تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لِّكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكًا هُمۡ نَاسِكُوهُۖ فَلَا يُنَٰزِعُنَّكَ فِي ٱلۡأَمۡرِۚ وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدٗى مُّسۡتَقِيمٖ} (67)

{ 67 - 70 } { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }

يخبر تعالى أنه جعل لكل أمة { مَنْسَكًا } أي : معبدا وعبادة ، قد تختلف في بعض الأمور ، مع اتفاقها على العدل والحكمة ، كما قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } الآية ، { هُمْ نَاسِكُوهُ } أي : عاملون عليه ، بحسب أحوالهم ، فلا اعتراض على شريعة من الشرائع ، خصوصا من الأميين ، أهل الشرك والجهل المبين ، فإنه إذا ثبتت رسالة الرسول بأدلتها ، وجب أن يتلقى جميع ما جاء به بالقبول والتسليم ، وترك الاعتراض ، ولهذا قال : { فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ } أي : لا ينازعك المكذبون لك ، ويعترضون على بعض ما جئتهم به ، بعقولهم الفاسدة ، مثل منازعتهم في حل الميتة ، بقياسهم الفاسد ، يقولون : " تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله " وكقولهم { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } ونحو ذلك من اعتراضاتهم ، التي لا يلزم الجواب عن أعيانها ، وهم منكرون لأصل الرسالة ، وليس فيها مجادلة ومحاجة بانفرادها ، بل لكل مقام مقال ، فصاحب هذا الاعتراض ، المنكر لرسالة الرسول ، إذا زعم أنه يجادل ليسترشد ، يقال له : الكلام معك في إثبات الرسالة وعدمها ، وإلا فالاقتصار على هذه ، دليل أن مقصوده التعنت والتعجيز ، ولهذا أمر الله رسوله أن يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويمضي على ذلك ، سواء اعترض المعترضون أم لا ، وأنه لا ينبغي أن يثنيك عن الدعوة شيء ، لأنك { على هُدًى مُسْتَقِيمٍ } أي : معتدل موصل للمقصود ، متضمن علم الحق والعمل به ، فأنت على ثقة من أمرك ، ويقين من دينك ، فيوجب ذلك لك الصلابة والمضي لما أمرك به ربك ، ولست على أمر مشكوك فيه ، أو حديث مفترى ، فتقف مع الناس ومع أهوائهم ، وآرائهم ، ويوقفك اعتراضهم ، ونظير هذا قوله تعالى : { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } مع أن في قوله : { إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ } إرشاد لأجوبة المعترضين على جزئيات الشرع ، بالعقل الصحيح ، فإن الهدى وصف لكل ما جاء به الرسول ، والهدى : ما تحصل به الهداية ، من مسائل الأصول والفروع ، وهي المسائل التي يعرف حسنها وعدلها وحكمتها بالعقل والفطرة السليمة ، وهذا يعرف بتدبر تفاصيل المأمورات والمنهيات .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لِّكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكًا هُمۡ نَاسِكُوهُۖ فَلَا يُنَٰزِعُنَّكَ فِي ٱلۡأَمۡرِۚ وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدٗى مُّسۡتَقِيمٖ} (67)

وقوله : لِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا يقول : لكل جماعة قوم هي خلت من قبلك ، جعلنا مألفا يألفونه ومكانا يعتادونه لعبادتي فيه وقضاء فرائضي وعملاً يلزمونه . وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شرّ يقال : إن لفلان منسكا يعتاده : يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شرّ . وإنما سميت مناسك الحجّ بذلك ، لتردّد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحجّ والعُمرة . وفيه لغتان : «مَنْسِك » بكسر السين وفتح الميم ، وذلك من لغة أهل الحجاز ، و «مَنْسَك » بفتح الميم والسين جميعا ، وذلك من لغة أسد . وقد قرىء باللغتين جميعا .

وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : لِكُلّ أُمةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا : أيّ المناسك عني به ؟ فقال بعضهم : عني به : عيدهم الذي يعتادونه . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا هُمْ ناسِكُوهُ يقول : عيدا .

وقال آخرون : عني به ذبح يذبحونه ودم يهريقونه . ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : لِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا هُمْ ناسِكُوهُ قال : إراقة الدم بمكة .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : هُمْ ناسِكُوهُ قال : إهراق دماء الهدي .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : مَنْسَكا قال : ذبحا وحجّا .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : عني بذلك إراقة الدم أيام النحر بمِنى لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إراقة الدم في هذه الأيام ، على أنهم قد كانوا جادلوه في إراقة الدماء التي هي دماء ذبائح الأنعام بما قد أخبر الله عنهم في سورة الأنعام . غير أن تلك لم تكن مناسك ، فأما التي هي مناسك فإنما هي هدايا أو ضحايا ولذلك قلنا : عني بالمنسك في هذا الموضع الذبح الذي هو بالصفة التي وصفنا .

وقوله : فَلا يُنازِعُنّكَ فِي الأَمْرِ يقول تعالى ذكره : فلا ينازعنك هؤلاء المشركون بالله يا محمد في ذبحك ومنسكك بقولهم : أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله ؟ فأنك أولى بالحقّ منهم ، لأنك محقّ وهم مبطلون .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : فَلا يُنازِعُنّكَ فِي الأَمْرِ قال : الذبح .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَلا يُنازِعُنّكَ فِي الأَمْرِ فلا تتحام لحمك .

وقوله : وَادْعُ إلى رَبّكَ يقول تعالى ذكره : وادع يا محمد منازعيك من المشركين بالله في نسكك وذبحك إلى اتباع أمر ربك في ذلك بأن لا يأكلوا إلا ما ذبحوه بعد اتباعك وبعد التصديق بما جئتهم به من عند الله ، وتجنبوا الذبح للاَلهة والأوثان وتبرّءوا منها ، إنك لعلى طريق مستقيم غير زائل عن مجة الحقّ والصواب في نسكك الذي جعله لك ولأمتك ربك ، وهم الضلال على قصد السبيل ، لمخالفتهم أمر الله في ذبائحهم ومطاعمهم وعبادتهم الاَلهة .