - إلا كانت العاقبة هي فقدانهم لإنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم !
والتفسير الإسلامي للتاريخ ؛ يرد ذل المحكومين للطواغيت ، وسيطرة الطواغيت عليهم ، إلى عامل أساسي هو فسوق المحكومين عن دين اللّه ، الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية ، ومن ثم يفرده بالربوبية والسلطان والقوامة والحاكمية . فيقول الله سبحانه عن فرعون وقومه : ( ونادى فرعون في قومه قال : يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ? أفلا تبصرون ? أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ? فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب ، أو جاء معه الملائكة مقترنين ! فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) . . فيرد استخفاف فرعون لهم إلى أنهم فاسقون . فما يستخف الحاكم الطاغي قومه وهم مؤمنون بالله موحدون ؛ لا يدينون لسواه بربوبية تزاول القوامة والحاكمية !
ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده ، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته ، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره . العبودية ، التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم ؛ والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة !
لقد هربت أوربا من الله - في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف ! - وثارت على الله - سبحانه - في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة ! ثم ظن الناس هناك أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم - ومصالحهم كذلك - في ظل الأنظمة الفردية [ الديمقراطية ] وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية ، والأوضاع النيابية البرلمانية ، والحريات الصحفية ، والضمانات القضائية والتشريعية ، وحكم الأغلبية المنتخبة . . إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة . . ثم ماذا كانت العاقبة ? كانت العاقبة هي طغيان " الرأسمالية " ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات وكل تلك التشكيلات ، إلى مجرد لافتات ، أو إلى مجرد خيالات ! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال ، فتملك معه الأغلبية البرلمانية ! والدساتير الوضعية ! والحريات الصحفية ! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم ، في معزل عن الله سبحانه ! ! !
ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها " رأس المال " و " الطبقة ! " إلى الأنظمةالجماعية ! فماذا فعلوا ? لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة " الرأسماليين " الدينونة لطبقة " الصعاليك " ! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان ! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين !
وفي كل حالة وفي كل وضع وفي كل نظام دان البشر فيه للبشر ، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة . دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حالة !
إنه لا بد من عبودية ! فإن لا تكن لله وحده ، تكن لغير الله . . والعبودية لله وحده تطلق الناس أحرارا كراما شرفاء أعلياء . . والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم . . ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية !
من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله - سبحانه - وفي كتبه . . وهذه السورة نموذج من تلك العناية . . فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة . ولكنها تتعلق بالإنسان كله في كل زمان وفي كل مكان ؛ وتتعلق بالجاهليات كلها . . جاهليات ما قبل التاريخ . وجاهليات التاريخ . وجاهلية القرن العشرين . وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد !
ومن أجل ذلك كان جوهر الرسالات والكتب هو تقرير ألوهية الله - سبحانه - وربوبيته وحده للعباد : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) .
وكان ختام هذه السورة التي نواجهها :
قل : يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ؛ ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ، وأمرت أن أكون من المؤمنين . وأن أقم وجهك للدين حنيفا ، ولا تكونن من المشركين . ولا تدع من دون الله ، ما لا ينفعك ولا يضرك ، فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يردك بخير فلا راد لفضله ، يصيب به من يشاء من عباده ، وهو الغفور الرحيم . قل : يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها . وما أنا عليكم بوكيل . واتبع ما يوحى إليك ، واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين . .
وحسبنا هذا في التعريف بالسورة ؛ لنأخذ في استعراض نصوصها بالتفصيل :
( ألر تلك آيات الكتاب الحكيم . . )
من هذه الحروف وأمثالها ، تتألف آيات الكتاب الحكيم ، الذي ينكرون أن يكون الله قد أوحى به إلى الرسول . وهذه الحروف في متناول أيديهم ، ثم لا يبلغون أن يؤلفوا منها آية واحدة من مثل آيات الكتاب - كما يتحداهم في هذه السورة - ولا يقودهم هذا إلى التدبر ، وإدراك أن الوحي هو مفرق الطريق بينهم وبين الرسول ، وأنه لولا هذا الوحي لوقف وقفتهم عاجزا عن تأليف آية واحدة ، من هذه الحروف المبذولة للجميع .
( تلك آيات الكتاب الحكيم ) . .
الحكيم الذي يخاطب البشر بما يناسب طبائع البشر ، ويعرض في هذه السورة جوانب منها صادقة باقية ، نجد مصداقها في كل جيل .
والحكيم الذي ينبه الغافلين إلى تدبر آيات الله في صفحة الكون وتضاعيفه . في السماء والأرض . وفي الشمس والقمر . وفي الليل والنهار . . وفي مصارع القرون الأولى . وفي قصص الرسل فيهم . . وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود . .
تأويل قوله تعالى : { الَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : تأويله أنا الله أرى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يحيى بن داود بن ميمون الواسطي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، في قوله : الر : أنا الله أرى .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى عن ابن عباس ، قوله : الر قال : أنا الله أرى .
وقال آخرون : هي حروف من اسم الله الذي هو الرحمن . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه ، قال : حدثنا عليّ بن الحسين ، قال : ثني أبي ، عن يزيد ، عن عكرمة عن ابن عباس : «الر ، وحم ، ونون » حروف الرحمن مقطعة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عيسى بن عبيد عن الحسين بن عثمان ، قال : ذكر سالم بن عبد الله : «الر ، وحم ونون » فقال : اسم الرحمن مقطع . ثم قال : الرحمن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبي حماد ، قال : حدثنا مندل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : «الر ، وحم ، ونون » هو اسم الرحمن .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو الكلبي ، عن أبي عوانة ، عن إسماعيل بن سالم ، عن عامر أنه سئل عن : «الر ، وحم ، وص » قال : هي أسماء الله مقطعة بالهجاء ، فإذا وصلتها كانت اسما من أسماء الله تعالى .
وقال آخرون : هي اسم من أسماء القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : الر اسم من أسماء القرآن .
وقد ذكرنا اختلاف الناس وما إليه ذهب كلّ قائل في الذي قال فيه ، وما الصواب لدينا من القول في ذلك في نظيره ، وذلك في أوّل سورة البقرة ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وإنما ذكرنا في هذا الموضع القدر الذي ذكرنا لمخالفة من ذكرنا قوله في هذا قول في الم ، فأما الذين وفقوا بين معاني جميع ذلك ، فقد ذكرنا قولهم هناك مكتفيا عن الإعادة ههنا .
القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ .
واختلف في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تلك آيات التوراة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ قال : التوراة والإنجيل .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة : تِلْكَ آياتُ الكِتابِ قال : الكتب التي كانت قبل القرآن .
وقال آخرون : معنى ذلك : هذه آيات القرآن .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوّله : هذه آيات القرآن ، ووجه معنى «تلك » إلى معنى «هذه » ، وقد بيّنا وجه توجيه تلك إلى هذا المعنى في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته . والاَيات الأعلام ، والكتاب اسم من أسماء القرآن ، وقد بيّنا كلّ ذلك فيما مضى قبل .
وإنما قلنا هذا التأويل أولى في ذلك بالصواب ، لأنه لم يجيءْ للتوراة والإنجيل قبل ذكر ولا تلاوة بعده فيوجه إليه الخبر ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : والرحمن هذه آيات القرآن الحكيم . ومعنى «الحكيم » في هذا الموضع : «المحكم » صرف مفعل إلى فعيل ، كما قيل عذاب أليم ، بمعنى مؤلم ، وكما قال الشاعر :
*** أمنْ رَيحانةَ الدّاعي السّميعُ ***
وقد بيّنا ذلك في غير موضع من الكتاب . فمعناه إذا : تلك آيات الكتاب المحكم الذي أحكمه الله وبيّنه لعباده ، كما قال جلّ ثناؤه : الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ .
{ الر } فخمها ابن كثير ونافع برواية قالون وحفص وقرأ ورش بين اللفظين ، وأمالها الباقون إجراء لألف الراء مجرى المنقلبة من الياء . { تلك آيات الكتاب الحكيم } إشارة إلى ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي والمراد من الكتاب أحدهما ، ووصفه بالحكيم لاشتماله عل الحكم أو لأنه كلام حكيم ، أو محكم آياته لم ينسخ شيء منها .
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
سورة يونس . هذه السورة هي مكية قال مقاتل إلا آيتين وهي{[1]} قوله تعالى' { فإن كنت في شك } ' نزلت بالمدينة وقال الكلبي هي مكية إلا قوله ' { ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به } '{[2]} نزلت في اليهود بالمدينة . وقالت فرقة نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة .
تقدم في أول سورة البقرة ذكر الاختلاف في فواتح السور ، وتلك الأقوال كلها تترتب هنا ، وفي هذا الموضع قول يختص به ، قاله ابن عباس وسالم بن عبد الله وابن جبير والشعبي : { الر } { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] و { ن } [ القلم : 1 ] هو الرحمن قطع اللفظ في أوائل هذه السورة{[5996]} . واختلف عن نافع في إمالة الراء والقياس أن لا يمال وكذلك اختلف القرّاء وعلة من أمال الراء أن يدل بذلك على أنها اسم للحرف وليست بحرف في نفسها وإنما الحرف «ر »{[5997]} .
وقوله تعالى : { تلك } قيل هو بمعنى هذه{[5998]} وقد يشبه أن يتصل المعنى ب { تلك } دون أن نقدرها بدل غيرها والنظر في هذه اللفظة إنما يتركب على الخلاف في فواتح السور فتدبره . و { الكتاب } قال مجاهد وقتادة : المراد به التوراة والإنجيل ، وقال مجاهد أيضاً وغيره : المراد به القرآن وهو الأظهر ، و { الحكيم } فعيل بمعنى محكم كما قال تعالى : { هذا ما لدي عتيد }{[5999]} أي ُمْعَتد ُمَعد ، ويمكن أن يكون «حكيم » بمعنى ذو حكمة فهو على النسب ، وقال الطبري فهو مثل أليم بمعنى مؤلم ثم قال : هو الذي أحكمه وبيّنه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : فساق قولين على أنهما واحد .