{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
أي : ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط وعدم التميز{[177]} حتى يميز الخبيث من الطيب ، والمؤمن من المنافق ، والصادق من الكاذب .
ولم يكن في حكمته أيضا أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده ، فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده ، ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب ، من أنواع الابتلاء والامتحان ، فأرسل [ الله ] رسله ، وأمر بطاعتهم ، والانقياد لهم ، والإيمان بهم ، ووعدهم على الإيمان والتقوى الأجر العظيم .
فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين : مطيعين وعاصين ، ومؤمنين ومنافقين ، ومسلمين وكافرين ، ليرتب على ذلك الثواب والعقاب ، وليظهر عدله وفضله ، وحكمته لخلقه .
{ مّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىَ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
يعني بقوله : { ما كانَ الله لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ } ما كان الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن منكم بالمنافق ، فلا يعرف هذا من هذا { حَتّى يِمَيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } يعني بذلك : حتى يميز الخبيث ، وهو المنافق المستسر للكفر ، من الطيب ، وهو المؤمن المخلص الصادق الإيمان بالمحن والاختبار ، كما ميز بينهم يوم أُحد عند لقاء العدو عند خروجهم إليه .
واختلف أهل التأويل في الخبيث الذي عنى الله بهذه الاَية ، فقال بعضهم فيه مثل قولنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قال : ميز بينهم يوم أُحد ، المنافق من المؤمن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قال ابن جريج : يقول : ليبين الصادق بإيمانه من الكاذب . قال : ابن جريج : قال مجاهد : يوم أُحد ميز بعضهم عن بعض ، المنافق عن المؤمن .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } : أي المنافق .
وقال آخرون : معنى ذلك : حتى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ } يعني : الكفار . يقول : لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة ، { حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } : يميز بينهم في الجهاد والهجرة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قال : حتى يميز الفاجر من المؤمن .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن بالله ومن يكفر ! فأنزل الله : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } : حتى يخرج المؤمن من الكافر .
والتأويل الأوّل أولى بتأويل الاَية ، لأن الاَيات قبلها في ذكر المنافقين وهذه في سياقتها ، فكونها بأن تكون فيهم أشبه منها بأن تكون في غيرهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَما كانَ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بما :
حدثنا به محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ } وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب ، ولكن الله اجتباه فجعله رسولاً .
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ } أي فيما يريد أن يبتليكم به ، لتحذروا ما يدخل عليكم فيه : { وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ } يعلمه .
وأولى الأقوال في ذلك بتأويله : وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده ، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر ، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء كما ميز بينهم بالبأساء يوم أُحد ، وجهاد عدوّه ، وما أشبه ذلك من صنوف المحن ، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم . غير أنه تعالى ذكره يجتبي من رسله من يشاء ، فيصطفيه ، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم بوحيه ذلك إليه ورسالته . كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ } قال : يخلصهم لنفسه .
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بتأويل الاَية ، ابتداءَها خبر من الله تعالى ذكره أنه غير تارك عباده ، يعني بغير محن ، حتى يفرّق بالابتلاء بين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفاقهم . ثم عقب ذلك بقوله : { وَما كانَ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ } ، فكان فيما افتتح به من صفة إظهار الله نفاق المنافق وكفر الكافر ، دلالة واضحة على أن الذي ولي ذلك هو الخبر عن أنه لم يكن ليطلعهم على ما يخفى عنهم من باطن سرائرهم إلا بالذي ذكر أنه مميز به نعتهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلمه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيمٌ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه بقوله : { وَإنْ تُؤْمِنُوا } : وإن تصدّقوا من اجتبيته من رسلي بعلمي ، وأطلعته على المنافقين منكم ، وتتقوا ربكم بطاعته فيما أمركم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وفيما نهاكم عنه ، { فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيمٌ } يقول : فلكم بذلك من إيمانكم واتقائكم ربكم ثواب عظيم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا } : أي ترجعوا وتتوبوا ، { فَلَكُمْ أجْرٌ عَظِيمٌ } .
{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين في عصره ، والمعنى لا يترككم مختلطين لا يعرف مخلصكم من منافقكم حتى يميز المنافق من المخلص بالوحي إلى نبيه بأحوالكم ، أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم ، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ، ليختبر النبي به بواطنكم ويستدل به على عقائدكم . وقرأ حمزة والكسائي { حتى يميز } ، هنا وفي " الأنفال " بضم الياء وفتح الميم وكسر الياء وتشديدها والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء . { وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } وما كان الله ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب من كفر وإيمان ، ولكن الله يجتبي لرسالته من يشاء فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات ، أو ينصب له ما يدل عليها . { فآمنوا بالله ورسله } بصفة الإخلاص ، أو بأن تعلموه وحده مطلعا على الغيب وتعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ولا يقولون إلا ما أوحي إليهم روي ( أن الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر ) فنزلت . عن السدي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " عرضت علي أمتي وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر " . فقال المنافقون إن يزعم أنه يعرف من يؤمن به ومن يكفر . ونحن معه ولا يعرفنا فنزلت . { وإن تؤمنوا } حق الإيمان . { وتتقوا } النفاق . { فلكم أجر عظيم } لا يقادر قدره .