{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا { فِي السِّلْمِ كَافَّةً } أي : في جميع شرائع الدين ، ولا يتركوا منها شيئا ، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه ، إن وافق الأمر المشروع هواه فعله ، وإن خالفه ، تركه ، بل الواجب أن يكون الهوى ، تبعا للدين ، وأن يفعل كل ما يقدر عليه ، من أفعال الخير ، وما يعجز عنه ، يلتزمه وينويه ، فيدركه بنيته .
ولما كان الدخول في السلم كافة ، لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال : { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : في العمل بمعاصي الله { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } والعدو المبين ، لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء ، وما به الضرر عليكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ }
اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجل : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قال : ادخلوا في الإسلام .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قال : ادخلوا في الإسلام .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : السلم : الإسلام .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد : ادخلوا في الإسلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قال : السلم : الإسلام .
حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ يقول : في الإسلام .
حدثت عن الحسين بن فرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ : في الإسلام .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ادخلوا في الطاعة . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ يقول : ادخلوا في الطاعة .
وقد اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز : «ادْخُلُوا فِي السّلْمِ » بفتح السين . وقرأته عامة قراء الكوفيين بكسر السين . فأما الذين فتحوا السين من «السلم » ، فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة ، بمعنى : ادخلوا في الصلح والمسالمة وترك الحرب وإعطاء الجزية . وأما الذين قرءوا ذلك بالكسر من السين فإنهم مختلفون في تأويله فمنهم من يوجهه إلى الإسلام ، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة ، ومنهم من يوجهه إلى الصلح ، بمعنى : ادخلوا في الصلح ، ويستشهد على أن السين تكسر ، وهي بمعنى الصلح بقول زهير بن أبي سلمى :
وقدْ قُلْتُما إنْ نُدْركِ السّلْمَ وَاسِعا *** بِمَالٍ وَمَعُروفٍ مِنَ الأمْرِ نَسْلمِ
وأولى التأويلات بقوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قول من قال : معناه : ادخلوا في الإسلام كافة .
وأما الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك ، فقراءة من قرأ بكسر السين لأن ذلك إذا قرىء كذلك وإن كان قد يحتمل معنى الصلح ، فإن معنى الإسلام : ودوام الأمر الصالح عند العرب ، أغلب عليه من الصلح والمسالمة ، وينشد بيت أخي كندة :
دَعَوْتُ عَشِيرَتي للسّلْمِ لَمّا *** رأيْتُهُمْ تَوَلّوْا مُدْبِرِينا
بكسر السين ، بمعنى : دعوتهم للإسلام لما ارتدوا ، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائر ما في القرآن من ذكر السلم بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة ، فإنه كان يخصها بكسر سينها توجيها منه لمعناها إلى الإسلام دون ما سواها .
وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ وصرفنا معناه إلى الإسلام ، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون ، فلن يعدو الخطاب إذ كان خطابا للمؤمنين من أحد أمرين ، إما أن يكون خطابا للمؤمنين بمحمد المصدّقين به وبما جاء به ، فإن يكن ذلك كذلك ، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان : ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم ، لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربا بترك الحرب . فأما الموالي فلا يجوز أن يقال له : صالح فلانا ، ولا حرب بينهما ولا عداوة . أو يكون خطابا لأهل الإيمان بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصدقين بهم ، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدا ونبوّته ، فقيل لهم : ادخلوا في السلم يعني به الإسلام لا الصلح . لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإلى ذلك دعاهم دون المسالمة والمصالحة بل نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام ، فقال : فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلْمِ وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ وإنما أباح له صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال إذا دعوه إلى الصلح ابتداء المصالحة ، فقال له جل ثناؤه : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فاجنَحْ لَهَا فأما دعاؤهم إلى الصلح ابتداء فغير موجود في القرآن ، فيجوز توجيه قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ إلى ذلك .
فإن قال لنا قائل : فأيّ هذين الفريقين دعي إلى الإسلام كافة ؟ قيل قد اختلف في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : دعي إليه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به .
وقال آخرون : قيل : دعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المكذبون بمحمد .
فإن قال : فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام ؟ قيل : وجه دعائه إلى ذلك الأمر له بالعمل بجميع شرائعه ، وإقامة جميع أحكامه وحدوده ، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه . وإذا كان ذلك معناه ، كان قوله كافّةً من صفة السلم ، ويكون تأويله : ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم ، ولا تضيعوا شيئا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به . وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد ابني كعب وشعبة بن عمرو وقيس بن زيد ، كلهم من يهود ، قالوا : يا رسول الله يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه ، وإن التوراة كتاب الله ، فدعنا فلنقم بها بالليل فنزلت : يَا أيّها الّذينَ آمَنُوا ادْخُلُوا في السّلْمِ كافةً وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ .
فقد صرّح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام ، والعمل بجميع شرائع الإسلام ، والنهي عن تضييع شيء من حدوده .
وقال آخرون : بل الفريق الذي دعي إلى السلم فقيل لهم ادخلوا فيه بهذه الآية هم أهل الكتاب ، أمروا بالدخول في الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً يعني أهل الكتاب .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قول الله عزّ وجلّ : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : يعني أهل الكتاب .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها ، وقد يدخل في الذين آمنوا المصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به ، والمصدّقون بمن قبله من الأنبياء والرسل ، وما جاءوا به ، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده ، والمحافظة على فرائضه التي فرضها ، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك ، فالآية عامة لكل من شمله اسم الإيمان ، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض .
وبمثل التأويل الذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : ادخلوا في الإسلام كافة ، ادخلوا في الأعمال كافة .
القول في تأويل قوله تعالى : كافّةً يعني جل ثناؤه كافّةً عامة جميعا . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : في السّلْمِ كافّةً قال : جميعا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فِي السّلْمِ كافّةً قال : جميعا .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع فِي السّلْمِ كافّةً قال : جميعا ، وعن أبيه ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن الجرّاح ، عن النضر ، عن مجاهد ، ادْخُلُوا في الإسلام جميعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : كافّةً : جميعا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كافّةً جميعا ، وقرأ : وَقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافةً : جميعا .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : جميعا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ .
يعني جل ثناؤه بذلك : اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها ، وادخلوا في التصديق به قولاً وعملاً ، ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدوّ مبين لكم عداوته . وطريق الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه ، ومنه تَسْبِيتُ السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام . وقد بينت معنى الخطوات بالأدلة الشاهدة على صحته فيما مضى ، فكرهت إعادته في هذا المكان .
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } { السلم } بالكسر والفتح الاستسلام والطاعة ، ولذلك يطلق في الصلح والإسلام . فتحه ابن كثير ونافع والكسائي وكسره الباقون . وكافة اسم للجملة لأنها تكف الأجزاء من التفرق حال من الضمير أو السلم لأنها تؤنث كالحرب قال :
السلم تأخذ منها ما رضيت به *** والحرب يكفيك من أنفاسها جرع والمعنى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا ، والخطاب للمنافقين ، أو ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تخلطوا به غيره . والخطاب لمؤمني أهل الكتاب ، فإنهم بعد إسلامهم عظموا السبت وحرموا الإبل وألبانها ، أو في شرائع الله كلها بالإيمان بالأنبياء والكتب جميعا والخطاب لأهل الكتاب ، أو في شعب الإسلام وأحكامه كلها فلا تخلوا بشيء والخطاب للمسلمين . { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } بالتفرق والتفريق . { إنه لكم عدو مبين } ظاهر العداوة .