{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي : المعاصي فيما دون الكفر . { حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها ، إنما تنفع توبة الاختيار . ويحتمل{[196]} أن يكون معنى قوله : { مِنْ قَرِيبٍ } أي : قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة ، فيكون المعنى : أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه ، بخلاف من استمر على ذنوبه{[197]} وأصر على عيوبه ، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة .
والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها ، كالذي يعمل السوء على علم تام{[198]} ويقين وتهاون{[199]} بنظر الله إليه ، فإنه سد{[200]} على نفسه باب الرحمة .
نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة{[201]} تامة{[202]} [ التي ] يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته ، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب ، ولهذا ختم الآية الأولى بقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }
فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته ، ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة ، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه . والله أعلم .
ثم بين - سبحانه - من لا تقبل توبتهم بعد بيانه لمن تقبل توبتهم فقال : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } .
أى : وليست التوبة مقبولة عند الله بالنسبة للذين يعملون السيئات ، ويقترفون المعاصى ، ويستمرون على ذلك { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت } .
بأن شاهد الأحوال التى لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا ، وانقطع منه حبل الرجاء فى الحياة { قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } أى قال فى هذا الوقت الذى الفائدة من التوبة فيه : إنى تبت الآن .
وقوله : { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } أى وليست التوبة مقبولة أيضا من الذين يموتون وهم على غير دين الإِسلام .
فالآية الكريمة قد نفت قبول التوبة من فريقين من الناس .
أولهما : الذين يرتكبون السيئات صغيرها وكبيرها ، ويستمرون على ذلك بدون توبة أو ندم حتى إذا حضرهم الموت ، ورأوا أهواله ، قال قائلهم : إنى تبت الآن وقد كرر القرآن هذا المعنى فى كثير من آياته ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } وقوله - تعالى - حكاية عن فرعون { حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } وعدم قبول توبة هؤلاء فى هذا الوقت سببه أنهم نطقوا بها فى حالة الاضطرار لا فى حالة الاختيار ، ولأنهم نطقوا بها فى غير وقت التكليف .
وثانيهما : الذين يموتون وهم على غير دين الإِسلام ، فقد أخرج الامام أحمد عن أبى ذر الغفارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن يقبل توبة عبده ما لم يقع الحجاب . قيل : وما الحجاب ؟ قال أن تموت النفس وهى مشركة " .
وكثير من العلماء يرى أن المراد بالفريق الثانى : الكفار ، لأن العطف يقتضى المغيرة .
ومنهم من يرى أن الفريق الأول شامل للكفار ولعصاة المؤمنين فيكون عطف قوله { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } من باب عطف الخاص على العام لإفادة التأكيد .
و { حتى } فى قوله { حتى إِذَا حَضَرَ } حرف ابتداء . . والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها . أي ليست التوبة لقوم يعملون السيئات ويستمرون على ذلك فإذا حضر أحدهم الموت قال كيت وكيت .
وقوله { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } معطوف على الموصول قبله . أى ليس قبول التوبة هؤلاء الذين يعملون السيئات . . . ولا لهؤلاء الذين يموتون وهم كفار .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال - تعالى - : { أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أى أولئك الذين تابوا فى غير وقت قبول التوبة هيأنا لهم عذابا مؤلما موجعا بسبب ارتكاسهم فى المعاصى ؛ وابتعادهم عن الصراط المستقيم الذى يرضاه - سبحانه - لعباده .
ثم نفى بقوله تعالى : { وليست التوبة } الآية أن يدخل في حكم التائبين من حضره موته وصار في حيز اليأس ، وحضور الموت هو غاية قربه ، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق ، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان ، وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجماعة المفسرين ، وقاله الربيع : الآية الأولى قوله : { إنما التوبة على الله } هي في المؤمنين ، والآية الثانية قوله : { وليست التوبة } الآية نزلت في المسلمين ثم نسخت بقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[3905]} فحتم أن لا يغفر للكافر وأرجأ المؤمنين إلى مشيئته لم ييئسهم من المغفرة .
قال القاضي أبو محمد : وطعن بعض الناس في هذا القول بأن الآية خبر ، والأخبار لا تنسخ . وهذا غير لازم ، لأن الآية لفظها الخبر ، ومعناه تقرير حكم شرعي ، فهي نحو قوله تعالى : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }{[3906]} ونحو قوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين }{[3907]} وإنما يضعف القول بالنسخ من حيث تنبني الآيتان ولا يحتاج إلى تقرير نسخ ، لأن هذه الآية لم تنف أن يغفر للعاصي الذي لم يتب من قريب ، فنحتاج أن نقول ، إن قوله : { ويغفر ما دون ذلك } [ النساء : 48 ، 116 ] نسخها وإنما نفت هذه الآية أن يكون تائباً من لم يتب إلا مع حضور الموت ، فالعقيدة عندي في هذه الآيات : أن من تاب من قريب فله حكم التائب فيغلب الظن عليه أنه ينعم ولا يعذب ، هذا مذهب أبي المعالي وغيره ، وقال غيرهم : بل هو مغفور له قطعاً ، لإخبار الله تعالى بذلك ، وأبو المعالي يجعل تلك الأخبار ظواهر مشروطة بالمشيئة ، ومن لم يتب حتى حضره الموت فليس في حكم التائبين ، فإن كان كافراً فهو يخلد ، وإن كان مؤمناً فهو عاص في المشيئة ، لكن يغلب الخوف عليه ، ويقوى الظن في تعذيبه ، ويقطع من جهة السمع أن من هذه الصنيفة من يغفر الله له تعالى تفضلاً منه ولا يعذبه وأعلم الله تعالى أيضاً أن { الذين يموتون وهم كفار } فلا مستعتب لهم ولا توبة في الآخرة ، وقوله تعالى : { أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً } إن كانت الإشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فقط ، فالعذاب عذاب خلود ، وإن كانت الإشارة إليهم وإلى من ينفذ عليه الوعيد ، ممن لا يتوب إلا مع حضور الموت من العصاة فهو في جهة هؤلاء ، عذاب ولا خلود معه ، و { أعتدنا } معناه : يسرناه وأحضرناه ، وظاهر هذه الآية أن النار مخلوقة بعد .
قوله تعالى : { وليست التوبة للذين يعملون السيّئات } إلى { وهم كفار } قسيم لمضمون قوله : { إنما التوبة على الله } إلخ ، ولا واسطة بين هذين القسمين .
وقد اختلف علماء الكلام في قبول التوبة ؛ هل هو قطعي أو ظني فيها لتفرّع أقوالهم فيها على أقوالهم في مسألة وجوب الصلاح والأصلح لله تعالى ووجوب العدل .
فأمّا المعتزلة فقالوا : التوبة الصادقة مقبولة قطعاً بدليل العقل ، وأحسب أنّ ذلك ينحون به إلى أنّ التائب قد أصلح حاله ، ورغب في اللحاق بأهل الخير ، فلو لم يقبل الله منه ذلك لكان إبقاء له في الضلال والعذاب ، وهو منزّه عنه تعالى على أصولهم ، وهذا إن أرادوه كان سفسطة لأنّ النظر هنا في العفو عن عقاب استحقّه التائب من قبل توبته لا في ما سيأتي به بعد التوبة .
وأمّا علماء السنّة فافترقوا فرقتين : فذهب جماعة إلى أنّ قبول التوبة مقطوع به لأدلّة سمعيّة ، هي وإن كانت ظواهر ، غير أنّ كثرتها أفادت القطع ( كإفادة المتواتر القطعَ مع أنّ كلّ خبر من آحاد المخبرين به لا يفيد إلاّ الظنّ ، فاجتماعها هو الذي فاد القطع ، وفي تشبيه ذلك بالتواتر نظر ) ، وإلى هذا ذهب الأشعري ، والغزالي والرازي ، وابن عطية ووالده أبو بكر ابن عطية ، وذهب جماعة إلى أنّ القبول ظني لا قطعي ، وهو قول أبي بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين ، والمازري والتفتزاني ، وشرف الدين الفهري وابن الفرس في أحكام القرآن بناء على أنّ كثرة الظواهر لا تفيد اليقين ، وهذا الذي ينبغي اعتماده نظراً . غير أنّ قبول التوبة ليس من مسائل أصول الدين فلماذا نطلب في إثباته الدليل القطعي .
والذي أراه أنّهم لمّا ذكروا القبول ذكروه على إجماله ، فكان اختلافهم اختلافاً في حالة ، فالقبول يطلق ويراد به معنى رضي الله عن التائب ، وإثباته في زمرة المتّقين الصالحين ، وكأنّ هذا هو الذي نظر إليه المعتزلة لمَّا قالوا بأنّ قبولها قطعّي عقلاً . وفي كونه قطعيّا ، وكونه عقلاً ، نظر واضح ، ويدلّ لذلك أنّهم قالوا : إنّ التوبة لا تصحّ إلاّ بعد الإقلاع عن سائر الذنوب ليتحقّق معنى صلاحه . ويطلق القبول ويراد ما وعد الله به من غفران الذنوب الماضية قبل التوبة ، وهذا أحسبهم لا يختلفون في كونه سمعياً لا عقلياً ، إذ العقل لا يقتضي الصفح عن الذنوب الفارطة عند الإقلاع عن إتيان أمثالها في المستقبل ، وهذا هو المختلف في كونه قطعيّا أو ظنيّا ، ويطلق القبول على معنى قبول التوبة من حيث إنّها في ذاتها عمل مأمور به كلّ مذنب ، أي بمعنى أنّها إبطال الإصرار على الذنوب التي كان مصرّا على إتيانها ، فإنّ إبطال الإصرار مأمور به لأنّه من ذنوب القلب فيجب تطهير القلب منه ، فالتائب من هذه الجهة يعتبر ممتثلاً لأمر شرعي ، فالقبول بهذا المعنى قطعي لأنّه صار بمعنى الإجزاء ، ونحن نقطع بأنّ من أتى عَملا مأموراً به بشروطه الشرعية كان عمله مقبولاً بمعنى ارتفاع آثار النهي عنه ، ولكن بمعنى الظنّ في حصول الثواب على ذلك . ولعلّ هذا المعنى هو الذي نظر إليه الغزالي إذ قال في كتاب التوبة « إنّك إذا فهمت معنى القبول لم تشكّ في أنّ كلّ توبة صحيحة هي مقبولة إذ القلب خُلق سليماً في الأصل ، إذ كلّ مولود يولد على الفطرة وإنّما تفوته السلامة بكدرة ترهقه من غيرة الذنوب ، وأنّ نور الندم يمحو عن القلب تلك الظلمة كما يمحو الماء والصابون عن الثواب الوسخ .
فمن توهّم أنّ التوبة تصحّ ولا تقبل كمن توهّم أنّ الشمس تطلع والظلام لا يزول ، أو أنّ الثوب يغسل والوسخ لا يزول ، نعم قد يقول التائب باللسان تبت ولا يقلع ، فذلك كقول القصّار بلسانه غسلت الثوب وهو لم يغسله فذلك لا ينظّف الثوب » . وهذا الكلام تقريب إقناعي . وفي كلامه نظر بيِّن لأنّا إنّما نبْحث عن طرح عقوبة ثابتة هل حدثان التوبة يَمْحُوها .
والإشارة في المسند إليه في قوله : { فأولئك يتوب الله عليهم } للتنبيه على استحضارهم باعتبار الأوصاف المتقدّمة البالغة غاية الخوف من الله تعالى والمبادرة إلى طلب مرضاته ، ليعرف أنّهم أحرياء بمدلول المسند الوارد بعد الإشارة ، نظير قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] والمعنى : هؤلاء هم الذين جعلهم الله مستحقّين قبول التوبة منهم ، وهو تأكيد لقوله : { إنما التوبة على الله } إلى آخره .
وقوله : { وليست التوبة } إلخ تنبيه على نفي القبول عن نوع من التوبة وهي التي تكون عند اليأس من الحياة لأنّ المقصد من العزم ترتُّب آثاره عليه وصلاح الحل في هذه الدار بالاستقامة الشرعية ، فإذا وقع اليأس من الحياة ذهبت فائدة التوبة .
وقوله : { ولا الذين يموتون وهم كفار } عطف الكفّار على العصاة في شرط قبول التوبة منهم لأنّ إيمان الكافر توبة من كفره ، والإيمان أشرف أنواع التوبة ، فبيَّن أنّ الكافر إذا مات كافراً لا تقبل توبته من الكفر .
وللعلماء في تأويله قولان : أحدهما الأخذ بظاهره وهو أن لا يحول بين الكافر وبين قبول توبته من الكفر بالإيمان إلا حصول الموت ، وتأوّلوا معنى { وليست التوبة } له بأنّ المراد بها ندمُهُ يوم القيامة إذا مات كافراً ، ويؤخذ منه أنّه إذا آمن قبل أن يموت قُبل إيمانه ، وهو الظاهر ، فقد ثبت في « الصحيح » : أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعندَه أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية فقال : أي عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحَاجّ لك بها عند الله . فقال أبو جهل وعبد الله : أترغب عن ملّة عبد المطلب . فكان آخر ما قال أبو طالب أنّه على ملّة عبد المطلب ، فقال النبي : لأستغفرنّ لك ما لم أنْهَ عنك . فنزلت { ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم } [ التوبة : 113 ] ويؤذن به عطف { ولا الذين يموتون وهم كفار } بالمغايرة بين قوله : { حتى إذا حضر أحدهم الموت } الآية وقوله : { ولا الذين يموتون وهم كفار } .
وعليه فوجه مخالفة توبته لتوبة المؤمن العاصي أنّ الإيمان عمل قلبي ، ونطق لساني ، وقد حصل من الكافر التائب وهو حي ، فدخل في جماعة المسلمين وتقوّى به جانبهم وفشت بإيمانه سمعة الإسلام بين أهل الكفر .
وثانيهما : أنّ الكافر والعاصي من المؤمنين سواء في عدم قبول التوبة ممّا هما عليه ، إذا حضرهما الموت . وتأوّلوا قوله : { يموتون وهم كفار } بأنّ معناه يُشرفون على الموت على أسلوب قوله { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا } [ النساء : 9 ] أي لو أشرفوا على أن يتركوا ذرّيّة . والدّاعي إلى التأويل نظم الكلام لأنّ ( لا ) عاطفة على معمول لخبر التوبة المنفية ، فيصير المعنى : وليست التوبة للذين يموتون وهم كفّار فيتوبون ، ولا تعقل توبة بعد الموت فتعيّن تأويل ( يموتون ) بمعنى يشرفون كقوله { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم } [ البقرة : 240 ] ، واحتجّوا بقوله تعالى في حقّ فرعون { حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } [ يونس : 90 ، 91 ] المفيد أنّ الله لم يقبل إيمانه ساعتئذ . وقد يجاب عن هذا الاستدلال بأنّ ذلك شأن الله في الذين نزل بهم العذاب أنّه لا ينفعهم الإيمان بعد نزول العذاب إلاّ قوم يونس قال تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } [ يونس : 98 ] فالغرق عذاب عذّب الله به فرعون وجنده .
قال ابن الفرس ، في أحكام القرآن : وإذا صحّت توبة العبد فإن كانت عن الكفر قطعنا بقبولها ، وإن كانت عن سواه من المعاصي ؛ فمن العلماء من يقطع بقبولها ، ومنهم من لم يقطع ويظنّه ظنّا اهـ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وليست التوبة للذين يعملون السيئات}: يعني الشرك.
{حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}، فلا توبة له عند الموت، {ولا} توبة {الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله، حتى إذا حضر أحدهم الموت، يقول: إذا حشرج أحدهم بنفسه، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه قال: وقد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته: إني تبت الاَن، يقول فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة، لأنه قال ما قال في غير حال توبة... واختلف أهل التأويل فيمن عُني بقوله: {وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ}؛
فقال بعضهم: عُني به أهل النفاق.
وقال آخرون: بل عني بذلك أهل الإسلام.
وقال آخرون: بل هذه الآية كانت نزلت في أهل الإيمان، غير أنها نسخت... عن ابن عباس، قوله: {وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ} فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: {إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} فحرّم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، فلم يؤيسهم من المغفرة.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أنه في الإسلام، وذلك أن المنافقين كفار، فلو كان معنيا به أهل النفاق لم يكن لقوله: {وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كفّارٌ} معنى مفهوم، لأنهم إن كانوا هم والذين قبلهم في معنى واحد من أن جميعهم كفار، فلا وجه لتفريق أحد منهم في المعنى الذي من أجله بطل أن تكون توبة واحد مقبولة. وفي تفرقة الله جلّ ثناؤه بين أسمائهم وصفاتهم بأن سمى أحد الصنفين كافرا، ووصف الصنف الاَخر بأنهم أهل سيئات، ولم يسمهم كفارا ما دلّ على افتراق معانيهم، وفي صحة كون ذلك كذلك صحة ما قلنا، وفساد ما خالفه.
{وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كفّارٌ أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابا ألِيما}: ولا التوبة للذين يموتون وهم كفار فموضع «الذين» خفض، لأنه معطوف على قوله: {لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ}.
{أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابا ألِيما}: هؤلاء الذين يموتون وهم كفار، أعتدنا لهم عذابا أليما، لأنهم أبعدهم من التوبة كونهم على الكفر.
{أعْتَدْنا لَهُمْ}: أعددنا لهم، {عَذَابا ألِيما}: مؤلما موجعا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ الذين يَمُوتُونَ} عطف على الذين يعملون السيئات. سوّى بين الذين سوّفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم، لأنّ حضرة الموت أول أحوال الآخرة، فكما أنّ المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت، لمجاوزة كل واحد منهما أوان التكليف والاختيار.
{أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ} في الوعيد نظير قوله: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة.
فإن قلت: من المراد بالذين يعملون السيئات. أهم الفساق من أهل القبلة أم الكفار؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يراد الكفار، لظاهر قوله: {وَهُمْ كُفَّارٌ}، وأن يراد الفساق، لأن الكلام إنما وقع في الزانيين، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: {وَهُمْ كُفَّارٌ} وارداً على سبيل التغليظ كقوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97] وقوله: (فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً) «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» لأن من كان مصدقاً ومات وهو لم يحدث نفسه بالتوبة، حاله قريبة من حال الكافر، لأنه لا يجترئ على ذلك إلا قلب مصمت.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم نفى بقوله تعالى: {وليست التوبة} الآية أن يدخل في حكم التائبين من حضره موته وصار في حيز اليأس، وحضور الموت هو غاية قربه، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان، وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجماعة المفسرين، وقاله الربيع: الآية الأولى قوله: {إنما التوبة على الله} هي في المؤمنين، والآية الثانية قوله: {وليست التوبة} الآية نزلت في المسلمين ثم نسخت بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فحتم أن لا يغفر للكافر وأرجأ المؤمنين إلى مشيئته لم ييئسهم من المغفرة.
قال القاضي أبو محمد: وطعن بعض الناس في هذا القول بأن الآية خبر، والأخبار لا تنسخ. وهذا غير لازم، لأن الآية لفظها الخبر، ومعناه تقرير حكم شرعي، فهي نحو قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} ونحو قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} وإنما يضعف القول بالنسخ من حيث تنبني الآيتان ولا يحتاج إلى تقرير نسخ، لأن هذه الآية لم تنف أن يغفر للعاصي الذي لم يتب من قريب، فنحتاج أن نقول، إن قوله: {ويغفر ما دون ذلك} [النساء: 48، 116] نسخها وإنما نفت هذه الآية أن يكون تائباً من لم يتب إلا مع حضور الموت، فالعقيدة عندي في هذه الآيات: أن من تاب من قريب فله حكم التائب فيغلب الظن عليه أنه ينعم ولا يعذب، هذا مذهب أبي المعالي وغيره، وقال غيرهم: بل هو مغفور له قطعاً، لإخبار الله تعالى بذلك، وأبو المعالي يجعل تلك الأخبار ظواهر مشروطة بالمشيئة، ومن لم يتب حتى حضره الموت فليس في حكم التائبين، فإن كان كافراً فهو يخلد، وإن كان مؤمناً فهو عاص في المشيئة، لكن يغلب الخوف عليه، ويقوى الظن في تعذيبه، ويقطع من جهة السمع أن من هذه الصنيفة من يغفر الله له تعالى تفضلاً منه ولا يعذبه وأعلم الله تعالى أيضاً أن {الذين يموتون وهم كفار} فلا مستعتب لهم ولا توبة في الآخرة، وقوله تعالى: {أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً} إن كانت الإشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فقط، فالعذاب عذاب خلود، وإن كانت الإشارة إليهم وإلى من ينفذ عليه الوعيد، ممن لا يتوب إلا مع حضور الموت من العصاة فهو في جهة هؤلاء، عذاب ولا خلود معه، و {أعتدنا} معناه: يسرناه وأحضرناه، وظاهر هذه الآية أن النار مخلوقة بعد.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال تعالى في الآية السابقة "إنما التوبة على الله "ولم يقل هنا "وليست التوبة على الله" الخ وذلك أنه ليس المراد نفي القطع بقبول توبتهم، وإنما المراد نفي وقوع التوبة الصحيحة منهم وأنه ليس من شأنها أن تكون لهم، ولو نفى كونها مما أوجبه تعالى على نفسه لكان المعنى أنها غير واجبة لهم ولا مقطوع بقبولها منهم ولكنهم قد ينالونها. وأقول: إن وجه النفي هو أن هؤلاء الذين نفى ثبوت التوبة لهم ليسوا ممن اقتضت السنن الإلهية في خلق الإنسان وتأثير أعماله في صفات نفسه وملكاتها ثم ترتب أعماله على أخلاقه وملكاته- بأن يكونوا ممن يرجع عن السيئات بعد الاستمرار عليها وينخلع عنها ويطهر قلبه ويزكي نفسه من أدرانها فيكون أهلا لرحمة الله أن تعطف عليه ومحلا لاستجلاب نعمه فيعود ما نفر منها بالمعاصي إليه؛ بل مضت سنة الله تعالى في أمثالهم أن تحيط بهم خطاياهم وسيئاتهم فلا تدع للطاعات والحسنات مكانا من نفوسهم، فيصرون عليها إلى أن يحضر أحدهم الموت وييئس من الحياة التي يتمتع فيها بما كان يتمتع، فعند ذلك يقول إني تبت وما هو من التائبين، بل من المدعين الكاذبين، كما يأتي قريبا. قال الأستاذ: وقال هناك: "يعملون السوء" وههنا "يعملون السيئات" والجمع ههنا يعم جميع أفراد النوع الواحد من المعاصي التي تكون بالإصرار والتكرار، فالمصر على ذنب واحد من الذين يعملون السيئات حتما، ويعم جميع الأنواع المختلفة منها. وأقول: إن الإصرار على بعض أفراد الذنوب يغري صاحبه بأفراد أخرى من نوعها أو جنسها، والشر داعية الشر، كما أن الخير داعية الخير. (قال): وقال هناك "ثم يتوبون" فأسند التوبة إليهم وقال ههنا "قال إني تبت الآن" فبين أن واحد هؤلاء يدعي التوبة عند العلم بالعجز عن الذنب، أي إن قلبه لم ينخلع من الذنب ونفسه لم ترغب عنه فيكون تائبا ومن هنا يمكننا أن نميز الحق من بين تلك الأقوال التي رووها في حضور الموت، كقولهم إن المراد به حال الحشرجة أو الغرغرة أو ذهاب التمييز والإدراك ومن كان من مثل هذه الأحوال لا يصدر عنه قول. والمختار أن المراد بحضور الموت هو تحقق وقوعه واليأس من الحياة.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
إن التوبة لمثل هؤلاء ليست مقبولة حتما فأمرهم مفوض إلى الله تعالى وهو العليم بحالهم وحديث قبول توبة العبد ما لم يغرغر أو تبلغ روحه الحلقوم – المراد منه حصول التوبة النصوح بأن يدرك المذنب قبح ما كان قد عمله من السيئات ويندم على مزاولتها ويزول حبه لها بحيث لو عاش لما عاد إليها وقلما يحصل مثل هذا الإدراك للمصر على السيئات المستأنس بها في عامة أيام الحياة وإنما الذي يحصل له إدراك العجز عنها واليأس منها وكراهة ما يتوقعه من قرب العقاب عليها عند الموت.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهذه التوبة هي توبة المضطر، لجت به الغواية، وأحاطت به الخطيئة. توبة الذي يتوب لأنه لم يعد لديه متسع لارتكاب الذنوب، ولا فسحة لمقارفة الخطيئة. وهذه لا يقبلها الله، لأنها لا تنشئ صلاحا في القلب ولا صلاحا في الحياة، ولا تدل على تبدل في الطبع ولا تغير في الاتجاه.
والتوبة إنما تقبل لأنها الباب المفتوح الذي يلجه الشاردون إلى الحمى الأمن، فيستردون أنفسهم من تيه الضلال، وتستردهم البشرية من القطيع الضال تحت راية الشيطان، ليعملوا عملا صالحا -إن قدر الله لهم امتداد العمر بعد المتاب- أو ليعلنوا -على الأقل- انتصار الهداية على الغواية. إن كان الأجل المحدود ينتظرهم، من حيث لا يشعرون أنه لهم بالوصيد..
وهؤلاء قد قطعوا كل ما بينهم وبين التوبة من وشيجة، وضيعوا كل ما بينهم وبين المغفرة من فرصة.. (أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما).
اعتدناه: أي أعددناه وهيأناه.. فهو حاضر في الانتظار لا يحتاج إلى إعداد أو إحضار!
وهكذا يشتد المنهج الرباني في العقوبة، ولكنه في الوقت ذاته يفتح الباب على مصراعيه للتوبة. فيتم التوازن في هذا المنهج الرباني الفريد، وينشئ آثاره في الحياة كما لا يملك منهج آخر أن يفعل في القديم والجديد..
توبة هؤلاء الذين يعملون السيئات لم توجد من قريب. وهم يختلفون عن الذين كتب الله قبول توبتهم، هؤلاء الذين يعيشون وتستحضر نفوسهم قيم المنهج، إلا أن النفوس تضعف مرة. أما الذين لا يقبل منهم التوبة فهم أصحاب النفوس التي شردت عن المنهج في جهات متعددة، وهم لم يرتكبوا "سوءا "واحدا بل ارتكبوا السيئات. فالذي ارتكب سوءا واحدا فذلك يعني أنه ضعيف في ناحية واحدة ويبالغ ويجتهد في الزوايا والجوانب الأخرى من الطاعات التي لا ضعف له فيها ليحاول ستر ضعفه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...وعلّة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة، لأن الإِنسان عند الاحتضار في رحاب الموت تنكشف له الأستار، فيرى ما لم يكن يراه من قبل، فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر، ويشاهد بعينيه نتائج أعماله التي ارتكبها في هذه الدنيا، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها صفة محسوسة، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يندم كل مجرم على جرمه وأفعاله السيئة، ويفرّ منها فرار الذي يرى اقتراب ألسنة اللهب من جسمه.