و لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم اخْتَارَ مُوسَى منهم سَبْعِينَ رَجُلا من خيارهم ، ليعتذروا لقومهم عند ربهم ، ووعدهم اللّه ميقاتا يحضرون فيه ، فلما حضروه ، قالوا : يا موسى ، أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فتجرأوا على اللّه جراءة كبيرة ، وأساءوا الأدب معه ، ف أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فصعقوا وهلكوا .
فلم يزل موسى عليه الصلاة والسلام ، يتضرع إلى اللّه ويتبتل ويقول رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها لقومهم ، فصاروا هم الظالمين أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا أي : ضعفاء العقول ، سفهاء الأحلام ، فتضرع إلى اللّه واعتذر بأن المتجرئين على اللّه ليس لهم عقول كاملة ، تردعهم عما قالوا وفعلوا ، وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان ، ويخاف من ذهاب دينه فقال : إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ أي : أنت خير من غفر ، وأولى من رحم ، وأكرم من أعطى وتفضل ، فكأن موسى عليه الصلاة والسلام ، قال : المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا ، هو التزام طاعتك والإيمان بك ، وأن من حضره عقله ورشده ، وتم على ما وهبته من التوفيق ، فإنه لم يزل مستقيما ، وأما من ضعف عقله ، وسفه رأيه ، وصرفته الفتنة ، فهو الذي فعل ما فعل ، لذينك السببين ، ومع هذا فأنت أرحم الراحمين ، وخير الغافرين ، فاغفر لنا وارحمنا .
فأجاب اللّه سؤاله ، وأحياهم من بعد موتهم ، وغفر لهم ذنوبهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاخْتَارَ مُوسَىَ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مّن قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السّفَهَآءُ مِنّآ إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : واختار موسى من قومه سبعين رجلاً للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موعدا . فاختار موسى قومه سبعين رجلاً على عينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا ، فلما أتوا ذلك المكان ، قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة ، فإنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا . فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : ربّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ، لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخّير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم ، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا ، وتطهّروا ، وطهّروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سينا لميقات وقّته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به ، وخرجوا معه للقاء ربه لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال : أفعل . فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله ، وقع على جبهته نور ساطع ، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه . فضُرب دونه بالحجاب ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا ، فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل فلما فرغ الله من أمره ، وانكشف عن موسى الغمام ، أقبل إليهم ، فقالوا لموسى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ، فَأخَذتْهُمُ الرّجْفَةُ وهي الصاعقة ، فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا ، وقام موسى عليه السلام يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ، ويقول : ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ، قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل ؟
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً ، فاختار سبعين رجلاً ، فبرز بهم ليدعوا ربهم ، فكان فيما دعوا الله أن قالوا : اللهمّ أعطنا ما لم تعط أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم ، فأخذتهم الرجفة . قال موسى : رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإيّايَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا خالد بن حيان ، عن جعفر ، عن ميمون : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : لموعدهم الذي وعدهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : اختارهم لتمام الوعد .
وقال آخرون : إنما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قتل هارون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار وابن وكيع ، قالا : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني أبو إسحاق ، عن عمارة بن عبد السلولي ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : انطلق موسى وهارون وشَبّر وشَبِير ، فانطلقوا إلى سفح جبل ، فنام هارون على سرير ، فتوفاه الله . فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أين هارون ؟ قال : توفاه الله . قالوا : أنت قتلته ، حسدتنا على خلقه ولينه أو كلمة نحوها قال : فاختاروا من شئتم قال : فاختاروا سبعين رجلاً . قال : فذلك قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا . قال : فلما انتهوا إليه قالوا : يا هارون من قتلك ؟ قال : ما قتلني أحد ، ولكنني توفاني الله . قالوا : يا موسى لن نعصيَ بعد اليوم قال : فأخذتهم الرجفة . قال : فجعل موسى يرجع يمينا وشمالاً ، وقال : يا رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإيّايَ أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا إنْ هِيّ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدِي مَنْ تَشاءُ قال : فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني سلول ، أنه سمع عليّا رضي الله عنه يقول في هذه الاَية : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : كان هارون حسن الخلق محببا في بني إسرائيل . قال : فلما مات دفنه موسى . قال : فلما أتى بني إسرائيل ، قالوا له : أين هاون ؟ قال : مات . فقالوا : قتلته قال : فاختار منهم سبعين رجلاً . قال : فلما أتوا القبر ، قال موسى : أُقتلت أو متّ ؟ قال : متّ . قال : فأصعقوا ، فقال موسى : ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت ؟ يقولون : أنت قتلتهم قال : فأحيوا وجعلوا أنبياء .
حدثني عبد الله بن الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الربيع بن حبيب ، قال : سمعت أبا سعيد ، يعني الرقاشيّ ، وقرأ هذه الاَية : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فقال : كانوا أبناء ما عدا عشرين ولم يتجاوزوا الأربعين ، وذلك أن ابن عشرين قد ذهب جهله وصباه ، وأن من لم يتجاوز الأربعين لم يفقد من عقله شيئا .
وقال آخرون : إنما أخذت القوم الرجفة لتركهم فراق عبدة العجل ، لا لأنهم كانوا من عبَدته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فقرأ حتى بلغ : السّفَهاءُ مِنا ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : إنما تناولتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا القوم حين نصبوا العجل ، وقد كرهوا أن يجامعوهم عليه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ممن لم يكن قال ذلك القول على أنهم لم يجامعوهم عليه ، فأخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكونوا باينوا قومهم حين اتخذوا العجل . فلما خرجوا ودعوا ، أماتهم الله ثم أحياهم . فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وأيّايَ أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : قال مجاهد : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا والميقات : الموعد . فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء ، فلم يستجب لهم علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصابه قومهم . قال ابن سعد : فحدثني محمد بن كعب القرظي ، قال : لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ويأمروهم بالمعروف . قال : فأخذتهم الرجفة فماتوا ، ثم أحياهم الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عون ، عن سعيد بن حيان ، عن ابن عباس : إن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه ، إنما أخذتهم الرجفة أنهم لم يرضوا ولم ينهوا عن العجل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عون ، قال : حدثنا سعيد بن حيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله : قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فقال بعض نحويي البصرة : معناه : واختار موسى من قومه سبعين رجلاً ، فلما نزع «مِن » أعمل الفعل ، كما قال الفرزدق :
وَمِنّا الّذِي اخْتِيرَ الرّجالَ سمَاحَة ***وَجُودا إذَا هَبّ الرّياحُ الزّعازِعُ
أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ بِه ***فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مالٍ وَذَا نَشبِ
اخْتَرْتُكَ النّاسَ إذْ غَثّتْ خَلائِقُهُمْ ***واعْتَلّ مَن كانَ يُرْجَى عندَهُ السّولُ
وقال بعض نحوّيي الكوفة : إنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذا طرحت مِن ، لأنه مأخوذ من قولك : هؤلاء خير القوم ، وخير من القوم ، فإذا جازت الإضافة مكان «من » ولم يتغير المعنى ، استجازوا أن يقولوا : اخترتكم رجلاً ، واخترت منكم رجلاً وقد قال الشاعر :
***لَهُ اخْتَرْها قَلُوصا سَمِينَةً ***
***تَحْتَ التي اخْتارَ لَهُ اللّهُ الشّجَرْ ***
بمعنى : اختارها له الله من الشجر .
وهذا القول الثاني أولى عندي في ذلك بالصواب لدلالة الاختيار على طلب «من » التي بمعنى التبعيض ، ومن شأن العرب أن تحذف الشيء من حشو الكلام إذا عرف موضعه ، وكان فيما أظهرت دلالة على ما حذفت ، فهذا من ذلك إن شاء الله .
وقد بيّنا معنى الرجفة فيما مضى بشواهدها ، وأنها ما رجف بالقوم وأرعبهم وحرّكهم وأهلكهم بعد ، فأماتهم أو أصعقهم ، فسلب أفهامهم . وقد ذكرنا الرواية في غير هذا الموضع ، وقول من قال : إنها كانت صاعقة أماتتهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ ماتوا ثم أحياهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا اختارهم موسى لتمام الموعد . فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ ماتوا ثم أحياهم الله .
حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قال : رجف بهم .
القول في تأويل قوله تعالى : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدِي مَنْ تَشاءُ أنْتَ وَلِيّنا فاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا : أي بعبادة من عبد العجل . قالوا : وكان الله إنما أهلكهم لأنهم كانوا ممن يعبد العجل ، وقال موسى ما قال ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا فأوحى الله إلى موسى : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل ، فذلك حين يقول موسى : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدى مَنْ تَشاءُ .
وقال آخرون : معنى ذلك : أن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل إذا انصرفتُ إليهم ، وليسوا معي ، والسفهاء على هذا القول كانوا المهلكين الذين سألوا موسى أن يريهم ربهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما أخذت الرجفة السبعين فماتوا جميعا ، قام موسى يناشد ربه ويدعوه ، ويرغب إليه يقول : ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا ؟ أي إن هذا لهم هلاك ، قد اخترت منهم سبعين رجلاً الخير فالخير ، أرجع إليهم وليس معي رجل واحد ؟ فما الذي يصدّقونني به أو يأمنونني عليه بعد هذا ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا : أتؤاخذنا وليس منا رجل واحد ترك عبادتك ولا استبدل بك غيرك ؟
وأولى القولين بتأويل الاَية ، قول من قال : إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا وأنه إنما عنى بالسفهاء : عبدة العجل وذلك أنه محال أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخير من قومه لمسألة ربه ما أراه أن يسأل لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم ، ومحال أن يكون الأفضل كان عنده من أشرك في عبادة العجل واتخذه دون الله إلها .
قال : فإن قال قائل : فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدا أن الله سبحانه يعاقب قوما بذنوب غيرهم ، فيقول : أتهلكنا بذنوب من عبد العجل ، ونحن من ذلك برآء ؟ قيل : جائز أن يكون معنى الإهلاك : قبض الأرواح على غير وجه العقوبة ، كما قال جلّ ثناؤه : إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يعني : مات ، فيقول : أتميتنا بما فعل السفهاء منا .
وأما قوله : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ فإنه يقول جلّ ثناؤه : ما هذه الفعلة التي فعلها قومي من عبادتهم ما عبدوا دونك ، إلا فتنة منك أصابتهم . ويعني بالفتنة : الابتلاء والاختبار . يقول : ابتليتهم بها ليتبين الذي يضلّ عن الحقّ بعبادته إياه والذي يهتدي بترك عبادته . وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله ، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سبب منه جلّ ثناؤه .
وبنحو ما قلنا في الفتنة قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ قال : بليتك .
قال : ثنا حبويه الرازي ، عن يعقوب ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير : إلاّ فِتْنَتُكَ : إلا بليتك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا ابن جعفر ، عن الربيع بن أنس : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ قال : بليتك .
قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ إن هو إلا عذابك تصيب به من تشاء ، وتصرفه عمن تشاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ أنت فتنتهم .
وقوله : أنْتَ وَلِيّنا يقول : أنت ناصرنا . فاغْفِرْ لَنا يقول : فاستر علينا ذنوبنا بتركك عقابنا عليها . وَارْحَمْنا : تعطّف علينا برحمتك . وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ يقول : خير من صفح عن جُرم وستر على ذنب .