وقوله : { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } أي : اجعل مداخلي ومخارجي كلها في طاعتك وعلى مرضاتك ، وذلك لتضمنها الإخلاص وموافقتها الأمر .
{ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا } أي : حجة ظاهرة ، وبرهانًا قاطعًا على جميع ما آتيه وما أذره .
وهذا أعلى حالة ينزلها الله العبد ، أن تكون أحواله كلها خيرًا ومقربة له إلى ربه ، وأن يكون له -على كل حالة من أحواله- دليلاً ظاهرًا ، وذلك متضمن للعلم النافع ، والعمل الصالح ، للعلم بالمسائل والدلائل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُل رّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لّي مِن لّدُنْكَ سُلْطَاناً نّصِيراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه : وقل يا محمد يا ربّ أدخلني مدخل صدق .
واختلف أهل التأويل في معنى مُدْخل الصدق الذي أمره الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرغب إليه في أن يدخله إياه ، وفي مخرج الصدق الذي أمره أن يرغب إليه في أن يخرجه إياه ، فقال بعضهم : عَنَى بمُدْخل الصّدق : مُدْخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، حين هاجر إليها ، ومُخْرج الصدق : مُخْرجه من مكة ، حين خرج منها مهاجرا إلى المدينة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن قابوس بن أبي ظَبْيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ، ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله تبارك وتعالى اسمه وَقُلْ رَبّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانا نَصِيرا .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن عوف عن الحسن ، في قول الله : أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ قال : كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه ، أو يطردوه ، أو يُوثِقوه ، وأراد الله قتال أهل مكة ، فأمره أن يخرج إلى المدينة ، فهو الذي قال الله أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقِ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتادة مُدْخَلَ صِدْقٍ قال : المدينة وَمُخْرَجَ صِدْقٍ قال : مكة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقُلْ رَبّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أخرجه الله من مكة إلى الهجرة بالمدينة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقُلْ رَبّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ قال : المدينة حين هاجر إليها ، ومخرج صدق : مكة حين خرج منها مخرج صدق ، قال ذلك حين خرج مهاجرا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقل ربّ أمتني إماتة صِدْق ، وأخرجني بعد الممات من قبري يوم القيامة مُخْرَج صدق . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَقُلْ رَبّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ . . . الاَية ، قال : يعني بالإدخال : الموت ، والإخراج : الحياة بعد الممات .
وقال آخرون : بل عَنَى بذلك : أدخلني في أمرك الذي أرسلتني من النبوّة مُدْخَل صدق ، وأخرجني منه مُخْرَج صدق . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ قال : فيما أرسلتني به من أمرك وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ قال كذلك أيضا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أدخلني مدخل صدق : الجنة ، وأخرجني مخرج صدق : من مكة إلى المدينة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الجنة ومُخْرَجَ صِدْقٍ من مكة إلى المدينة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أدخلني في الإسلام مُدْخل صدق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سهل بن موسى الرازي ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : رَبّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ قال : أدخلني في الإسلام مدخل صدق وأخْرِجْنِي منه مُخْرَجَ صِدْقٍ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أدخلني مكة آمنا ، وأخرجني منها آمنا . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك قال في قوله : رَبّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ يعني مكة ، دخل فيها آمنا ، وخرج منها آمنا .
وأشبه هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : معنى ذلك : وأدخلني المدينة مُدْخل صدق ، وأخرجني من مكة مُخْرج صدق .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية ، لأن ذلك عقيب قوله : وَإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزّونَكَ مِن الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وإذا لا يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إلاّ قَلِيلاً . وقد دللنا فيما مضى ، على أنه عنى بذلك أهل مكة فإذ كان ذلك عقيب خبر الله عما كان المشركون أرادوا من استفزازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليخرجوه عن مكة ، كان بيّنا ، إذ كان الله قد أخرجه منها ، أن قوله : وَقُلْ رَبّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أمر منه له بالرغبة إليه في أن يخرجه من البلدة التي هم المشركون بإخراجه منها مخرج صدق ، وأن يدخله البلدة التي نقله الله إليها مدخل صدق .
وقوله : وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانا نَصِيرا اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : واجعل لي ملكا ناصرا ينصرني على من ناوأني ، وعِزّا أقيم به دينك ، وأدفع به عنه من أراده بسوء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، عن الحسن ، في قول الله عزّ وجلّ : وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانا نَصِيرا يُوعِده لَيَنْزِعَنّ مُلك فارس ، وعزّ فارس ، وليجعلنه له ، وعزّ الرّوم ، ومُلك الروم ، وليجعلنه له .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانا نَصِيرا وإن نبيّ الله علم أن لا طاقةَ له بهذا الأمر إلا بسلطان ، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله عزّ وجلّ ، ولحدود الله ، ولفرائض الله ، ولإقامة دين الله ، وإن السلطان رحمة من الله جعلها بين أظهر عباده ، لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض ، فأكل شديدهم ضعيفهم .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك حجة بينة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ سُلْطانا نَصِيرا قال : حجة بينة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك أمر من الله تعالى نبيه بالرغبة إليه في أن يؤتيه سلطانا نصيرا له على من بغاه وكاده ، وحاول منعه من إقامته فرائض الله في نفسه وعباده .
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب ، لأن ذلك عقيب خبر الله عما كان المشركون هموا به من إخراجه من مكة ، فأعلمه عزّ وجلّ أنهم لو فعلوا ذلك عوجلوا بالعذاب عن قريب ، ثم أمره بالرغبة إليه في إخراجه من بين أظهرهم إخراج صدق يحاوله عليهم ، ويدخله بلدة غيرها ، بمدخل صدق يحاوله عليهم ولأهلها في دخولها إليها ، وأن يجعل له سلطانا نصيرا على أهل البلدة التي أخرجه أهلها منها ، وعلى كلّ من كان لهم شبيها ، وإذا أوتي ذلك ، فقد أوتي لا شكّ حجة بينة .
وأما قوله : نَصِيرا فإن ابن زيد كان يقول فيه ، نحو قولنا الذي قلنا فيه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاجْعَلَ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانا نَصِيرا قال : ينصرني ، وقد قال الله لموسى سَنَشُدّ عَضُدَكَ بأخِيكَ وَنجْعَلُ لَكُما سُلْطانا فَلا يَصِلُونَ إلَيكُما بآياتنا هذا مقدّم ومؤخّر ، إنما هو سلطان بآياتنا فلا يصلون إليكما .
{ وقل رب أدخلني } أي في القبر . { مُدخَل صدق } ادخالا مرضيا . { وأخرجني } أي منه عند البعث . { مُخرج صدق } إخراجاً ملقى بالكرامة . وقيل المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة . وقيل إدخاله مكة ظاهرا عليها وإخراجه منها آمنا من المشركين . وقيل إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً . وقيل إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة وإخراجه منه مؤديا حقه . وقيل إدخاله في كل ما يلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه . وقرئ " مَدْخَلَ " و{ مَخْرَجَ " بالفتح على معنى أدخلني فأدخل دخولا وأخرجني فأخرج خروجا . { واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } حجة تنصرني على من خالفني أو ملكا ينصر الإسلام على الكفر ، فاستجاب له بقوله : { فإن حزب الله هم الغالبون } { ليظهره على الدين كله } { ليستخلفنهم في الأرض } .
ظاهر هذه الآية والأحسن فيها أن يكون دعاء في أن يحسن الله حالته في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة ، فهي على أتم عموم ، معناه { ربِّ } أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري{[7678]} ، وذهب المفسرون إلى أنها في غرض مخصوص ، ثم اختلفوا في تعيينه ، فقال ابن عباس والحسن وقتادة : أراد { أدخلني } المدينة { وأخرجني } من مكة ، وتقدم في هذا التأويل المتأخر في الوقوع ، فإنه متقدم في القول لأن الإخراج من مكة هو المتقدم ، اللهم إن مكان الدخول والقرار هو الأهم ، وقال أبو صالح ومجاهد : { أدخلني } في أمر تبليغ الشرع { وأخرجني } منه بالأداء التام ، وقال ابن عباس : الإدخال بالموت في القبر والإخراج البعث ، وما قدمت من العموم التام الذي يتناول هذا كله ، أصوب ، وقرأ الجمهور «مُدخل » «ومُخرج » بضم الميم ، فهو جرى على { أدخلني وأخرجني } وقرأ أبو حيوة وقتادة وحميد ، «مَدخل » «ومَخرج » بفتح الميم ، فليس بجار على { أدخلني } ولكن التقدير «أدخلني فأدخل مدخل » ، لأنه إنما يجري على دخل ، و «الصدق » هنا صفة تقتضي رفع المذام واستيعاب المدح ، كما تقول رجل صدق أي جامع للمحاسن ، وقوله { واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً } قال مجاهد وغيره : حجة ، يريد تنصرني ببيانها على الكفار ، وقال الحسن وقتادة يريد سعة ورياسة وسيفاً ينصر دين الله ، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بأمر الله إياه به رغبة في نصر
الدين ، فروي أن الله وعده بذلك ثم أنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته .