ثم ذكر تعالى السبب الأعظم والموجب الأكبر لثبات المؤمنين على إيمانهم ، وعدم تزلزلهم عن إيقانهم ، وأن ذلك من أبعد الأشياء ، فقال : { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله } أي : الرسول بين أظهركم يتلو عليكم آيات ربكم كل وقت ، وهي الآيات البينات التي توجب القطع بموجبها والجزم بمقتضاها وعدم الشك فيما دلت عليه بوجه من الوجوه ، خصوصا والمبين لها أفضل الخلق وأعلمهم وأفصحهم وأنصحهم وأرأفهم بالمؤمنين ، الحريص على هداية الخلق وإرشادهم بكل طريق يقدر عليه ، فصلوات الله وسلامه عليه ، فلقد نصح وبلغ البلاغ المبين ، فلم يبق في نفوس القائلين مقالا ولم يترك لجائل في طلب الخير مجالا ، ثم أخبر أن من اعتصم به فتوكل عليه وامتنع بقوته ورحمته عن كل شر ، واستعان به على كل خير { فقد هدي إلى صراط مستقيم } موصل له إلى غاية المرغوب ، لأنه جمع بين اتباع الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله وبين الاعتصام بالله .
{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وكيف تكفرون أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله ، فترتدوا على أعقابكم { وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ } يعني : حجج الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . { وفِيكُمْ رَسُولُهُ } حجة أخرى عليكم لله ، مع آي كتابه ، يدعوكم جميع ذلك إلى الحقّ ، ويبصركم الهدى والرشاد ، وينهاكم عن الغيّ والضلال يقول لهم تعالى ذكره : فما وجه عذركم عند ربكم في جحودكم نبوّة نبيكم ، وارتدادكم على أعقابكم ، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم ، إن أنتم راجعتم ذلك وكفرتم ، وفيه هذه الحجج الواضحة ، والاَيات البينة ، على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ } . . . الاَية ، علمان بينان : وُجْدَانُ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وكتاب الله¹ فأما نبيّ الله فمضى صلى الله عليه وسلم¹ وأما كتاب الله ، فأبقاه الله بين أظهركم رحمة من الله ونعمة ، فيه حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته .
وأما قوله : { مَنْ يَعْتَصِمْ باللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فإنه يعني : ومن يتعلق بأسباب الله ، ويتمسك بدينه وطاعته ، { فَقَدْ هُدِيَ } يقول : فقد وفق لطريق واضح ومحجة مستقيمة غير معوجة ، فيستقيم به إلى رضا الله وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللّهِ فَقَدْ هُدِيَ } قال : يؤمن بالله .
وأصل العصم : المنع ، فكل مانع شيئا فهو عاصمه ، والممتنع به معتصم به ، ومنه قول الفرزدق :
أنا ابْنُ العاصِمينَ بني تَمِيم *** ٍإذَا ما أعْظَمُ الحدَثانِ نابَا
ولذلك قيل للحبل : عصام ، وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته : عصام ، ومنه قول الأعشى :
إلى المَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السّرى *** وآخُذُ مِنْ كُلّ حَيّ عُصُمْ
يعني بالعُصُم : الأسباب ، أسباب الذمة والأمان ، يقال منه : اعتصمت بحبل من فلان ، واعتصمت حبلاً منه ، واعتصمت به واعتصمه . وأفصح اللغتين : إدخال الباء ، كما قال عزّ وجلّ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } وقد جاء «اعتصمته » ، كما قال الشاعر :
إذَا أنْتَ جازَيْتَ الإخاءَ بِمِثْلِهِ *** وَآسَيْتَنِي ثُمّ اعْتَصَمْتُ حبِالِيا
فقال : «اعتصمت حباليا » ، ولم يدخل الباء ، وذلك نظير قولهم : تناولت الخطام وتناولت بالخطام ، وتعلقت به وتعلقته ، كما قال الشاعر :
تَعَلّقْتَ هِنْدا ناشِئا ذَاتَ مِئْزَرٍ *** وأنتَ وَقد فارَقْتَ لمْ تَدْرِ ما الحِلْمُ
وقد بينت معنى الهدى والصراط وأنه معنّي به الإسلام فيما مضى قبل بشواهده ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع .
وقد ذكر أن الذي نزل في سبب تَحَاوُرْ القبيلتين الأوس والخزرج ، كان منه قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن الأغرّ بن الصباح ، عن خليفة بن حصين ، عن أبي نصر ، عن ابن عباس ، قال : كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر ، فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا ، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح ، فنزلت هذه الاَية : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُه } . . . إلى آخر الاَيتين ، { واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } . . . إلى آخر الاَية .
قوله : { وكيف تكفرون } استفهام مستعمل في الاستبْعَاد استبعاداً لكفرهم ونفياً له ، كقول جرير :
كَيْفَ الهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكّ صَالِحَةٌ *** من آل لأمٍ بِظهْرِ الغَيْبِ تَأتينِي
وجملة { وأنتم تتلى عليكم آيات الله } حالية ، وهي محطّ الاستبعاد والنَّفي لأنّ كلاّ من تلاوة آيات الله وإقامة الرّسول عليه الصّلاة والسَّلام فيهم وازع لهم عن الكفر ، وأيّ وازع ، فالآيات هنا هي القرآن ومواعظه .
والظرفية في قوله : { وفيكم رسوله } حقيقيّة ومؤذنة بمنقبة عظيمة ، ومنّة جليلة ، وهي وجود هذا الرسول العظيم بينهم ، تلك المزيّة الَّتي فاز بها أصحابه المخاطبون .
وبها يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدْري : « لاَ تسبُّوا أصحابي فوالّذي نفسي بيده لَوْ أنّ أحدكم أنفق مثلَ أُحُد ذَهَباً مَا بَلَغ مُدّ أحدِهم ولا نصِيفه » النصيف نِصْف مدّ .
وفي الآية دلالة على عِظْم قدْر الصّحابة وأنّ لهم وازعين عن مواقعة الضّلال : سماعُ القرآن ، ومشاهدَة أنوار الرّسول عليه السَّلام فإنّ وجوده عصمة من ضلالهم . قال قتادة : أمّا الرسول فقد مضى إلى رحمة الله ، وأمَّا الكتاب فباقٍ على وجه الدّهر .
وقوله : { ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم } أي من يتمسّك بالدّين فلا يخش عليه الضّلال . فالاعتصام هنا استعارة للتَّمسّك .
وفي هذا إشارة إلى التمسّك بكتاب الله ودينه لسائر المسلمين الَّذين لم يشهدوا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.