ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
أي : واذكروا { إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } وهو العهد الثقيل المؤكد بالتخويف لهم ، برفع الطور فوقهم{[90]} وقيل لهم : { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ } من التوراة { بِقُوَّةٍ } أي : بجد واجتهاد ، وصبر على أوامر الله ، { وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } أي : ما في كتابكم بأن تتلوه وتتعلموه ، { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } عذاب الله وسخطه ، أو لتكونوا من أهل التقوى .
ثم واصل القرآن حديثه مع بني إسرائيل ، فذكرهم بنعمة شمول الله إياهم برحمته وفضله رغم توليهم عن طاعته ونقضهم لميثاقه فقال تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ . . . }
قال ابن جرير : " وكان سبب أخذ الميثاق عليهم فيما ذكره ابن زيد ، ما حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد : لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لقومه بني إسرائيل : إن هذه الألواح فيها كتاب الله ، وأمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه . فقالوا : وما يأخذ بقولك أنت ، لا والله حتى نرى الله جهرة ، حتى يطلع الله علينا فيقول : " هذا كتابي فخذه " فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى : قال فجاءت غضبة من الله ، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا جميعاً . قال : ثم أحياهم الله بعد موتهم فقال لهم موسى : خذوا كتاب الله . فقالوا : لا . قال : أي شيء أصابكم ؟ قالوا : متنا جميعاً ، ثم حيينا قال : خذوا كتاب الله . قالوا : لا . فبعث الله ملائكة فتنقت الجبل فوقهم ، فقيل لهم : أتعرفون هذا ؟ قالوا نعم ، هذا الطور ، قال : خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم ، قال : فأخذوا بالميثاق . قال : ولو كانوا أخذوه أول مرة لأخذوه بغير ميثاق " .
ومعنى الآيتين الكريمتين : واذكروا - يا بني إسرائيل - لتعتبروا وتنتفعوا وقت أن أخذنا عليكم جميعاً العهد بأن تعبدوا الله وحده ، وتتبعوا ما جاءكم به رسله ، وتعملوا بما في التوراة ، واذكروا كذلك وقت أن رفعنا فوق أسلافكم الطور تهديداً لهم بالعقوبة إذا لم يطيعوا أوامر الله ، وليشهدوا آية من آيات الله الدالة على قدرته ، وقلنا لكم جميعاً . خذوا ما آتيناكم في كتابكم من تكاليف بجد وعزم واجتهاد ، واذكروا ما فيه وتدبروه وسيروا على هدية لتتقوا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة ، ولكن الذي حصل منكم جميعاً أنكم أعرضتم عن العمل بما أخذ عليكم ، فتركتم تعاليم كتابكم وآذيتم أنبياءكم ، ولوا أن الله - تعالى - رأف بكم ، ووفقكم للتوبة ، وعفا عن زلاتكم ، لكنتم من الهالكين في دنياكم وآخرتكم .
وقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } تذكير لبني إسرائيل بنعمة من أمثال النعم الواردة في الآيات السابقة ، لأن أخذ الميثاق عليهم ليعملوا بما في التوراة من الأمور العائد عليهم نفعها .
وقوله تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } أي : أعليناه ، وجعلناه فوق رءوسكم كالمظلة .
والطور : اسم للجبل الذي ناجى عليه موسى ربه - تعالى - كان بنو إسرائيل بأسفله فرفع فوق رءوسهم .
وقوله تعالى : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } مقول لقول محذوف ، دل عليه المعنى ، والتقدير : وقلنا لهم : خذوا ما آتيناكم بقوة ، أي : تمسكوا به ، واعملوا بما فيه يجد ونشاط ، وتقبلوه واجتنبوا نواهيه ، واعملوا ما جاء به بدون تردد .
والمراد " بما آتيناكم " التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى لتكون هدى ونوراً لهم . وقوله تعالى : { واذكروا مَا فِيهِ } أي احفظوه وتدبروه وتدارسوه ، وامتثلوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، واعملوا بكل ما جاء فيه بلا تعطيل لشيء منه .
قال الإِمام القرطبي : " وهذا هو المقصود من الكتب ، العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان - فحسب - ، فقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من الشر الناس رجلا فاسقاً يقرأ القرآن ، لا يرعوى إلى شيء منه " .
و " لعل " في قوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } إما للتعليل ، فيكون المعنى : خذوا الكتاب بجد وعزم ، واعملوا بما فيه بصدق وطاعة ، لتتقوا الهلاك في عاجلتكم وآجلتكم ، وإما للترجى ، وهو منصرف إلى المخاطبين ، فيكون المعنى : خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ولا تنسوه ، وأنتم ترجون أن تكونوا من طائفة المتقين
يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسله ، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل على رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه ، ويأخذوه{[1927]} بقوة وحزم وهمة وامتثال{[1928]} كما قال تعالى : { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 171 ] الطور هو الجبل ، كما فسره بآية{[1929]} الأعراف ، ونص على ذلك ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس ، وغير واحد ، وهذا ظاهر{[1930]} .
وفي رواية عن ابن عباس : الطور ما أنبت من الجبال ، وما لم ينبت فليس بطور .
وفي حديث الفتون : عن ابن عباس : أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا [ فسجدوا ]{[1931]} .
وقال السدي : فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم ، فنظروا إليه وقد غشيهم ، فسقطوا سجدًا [ فسجدوا ]{[1932]} على شق ، ونظروا بالشق الآخر ، فرحمهم الله فكشفه عنهم ، فقالوا{[1933]} والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم ، فهم يسجدون كذلك ، وذلك قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ{[1934]} الطُّورَ } .
وقال الحسن في قوله : { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } يعني التوراة .
وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس : { بِقُوَّةٍ } أي بطاعة . وقال مجاهد : بقوة : بعمل بما فيه . وقال قتادة { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } القوة : الجد وإلا قذفته{[1935]} عليكم .
قال : فأقروا بذلك : أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة . ومعنى قوله : وإلا قذفته عليكم ، أي{[1936]} أسقطه عليكم ، يعني الجبل .
وقال أبو العالية والربيع : { وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } يقول : اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به .
تذكير بقصة أخرى أرى الله تعالى أسلافهم فيها بطشه ورحمته فلم يرتدعوا ولم يشكروا وهي أن أخذ الميثاق عليهم بواسطة موسى عليه السلام أن يعملوا بالشريعة وذلك حينما تجلى الله لموسى عليه السلام في الطور تجلياً خاصاً للجبل فتزعزع الجبل وتزلزل وارتجف وأحاط به دخان وضباب ورعود وبرق كما ورد في صفة ذلك في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج وفي الفصل الخامس من سفر التثنية فلعل الجبل من شدة الزلازل وما ظهر حوله من الأسحبة والدخان والرعود صار يلوح كأنه سحابة ، ولذلك وصف في آية الأعراف ( 171 ) بقوله : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة } [ نتقه : زعزعه ونقضه ] حتى يخيل إليهم أنه يهتز وهذا نظير قولهم استطاره إذا أزعجه فاضطرب فأعطوا العهد وامتثلوا لجميع ما أمرهم الله تعالى وقالوا : « كل ما تكلم الله به نفعله فقال الله لموسى فليؤمنوا بك إلى الأبد » وليس في كتب بني إسرائيل ولا في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن الله قلع الطور من موضعه ورفعه فوقهم وإنما ورد ذلك في أخبار ضعاف فلذلك لم نعتمده في التفسير .
وضمائر الخطاب لتحميل الخلف تبعات السلف كيلا يقعوا في مثلها وليستغفروا لأسلافهم عنها .
والميثاق في هاته الآية كالعهد في الآيات المتقدمة مراد به الشريعة ووعدهم بالعمل بها وقد سمته كتبهم عهداً كما قدمنا وهو إلى الآن كذلك في كتبهم . وهذه معجزة علمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم
والطُّور علم على جبل ببرية سينا ، ويقال إن الطور اسم جنس للجبال في لغة الكنعانيين نقل إلى العربية وأنشدوا قول العجاج :
دَانَى جَناحيه من الطورِ فمَرْ *** تَقَضِّيَ البازِي إذا البازِي كَسَر
فإذا صح ذلك فإطلاقه على هذا الجبل علم بالغلبة في العبرية لأنهم وجدوا الكنعانيين يذكرونه فيقولون الطور يعنون الجبل كلمة لم يسبق لهم أن عرفوها فحسبوها علماً له فسموه الطور .
وقوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة } مقول قول ، محذوف تقديره قائلين لهم خذوا ، وذلك هو الذي أخذ الميثاق عليه . والأخذ مجاز عن التلقي والتفهم . والقوة مجاز في الإيعاء وإتقان التلقي والعزيمة على العمل به كقوله تعالى : { يا يحيى خُذ الكتاب بقوة } [ مريم : 12 ] .
ويجوز أن يكون الذكر مجازاً عن الامتثال أي اذكروه عند عزمكم على الأعمال حتى تكون أعمالكم جارية على وفق ما فيه ، أو المراد بالذكر التفهم بدليل حرف { في } المؤذن بالظرفية المجازية أي استنباط الفروع من الأصول .
والمراد بما آتاهم ما أوحاه إلى موسى وهو الكلمات العشر التي هي قواعد شريعة التوراة .
وجملة { لعلكم تتقون } علة للأمر بقوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه } ولذلك فصلت بدون عطف .
والرجاء الذي يقتضيه حرف { لعل } مستعمل في معنى تقريب سبب التقوى بحضهم على الأخذ بقوة ، وتعهد التذكر لما فيه ، فذلك التقريب والتبيين شبيهٌ برجاء الراجي .
ويجوز أن يكون { لعل } قرينة استعارة تمثيل شأن الله حين هيأ لهم أسباب الهداية بحال الراجي تقواهم وعلى هذا محمل موارد كلمة { لعل } في الكلام المسند إلى الله تعالى . وتقدم عند قوله تعالى : { يأيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] الآية .