{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }
لما أمر تعالى بالإكثار من ذكره ، وخصوصا في الأوقات الفاضلة الذي هو خير ومصلحة وبر ، أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعله قوله ، فالكلام إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه فقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : إذا تكلم راق كلامه للسامع ، وإذا نطق ، ظننته يتكلم بكلام نافع ، ويؤكد ما يقول بأنه { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } بأن يخبر أن الله يعلم ، أن ما في قلبه موافق لما نطق به ، وهو كاذب في ذلك ، لأنه يخالف قوله فعله .
فلو كان صادقا ، لتوافق القول والفعل ، كحال المؤمن غير المنافق ، فلهذا قال : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } أي : إذا خاصمته ، وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب ، وما يترتب على ذلك ، ما هو من مقابح الصفات ، ليس كأخلاق المؤمنين ، الذين جعلوا السهولة مركبهم ، والانقياد للحق وظيفتهم ، والسماحة سجيتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَىَ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدّ الْخِصَامِ }
وهذا نعت من الله تبارك وتعالى للمنافقين ، يقول جل ثناؤه : ومن الناس من يعجبك يا محمد ظاهر قوله وعلانيته ، ويستشهد الله على ما في قلبه ، وهو ألدّ الخصام ، جَدِلٌ بالباطل .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية ، قال بعضهم : نزلت في الأخنس بن شريق ، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزعم أنه يريد الإسلام ، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك ، ثم خرج فأفسد أموالاً من أموال المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحيَاة الدّنيا ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدّ الخِصامُ قال : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي ، وهو حليف لبني زهرة . وأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فأظهر له الإسلام ، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه ، وقال : إنما جئت أريد الإسلام ، والله يعلم أني صادق . وذلك قوله : وَيَشْهِدُ اللّهَ عَلَى ما فِي قَلْبه ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع ، وعقر الحمرُ ، فأنزل الله عز وجل : وَإذَا تَوَلى سَعَى فِي الأرْض لِيُفْسِدَ فِيها ويُهلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْل .
وأما ألدّ الخصام : فأعوج الخصام ، وفيه نزل : وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَة لُمَزَة ونزلت فيه : وَلاَ تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ إلى عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم .
وقال آخرون : بل نزل ذلك في قوم من أهل النفاق تكلموا في السرية التي أصيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرّجيع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن أبي إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما أصيبت هذه السرية أصحاب خبيب بالرجيع بين مكة والمدينة ، فقال رجال من المنافقين : يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا ، لا هم قعدوا في بيوتهم ، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم فأنزل الله عز وجل في ذلك من قول المنافقين ، وما أصاب أولئك النفر في الشهادة والخير من الله : وَمِن النّاسِ مَنْ يَعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحيَاة الدّنيا أي ما يظهر بلسانه من الإسلام وَيُشُهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ أي من النفاق وَهُوَ ألدّ الِخصَامِ أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك ، وإذَا تَوَلّى أي خرج من عندك سَعَى فِي الأرْض لَيُفْسدَ فيها ويُهلِك الحَرْثَ وَالنّسْلَ وَاللّهُ لا يُحِبّ الفَسَادَ أي لا يحبّ عمله ولا يرضاه ، وَإذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أخَذَتْهُ العِزّةُ بالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنّمُ وَلَبِئْسَ المِهادُ وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابُتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ الذين شروا أنفسهم لله بالجهاد في سبيل الله والقيام بحقه حتى هلكوا على ذلك يعني هذه السرية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما أصيبت السرية التي كان فيها عاصم ومرثد بالرجيع ، قال رجال من المنافقين ، ثم ذكر نحو حديث أبي كريب .
وقال آخرون : بل عنى بذلك جميع المنافقين ، وعنى بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا وَيُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ اختلاف سريرته وعلانيته . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن أبي معشر ، قال : أخبرني أبي أبو معشر نجيح ، قال : سمعت سعيد المقبري يذاكر محمد بن كعب ، فقال سعيد : إن في بعض الكتب : «إن للّه عبادا ألسنتهم أحلى من العسل ، قلوبهم أمرّ من الصبر ، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين ، يجترون الدنيا بالدين ، قال الله تبارك وتعالى : أعليّ يجترؤون ، وبي يغترّون ؟ وعزّتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران » فقال محمد بن كعب : هذا في كتاب الله جل ثناؤه . فقال سعيد : وأين هو من كتاب الله ؟ قال : قول الله عز وجل : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا ويَشْهَدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ ألدّ الخِصَامِ وَإذَا توَلّى سَعَى فِي الأرْضِ لَيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْلَ واللّهُ لا يْحِبّ الفَسادَ فقال سعيد : قد عرفتَ فيمن أنزلت هذه الآية . فقال محمد بن كعب : إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني الليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن القرظي ، عن نوف ، وكان يقرأ الكتب ، قال : إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل : «قوم يجتالون الدنيا بالدين ، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمرّ من الصبر ، يلبسون للناس لباس مسوك الضأن وقلوبهم قلوب الذئاب ، فعليّ يجترءون ، وبي يغترون ، حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيهم حيران » قال القرظي : تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون ، فوجدتها : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبّكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا ويُشْهِدُ اللّهَ على ما في قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ وَمِنَ النّاسِ مَنُ يَعْبُدُ اللّهَ على حَرْفٍ فإن أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأنّ بهِ .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ قال : هو المنافق .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ قال : علانيته في الدنيا ، ويُشْهِدُ اللّهَ في الخصومة أنما يريد الحق .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ قال : هذا عبد كان حسن القول سيء العمل ، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن له القول ، وَإذَا تَوَلى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ قال : يقول قولاً في قلبه غيره ، والله يعلم ذلك .
وفي قوله ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ وجهان من القراءة : فقرأته عامة القرّاء : ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ بمعنى أن المنافق الذي يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ، يستشهد الله على ما في قلبه ، أن قوله موافق اعتقاده ، وأنه مؤمن بالله ورسوله وهو كاذب . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا . . . إلى . . . وَاللّهُ لا يُحِبّ الفَسادَ ) كان رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : أي رسول الله أشهد أنك جئت بالحق والصدق من عند الله . قال : حتى يعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله . ثم يقول : أما والله يا رسول الله ، إن الله ليعلم ما في قلبي مثل ما نطق به لساني . فذلك قوله : ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ . قال : هؤلاء المنافقون ، وقرأ قول الله تبارك وتعالى : إذَا جاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ حتى بلغ : إنّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ بما يشهدون أنك رسول الله .
وقال السدي : ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ يقول : الله يعلم أني صادق ، أني أريد الإسلام .
حدثني بذلك موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، عن أسباط .
وقال مجاهد : ويشهد الله في الخصومة ، أنما يريد الحق .
حدثني بذلك محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عنه .
وقرأ ذلك آخرون : «وَيَشْهَدُ اللّهُ على ما فِي قَلْبِهِ » بمعنى : والله يشهد على الذي في قلبه من النفاق ، وأنه مضمر في قلبه غير الذي يبديه بلسانه وعلى كذبه في قلبه . وهي قراءة ابن محيصن ، وعلى ذلك المعنى تأوّله ابن عباس . وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في حديث أبي كريب ، عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق الذي ذكرناه آنفا . والذي نختار في ذلك من قول القراء قراءة من قرأ : ويُشْهِدُ اللّهَ على ما فِي قَلْبِهِ بمعنى يستشهد الله على ما في قلبه ، لإجماع الحجة من القراء عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ .
الألدّ من الرجال : الشديد الخصومة ، يقال في «فعلت » منه : قد لَدَدْتُ يا هذا ولم تكن ألدّ ، فأنت تَلُدّ لَدَدَا ولدادة فأما إذ غلب خاصمه ، فإنما يقال فيه : لددت يا فلان فلانا فأنت تَلُدّهُ لَدّا ، ومنه قول الشاعر :
ثُمّ أُرَدّي بِهِمُ مَنْ تُرْدِي *** تَلُدّ أقْرَانَ الخُصُوم اللّدّ
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويله : أنه ذو جدال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ يقول : شديد القسوة في معصية الله جدل بالباطل ، وإذا شئت رأيته عالم اللسان جاهل العمل يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة .
حدثنا الحسن بن يحيى . قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ قال : جدل بالباطل .
وقال آخرون : معنى ذلك أنه غير مستقيم الخصومة ولكنه معوجّها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ قال : ظالم لا يستقيم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال الألدّ الخصام : الذي لا يستقيم على خصومة .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ألدّ الخصام : أعوج الخصام .
قال أبو جعفر : وكلا هذين القولين متقارب المعنى ، لأن الاعوجاج في الخصومة من الجدال واللدد .
وقال آخرون : معنى ذلك : وهو كاذب قوله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا وكيع ، عن بعض أصحابه ، عن الحسن ، قال : الألدّ الخصام : الكاذب القول .
وهذا القول يحتمل أن يكون معناه معنى القولين الأولين إن كان أراد به قائله أنه يخاصم بالباطل من القول والكذب منه جدلاً واعوجاجا عن الحقّ . وأما الخصام : فهو مصدر من قول القائل : خاصمت فلانا خصاما ومخاصمة . وهذا خبر من الله تبارك وتعالى عن المنافق الذي أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يعجبه إذا تكلم قيله ومنطقه ، ويستشهد الله على أنه محقّ في قيله ذلك لشدة خصومته وجداله بالباطل والزور من القول .
{ ومن الناس من يعجبك قوله } يروقك ويعظم في نفسك ، والتعجب : حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه . { في الحياة الدنيا } متعلق بالقول ، أي ما يقوله في أمور الدنيا وأسباب المعاش ، أو في معنى الدنيا فإنها مراد من ادعاء المحبة وإظهار الإيمان ، أو يعجبك أي يعجبك قوله في الدنيا حلاوة وفصاحة ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة والحبسة ، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام . { ويشهد الله على ما في قلبه } يحلف ويستشهد الله على أن ما في قلبه موافق لكلامه . { وهو ألد الخصام } شديد العداوة والجدال للمسلمين ، والخصام المخاصمة ويجوز أن يكون جمع خصم كصعب وصعاب بمعنى أشد الخصوم خصومة قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعي الإسلام . وقيل في المنافقين كلهم .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ( 204 )
قال السدي : «نزلت في الأخنس بن شريق ، واسمه أبيّ ، والأخنس لقب ، وذلك أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام ، وقال : الله يعلم أني صادق ، ثم هرب بعد ذلك ، فمر بقوم من المسلمين ، فأحرق لهم زرعاً ، وقتل حمراً ، فنزلت فيه هذه الآيات » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ما ثبت قط أن الأخنس أسلم( {[1915]} ) .
وقال ابن عباس : نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع عاصم بن ثابت وخبيب وابن الدثنة وغيرهم قالوا : ويح هؤلاء القوم لا هم قعدوا في بيوتهم ولا أدوا رسالة صاحبهم ، فنزلت هذه الآيات في صفات المنافقين : ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } الآية ، وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء : نزلت هذه الآيات في كل مبطن كفر أو نفاق أو كذب أو إضرار وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك ، فهي عامة( {[1916]} ) ، وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى : «أن من عباد الله قوماً ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر ، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ، يجترون الدنيا بالدين ، يقول الله تعالى : أبي يغترون وعلي يجترون ؟ حلفت لأسلطن عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران »( {[1917]} ) . ومعنى { ويشهد الله } أي يقول : الله يعلم أني أقول حقاً ، وقرأ أبو حيوة وابن محيصن «ويشهدُ الله » بإسناد الفعل إلى اسم الجلالة( {[1918]} ) ، المعنى يعجبك قوله والله يعلم منه خلاف ما قال ، والقراءة التي للجماعة أبلغ في ذمه ، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن ثم ظهر من باطنه خلافه ، و { ما في قلبه } مختلف بحسب القراءتين ، فعلى قراءة الجمهور هو الخير الذي يظهر ، أي هو في قلبه بزعمه ، وعلى قراءة ابن محيصن هو الشر الباطن ، وقرأ ابن عباس «والله يشهد على ما في قلبه » وقرأ أبي وابن مسعود «ويستشهد الله على ما في قبله » والألد : الشديد الخصومة الصعب الشكيمة الذي يلوي الحجج في كل جانب ، فيشبه انحرافه المشي في لديدي الوادي( {[1919]} ) ، ومنه لديد الفم ، واللدود ، ويقال منه : لدِدت بكسر العين ألد ، وهو ذم ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم »( {[1920]} ) ، ويقال : لَددته بفتح العين ألُده بضمها إذا غلبته في الخصام ، ومن اللفظة قول الشاعر : [ الخفيف ]
إنَّ تَحْتَ الأَحْجَارِ حَزْماً وَعَزْماً . . . وَخَصيماً أَلَدَّ ذا مِعْلاَقِ( {[1921]} )
و { الخصام } في الآية مصدر خاصم ، وقيل جمع خصم ككلب وكلاب ، فكان الكلام وهو أشد الخصماء والدهم .