اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِي مُدۡخَلَ صِدۡقٖ وَأَخۡرِجۡنِي مُخۡرَجَ صِدۡقٖ وَٱجۡعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلۡطَٰنٗا نَّصِيرٗا} (80)

قوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } الآية .

يحتمل أن يكون " مدخل " مصدراً ، وأن يكون ظرف مكانٍ ، وهو الظاهر ، والعامة على ضمِّ الميم فيهما ؛ لسبقهما بفعل رباعيٍّ ، وقرأ{[20643]} قتادة ، وأبو حيوة ، وإبراهيم بن أبي عبلة ، وحميدٌ بفتح الميم فيهما : إمَّا لأنهما [ مصدران على حذف الزوائد ؛ ك{ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ؛ وإمَّا لأنهما ] منصوبان بمقدر موافق لهما ، تقديره : فادخل مدخل ، واخرج مخرج ، وقد تقدَّم هذا مستوفًى في قراءةِ نافع في سورة النساء [ الآية : 31 ] ، وأنه قرأ كذلك في سورة الحجِّ [ الآية : 59 ] .

و " مُدخلَ صِدقٍ " ، و " مُخرجَ صِدقٍ " من إضافة التبيين ، وعند الكوفيين من إضافة الموصوف لصفته ؛ لأنه يوصف به مبالغة .

و " سلطاناً " هو المفعول الأول للجعلِ ، والثاني أحدُ الجارَّين المتقدمين ، والآخر متعلِّقٌ باستقراره ، وقوله " نَصِيراً " يجوز أن يكون محولاً من " فاعلٍ " للمبالغة ، وأن يكون بمعنى مفعول .

فصل في معنى " مُدخَلَ صِدقٍ " و " مُخْرَجَ صِدْقٍ "

قد تقدَّم في قوله : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض } [ الإسراء : 76 ] قولان :

أحدهما : أن يكون المراد منه سعي كفَّار مكَّة في إخراجه منها .

والثاني : المراد منه اليهود ؛ قالوا له : الأولى أن تخرج من المدينة إلى الشَّام ، ثم قال : " أقم الصَّلاة " واشتغل بعبادة الله تعالى ، ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهَّال ، فإنَّ الله تعالى يعينك ، ثمَّ عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة من أن كفَّار مكَّة أرادوا إخراجه ، فأراد الله تعالى هجرته إلى المدينة ، وقال له : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } ، وهو المدينة ، { وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } ، وهو مكَّة ، وهذا قول ابن عبَّاس ، والحسن ، وقتادة{[20644]} .

وعلى التفسير الثاني ، وهو أنَّ المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذَّهاب إلى الشَّام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ أمر بأن يرجع إليها ، فلمَّا عاد إلى المدينة ، قال : " ربِّ أدخلْنِي مُدخلَ صدقٍ " وهي المدينة ، " وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدقٍ " يعني : إلى مكة ؛ [ بالفتح ] ، أي : افتحها{[20645]} .

وقال الضحاك{[20646]} : " أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ " ظاهراً على مكة بالفتح " وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدْقٍ " من مكة ، آمناً من المشركين .

وقال مجاهد{[20647]} : أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة ، والقيام بمهمات أداء شريعتك ، " وأخْرِجْنِي " من الدنيا ، وقد قمت بما وجب عليَّ من حقِّها " مُخرجَ صِدقٍ " أي : إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ .

وعن الحسن : " أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ " الجنة ، " وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدْقٍ " أي : إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ من مكة{[20648]} .

وقيل : أدخلني في طاعتك ، وأخرجني من المناهي .

وقيل : أدخلني القبر مدخل صدقٍ ، وأخرجني منه مخرج صدقٍ ، وقيل : أدخلني حيثُ ما أدخلتني بالصِّدق ، وأخرجني بالصِّدق ، أي : لا تجعلني ممَّن يدخل بوجهٍ ، ويخرج بوجهٍ ، فإنَّ ذا الوجهين لم يكن عند الله وجيهاً .

ووصف الإدخال والإخراج بالصِّدقِ ؛ لما يئول إليه الدُّخولُ والخروج من النصر ، والعزِّ ، ودولة الدِّين ، كما وصف القدم بالصِّدق ؛ فقال : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [ يونس : 2 ] { واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا }

قال مجاهد{[20649]} : حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني ، وقال الحسن{[20650]} : ملكا قويا تنصرني به على من عاداني ، وعزا ظاهرا أقيم به دينك ، وقد أجاب الله تعالى دعاءه ، وأعلمه أنه يعصمه من الناس ؛ فقال : { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] .

وقال : { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } [ المجادلة : 22 ] .

وقال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] .


[20643]:ينظر: الإتحاف 2/203، والبحر المحيط 6/72.
[20644]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/ 135 ـ 136) عن ابن عباس وقتادة والحسن. وأثر قتادة ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/359). وعزاه إلى الحاكم وصححه والبيهقي في "الدلائل".
[20645]:ينظر: المصدر السابق.
[20646]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/137) وذكره البغوي في "تفسيره" (3/132).
[20647]:ينظر: المصدر السابق.
[20648]:ينظر: المصدر السابق.
[20649]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/137) وذكره البغوي في "تفسيره" (3/132).
[20650]:ينظر: المصدر السابق.