ثم حض المؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلاح - وهو : الفوز والسعادة والنجاح ، وأن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم الصبر ، الذي هو حبس النفس على ما تكرهه ، من ترك المعاصي ، ومن الصبر على المصائب ، وعلى الأوامر الثقيلة على النفوس ، فأمرهم بالصبر على جميع ذلك .
والمصابرة{[180]} أي الملازمة والاستمرار على ذلك ، على الدوام ، ومقاومة الأعداء في جميع الأحوال .
والمرابطة : وهي{[181]} لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه ، وأن يراقبوا أعداءهم ، ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم ، لعلهم يفلحون : يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والأخروي ، وينجون من المكروه كذلك .
فعلم من هذا أنه لا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة المذكورات ، فلم يفلح من أفلح إلا بها ، ولم يفت أحدا الفلاح إلا بالإخلال بها أو ببعضها .
والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا به .
تم تفسير " سورة آل عمران " والحمد لله على نعمته ، ونسأله تمام النعمة .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بنداء جامع للمؤمنين ، دعاهم فيه إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
والصبر معناه : حبس النفس عن أهوائها وشهواتها وترويضها على تحمل المكره وتعويدها على أداء الطاعات .
والمصابرة : هى المغالبة بالصبر : بأن يكون المؤمن أشد صبراً من عدوه .
ورابطوا : من المرابطة وهى القيام على الثغور الإسلامية لحمياتها من الأعداء ، فهى استعداد ودفاع وحماية لديار الإسلام من مهاجمة الأعداء .
والمعنى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا } على طاعة الله وعلى تحمل المكاره والآلام برضا لا سخط معه ؛ فإن الصبر جماع الفضائل وأساس النجاح والظفر .
و { وَصَابِرُواْ } أى قابلوا صبر أعدائكم بصبر أشد منه وأقوى في كل موطن من المواطن التى تستلزم الصبر وتقتضيه .
قال صاحب الكشاف : { وَصَابِرُواْ } أعداء الله فى الجهاد ، أى غالبوهم فى الصبر على شدائد الحرب ، ولا تكونوا أقل منهم صبراً وثباتاً فالمصابرة باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تخصيصاً لشدته وصعبوته " .
و { وَرَابِطُواْ } أى أقيموا على مرابطة الغزو فى نحر العدو بالترصد له ، والاستعداد لمحاربته وكونوا دائما على حذر منه حتى لا يفاجئكم بما تكرهون .
ولقد كان كثير من السلف الصالح يرابطون فى سبيل الله نصف العام ، ويطلبون قوتهم بالعمل فى النصف الآخر .
ولقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث التى وردت فى فضل المرابطة من أجل حماية ديار الإسلام ، ومن ذلك ما رواه البخاري فى صحيحه عن سهل ابن سعد الساعدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها " .
وروى مسلم فى صحيحه عن سلمان الفارسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذى كان يعمله ، وأجرى عليه رزقه ، وأمن الفتان " .
وبعضهم جعل المراد بالمرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة مستدلا بالحديث الذى رواه مسلم والنسائي عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة . فذلكم الرباط " .
قال القرطبى : بعد أن ساق هذا الحديث - : " والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة فى سبيل الله - وأصلها من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور المسلمين مرابطا فارسا كان أو راجلا . واللفظ مأخوذ من الرب . وقول النبى صلى الله عليه وسلم " فذلكم الرباط " إنما هو تشبيه بالرباط فى سبيل الله " .
ومما يدل على أن المرابطة فى سبيل الله م أجل الديار الإسلامية من أفضل الأعمال وأن الصالحين الأخيار من المسلمين كانوا لا ينقطعون عنها ، مما يدل على ذلك ما كتبه عبد الله بن المبارك - وهو يرابط بطرسوس - إلى صديقه الفضيل بن عياض - وكان الفضيل معتكفا بالمسجد الحرام - كتب إليه عبد الله يقول :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا . . . لعلمت أنك فى العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه . . . فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله فى باطل . . . فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا . . . رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا . . . قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوى غبار خيل الله فى . . . أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا . . . ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأ الفضيل هذه الأبيات بكى وقال : صدق عبد الله .
وقوله { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أى اتقوا الله بأن تصونوا أنفسكم عن محارمه وعن مخالفة أمره ، ورجاء أن يكتب لكم الفوز بالنصر فى الدنيا ، والثواب الحسن فى الآخرة .
وبعد : فهذه سورة آل عمران ، وهذا تفسير مفصل لما اشتملت عليه من توجيهات نافعة وعظات بليغة ، وآداب عالية وتشريعات سامية و تربية رشيدة وعبادات قويمة وحجج تثبت الحق وتدحض الباطل .
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ونافعا لعباده .
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ثم ختم الله تعالى السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء ، والفوز بنعيم الآخرة ، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات ، وأمر بالمصابرة فقيل : معناه مصابرة الأعداء ، قاله زيد بن أسلم ، وقيل معناه : مصابرة وعد الله في النصر ، قاله محمد بن كعب القرظي : أي لا تسأموا وانتظروا الفرج ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «انتظار الفرج بالصبر عبادة »{[3817]} ، وكذلك اختلف المتأولون في معنى قوله { ورابطوا } فقال جمهور الأمة معناه : رابطوا أعداءكم الخيل ، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم ، ومنه قوله عز وجل : { ومن رباط الخيل }{[3818]} ، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة{[3819]} ، وقد كتب إليه يذكر جموع الروم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن شدة ، جعل الله بعدها فرجاً ، ولن يغلب عسر يسرين{[3820]} ، وأن الله تعالى يقول في كتابه : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } الآية ، وقد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن{[3821]} : هذه الآية هي في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، واحتج بحديث علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وأبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ){[3822]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل ، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً ، فارساً كان أو راجلاً ، واللفظة مأخوذة من الربط ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : فذلك الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله ، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية ، والرباط اللغوي هو الأول ، وهذا كقوله : ( ليس الشديد بالصرعة ){[3823]} : كقوله : ( ليس المسكين بهذا الطواف ) {[3824]} إلى غير ذلك من الأمثلة ، والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء : هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما ، قاله ابن المواز ورواه ، فأما سكان الثغور دائماً بأهليهم الذي يعتمرون ويكتسبون هنالك ، وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين{[3825]} .
ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدّد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدوّ كي لا يثبّطهم ما حصل من الهزيمة ، فأمَرَهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال ، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر ، وهذا أشدّ الصبر ثباتاً في النفس وأقربه إلى التزلزل ، ذلك أنّ الصبر في وجه صابرٍ آخر شديد على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة قِرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه ، ثم إنّ هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتّى يملّ قرنه فإنّه لا يجتني من صبره شيئاً ، لأنّ نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبراً ، كما قال زُفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام :
سَقَيْنَاهُم كَأساً سقَوْنا بِمِثْلِها *** ولكنَّهم كانوا على الموت أَصْبَرا
فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب كما قال شاعر العرب الذي لم يعرف اسمه :
لا أنت معتادُ في الهيجا مُصابَرةٍ *** يَصْلى بها كلّ من عاداك نيراناً
وقوله : { ورابطوا } أمر لهم بالمرابطة ، وهي مفاعلة من الرّبْط ، وهو ربط الخيل للحراسة في غير الجهاد خشية أن يفجأهم العدوّ ، أمر الله به المسلمين ليكونوا دائماً على حذر من عدوّهم تنبيهاً لهم على ما يكيد به المشركون من مفاجأتهم على غِرّة بعد وقعة أُحُد كما قدّمناه آنفاً ، وقد وقع ذلك منهم في وقعة الأحزاب فلمّا أمرهم الله بالجهاد أمرهم بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظاً من عدوّهم . وفي كتاب الجهاد من « البخاري » : بابُ فضل رباط يوم في سبيل الله وقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } إلخ . وكانت المرابطة معروفة في الجاهلية وهي ربط الفرس للحراسة في الثغور أي الجهات التي يستطيع العدوّ الوصول منها إلى الحيّ مثل الشعاب بين الجبال . وما رأيت مَن وصف ذلك مثل لبيد في معلّقته إذ قال :
ولَقد حَمَيْتُ الحَيّ تَحْمِل شِكَّتي *** فُرُط وِشَاحِي إذْ غَدَوْتُ لجامُها
فَعَلَوْتُ مُرْتَقَبَا على ذي هَبْوَةٍ *** حَرِج إلى إعلامهن قَتَامُـــها
حَتَّى إذا ألْقَتْ يداً في كافــر *** وأجَنّ عَوْرَاتِ الثُّغورِ ظلامُها
فذكر أنّه حرس الحيّ على مكان مرتقَب ، أي عال بربط فرسه في الثغر . وكان المسلمون يرابطون في ثغور بلاد فارس والشام والأندلس في البَرّ ، ثم لمّا اتّسع سلطان الإسلام وامتلكوا البحار صار الرباط في ثغور البخار وهي الشطوط التي يخشى نزول العدوّ منها : مثل رباط المنستير بتونس بإفريقية ، ورباط سلا بالمغرب ، ورُبط تونس ومحارسها : مثل مَحْرس علي بن سالم قرب صفاقس . فأمر الله بالرباط كما أمر بالجهاد بهذا المعنى وقد خفي على بعض المفسّرين فقال بعضهم : أراد بقوله : { ورابطوا } إعداد الخيل مربوطة للجهاد ، قال : ولم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو في الثغور . وقال بعضهم : أراد بقوله : { ورابطوا } انتظار الصلاة بعد الفراغ من التي قبلها ، لما روى مالك في « الموطأ » ، عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وقال : " فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " ونُسب هذا لأبي سلمة بن عبد الرحمن . قال ابن عطية : والحقّ أن معنى هذا الحديث على التشبيه ، كقوله : " ليس الشديد بالصرعة " وقوله : " ليس المسكين بهذا الطّواف الذي تردّه اللقمة واللقمتان " ، أي وكقوله صلى الله عليه وسلم " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " .
وأعقب هذا الأمر بالأمر بالتقوى لأنّها جماع الخيرات وبها يرجى الفلاح .