{ 15 } { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }
أي : من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله ، وأن دينه سيضمحل ، فإن النصر من الله ينزل من السماء { فَلْيَمْدُدْ } ذلك الظان { بِسَبَبٍ } أي : حبل { إِلَى السَّمَاءِ } وليرقى إليها { ثُمَّ لِيَقْطَعْ } النصر النازل عليه من السماء{[536]} .
{ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ } أي : ما يكيد به الرسول ، ويعمله من محاربته ، والحرص على إبطال دينه ، ما يغيظه من ظهور دينه ، وهذا استفهام بمعنى النفي [ وأنه ] ، لا يقدر على شفاء غيظه بما يعمله من الأسباب .
ومعنى هذه الآية الكريمة : يا أيها المعادي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، الساعي في إطفاء دينه ، الذي يظن بجهله ، أن سعيه سيفيده شيئا ، اعلم أنك مهما فعلت من الأسباب ، وسعيت في كيد الرسول ، فإن ذلك لا يذهب غيظك ، ولا يشفي كمدك ، فليس لك قدرة في ذلك ، ولكن سنشير عليك برأي ، تتمكن به من شفاء غيظك ، ومن قطع النصر عن الرسول -إن كان ممكنا- ائت الأمر مع بابه ، وارتق إليه بأسبابه ، اعمد إلى حبل من ليف أو غيره ، ثم علقه في السماء ، ثم اصعد به حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر ، فسدها وأغلقها واقطعها ، فبهذه الحال تشفي غيظك ، فهذا هو الرأي : والمكيدة ، وأما ما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك ، ولو ساعدك من ساعدك من الخلق . وهذه الآية الكريمة ، فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لدينه ولرسوله وعباده المؤمنين ما لا يخفى ، ومن تأييس الكافرين ، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ، ولو كره الكافرون ، أي : وسعوا مهما أمكنهم .
فأما من يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة ؛ ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة . فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء ؛ وليذهب بنفسه كل مذهب ، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء :
( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ، فليمدد بسبب إلى السماء ، ثم ليقطع ، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) !
وهو مشهد متحرك لغيظ النفس ، وللحركات المصاحبة لذلك الغيظ ، يجسم هذه الحالة التي يبلغ فيها الضيق بالنفس أقصاه ، عندما ينزل بها الضر وهي على غير اتصال بالله .
والذي ييأس في الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة ، وكل نسمة رخية ، وكل رجاء في الفرج ، ويستبد به الضيق ، ويثقل على صدره الكرب ، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء .
فمن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى السماء يتعلق به أو يختنق . ثم ليقطع الحبل فيسقط أو ليقطع النفس فيختنق . . ثم لينظر هل ينقذه تدبيره ذاك مما يغيظه !
ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله . ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله . ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر ، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله . وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب ، ومضاعفة الشعور به ، والعجز عن دفعه بغير عون الله . . فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم عليه من روح الله . . .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَأَنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ } .
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالهاء التي في قوله : أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ .
فقال بعضهم : عُنِي بها نبي الله صلى الله عليه وسلم . فتأويله على قوله بعض قائلي ذلك : من كان من الناس يحسب أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا والاَخرة ، فليمدد بحبل وهو السبب إلى السماء : يعني سماء البيت ، وهو سقفه ، ثم ليقطع السبب بعد الاختناق به ، فلينظر هل يذهبن اختناقه ذلك وقطعه السبب بعد الاختناق ما يغيظ يقول : هل يذهبن ذلك ما يجد في صدره من الغيظ ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : ثني أبي ، قال : ثني خالد بن قيس ، عن قَتادة : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ولا دينه ولا كتابه ، فليمدُدْ بسببٍ يقول : بحبل إلى سماء البيت فليختنق به ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنيا والاَخِرَةِ قال : من كان يظنّ أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ يقول : بحبل إلى سماء البيت ، ثُمّ ليْقْطَعْ يقول : ثم ليختنق ثم لينظر هل يذهبنّ كيده ما يغيظ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، بنحوه .
وقال آخرون ممن قال الهاء في «ينصره » من ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم : السماء التي ذكرت في هذا الموضع هي السماء المعروفة . قالوا : معنى الكلام ، ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنيا والاَخِرَةِ فقرأ حتى بلغ : هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ قال : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ويكابد هذا الأمر ليقطعه عنه ومنه ، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه ، فإن أصله في السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ، ليقطع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه من الله ، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه ، فكايد ذلك حتى قطع أصله عنه . فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ما دخلهم من ذلك وغاظهم الله به من نصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وما ينزل عليه .
وقال آخرون ممن قال «الهاء » التي في قوله : «يَنْصُرَهُ » من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم معنى النصر ها هنا الرزق . فعلى قول هؤلاء تأويل الكلام : من كان يظنّ أن لن يرزق الله محمدا في الدنيا ، ولن يعطيه . وذكروا سماعا من العرب : من ينصرني نصره الله ، بمعنى : من يعطني أعطاه الله . وحكوا أيضا سماعا منهم : نصر المطر أرض كذا : إذا جادها وأحياها . واستشهد لذلك ببيت الفقعسيّ :
وإنّكَ لا تُعْطِي امْرأً فَوْقَ حَظّهِ *** وَلاَ تمْلِكُ الشّقّ الّذي الغَيْثُ ناصِرُهُ
حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : قلت لابن عباس : أرأيت قوله : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنيا والاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السّماءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ ؟ قال : من كان يظنّ أن لن ينصر الله محمدا ، فليربط حبلاً في سقف ثم ليختنق به حتى يموت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ ، عن التميمّي ، قال : سألت ابن عباس ، عن قوله : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ قال : أن لن يرزقه الله في الدنيا والاَخرة ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السّماءِ والسبب : الحَبْل ، والسماء : سقف البيت فليعلق حبلاً في سماء البيت ثم ليختنق فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ هذا الذي صنع ما يجد من الغيظ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو بن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني تميم ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميميّ ، عن ابن عباس : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنيا والاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السّماءِ قال : سماء البيت .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت التميميّ ، يقول : سألت ابن عباس ، فذكر مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنيا والاَخِرَةِ . . . إلى قوله : ما يَغِيظُ قال : السماء التي أمر الله أن يمد إليها بسبب سقف البيت أمر أن يمد إليه بحبل فيختنق به ، قال : فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ إذا اختنق إن خشي أن لا ينصره الله
وقال آخرون : الهاء في «ينصره » من ذكر «مَنْ » . وقالوا : معني الكلام : من كان يظنّ أن لا يرزقه الله في الدنيا والاَخرة ، فليمدد بسبب إلى سماء البيت ثم ليختنق ، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ ، أنه لا يرزق ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ قال : يرزقه الله . فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ قال : بحبل إلى السماءِ سماء ما فوقك . ثمّ لْيَقْطَعْ ليختنق ، هل يذهبن كيده ذلك خنقه أن لا يرزق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ يرزقه الله . فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السّماءِ قال : بحبل إلى السماء .
قال ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : إلى السماءِ إلى سماء البيت . قال ابن جُرَيج : وقال مجاهد : ثُمّ لْيَقْطَعْ قال : ليختنق ، وذلك كيده ما يَغِيظُ قال : ذلك خنقه أن لا يرزقه الله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ يعني : بحبل . إلى السماءِ يعني : سماء البيت .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أبو رجاء ، قال : سُئل عكرِمة عن قوله : فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السّماءِ قال : سماء البيت . ثُمّ لْيَثقْطَعْ قال : يختنق .
وأولى ذلك بالصواب عندي في تأويل ذلك قول من قال : الهاء من ذكر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قوما يعبدونه على حرف وأنهم يطمئنون بالدين إن أصابوا خيرا في عبادتهم إياه وأنهم يرتدّون عن دينهم لشدّة تصيبهم فيها ، ثم أتبع ذلك هذه الاَية فمعلوم أنه إنما أتبعه إياها توبيخا لهم على ارتدادهم عن الدين أو على شكهم فيه نفاقهم ، استبطاء منهم السعة في العيش أو السبوغ في الرزق . وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقيب الخبر عن نفاقهم ، فمعنى الكلام إذن إذ كان ذلك كذلك : من كان يحسب أن لن يرزق الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته في الدنيا فيوسع عليهم من فضله فيها ، ويرزقهم في الاَخرة من سَنيّ عطاياه وكرامته ، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم ، فليمدد بحبل إلى سماء فوقه : إما سقف بيت ، أو غيره مما يعلق به السبب من فوقه ، ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله فاستعجل انكشاف ذلك عنه ، فلينظر هل يذهبنّ كيده اختناقه كذلك ما يغيظ ؟ فإن لم يذهب ذلك غيظه ، حتى يأتي الله بالفرج من عنده فيذهبه ، فكذلك استعجاله نصر الله محمدا ودينه لن يُؤَخّر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ولا يعجّل قبل حينه . وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت في أسد وغطفان ، تباطئوا عن الإسلام ، وقالوا : نخاف أن لا يُنصر محمد صلى الله عليه وسلم فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يُرَوّوننا فقال الله تبارك وتعالى لهم : من استعجل من الله نصر محمد ، فليمدد بسبب إلى السماء فليختنق فلينظر استعجاله بذلك في نفسه هل هو مُذْهِبٌ غيظه ؟ فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدّم نصره قبل حينه .
واختلف أهل العربية في «ما » التي في قوله : ما يَغِيظُ فقال بعض نحوّيي البصرة هي بمعنى «الذي » ، وقال : معنى الكلام : هل يذهبنّ كيده الذي يغيظه . قال : وحذفت الهاء لأنها صلة «الذي » ، لأنه إذا صارا جميعا اسما واحدا كان الحذف أخفّ . وقال غيره : بل هو مصدر لا حاجة به إلى الهاء ، هل يذهبنّ كيده غيظه .