ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا ، وأبطل هذا الشرك غاية الإبطال ، وحكم بجهل صاحبه وسفهه ، أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة ، وأن الله يقول لهم : { نَادُوا شُرَكَائِيَ } بزعمكم أي : على موجب زعمكم الفاسد ، وإلا فبالحقيقة ليس لله شريك في الأرض ، ولا في السماء ، أي : نادوهم ، لينفعوكم ، ويخلصوكم من الشدائد ، { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } لأن الحكم والملك يومئذ لله ، لا أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ولا لغيره .
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ } أي : بين المشركين وشركائهم { مَوْبِقًا } أي ، مهلكا ، يفرق بينهم وبينهم ، ويبعد بعضهم من بعض ، ويتبين حينئذ عداوة الشركاء لشركائهم ، وكفرهم بهم ، وتبريهم منهم ، كما قال تعالى { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
ثم ساقت السورة الكريمة مشهدا من مشاهد القيامة - يكشف عن سوء المصير الذى ينتظر الشركاء وينتظر المجرمين . فقال - تعالى - : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ . . . } .
أى : واذكر - أيها العاقل - يوم يقول الله - تعالى - للمجرمين والكافرين على سبيل التوبيخ والتقريع : أيها الكافرون ، نادوا شركائى الذين زعمتم أنهم ينفعونكم ويشفعون لكم فى هذا الموقف العصيب { فدعوهم } أى : فأطاعوا أمر خالقهم ، ودعوا شركاءهم لكى يستغيثوا بهم { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } أى : فلم يجدوا منهم أدنى استجابة فضلا عن النفع أو العون .
وقوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } أى : وجعلنا بين الداعين والمدعوين مهلكا يشتركون فيه جميعا وهو جهنم .
فالموبق : اسم مكان من وبق وبوقا - كوثب وثوبا - أو وبق وبقا كفرح فرحا - إذا هلك . ويقال فلان أوبقته ذنوبه : أى أهلكته . ومنه قوله - تعالى - : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أى يهلكهن . ومنه الحديث الشريف : " كل يغدو فموبق نفسه " - أى ملهكها - ومنه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات " أى : المهلكات .
وقيل : الموبق اسم واد فى جهنم فرق الله به بينهم ، أى بين الداعين والمدعوين .
وقيل : كل حاجز بين شيئين فهو موبق .
قال ابن جرير - رحمه الله - بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى ذلك : " وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب ، القول الذى ذكرناه من أن الموبق بمعنى المهلك وذلك أن العرب تقول فى كلامها : قد أوبقت فلانا إذا أهلكته . . " .
{ ويوم يقول } أي الله تعالى للكافرين وقرأ حمزة بالنون . { نادوا شُركائي الذين زعمتم } أنهم شركائي وشفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي ، وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ والمراد ما عبد من دونه ، وقيل إبليس وذريته . { فدعوهم } فنادوهم للإغاثة { فلم يستجيبوا لهم } فلم يغيثوهم . { وجعلنا بينهم } بين الكفار وآلهتهم . { موبقاً } مهلكا يشتركون فيه وهو النار ، أو عداوة هي في شدتها هلاك كقول عمر رضي الله عنه : لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا . و{ موبقا } اسم مكان أو مصدر من وبق يوبق وبقا إذا هلك . وقيل البين الوصل أي وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة .
عطف على جملة { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [ الكهف : 50 ] فيقدر : واذكر يوم يقول نادوا شركائي ، أو على جملة { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض } [ الكهف : 51 ] ، فالتقدير : ولا أشهدت شركاءهم جميعاً ولا تنفعهم شركاؤهم يوم الحشر ، فهو انتقال من إبطال معبودية الشيطان والجن إلى إبطال إلهية جميع الآلهة التي عبدها دهماء المشركين مع بيان ما يعتريهم من الخيبة واليأس يومئذٍ . وقد سلك في إبطال إلهيتها طريق المذهب الكلامي وهو الاستدلال على انتفاء الماهية بانتفاء لوازمها ، فإنه إذا انتفى نفعها للذين يعبدونها استلزم ذلك انتفاء إلهيتها ، وحصل بذلك تشخيص خيبتهم ويأسهم من النجاة .
وقرأة الجمهور { يقول } بياء الغيبة وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى لدلالة المقام عليه ، وقرأ حمزة { نقول } بنون العظمة .
واليوم الذي يقع فيه هذا القول هو يوم الحشر . والمعنى : يقول للمشركين ، كما دل عليه قوله : { الذين زعمتم } ، أي زعمتموهم شركائي . وقدم وصفهم بوصف الشركاء قبل فعل الزعم تهكماً بالمخاطبين وتوبيخاً لهم ، ثم أردف بما يدل على كذبهم فيما ادعوا بفعل الزعم الدال على اعتقاد باطل .
والنداء : طلب الإقبال للنصرة والشفاعة .
والاستجابة : الكلام الدال على سماع النداء والأخذُ في الإقبال على المنادي بنحو قول : لبيكم .
وأمره إياهم بمناداة شركائهم مستعمل في معناه مع إرادة لازمه وهو إظهار باطلهم بقرينة فعل الزعم . ولذلك لم يسعهم إلا أن ينادوهم حيث قال { فدعوهم } لطمعهم ، فإذا نادوهم تبين لهم خيبة طمعهم . ولذلك عطف فعل الدعاء بالفاء الدالة على التعقيب . وأتي به في صيغة المضي للدلالة على تعجيل وقوعه حينئذٍ حتى كأنه قد انقضى .
والموبق : مكان الوُبوق ، أي الهلاككِ . يقال : وبَق مثل وَعَد ووجل وورِث . والموبق هنا أريد به جهنم ، أي حين دعوا أصنامهم بأسمائهم كوَّن الله فيما بين مكانهم ومكان أصنامهم فَوهات جهنم ، ويجوز أن تكون جملة { وجعلنا بينهم موبقاً } جملة حال أي وقد جعلنا بينهم موبقاً تمهيداً لما بعده من قوله : { ورأى المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.