التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَلِكُلّٖ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَاۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (148)

قوله تعالى : ( ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ومن حيث خرجت فوق وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتمم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) ( ولكل ) جار ومجرور في محل رفع خبر مقدم ، ( وجهة ) مبتدأ مؤخر مرفوع . ( هو ) ضمير في محل رفع مبتدأ ( موليها ) خبر ، والهاء ضمير في محل جر مضاف إليه . والجملة ( هو موليها ) في محل رفع صفة للمبتدأ الأول ( وجهة ) {[159]} والوجهة أو الجهة على نفس المعنى والمراد بها القبلة . وموليها بمعنى متوليها أو متوجه نحوها . يقول سبحانه في ذلك أن لكل من الفريقين قبلة يتوجه صوبها . فالمسلمون يستقبلون قبلتهم التي صاروا إليها أخيرا وهي الكعبة ، وأهل الكتاب لهم قبلتهم نحو الشام حيث بيت المقدس . لكن أهل هذه الملة الخاتمة هم المؤمنون حقا ؛ لاعتصامهم بحبل الله ، وطاعته له من غير عصيان ، وامتثالهم لأوامره غير ممترين ولا مترددين . ومعلوم أن أهل هذه الملة ما أن بلغهم الأمر باستقبال القبلة الجدية حتى بادروا التوجه نحوها طائعين مستسلمين وفي الحال بادروا ممتثلين خاضعين من غير تردد في ذلك ولا ارتياب .

قوله : ( فاستبقوا الخيرات ) أي بادروا في تسابق جاد وعازم لفعل الخيرات وهي بعمومها تتناول كل وجوه الطاعة والامتثال من صلاة وزكاة وجهاد وإكرام الجار وبر بوالدين وإغاثة للمضطر والمكروب والملهوف حتى إماطة الأذى عن الطريق . ذلك كله من وجوه الطاعة والصلاح التي يتناولها مفهوم الخيرات . وهي جميعا قد دعا الله سبحانه لمبادرتها في نشاط لا يعرف التثاقل ، وفي حماسة لا يناسبها الخذلان أو التلبد أو العجز . ينبغي أن يبادر المؤمنون فعل الخيرات جميعا في همة عالية وجد مندفع ، يحفزهم لذلك العقيدة المؤثرة الفعالة التي تربط المؤمن به برباط من الثقة واليقين بعظمته وجلاله سبحانه ، ليكون مستديم الصلة به وحده دون أحد من خلقه فيظل على الدوام عاملا بشرع الله وفاعلا لأوجه الخير في كل مناحي الحياة .

وقيل : إن المقصود باستباق الخيرات هو المبادرة بالصلاة على وقتها دون تأخير وذلك على الخلاف بين العلماء في هذه المسألة ، مع أنهم متفقون على أفضلية الأداء في أول الوقت . فقد روى الدارقطني عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله ( ص ) : " إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها وقد ترك من الوقت الأول ما هو خير له من أهله وماله " .

وروى الدارقطني أيضا بإسناده عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " خير الأعمال الصلاة في أول وقتها " .

وفي رواية ثالثة للدارقطني أن النبي ( ص ) قال : " أول الوقت رضوان الله ، ووسط الوقت رحمة الله ، وآخر الوقت عفو الله " .

على أن هناك خلافا بين الفقهاء في بعض الصلوات من حيث أداؤها في وقتها أو تأخيرها . فقد ذهب الشافعي إلى أفضلية أداء الصلاة في وقتها دون تأخير ، وهو في ذلك يعني الصلوات الخميس جميعا ، سواء في ذلك الظهر أو العشاء الأخيرة ، وسواء كانت الوقت صيفا أو شتاء ، وذلك استنادا إلى ظاهرة الأدلة من السنة نفسها .

وذهب الإمام مالك إلى أفضلية تأخير صلاة الظهر عن وقتها حتى الإبراد ، وذلك في الصيف حيث الحر الشديد ؛ استنادا إلى ما أخرجه البخاري والترمذي بإسندهما عن أبي ذر الغفاري قال : كنا مع النبي ( ص ) في سفر ، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر ، فقال النبي ( ص ) : " أبرد " ثم أراد أن يؤذن فقال له : " أبرد " حتى رأينا فيء التلول فقال النبي ( ص ) : " إن شدة الحر من فيح جهنم ، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة " وهو ما ذهب إليه الإمام مالك أيضا فقد ذكر عنه قوله : أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا الظهر في شدة الحر لما بينا من أدلة . وتفصيل هذه المسائل في مواطنه من كتب الفقه .

وقوله : ( أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ) ( أين ما ) أداة شرط تجزم فعلين . ( تكونوا ) فعل الشرط مجزوم بحذف النون . ( يأت ) جواب الشرط مجزوم بحذف حرف العلة من آخره .

بعد الدعوة للاستباق في فعل الخيرات ومبادرة الطاعات دون تأخير ، يعيد الله للأذهان فكرة الموت ، وهو أمر مريع مخوف جلل لا يطرأ على البال حتى يوقظ فيه دوام الصحو واليقظة ، ولا يمس خبره الحس والوجدان حتى يثير في النفس الرهبة والتوجس .

فإن مصير الخليفة إلى الموت المتربص المحتوم ، ثم نجد بعد ذلك مساقها إلى الله في يوم حافل بالأهوال والقواصم وحافل بالشدائد والوجل . وذلكم يوم القيامة حيث الحساب الدقيق الكاشف عن الأعمال والنوايا بين يدي الله سبحانه . وهو العالم بالأسرار والأستار ، المطلع على خفايا الصدور وهو ( على كل شيء قدير ) .


[159]:- البيان للأنباري جـ 2 ص 128.