ثم بين كيفية ضلالهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أي : اليهود وهم علماء الضلال منهم .
{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } إما بتغيير اللفظ أو المعنى ، أو هما جميعا . فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي لا تنطبق ولا تصدق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم على أنه غير مراد بها ، ولا مقصود بها بل أريد بها غيره ، وكتمانهم ذلك .
فهذا حالهم في العلم أشر حال ، قلبوا فيه الحقائق ، ونزلوا الحق على الباطل ، وجحدوا لذلك الحق ، وأما حالهم في العمل والانقياد فإنهم { يَقُولون سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي : سمعنا قولك وعصينا أمرك ، وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن الانقياد ، وكذلك يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب فيقولون : { اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قصدهم : اسمع منا غير مسمع ما تحب ، بل مسمع ما تكره ، { وَرَاعِنَا } قصدهم بذلك الرعونة ، بالعيب القبيح ، ويظنون أن اللفظ -لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على الله وعلى رسوله ، فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب للرسول ، ويصرحون بذلك فيما بينهم ، فلهذا قال : { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ }
ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ } وذلك لما تضمنه هذا الكلام من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول ، والدخول تحت طاعة الله والانقياد لأمره ، وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع سؤالهم ، والاعتناء بأمرهم ، فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه . ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية ، أعرضوا عن ذلك ، وطردهم الله بكفرهم وعنادهم ، ولهذا قال : { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }
{ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } . .
ولقوله جلّ ثناؤه : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ } وجهان من التأويل : أحدهما : أن يكون معناه : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا يحرّفون الكلم . فيكون قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا } من صلة «الذين » . وإلى هذا القول كانت عامة أهل العربية من أهل الكوفة يوجهون . قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ } . والاَخر منهما : أن يكون معناه : من الذين هادوا من يحرّف الكلم عن مواضعه . فتكون «من » محذوفة من الكلام اكتفاء بدلالة قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا } عليها ، وذلك أن «مِن » لو ذكرت في الكلام كانت بعضا ل «مَنْ » ، فاكتفى بدلالة «مِنْ » عليها ، والعرب تقول : منا من يقول ذلك ، ومنا لا يقوله ، بمعنى : منا من يقول ذاك ، ومنا من لا يقوله ، فتحذف «من » اكتفاء بدلالة من عليه ، كما قال ذو الرمة :
فَظَلّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سابِقٌ لَهُ ***وآخَرُ يُذْرِي دَمْعَةَ العْينِ بالمَهْلِ
يعني : ومنهم من دمعه . وكما قال الله تبارك وتعالى : { وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ } ، وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجهون تأويل قوله : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ } غير أنهم كانوا يقولون : المضمر في ذلك «القوم » ، كأن معناه عندهم : من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم ، ويقولون : نظير قول النابغة :
كأنّكَ مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍ ***يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيهِ بِشَنّ
يعني : كأنك جمل من جمال أقيشٍ .
فأما نحويو الكوفة ، فينكرون أن يكون المضمر مع «مِن » إلا «مَن«أو ما أشبهها .
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك قول من قال قوله : { مِنَ الذِينَ هادُوا } من صلة الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، لأن الخبرين جميعا والصفتين من صفة نوع واحد من الناس ، وهم اليهود الذين وصف الله صفتهم في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ } . وبذلك جاء تأويل أهل التأويل ، فلا حاجة بالكلام إذ كان الأمر كذلك إلى أن يكون فيه متروك .
وأما تأويل قوله : { يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } فإنه يقول : يبدّلون معناها ويغيرونها عن تأويله ، والكلم جماع كلمة . وكان مجاهد يقول : عنى بالكلم : التوراة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } : تبديل اليهود التوراة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأما قوله : { عَنْ مَوَاضِعِهِ } فإنه يعني : عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه .
وأما تأويل قوله : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : من الذين هادوا يقولون : سمعنا يا محمد قولك ، وعصينا أمرك . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد ، في قوله : { سَمِعْنا وَعَصَيْنا } قال : قالت اليهود : سمعنا ما تقول ، ولا نطيعك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { سَمعنا وَعَصَيْنا } قالوا : قد سمعنا ، ولكن لا نطيعك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالى مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره ، أنهم كانوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذونه بالقبيح من القول ، ويقولون له : اسمع منا غير مسمع ، كقول القائل للرجل يسبه : اسمع لا أسمعك الله . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : هذا قول أهل الكتاب يهود ، كهيئة ما يقول الإنسان : اسمع لاسمعت ، أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشتما له واستهزاء .
حُدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : يقولون لك : واسمع لاسمعت .
وقد رُوي عن مجاهد والحسن أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى : واسمع غير مقبول منك . ولو كان ذلك معناه لقيل : واسمع غير مسموع ، ولكن معناه : واسمع لاتسمع ، ولكن قال الله تعالى ذكره : { لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ } فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم والطعن في الدين بسبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } يقول : غير مقبول ما تقول ، فهو كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : غير مستمع . قال ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } : غير مقبول ما تقول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } قال : كما تقول : اسمع غير مسموع منك .
وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان ناس منهم يقولون : { وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ } كقولك : اسمع غير صاغ .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ } .
يعني بقوله : { وَرَاعِنا } : أي راعنا سمعك ، افهم عنا وأفهمنا . وقد بينا تأويل ذلك في سورة البقرة بأدلته بما فيه الكفاية عن إعادته .
ثم أخبر الله جلّ ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَيّا بألْسِنَتِهِمْ } يعني : تحريكا منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه ، واستخفافا منهم بحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم { وَطَعْنا فِي الدّين } . كما :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة : كانت اليهود يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك ! يستهزئون بذلك ، فكانت اليهود قبيحة ، فقال : راعنا سمعك ليّا بألسنتهم¹ والليّ : تحريكهم ألسنتهم بذلك ، { وطَعْنا في الدّينِ } .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { رَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ } كان الرجل من المشركين يقول : أرعني سمعك ! يلوي بذلك لسانه ، يعني : يحرّف معناه .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } . . . إلى : { وَطَعْنا فِي الدّينِ } فإنهم كانوا يستهزئون ويلوون ألسنتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويطعنون في الدين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ } قال : «راعنا » طعنهم في الدين ، وليهم بألسنتهم ليبطلوه ويكذبوه . قال : والراعن : الخطأ من الكلام .
حُدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { لَيّا بألْسِنَتِهِمْ } قال : تحريفا بالكذب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأقُوَمَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم قالوا لنبيّ لله : سمعنا يا محمد قولك ، وأطعنا أمرك ، وقبلنا ما جئتنا به من عند الله ، واسمع منا ، وانظرنا ما نقول ، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا ، { لَكَانَ خَيْرا لَهُمْ وأَقْوَمَ } يقول : لكان ذلك خيرا لهم عند الله وأقوم ، يقول : وأعدل وأصوب في القول . وهو من الاستقامة من قول الله : { وَأقْوَمَ قِيلاً } بمعنى : وأصوب قيلاً . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ } قال : يقولون : اسمع منا فإنا قد سمعنا وأطعنا ، وانظرنا فلا تعجل علينا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد ، قوله : { وَانظُرْنا } قال : اسمع منا .
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَانْظُرْنا } قال : أفهمنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَانْظُرْنا } قال : أفهمنا .
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة من توجيههما معنى : { وَانْظُرْنا } إلى : اسمع منا ، وتوجيه مجاهد ذلك إلى : أفهمنا ، ما لا نعرف في كلام العرب ، إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى أفهمنا : انتظرنا نفهم ما تقول ، أو انتظرنا نقل حتى تسمع منا ، فيكون ذلك معنى مفهوما وإن كان غير تأويل الكلمة ولا تفسير لها ، فلا نعرف «انظرنا » في كلام العرب إلا بمعنى : انتظرنا وانظر إلينا ، فأما «انظرنا » بمعنى انتظرنا ، فمنه قول الحطيئة :
وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ لَوْ أنّ دِرّتَكُمْ ***يَوْما يَجِيءُ بِها مَسْحِي وَإبْساسِي
وأما انظرنا بمعنى : انظر إلينا ، فمنه قول عبد الله بن قيس الرقيات :
ظاهِرَاتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ ***نَ كمَا يَنْظُرُ الأرَاكَ الظّباءُ
بمعنى كما ينظر إلى الأراك الظباء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً } .
يعني بذلك : ولكن الله تبارك وتعالى أخزى هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَية فأقصاهم وأبعدهم من الرشد ، واتباع الحقّ بكفرهم ، يعني بجحودهم نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى والبينات { فلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً } يقول : فلا يصدّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند ربهم ، ولا يقرّون بنبوّته إلا قليلاً ، يقول : لا يصدّقون بالحقّ الذي جئتهم به يا محمد إلا إيمانا قليلاً . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً } قال : لا يؤمنون هم إلا قليلاً .
{ من الذين هادوا يحرفون } بيان للذين أوتوا نصيبا فإنه يحتملهم وغيرهم ، وما بينهما اعتراض أو بيان لأعدائكم أو صلة لنصيرا . أي ينصركم من الذين هادوا ويحفظكم منهم ، أو خبر محذوف صفته يحرفون . { الكلم عن مواضعه } أي من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها . أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه . وقرئ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة . { ويقولون سمعنا } قولك . { عصينا } أمرك . { واسمع غير مسمع } أي مدعوا عليك بلا سمعت لصمم أو موت ، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ، أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، أو اسمع كلاما غير مسمع إياك لأن أذنك تنبو عنه فيكون مفعولا به ، أو اسمع غير مسمع مكروها من قولهم أسمعه فلان إذا سبه ، وإنما قالوه نفاقا . { وراعنا } انظرنا نكلمك أو نفهم كلامك . { ليا بألسنتهم } فتلا بها وصرفا للكلام إلى ما يشبه السب ، حيث وضعوا راعنا المشابه لما يتسابون به موضع انظرنا وغير مسمع موضع لا أسمعت مكروها ، أو فتلا بها وضما لما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرون من السب والتحقير نفاقا . { وطعنا في الدين } استهزاء به وسخرية . { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا } ولو ثبت قولهم هذا مكان ما قالوه . { لكان خيرا لهم وأقوم } لكان قولهم ذلك خيرا لهم وأعدل ، وإنما يجب حذف الفعل بعد لو في مثل ذلك لدلالة أن عليه ووقوعه موقعه . { ولكن لعنهم الله بكفرهم } ولكن خذلهم الله وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم . { فلا يؤمنون إلا قليلا } أي إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل ، ويحتمل أن يراد بالقلة العدم كقوله :
قليل التشكي للمهم يصيبه *** أو إلا قليلا منهم آمنوا أو سيؤمنون
وقوله تعالى : { من الذين هادوا } قال بعض المتأولين { من } راجعة على { الذين } الأولى ، فهي على هذا متعلقة ب { تر } ، وقالت طائفة ، هي متعلقة ب { نصيراً } والمعنى ينصركم من الذين هادوا ، فعلى هذين التاويلين لا يوقف في قوله : { نصيراً } وقالت فرقة : هي لابتداء الكلام ، وفيه إضمار تقديره قوم يحرفون ، هذا مذهب أبي علي ، ونظيره قول الشاعر [ النابغة الذبياني ] : [ الوافر ]
كأنك مِنْ جِمَالِ أَبي أَقَيْشٍْ *** يُقَعْقِعُ خَلْفَ رِجْليهِ بِشَنِّ{[4087]}
وقال الفراء وغيره : تقديره من ، ومثله قول ذي الرمة : [ الطويل ]
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعَهُ سَابِقٌ لَهُ *** وَآخَرُ يَثْني دَمْعَةَ الْعَيْنِ بِالْيَدِ{[4088]}
فعلى هذا التأويل يوقف في قوله : { نصيراً } وقول سيبويه أصوب لأن إضمار الموصول ثقيل ، وإضمار الموصوف أسهل ، و { هادوا } مأخوذ من هاد إذا تاب أو من يهود بن يعقوب وغيره التعريب ، أو من التهود وهو الرويد من المشي واللين في القول ، ذكر هذه كلها الخليل ، وقد تقدم شرحها وبيانها في سورة البقرة ، و «تحريف الكلم » على وجهين ، إما بتغيير اللفظ ، وقد فعلوا ذلك في الأقل ، وإما بتغيير التأويل ، وقد فعلوا ذلك في الأكثر ، وإليه ذهب الطبري ، وهذا كله في التوراة على قول الجمهور ، وقالت طائفة : هو كلم القرآن ، وقال مكي : كلام النبي محمد عليه السلام ، فلا يكون التحريف على هذا إلا في التأويل ، وقرأ النخعي وأبو رجاء : يحرفون الكلام بالألف ، ومن جعل «من » متعلقة «بنصيراً » جعل «يحرفون » في موضع الحال ، ومن جعلها منقطعة جعل «يحرفون » صفة ، وقوله تعالى عنهم { سمعنا وعصينا } عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه ، و { مسمع } لا يتصرف إلا من أسمع ، و { غير مسمع } يتخرج فيه معنيان : أحدهما غير مأموروغير صاغر ، كأنه قال : غير أن تسمع مأموراً بذلك ، والآخر على جهة الدعاء ، أي لا سمعت ، كما تقول : امض غير مصيب ، وغير ذلك ، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي بغير مسمع ، أرادت في الباطن الدعاء عليه ، وأرت ظاهراً أنها تريد تعظيمه ، قال نحوه ابن عباس وغيره ، وكذلك { راعنا } كانوا يريدون منه في نفوسهم معنى الرعونة ، وحكى مكي معنى رعاية الماشية ، ويظهرون منه معنى المراعاة ، فهذا معنى «ليّ اللسان » فقال الزجّاج : كانوا يريدون : اجعل سمعك لكلامنا مرعى .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا جفاء لا يخاطب به نبي ، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا » ومن قال : { غير مسمع } غير مقبول منك فإنه لا يساعده التصريف{[4089]} ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد ، و { ليّاً } أصله لوياً ، قلبت الواو ياء وأدغمت { وطعناً في الدين } أي توهينا له وإظهاراً للاستخفاف به .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل ، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة ، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب ، وقوله تعالى : { ولو أنهم } الآية : المعنى : لو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا ، واختلف المتأولون في قوله ، { وانظرنا } فقال مجاهد وعكرمة وغيرهما : معناه انتظرنا ، بمعنى : افهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك ، وهذا كما قال الحطيئة :
وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ إيناءَ صادِرَةٍ . . . لِلْخَمْسِ طَالَ بِهَا مَسْحي وَتَنَّاسي{[4090]}
وقالت فرقة : انظر - معناه : انظر إلينا ، فكأنه استدعاء اهتبال وتحف{[4091]} ، ومنه قول ابن الرقيات [ الخفيف ] :
ظاهراتُ الجمالِ والْحُسْنِ يَنْظُرْ . . . نَ كَمَا تَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّباءُ{[4092]}
{ وأقوم } معناه : أعدل وأصوب ، «واللعنة » : الإبعاد ، فمعناه ، أبعدهم من الهدى ، و { قليلاً } : نعت ، إما لإيمان وإما لنفر أو قوم ، والمعنى مختلف ، فمن عبر بالقلة عن الإيمان قال : إما هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قل ما تنب كذا وهي لا تنبته جملة ، وإما قلل الإيمان لما قلت الأشياء التي آمنوا بها فلم ينفعهم ذلك ، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بالتوحيد ويكفرون بمحمد وبجميع أوامر شريعته ونواهيها ، ومن عبر بالقلة عن النفر قال : لا يؤمن منهم إلا قليل ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، وغيرهما ، وإذا قدرت الكلام نفراً قليلاً ، فهو نصب في موضع الحال وفي هذا نظر .