{ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا } أي : الملائكة الذين صدروا من إبراهيم لما أتوا { لُوطًا سِيءَ بِهِمْ } أي : شق عليه مجيئهم ، { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } أي : شديد حرج ، لأنه علم أن قومه لا يتركونهم ، لأنهم في صور شباب ، جرد ، مرد ، في غاية الكمال والجمال ، ولهذا وقع ما خطر بباله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيَءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هََذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولما جاءت ملائكتنا لوطا ، ساءه مجيئهم . وهو «فعل » من السّوء ، وضاق بهم بمجيئهم ذَرْعا يقول : وضاقت نفسه غمّا بمجيئهم ، وذلك أنه لم يكن يعلم أنهم رسل الله في حال ما ساءه مجيئهم ، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيانهم الفاحشة ، وخاف عليهم ، فضاق من أجل ذلك بمجيئهم ذرعا ، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه ، ولذلك قال : هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعا يقول : ساء ظنّا بقومه وضاق ذرعا بأضيافه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن حذيفة أنه قال : لما جاءت الرسل لوطا أتَوْه وهو في أرض له يعمل فيها ، وقد قيل لهم والله أعلم : لا تهلكوهم حتى يشهد لوط قال : فأتوه فقالوا : إنا متضيفوك الليلة فانطلق بهم ، فلما مضى ساعة التفت فقال : أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أناسا أخبث منهم قال : فمضى معهم ، ثم قال الثانية مثل ما قال ، فانطلق بهم ، فلما بصرت بهم عجوز السّوء امرأته ، انطلقتْ فأنذرتهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال حذيفة ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، قال : أتت الملائكة لوطا وهو في مزرعة له ، وقال الله للملائكة : إن شهد لوط عليهم أربع شهادات فقد أَذِنت لكم في هلكتهم . فقالوا : يا لوط إنا نريد أن نَضِيفك الليلة ، فقال : وما بلغكم من أمرهم ؟ قالوا : وما أمرهم ؟ قال : أشهد بالله إنها لشرّ قرية في الأرض عملاً يقول ذلك أربع مرّات . فشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فدخلوا معه منزله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط ، فأتَوها نصف النهار ، فلما بلغوا نهر سَدُوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها ، وكانت له ابنتان ، اسم الكبرى ريثا ، والصغرى زغرتا ، فقالوا لها : يا جارية ، هل من منزل ؟ قالت : نعم ، فمكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم فرقت عليهم من قومها ، فأتت أباها فقالت : يا أبتاه أرادك فتيان على باب المدينة ما رأيت وجه قوم أحسن منهم ، لا يأخذْهم قومك فيفضحوهم وقد كان قومه نَهَوه أن يُضِيف رجلاً ، فقالوا : خلّ عنّا فلنُضِف الرجال فجاء بهم ، فلم يعلم أحد إلا أهل بيت لوط ، فخرجت امرأته فأخبرت قومها ، قالت : إن في بيت لوط رجالاً ما رأيت مثل وجوههم قَطّ فجاءه قومه يُهْرَعون إليه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : خرجت الرسل فيما يزعم أهل التوراة من عند إبراهيم إلى لوط بالمؤتفِكة ، فلما جاءت الرسل لوطا سيء بهم وَضَاقَ بِهِمْ ذَرَعا وذلك من تخوّف قومه عليهم أن يفضحوه في ضيفه ، فقال : هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ .
وأما قوله : وَقال هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ فإنه يقول : وقال لوط : هذا اليوم يوم شديد شره ، عظيم بَلاؤه ، يقال منه : عَصَب يومُنا هذا يَعْصِب عَصْبا ، ومنه قول عديّ بن زيد :
وكنتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لم أُعَرّدْ *** وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ
يَوْمٌ عَصِيبٌ يَعْصِبُ الأبْطالا *** عَصْبَ القَوِيّ السّلَمَ الطّوَالا
وإنّكَ إلاّ تُرْضِ بَكْرَ بنَ وَائِلٍ *** يكُنْ لَكَ يَوْمٌ بالعِرَاقِ عَصِيبُ
ويُلَبّونَ بالحَضِيصِ فِئامٌ *** عارِفاتٌ مِنْهُ بِيَوْمٍ عَصِيبِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : عصيب : شديد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ يقول شديد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي يوم بلاء وشدة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يَوْمٌ عَصِيبٌ شديد .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ : أي يوم شديد .
قد علم أن الملائكة ذاهبون إلى قوم لوط من قوله : { إنّا أُرسلنا إلى قوم لوط } [ هود : 70 ] . فالتقدير : ففارقوا إبراهيم وذهبوا إلى لوط عليهما السّلام فلما جاءوا لوطاً ، فحذف ما دل عليه المقام إيجازاً قرآنياً بديعاً .
وقد جاءوا لوطاً كما جاءوا إبراهيم عليهما السّلام في صورة البشر ، فظنهم ناساً وخشي أن يعتدي عليهم قومه بعادتهم الشنيعة ، فلذلك سيء بهم .
ومعنى { ضاق بهم ذرعاً } ضاق ذرعه بسببهم ، أي بسبب مجيئهم فحوّل الإسناد إلى المضاف إليه وجعل المسند إليه تمييزاً لأن إسناد الضيق إلى صاحب الذرع أنسب بالمعنى المجازي ، وهو أشبه بتجريد الاستعارة التمثيلية .
والذرع : مدُّ الذراع فإذا أسند إلى الآدمِيّ فهو تقدير المسافة . وإذا أسند إلى البعير فهو مَدّ ذراعيه في السير على قدر سعة خطوتِه ، فيجوز أن يكون : ضاق ذرعاً تمثيلاً بحال الإنسان الذي يريد مَدّ ذراعه فلا يستطيع مَدّهَا كما يريد فيكون ذَرعه أضيق من معتاده . ويجوز أن يكون تمثيلاً بحال البعير المثقل بالحمل أكثر من طاقته فلا يستطيع مَدّ ذراعيه كما اعتاده . وأيّاً ما كان فهو استعارة تمثيلية لحال مَنْ لم يجد حيلة في أمر يريدُ علمه ؟ بحال الذي لم يستطع مدّ ذراعه كما يشاء .
وقوله : { هذا يوم عصيب } قاله في نفسه كما يناجي المرء نفسه إذا اشتد عليه أمر .
والعصيب : الشديد فيما لا يرضي . يقال : يوم عصيب إذا حدث فيه أمر عظيم من أحوال الناس أو أحوال الجوّ كشدة البرد وشدة الحرّ . وهو بزنة فعيل بمعنى فاعل ولا يُعرف له فعل مجرد وإنما يقال : اعْصوصب الشرُّ ؛ اشتدّ . قالوا : هو مشتق من قولك : عصبتُ الشيء إذا شددته . وأصل هذه المادة يفيد الشدّ والضغط ، يقال : عصب الشيء إذا لَواه ، ومنه العِصابة . ويقال : عصبتْهم السنون إذا أجَاعتهم . ولم أقف على فعل مجرّد لوصف اليوم بعصيب . وأراد : أنه سيكون عصيباً لِمَا يَعلم من عادة قومه السيئة وهو مقتض أنهم جاءوه نهاراً .
ومن بديع ترتيب هذه الجمل أنها جاءت على ترتيب حصولها في الوجود ، فإن أول ما يسبق إلى نفس الكاره للأمر أن يُساء به ويتطلب المخلص منه ، فإذا عَلم أنه لا مخلص منه ضاق به ذرعاً ، ثم يصدر تعبيراً عن المعاني وترتيباً عنه كلاماً يُريح به نفسه .
وتصلح هذه الآية لأن تكون مثالاً لإنشاء المنشىء إنشاءه على حسب ترتيب الحصول في نفس الأمر ، هذا أصل الإنشاء ما لم تكن في الكلام دواعي التقديم والتأخير ودواعي الحذف والزيادة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.