مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِي مُدۡخَلَ صِدۡقٖ وَأَخۡرِجۡنِي مُخۡرَجَ صِدۡقٖ وَٱجۡعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلۡطَٰنٗا نَّصِيرٗا} (80)

ثم قال تعالى : { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق } وفيه مباحث :

البحث الأول : أنا ذكرنا في تفسير قوله : { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض } قولين : أحدهما : المراد منه سعي كفار مكة في إخراجه منها . والثاني : المراد منه أن اليهود قالوا له الأولى لك أن تخرج من المدينة إلى الشام ثم إنه تعالى قال له : أقم الصلاة واشتغل بعبادة الله تعالى ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهال فإنه تعالى ناصرك ومعينك ثم عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة فإن فسرنا تلك الآية أن المراد منها أن كفار مكة أرادوا إخراجه من مكة كان معنى هذه الآية أنه تعالى أمره بالهجرة إلى المدينة وقال له : { رب أدخلني مدخل صدق } وهو المدينة { وأخرجني مخرج صدق } وهو مكة . وهذا قول الحسن وقتادة وإن فسرنا تلك الآية بأن المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذهاب إلى الشام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثم أمره الله تعالى بأن يرجع إليها كان المراد أنه عليه الصلاة والسلام عند العود إلى المدينة قال : { رب أدخلني مدخل صدق } وهو المدينة { وأخرجني مخرج صدق } يعني أخرجني منها إلى مكة مخرج صدق أي افتحها لي . والقول الثاني : في تفسير هذه الآية وهو أكمل مما سبق أن المراد { وقل رب أدخلني } في الصلاة { وأخرجني } منها مع الصدق والإخلاص وحضور ذكرك والقيام بلوازم شكرك . والقول الثالث : وهو أكمل مما سبق أن المراد : { وقل رب أدخلني } - في القيام بمهمات أداء دينك وشريعتك - وأخرجني } منها بعد الفراغ منها إخراجا لا يبقى علي منها تبعة ربقية . والقول الرابع : وهو أعلى مما سبق : { وقل رب أدخلني } في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك وقدسك ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد المنزه عن التكثيرات والتغيرات . والقول الخامس : أدخلني في كل ما تدخلني فيه مع الصدق في عبوديتك والاستغراق بمعرفتك وأخرجني عن كل ما تخرجني عنه مع الصدق في العبودية والمعرفة والمحبة والمقصود منه أن يكون صدق العبودية حاصلا في كل دخول وخروج وحركة وسكون . والقول السادس : أدخلني القبر مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق .

البحث الثاني : مدخل بضم الميم مصدر كالإدخال يقال أدخلته مدخلا كما قال : { وقل رب أنزلني منزلا مباركا } ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما كأنه سأل الله تعالى إدخالا حسنا وإخراجا حسنا لا يرى فيهما ما يكره ثم قال تعالى : { واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } أي حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني . وبالجملة فقد سأل الله تعالى أن يرزقه التقوية على من خالفه بالحجة وبالقهر والقدرة ، وقد أجاب الله تعالى دعاءه وأعلمه بأنه يعصمه من الناس فقال : { والله يعصمك من الناس } وقال : { ألا إن حزب الله هم المفلحون } وقال : { ليظهره على الدين كله }