تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلِكُلّٖ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَاۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (148)

{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

أي : كل أهل دين وملة ، له وجهة يتوجه إليها في عبادته ، وليس الشأن في استقبال القبلة ، فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال ، ويدخلها النسخ والنقل ، من جهة إلى جهة ، ولكن الشأن كل الشأن ، في امتثال طاعة الله ، والتقرب إليه ، وطلب الزلفى عنده ، فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولاية ، وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس ، حصلت لها خسارة الدنيا والآخرة ، كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة على الحقيقة ، وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع ، وهو الذي خلق الله له الخلق ، وأمرهم به .

والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات ، فإن الاستباق إليها ، يتضمن فعلها ، وتكميلها ، وإيقاعها على أكمل الأحوال ، والمبادرة إليها ، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات ، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات ، فالسابقون أعلى الخلق درجة ، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل ، من صلاة ، وصيام ، وزكوات{[106]}  وحج ، عمرة ، وجهاد ، ونفع متعد وقاصر .

ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير ، وينشطها ، ما رتب الله عليها من الثواب قال : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته ، فيجازي كل عامل بعمله { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى }

ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل ، كالصلاة في أول وقتها ، والمبادرة إلى إبراء الذمة ، من الصيام ، والحج ، والعمرة ، وإخراج الزكاة ، والإتيان بسنن العبادات وآدابها ، فلله ما أجمعها وأنفعها من آية " .


[106]:- في ب: وزكاة.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلِكُلّٖ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَاۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (148)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

يعني بقوله تعالى ذكره : ولكلّ ولكل أهل ملة ، فحذف أهل الملة واكتفى بدلالة الكلام عليه . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : وَلِكُلّ وِجْهَةٌ قال : لكل صاحب ملة .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيها فلليهود وجهة هو موليها وللنصارى وجهة هو موليها ، وهداكم الله عزّ وجل أنتم أيتها الأمة للقبلة التي هي قبلته .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيها ؟ قال : لكل أهل دين اليهود والنصارى . قال ابن جريج : قال مجاهد : لكل صاحب ملة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مَوَلّيها قال لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة ، ولكم قبلة . يريد المسلمين .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَلِكُلَ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيها يعني بذلك أهل الأديان ، يقول : لكلّ قبلة يرضونها ، ووجهُ الله تبارك وتعالى اسمه حيث توجه المؤمنون وذلك أن الله تعالى ذكره قال : فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه إنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَلِكُلَ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيها يقول : لكل قوم قبلة قد وُلّوها .

فتأويل أهل هذه المقالة في هذه الآية : ولكل أهل ملة قبلة هو مستقبلها ومولّ وجهه إليها . وقال آخرون بما :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيها قال : هي صلاتهم إلى بيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة .

وتأويل قائل هذه المقالة : ولكل ناحية وجهك إليها ربك يا محمد قبلة الله عز وجل موليها عباده . وأما الوجهة فإنها مصدر مثل القِعْدة والمِشْية من التوجه ، وتأويلها : متوجّه يتوجه إليها بوجهه في صلاته . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وجهةٌ قبلة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَلِكُلّ وِجْهَةٌ قال : وجه .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وجهة : قبلة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، قال : قلت لمنصور : وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيها قال : نحن نقرؤها : ولكلّ جعلنا قبلة يرضونها .

وأما قوله : هُوَ مُوَلّيها فإنه يعني : هو مولّ وجهه إليها مستقبلها . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : هُوَ مُوَلّيها قال : هو مستقبلها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

ومعنى التولية هَهنا الإقبال ، كما يقول القائل لغيره : انصرف إليّ ، بمعنى أقبل إليّ والانصراف المستعمل إنما هو الانصراف عن الشيء ، ثم يقال : انصرف إلى الشيء بمعنى أقبل إليه منصرفا عن غيره . وكذلك يقال : وليت عنه : إذا أدبرت عنه ، ثم يقال : وليت إليه بمعنى أقبلت إليه موليا عن غيره . والفعل ، أعني التولية في قوله : هُوَ مُوَلّيها ل«كلّ » و «هو » التي مع «موليها » هو «الكل » وُحّدت للفظ «الكل » .

فمعنى الكلام إذا : ولكل أهل ملة وجهة ، الكلّ منهم مولّوها وجوههم .

وقد رُوي عن ابن عباس وغيره أنهم قرأوا : «هو مُوَلاّها » بمعنى أنه موّجه نحوها ، ويكون الكلام حينئذ غير مسمى فاعله ، ولو سمي فاعله لكان الكلام : ولكل ذي ملة وجهة الله موليه إياها ، بمعنى موجهه إليها .

وقد ذكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك : وَلِكُلّ وِجْهَةٍ بترك التنوين والإضافة . وذلك لحن ، ولا تجوز القراءة به ، لأن ذلك إذا قرىء كذلك كان الخبر غير تامّ ، وكان كلاما لا معنى له ، وذلك غير جائز أن يكون من الله جل ثناؤه .

والصواب عندنا من القراءة في ذلك : وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيها بمعنى : ولكلّ وجهة وقبلة ، ذلك الكلّ مولّ وجهه نحوها ، لإجماع الحجة من القراء على قراءة ذلك كذلك وتصويبها إياها ، وشذوذ من خالف ذلك إلى غيره . وما جاء به النقل مستفيضا فحجة ، وما انفرد به من كان جائزا عليه السهو والخطأ فغير جائز الاعتراض به على الحجة .

القول في تأويل قوله تعالى : فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ .

يعني تعالى ذكره بقوله : فَاسْتَبِقُوا فبادروا وسارعوا ، من «الاستباق » ، وهو المبادرة والإسراع . كما :

حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ يعني فسارعوا في الخيرات . وإنما يعني بقوله : فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أي قد بينت لكم أيها المؤمنون الحق وهديتكم للقبلة التي ضلت عنها اليهود والنصارى وسائر أهل الملل غيركم ، فبادروا بالأعمال الصالحة شكرا لربكم ، وتزوّدوا في دنياكم لأخراكم ، فإني قد بينت لكم سبيل النجاة فلا عذر لكم في التفريط ، وحافظوا على قبلتكم ، ولا تضيعوها كما ضيعها الأمم قبلكم فتضلوا كما ضلت كالذي :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَاسْتَبِقُوا الخَيْراتِ يقول : لا تغلبن على قبلتكم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ قال : الأعمال الصالحة .

القول في تأويل قوله تعالى : أيْنَما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعا إنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

ومعنى قوله : أيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعا في أيّ مكان وبقعة تهلكون فيه يأت بكم الله جميعا يوم القيامة ، إنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . كما :

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعا يقول : أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا يوم القيامة .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعا يعني يوم القيامة . وإنما حضّ الله عزّ وجلّ المؤمنين بهذه الآية على طاعته والتزوّد في الدنيا للاَخرة ، فقال جل ثناؤه لهم : استبقوا أيها المؤمنون إلى العمل بطاعة ربكم ، ولزوم ما هداكم له من قبلة إبراهيم خليله وشرائع دينه ، فإن الله تعالى ذكره يأتي بكم وبمن خالف قبلتكم ودينكم وشريعتكم جميعا يوم القيامة من حيث كنتم من بقاع الأرض ، حتى يوفى المحسن منكم جزاءه بإحسانه ، والمسيء عقابه بإساءته ، أو يتفضل فيصفح .

وأما قوله : إنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فإنه تعالى ذكره يعني أن الله تعالى على جمعكم بعد مماتكم من قبوركم من حيث كنتم وعلى غير ذلك مما يشاء قدير ، فبادروا خروج أنفسكم بالصالحات من الأعمال قبل مماتكم ليوم بعثكم وحشركم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلِكُلّٖ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَاۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (148)

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 148 )

وقوله تعالى : { ولكل وجهة } الآية ، الوجهة : فعلة من المواجهة كالقبلة ، وقوله : { هو } عائد على اللفظ المفرد في { كل } ، والمراد به الجماعات .

المعنى : لكل صاحب ملة وجهة هو موليها نفسه ، قاله الربيع وعطاء وابن عباس ، وقرأ ابن عباس وابن عامر وحده من السبعة { هو مولاها }( {[1402]} ) ، وقالت طائفة : الضمير في { هو } عائد على الله تعالى ، والمعنى : الله موليها إياهم ، وقالت فرقة : المعنى في الآية أن للكل ديناً وشرعاً وهو دين الله وملة محمد وهو موليها إياهم اتبعها من اتبعها وتركها من تركها ، وقال قتادة : المراد بالآية أن الصلاة إلى الشام ثم الصلاة إلى الكعبة لكل واحدة منهما وجهة الله موليها إياهم ، وحكى الطبري أن قوماً قرؤوا { ولكل وجهة } بإضافة كل إلى وجهة ، وخطأها الطبري .

قال القاضي أبو محمد : وهي متجهة ، أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها ، ولا تعترضوا فيما أمركم من هذه وهذه ، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع( {[1403]} ) ، وقدم قوله : { لكل وجهة } على الأمر في قوله : { فاستبقوا } للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول ، وذكر أبو عمرو الداني هذه القراءة عن ابن عباس رضي الله عنه وسلمت الواو في وجهة ولم تجر كعدة وزنة لأن { وجهة } ظرف وتلك مصادر فسلمت للفرق ، وأيضاً فليكمل بناء الهيئة كالجلسة( {[1404]} ) ، قال أبو علي : ذهب قوم أنه مصدر شذ عن القياس فسلم ، ومال قوم إلى أنه اسم ليس بمصدر .

قال غير أبي علي : وإذا أردت المصدر قلت جهة .

قال القاضي أبو محمد : وقد يقال الجهة في الظرف ، وحكى الطبري عن منصور( {[1405]} ) أنه قال : نحن نقرؤها «ولكلٍّ جعلنا قبلة يرضونها » .

ثم أمر تعالى عباده باستباق الخيرات( {[1406]} ) والبدار إلى سبيل النجاة ، ثم وعظهم بذكر الحشر موعظة تتضمن وعيداً وتحذيراً .

وقوله : { يأتِ بكم الله جميعاً } يعني به البعث من القبور ، ثم اتصف الله تعالى بالقدرة على كل شيء مقدور عليه لتناسب الصفة مع ما ذكر من الإتيان بهم .


[1402]:- فتكون اسم مفعول على هذه القراءة.
[1403]:- توجيهه لقراءة الإضافة التي خطأها الطبري رحمه الله – بأنها مرتبطة بما بعدها توجيه مقبول وصحيح، وقد بيّن ذلك في سبكه لها، كما بيّن أنها قراءة ابن عباس رضي الله عنه نقلا عن أبي عمرو الداني.
[1404]:- الوجهة: كل مكان استقبلته، وتحذف الواو فيقال: جهة كعدة وقد قيل: إن وجهة مصدر خرج عن القياس، وقيل: ظرف مكان، والجهة كذلك تكون مصدرا، وقد تكون ظرفا.
[1405]:- لعله منصور بن المعتمر السلمي أبو عتاب الكوفي، صام أربعين سنة، وقام ليلها، وتوفي سنة 132 هـ ونرجح ذلك لأن جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي يروي عنه.
[1406]:- استَبَقَ – لا تتعدى لأنها بمعنى تسابق، فهي في الآية على تقدير إلى، أو على تضمين معنى الابتدار، والخيرات سائر أنواع الطاعات، ومنها المسارعة إلى الصلاة واستقبال الكعبة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلِكُلّٖ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَاۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (148)

عطف على جملة : { الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } [ البقرة : 146 ] ، فهو من تمام الاعتراض ، أو عطف على جملة : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } [ البقرة : 145 ] مع اعتبار ما استؤنف عنه من الجُمل ، ذلك أنه بعد أن لُقِّن الرسول عليه الصلاة والسلام ما يجيب به عن قولهم { مَا وَلاَّهُم عن قبلتهم } ، وبعد أن بين للمسلمين فضيلة قبلتهم وأنهم على الحق وأَيْأَسَهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة ، ذيل ذلك بهذا التذييل الجامع لمعان سامية ، طَيَّاً لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة ، كما يقال في المخاطبات « دَعْ هذا » أو « عَدِّ عن هذا » ، والمعنى أن لكل فريق اتجاهاً من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق . وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة أهل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق . وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم ، وفي معناه قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] الآية ، ولذلك أعقبه بقوله : { فاستبقوا الخيرات } ، فقوله : { أين ما تكونوا } في معنى التعليل للأمر باستباق الخيرات . فهكذا ترتيب الآية على هذا الأسلوب كترتيب الخُطب بذكر مقدِّمة ومقْصَد وبيانٍ لَه وتَعْلِيل وتَذْيِيل .

و ( كل ) اسم دال على الإحاطة والشمول ، وهو مبهم يتعين بما يضاف هو إليه فإذا حذف المضاف إليه عوض عنه تنوين كل وهو التنوين المسمى تنوين العوض لأنه يدل على المضاف إليه فهو عوض عنه .

وحذف ما أضيف إليه ( كل ) هنا لدلالة المقام عليه وتقدير هذا المحذوف ( أُمَّة ) لأن الكلام كله في اختلاف الأمم في أمر القبلة ، وهذا المضاف إليه المحذوف يقدر بما يدل عليه الكلام من لفظه كما في قوله تعالى : { أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله } [ البقرة : 285 ] أو يقدر بما يدل عليه معنى الكلام المتقدم دون لفظ تقدمه كما في قوله تعالى : { ولكل جعلنا مولى } [ النساء : 33 ] في سورة النساء ، ومنه ما في هذه الآية لأن الكلام على تخالف اليهود والنصارى والمسلمين في قبلة الصلاة ، فالتقدير ولكل من المسلمين واليهود والنصارى وجهة ، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى : { كل له قانتون } [ البقرة : 116 ] .

والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فِعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح ، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما يكون في فعلة بمعنى المصدر .

وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيهاً بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس ، ولفظ { وجهة } في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي فالتعبير به كلام موجه وهو من المحاسن ، وقريب منه قوله : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [ المائدة : 48 ] . وضمير { هو } عائد للمضاف إليه ( كُل ) المحذوف .

والمفعول الأول لموليها محذوف إذ التقدير هو موليها نفسه أو وجهه على نحو ما بيناه في قوله تعالى : { ما ولاهم عن قبلتهم } [ البقرة : 142 ] والمعنى هو مقبل عليها وملازم لها .

وقراءة الجمهور « موليها » بياء بعد اللام وقرأه ابن عامر « هو مُوَلاَّها » بألف بعد اللام بصيغة ما لم يسم فاعله أي يوليه إياها مول وهو دينه ونظره ، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من الوجهة القبلة فاستبقوا أنتم إلى الخير وهو استقبال الكعبة ، وقيل المراد لكل أمة قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم فإنكم على الخيرات ، وقيل المراد هيكل قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم ، فإنكم على الخيرات ، وقيل المراد لكل قوم قبلة فلا يضركم خلافهم واتركوهم واستبقوا إلى الخيرات إلى الكعبة ، وقيل المراد لكل طائفة من المسلمين جهة من الكعبة سيستقبلونها . ومعاني القرآن تحمل على أجمع الوجوه وأشملها .

وقوله : { فاستبقوا الخيرات } تفريع للأمر على ما تقدم أي لما تعددت المقاصد . فالمنافسة تكون في مصادفة الحق .

والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلاّ أنه توسع فيه فعدي بنفسه كقوله تعالى : { واستبقا الباب } [ يوسف : 25 ] أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا . فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه والخيرات جمع خير على غير قياس كما قالوا سرادقات وحمامات . والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هاذم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } [ آل عمران : 133 ] ، { والسابقون السابقون ، أولئك المقربون ، في جنات النعيم } [ الواقعة : 10 12 ] ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } [ الحديد : 10 ] وقال موسى : { وعجلت إليك رب لترضى } [ طه : 84 ] .

وقوله : { أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً } جملة في معنى العلة للأمر باستباق الخيرات ولذلك فصلت لأن العلة لا تعطف إذ هي بمنزلة المفعول لأجله ، والمعنى فاستبقوا إلى الخير لتكونوا مع الذين يأتي بهم الله للرفيق الحسن لأن الله يأتي بالناس جميعاً خيرهم وشرهم و ( كان ) تامة أي في أي موضع توجدون من مواقع الخير ومواقع السوء .

والإتيان بالشيء جلبه وهو مجاز في لازم حقيقته فمن ذلك استعماله في القرب والطاعة .

قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك بن مروان

أَتَاكَ بيَ اللَّهُ الذي نَوَّر الهُدَى *** ونُورٌ وإِسْلاَم علَيك دَليل

أراد سخرني إليك ، وفي الحديث : « اللهم اهْدِ دَوْساً وأْت بها » أي اهدها وقربها للإِسلام ويستعمل في القدرة على الشيء وفي العلم به كما في قوله تعالى : { إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله } [ لقمان : 16 ] .

وتجيء أقوال في تفسير { أينما تكونوا } على حسب الأقوال في تفسير { ولكلِّ وجهة } بأن يكون المعنى تقبل الله أعمالكم في استباق الخيرات فإنه المهم ، لا استقبال الجهات أو المعنى إنكم إنما تستقبلون ما يُذَكِّركم بالله فاسعوا في مرضاته بالخيرات يَعْلم الله ذلك من كل مكان ، أو هو ترهيب أي في أيَّة جهة يأتتِ الله بكم فيثيت ويعاقِب ، أوْ هو تحريض على المبادرة بالعمل الصالح أي فأنتم صائرون إلى الله من كل مكان فبادروا بالطاعة قبل الفوت بالموت ، إلى غير ذلك من الوجوه .

وقوله : { إن الله على كل شيء قدير } تذييل يناسب جميع المعاني المذكورة .