يقول تعالى - لما انهزم المشركون يوم بدر ، وقتلهم المسلمون - فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ بحولكم وقوتكم وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ حيث أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره .
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت القتال دخل العريش وجعل يدعو اللّه ، ويناشده في نصرته ، ثم خرج منه ، فأخذ حفنة من تراب ، فرماها في وجوه المشركين ، فأوصلها اللّه إلى وجوههم ، فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه وفمه وعينيه منها ، فحينئذ انكسر حدهم ، وفتر زندهم ، وبان فيهم الفشل والضعف ، فانهزموا .
يقول تعالى لنبيه : لست بقوتك - حين رميت التراب - أوصلته إلى أعينهم ، وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا . وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا أي : إن اللّه تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين ، من دون مباشرة قتال ، ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين ، ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات ، وأرفع المقامات ، ويعطيهم أجرا حسنا وثوابا جزيلا .
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع تعالى ما أسر به العبد وما أعلن ، ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها ، فيقدر على العباد أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده ، ويجزي كلا بحسب نيته وعمله .
ثم يمضي السياق بعد هذا التحذير من التولي يوم الزحف ؛ ليكشف لهم عن يد الله وهي تدير المعركة من ورائهم ؛ وتقتل لهم أعداءهم ، وترمي لهم وتصيب . . . وهم ينالون أجر البلاء لأن الله يريد أن يتفضل عليهم بحسن البلاء ، ليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه :
( فلم تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم ، وما رميت - إذ رميت - ولكن الله رمى . وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا . إن الله سميع عليم ) . .
وتذهب الروايات المأثورة إلى تفسير الرمي هنا بأنه رمية الحصى التي حثاها رسول الله [ ص ] في وجوه الكفار ، وهو يقول : " شاهت الوجوه . شاهت الوجوه " فأصابت وجوه المشركين ممن كتب عليهم القتل في علم الله . .
ولكن دلالة الآية أعم . فهي تمثل تدبير الله للأمر كله من وراء الحركة الظاهرة للنبي [ ص ] والعصبة المسلمة معه . ولذلك تلاها قول الله تعالى :
( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) . .
أي ليرزقهم من عنده أن يبلوا البلاء الحسن الذي ينالون عليه الأجر ، بعد أن يكتب لهم به النصر . فهو الفضل المضاعف أولاً وأخيراً .
يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم ؛ ويجعلكم ستارا لقدرته ، متى علم منكم الخلوص له ؛ ويعطيكم النصر والأجر . . كما أعطاكم هذا وذاك في بدر . .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلََكِنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنّ اللّهَ رَمَىَ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلآءً حَسَناً إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش : فلم تقتلوا المشركين أيها المؤمنون أنتم ، ولكن الله قتلهم . وأضاف جلّ ثناؤه قتلهم إلى نفسه ، ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين ، إذ كان جلّ ثناؤه هو مسبب قتلهم ، وعن أمره كان قتال المؤمنين إياهم ، ففي ذلك أدلّ الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صنع به وصلوا إلها . وكذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى فأضاف الرمي إلى نبيّ الله ، ثم نفاه عنه ، وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي ، إذ كان جلّ ثناؤه هو الموصل المرميّ به إلى الذين رمُوا من به المشركين ، والمسبب الرمية لرسوله . فيقال للمسلمين ما ذكرنا : قد علمتم إضافة الله رمى نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نفسه بعد وصفه نبيه به وإضافته إليه ذلك فعل واحد كان من الله بتسبيبه وتسديده ، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذف والإرسال ، فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة : من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب ، ومن الخلق الاكتساب بالقوى ؟ فلن يقولوا في أحدهما قولاً إلاّ ألزموا في الاَخر مثله .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حين قال هذا : قتلت ، وهذا : قتلت . وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ قال لمحمد حين حَصَب الكفار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى قال : رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء يوم بدر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة ، قال : ما وقع منها شيء إلاّ في عين رجل .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، قال : لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا قال : «هَذِهِ مَصَارِعُهُمْ » . ووجد المشركون النبيّ صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه ونزل إليه ، فلما طلعوا عليه زعموا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جاءَتْ بِخُيَلائها وَفَخْرِها تَحادّكَ وَتُكَذّبُ رَسُولَكَ ، اللّهُمّ إنّى أسألُكَ ما وَعَدْتَنِي » فلما أقبلوا استقبلهم ، فحثا في وجوههم ، فهزمهم الله عزّ وجلّ .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عمران ، قال : حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، عن حكيم بن حزام ، قال : لما كان يوم بدر ، سمعنا صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية ، فانهزمنا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي ، قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم ، وقال : «شاهَتِ الُوجُوهُ » فدخلت في أعينهم كلهم ، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأنزل الله : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى . . . الاَية ، إلى : إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ . . . الاَية ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاثة أحجار ورمى بها في وجوه الكفار ، فهزموا عند الحجر الثالث .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى الجمعان يوم بدر لعليّ رضي الله عنه : «أعْطِني حَصا مِنَ الأرْضِ » فناوله حصى عليه تراب فرمى به وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلاّ دخل في عينيه من ذلك التراب شيء . ثم ردِفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . فذكر رمية النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكِنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى قال : هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم وقال : «شاهَت الوُجُوهُ » فانهزموا ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يوم بدر ، فقال : «يا رَبّ إنْ تَهْلِكْ هذِهِ العِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَد فِي الأرْضِ أبَدا » فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأخذ قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوههم فما من المشركين من أحد إلاّ أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ، فولوا مدبرين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال الله عزّ وجلّ في رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصباء من يده حين رماهم : وَلكنّ اللّهَ رَمى : أي لم يكن ذلك برميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك ، وما ألقى في صدور عدوّك منها حين هزمتهم .
ورُوي عن الزهري في ذلك قول خلاف هذه الأقوال ، وهو ما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ قال : جاء أبيّ بن خلف الجمحي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ، فقال : الله محيي هذا يا محمد وهو رميم ؟ وهو يفتّ العظم . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يُحْيِيهِ اللّهُ ، ثُمّ يُمِيتُكَ ، ثُمّ يُدْخِلُكَ النّارَ » قال : فلما كان يوم أُحد ، قال : والله لأقتلنّ محمدا إذا رأيته فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «بَلْ أنا أقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ » .
وأما قوله : وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنا فإن معناه : ولينعم على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم ، ويغنمهم ما معهم ، ويثبت لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك البلاء الحسن ، رَمْيُ الله هؤلاء المشركين . ويعني بالبلاء الحسن : النعمة الحسنة الجميلة ، وهي ما وصفت ، وما في معناه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال في قوله : وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهَ بَلاءً حَسَنا : أي ليعرف المؤمنين من نعمه عليهم في إظهارهم على عدوّهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه وليشكروا بذلك نعمته .
وقوله : إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعني : إن الله سميع أيها المؤمنون لدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ومناشدته ربه ومسئلته إياه إهلاك عدوّه وعدوّكم ولقيلكم وقيل جميع خلقه ، عليم بذلك كله وبما فيه صلاحكم وصلاح عباده ، وغير ذلك من الأشياء محيط به ، فاتقوه وأطيعوا أمره وأمر رسوله .
{ فلم تقتلوهم } بقوتكم . { ولكن الله قتلهم } بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم . روي : أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام : هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال " شاهت الوجوه " فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت ، فنزلت . والفاء جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم . { وما رميت } يا محمد رميا توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه . { إذ رميت } أي إذ أتيت بصورة الرمي . { ولكنّ الله رمى } أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم ، وقد عرفت أن اللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كماله والمقصود منه . وقيل معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم . وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات . أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه ، والجمهور على الأول . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي { ولكن } بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين . { وليُبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات فعل ما فعل . { إن الله سميع } لاستغاثتهم ودعائهم . { عليم } بنياتهم وأحوالهم .