تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } مقبلة ومدبرة غير أنه لا يكون إلا في القبل ، لكونه موضع الحرث ، وهو الموضع الذي يكون منه الولد .

وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر ، لأن الله لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث ، وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك ، ولعن فاعله .

{ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ } أي : من التقرب إلى الله بفعل الخيرات ، ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته ، ويجامعها على وجه القربة والاحتساب ، وعلى رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم .

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أحوالكم ، كونوا ملازمين لتقوى الله ، مستعينين بذلك لعلمكم ، { أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ } ومجازيكم على أعمالكم الصالحة وغيرها .

ثم قال : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } لم يذكر المبشر به ليدل على العموم ، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وكل خير واندفاع كل ضير ، رتب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة .

وفيها محبة الله للمؤمنين ، ومحبة ما يسرهم ، واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

ثم قال - تعالى - : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } .

روى الشيخان عن جابر قال : كانت اليهود تقول : إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها ثم حملت كان ولدها أحول . فأنزل الله - تعالى - قوله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } الآية .

والحرث في الأصل : تهيئة الأرض بالحراثة لإِلقايء البذر فيها . وقد تطلق كلمة الحرث على الأرض المزروعة كما في قوله - تعالى - { أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ } أي على حديقتكم لجمع ما فيها من ثمار .

وشبهت المرأة بالأرض لأن كليهما يمد الوجود الإِنساني بقائه ، فالزوجة تمده بعناصر تكوينه ، والأرض تمده بأسباب حياته .

و { أنى شِئْتُمْ } بمعنى كيف شئتم ، أو متى شئتم في غير وقت الحيض .

والمعنى : نساؤكم هن مزرع لكم ومنبت للولد ، أعدهن الله لذلك كما أعد الأرض للزراعة والإِنبات ، فأتوهن إذا تطهرن من الحيض في موضع الحرث كيف شئتم مستلقيات على ظهورهن أو غير ذلك ما دمتم تؤدون شهوتكم في صمام واحد وهو الفرج .

وفي هذه الجملة الكريمة إشعار بأن المقصد الأول من الزواج إنما هو النسل ، ويشير إلى ذلك قوله { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } إذ من شأن الحرث الصالح الانتاج وإشعار كذلك بما شرعه الله للزوجين من مؤانسة ومباسطة ويشير إلى ذلك قوله - تعالى - { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } .

ويرى صاحب الكشاف ن التشيبه بين ما يلقى في الأرحام من النطفة وبين البذر الذي يلقى في الأرض من حيث إن كلا منهما ينمو في مستودعه ويكون به البقاء والتوالد ، فقد قال - رحمه الله - :

{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } مواضع الحرث لكم . وهذا مجاز شبهن بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور ، وقوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } تمثيل ، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تحرثونها من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة . والمعنى : جامعوهن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحدا وهو موضع الحرث .

ثم قال : وقوله - تعالى - : { هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء } وقوله { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } وقوله { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } من الكنايات اللطيفة والتعريضات الحسنة . وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاروتهم ومكاتبتهم .

فإن قلت : ما موقع قوله { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } مما قبله ؟ قلت : موقعه موقع البيان والتوضيح لقوله : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } يعني أن المأتي الذي أمركم الله به هو مكان الحرث ترجمة له وتفسيرا ، أو إزالة للشبهة ودلالة على أن الغرض الأصيل في الإِتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من المأتى الذي يتعلق به هذا الغرض " .

ثم ختم الله - تعالى - الآية بقوله : { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ المؤمنين } .

أي : عليكم أيها المؤمنون أن تقدموا في حاضركم لمستقبلكم من الأعمال الصالحة ما ينفعكم في دنياكم وآخرتكم ، بأن تختاروا في زواجكم ذات الدين ، وأن تسيروا في حياتكم الزوجية على الطريقة التي رسمها لكم خالقكم وعليكم كذلك أن تتقوه بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما نهاكم عنه ، وأن تعلموا علم اليقين أنكم ستلقونه فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكهم عليها بما تستحقون .

وقوله : { وَبَشِّرِ المؤمنين } بشارة طيبة لمن آمن وعمل صالحا ، وتلقى ما كلفه الله - تعالى - بالطاعة والامتثال .

وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد أرشدتا المسلم إلى أفضل الوسائل ، وأقوى الدعائم التي يقوم عليها صرح الحياة الزوجية والسعيدة ، والتي عن طريقها تأتي الذرية الصالحة الرشيدة ، وأن الإِسلام في تعاليمه لا يحاول أن ينكر أو يحطم غرائز الإِنسان وضرورياته ، وإنما الإِسلام يعترف بغرائز الإنسان وضرورياته ثم يعمل على تهذيبها وتقويمها بالطرق التي من شأنه إذا ما اتبعها أن يظفر بالسعادة والطمأنينة في دنياه وأخراه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

وقوله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } قال ابن عباس : الحرث موضع الولد { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أي : كيف شئْتم مقبلة ومدبرة في صِمام واحد ، كما ثبتت بذلك الأحاديث .

قال البخاري : حدثنا أبو نُعيم ، حدثنا سفيان عن ابن المنْكَدر قال : سَمعت جابرًا قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ورواه داود{[3870]} من حديث سفيان الثوري به{[3871]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري : أن محمد بن المنكدر حدثهم : أن{[3872]} جابر بن عبد الله أخبره : أن اليهود قالوا للمسلمين : من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول ، فأنزل الله عز وجل : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }

قال ابن جريج في الحديث : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مقبلة ومدبرة ، إذا كان ذلك في الفرج " .

وفي حديث بَهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيْدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده أنه قال : يا رسول الله ، نساؤنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : " حرثك ، ائت حرثك أنى شئت ، غير ألا تضربَ الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في المبيت{[3873]} . الحديث ، رواه أحمد ، وأهل السنن{[3874]} .

حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لَهِيعة عن يزيد ابن أبي حبيب ، عن عامر بن يحيى ، عن حنش بن عبد الله ، عن عبد الله بن عباس قال : أتى ناس من حمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن أشياء ، فقال له رجل : إني أجبي النساء ، فكيف ترى في ذلك ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ }{[3875]} .

حديث آخر : قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه " مشكل الحديث " : حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، حدثنا يعقوب بن كاسب ، حدثنا عبد الله بن نافع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا أصاب امرأة في دبرها ، فأنكر الناس عليه ذلك ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ورواه ابن جرير عن يونس وعن يعقوب ، به{[3876]} .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم{[3877]} عن عبد الرحمن بن سابط قال : دخلت على حفصة ابنة{[3878]} عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت : إني سائلك عن أمر ، وإنى{[3879]} أستحيي أن أسألك . قالت : فلا تستحي يا ابن أخي . قال : عن إتيان النساء في أدبارهن ؟ قالت : حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا لا يَجُبّون النساء ، وكانت اليهود تقول : إنه من جَبَّى امرأته كان الولد أحول ، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار ، فجبَّوهُنّ ، فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت : لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك ، فقالت : اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيت الأنصارية أن تسأله ، فخرجت ، فحدثت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ادعي الأنصارية " : فدُعيَتْ ، فتلا عليها هذه الآية : " { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } صمامًا واحدًا " .

ورواه الترمذي ، عن بُنْدَار ، عن ابن مهدي ، عن سفيان ، عن ابن خُثَيْم{[3880]} به{[3881]} . وقال : حسن .

قلت : وقد روي من طريق حماد بن أبي حنيفة ، عن أبيه ، عن ابن خُثَيْم{[3882]} عن يوسف بن ماهَك ، عن حفصة أم المؤمنين : أن امرأة أتتها فقالت : إن زوجي يأتيني مُحيّيَة ومستقبلة فكرهته ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لا بأس إذا كان في صمام واحد " {[3883]} .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا يعقوب - يعني القَمي{[3884]} - عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكت ! قال : " ما الذي أهلكك ؟ " قال : حولت رحلي البارحة ! قال : فلم يرد عليه شيئًا . قال : فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أقبل وأدبر ، واتق الدبر والحيضة " .

رواه الترمذي ، عن عبد بن حميد ، عن حسن بن موسى الأشيب ، به{[3885]} . وقال : حسن غريب .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رِشْدين ، حدثني الحسن بن ثوبان ، عن عامر بن يحيى المعافري ، عن حَنَش ، عن ابن عباس قال : أنزلت هذه الآية : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } في أناس من الأنصار ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " آتها على كل حال ، إذا كان في الفرج " {[3886]} .

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن سريج{[3887]} حدثنا عبد الله بن نافع ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد قال : أثفر رجل امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أثفر فلان امرأته ، فأنزل الله عز وجل : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }{[3888]} .

وقال أبو داود : حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ ، قال : حدثني محمد - يعني ابن سلمة - عن محمد ابن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : إن ابن عمر - والله يغفر له - أوهم ، إنما كان أهل هذا الحي من الأنصار - وهم أهل وثن - مع أهل هذا الحي من يهود - وهم أهل كتاب - وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يَشْرَحون النساء شرحًا منكرًا ، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات . فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك ، فأنكرته عليه ، وقالت : إنما كنا نُؤتى على حرف . فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني ، فسرى أمرهما ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أي : مقبلات ، ومدبرات ، ومستلقيات - يعني بذلك موضع الولد{[3889]} .

تفرد به أبو داود ، ويشهد{[3890]} له بالصحة ما تقدم من الأحاديث ، ولا سيما رواية أم سلمة ، فإنها مشابهة لهذا السياق .

وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني من طريق محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد قال : عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه{[3891]} عند كل آية منه{[3892]} وأسأله عنها ، حتى انتهيت إلى هذه الآية : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال ابن عباس : إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون{[3893]} النساء بمكة ، ويتلذذون بهن . . فذكر القصة بتمام سياقها{[3894]} .

وقول ابن عباس : " إن ابن عمر - والله يغفر له - أوهم " . كأنه يشير إلى ما رواه البخاري :

حدثنا إسحاق ، حدثنا النضر بن شميل ، أخبرنا ابن عون عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغُ منه ، فأخذت عليه يومًا فقرأ سورة البقرة ، حتى انتهى إلى مكان قال{[3895]} : أتدري فيم أنزلت ؟ قلت : لا . قال : أنزلت في كذا وكذا . ثم مضى . وعن عبد الصمد قال : حدثني أبي ، حدثني أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال : يأتيها في . . {[3896]} .

هكذا رواه البخاري ، وقد تفرد به من هذه الوجوه{[3897]} .

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا ابن عون ، عن نافع قال : قرأت ذات يوم : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال ابن عمر : أتدري فيم نزلت ؟ قلت : لا . قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن{[3898]} .

وحدثني أبو قلابة ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثني أبي ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال : في الدبر{[3899]} .

وروي من حديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، ولا يصح .

وروى النسائي ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر : أن رجلا أتى امرأته في دبرها ، فوجد في نفسه من ذلك وجدًا شديدًا ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }{[3900]} .

قال أبو حاتم الرازي : لو كان هذا عند زيد بن أسلم ، عن ابن عمر لما أولع{[3901]} الناس بنافع . وهذا تعليل منه لهذا الحديث .

وقد رواه عبد الله بن نافع ، عن داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عمر - فذكره .

وهذا محمول على ما تقدم ، وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها ، لما رواه النسائي أيضًا عن علي بن عثمان النفيلي ، عن سعيد بن عيسى ، عن المفضل{[3902]} بن فضالة عن عبد الله بن سليمان الطويل ، عن كعب بن علقمة ، عن أبي النضر : أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر : إنه قد أكثر عليك القول : إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال : كذبوا علي ، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر : إن ابن عمر عرض المصحف يومًا وأنا عنده ، حتى بلغ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال : يا نافعُ ، هل تعلم من أمر هذه الآية ؟ قلت{[3903]} : لا . قال : إنا كنا معشر قريش نُجبِّي{[3904]} النساء ، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار ، أردنا منهن مثل ما كنا نريد فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه ، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود ، إنما يؤتين على جنوبهن ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }{[3905]} .

وهذا إسناد صحيح ، وقد رواه ابن مردويه ، عن الطبراني ، عن الحسين بن إسحاق ، عن زكريا{[3906]} بن يحيى الكاتب العمري ، عن مفضل بن فضالة ، عن عبد الله بن عياش{[3907]} عن كعب بن علقمة ، فذكره . وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا ، وأنه لا يباح ولا يحل كما سيأتي ، وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم ، وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر{[3908]} وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك ، رحمه الله . وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه ؛ فقال الحسن بن عرفة :

حدثنا إسماعيل بن عياش{[3909]} عن سهيل{[3910]} بن أبي صالح ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استحيوا ، إن الله لا يستحيي من الحق ، لا يحل مأتى النساء في حشوشهن " {[3911]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن عبد{[3912]} بن شداد عن رجل عن خزيمة بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها{[3913]} .

طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يعقوب ، سمعت أبي يحدث ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة ابن الهاد : أن عبيد الله بن الحصين الوالبي حَدَّثه أن هرمي بن عبد الله الواقفي حدثه : أن خزيمة بن ثابت الخطمي حدثه : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يستحيي الله من الحق ، لا يستحي الله من الحق - ثلاثا - لا تأتوا النساء في أعجازهن " .

ورواه النسائي ، وابن ماجة من طرق ، عن خزيمة بن ثابت . وفي إسناده اختلاف كثير .

حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي ، والنسائي : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن الضحاك بن عثمان ، عن مَخْرمة بن سليمان ، عن كُرَيْب ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر " . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب{[3914]} . وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه{[3915]} . وصححه ابن حزم أيضًا . ولكن رواه النسائي ، عن هناد ، عن وكيع ، عن الضحاك ، به{[3916]} موقوفًا .

وقال عبد : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه : أن رجلا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها ، قال{[3917]} : تسألني عن الكفر ! [ إسناد صحيح ]{[3918]} .

وكذا رواه النسائي ، من طريق ابن المبارك ، عن معمر{[3919]} - به نحوه .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى " {[3920]} .

وقال عبد الله بن أحمد : حدثني هدبة ، حدثنا همام ، قال : سُئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها . فقال قتادة : حدثنا عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هي اللوطية الصغرى " .

قال قتادة : وحدثني عقبة بن وسَّاج ، عن أبي الدرداء قال : وهل يفعل ذلك إلا كافر ؟{[3921]} .

وقد روى هذا الحديث يحيى بن سعيد القطان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو{[3922]} بن العاص ، قوله . وهذا أصح ، والله أعلم .

وكذلك رواه عبد بن حميد ، عن يزيد بن هارون ، عن حميد الأعرج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، موقوفًا من قوله .

طريق أخرى : قال جعفر الفريابي : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عبد الرحمن بن زياد بن العم ، عن أبي عبد الرحمن الحُبلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ، ويقول : ادخلوا النار مع الداخلين : الفاعل والمفعول به ، والناكح يده ، وناكح البهيمة ، وناكح المرأة في دبرها ، وجامع بين المرأة وابنتها ، والزاني بحليلة جاره ، والمؤذي جاره حتى يلعنه " {[3923]} .

ابن لَهيعة وشيخه ضعيفان .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن عاصم ، عن عيسى بن حطان ، عن مُسْلم بن سَلام ، عن علي بن طلق ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤتى النساء في أدبارهن ؛ فإن الله لا يستحيي من الحق{[3924]} .

وأخرجه أحمد أيضًا ، عن أبي معاوية ، وأبو عيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضًا ، عن عاصم الأحول [ به ]{[3925]} وفيه زيادة ، وقال : هو حديث حسن{[3926]} .

ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب ، كما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل{[3927]} والصحيح أنه علي بن طلق .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن سُهَيل بن أبي صالح ، عن الحارث بن مُخلَّد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه " .

وحدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا سهيل ، عن الحارث بن مخلد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله{[3928]} صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها " .

وكذا رواه ابن ماجة من طريق سهيل{[3929]} .

وحدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح ، عن الحارث بن مخلد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ملعون من أتى امرأة في دبرها " .

وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي من طريق وَكِيع ، به{[3930]} .

طريق أخرى : قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، حدثنا هناد ، ومحمد بن إسماعيل - واللفظ له - قالا حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ملعون من أتى امرأة في دبرها " {[3931]} .

ليس هذا الحديث هكذا في سنن النسائي ، وإنما الذي فيه عن سهيل ، عن الحارث بن مخلد ، كما تقدم .

قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي : ورواية أحمد بن القاسم بن الريان هذا الحديث بهذا السند ، وَهْمٌ منه ، وقد ضعفوه .

طريق أخرى : رواها{[3932]} مسلم بن خالد الزِّنْجي ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى عليه وسلم قال : " ملعون من أتى النساء في أدبارهن " .

ومسلم بن خالد فيه كلام ، والله أعلم .

طريق أخرى : رواها الإمام أحمد ، وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة ، عن حكيم الأثرم ، عن أبي تميمة الهُجيْمي ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها ، أو كاهنًا فصدقه ، فقد كفر بما أنزل على محمد " {[3933]} .

وقال الترمذي : ضعف البخاري هذا الحديث . والذي قاله البخاري في حديث حكيم [ الأثرم ]{[3934]} عن أبي تميمة : لا يتابع في حديثه{[3935]} .

طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا عثمان بن عبد الله ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن من كتابه ، عن عبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " استحيوا من الله حق الحياء ، لا تأتوا النساء في أدبارهن " {[3936]} .

تفرد به النسائي من هذا الوجه .

قال حمزة بن محمد الكنَاني الحافظ : هذا حديث منكر باطل من حديث الزهري ، ومن حديث أبي سلمة ومن حديث سعيد ؛ فإن كان عبد الملك سمعه من سعيد ، فإنما سمعه بعد الاختلاط ، وقد رواه الزهري عن أبي سلمة أنه كان ينهى عن ذلك ، فأما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا . انتهى كلامه .

وقد أجاد وأحسن الانتقاد ؛ إلا أن عبد الملك [ بن محمد ]{[3937]} الصنعاني لا يعرف أنه اختلط ، ولم يذكر ذلك أحد غير حمزة الكناني ، وهو ثقة ، ولكن تكلم فيه دُحَيْم ، وأبو حاتم ، وابن حبان ، وقال : لا يجوز الاحتجاج به ، فالله أعلم . وقد تابعه زيد بن يحيى بن{[3938]} عبيد ، عن سعيد بن عبد العزيز . وروي من طريقين آخرين ، عن أبي سلمة . ولا يصح منها شيء .

طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة قال : إتيان الرجال النساء{[3939]} في

أدبارهن كفر{[3940]} .

ثم رواه ، عن بُنْدَار ، عن عبد الرحمن ، به . قال : من أتى امرأة{[3941]} في دبرها ملك{[3942]} كفره{[3943]} . هكذا رواه النسائي ، من طريق الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة موقوفًا . وكذا رواه من طريق علي بن بذيمة ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة - موقوفًا{[3944]} . ورواه بكر بن خنيس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى شيئًا من الرجال والنساء في الأدبار فقد كفر " والموقوف أصح ، وبكر بن خنيس ضعفه غير واحد من الأئمة ، وتركه آخرون{[3945]} .

حديث آخر : قال محمد بن أبان البلخي : حدثنا وكيع ، حدثنا زمعة بن صالح ، عن ابن طاوس ، عن أبيه - وعن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن يزيد بن الهاد قالا قال عمر بن الخطاب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن " {[3946]} .

وقد رواه النسائي : حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، عن عثمان بن اليمان ، عن زمعة بن صالح ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن الهاد ، عن عمر قال : " لا تأتوا النساء في أدبارهن " {[3947]} .

وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم ، عن زمعة بن صالح ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن عبد الله بن الهاد الليثي قال : قال عمر رضي الله عنه : استحيوا من الله ، فإن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن{[3948]} . الموقوف أصح .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا غُنْدَر ومعاذ بن معاذ قالا حدثنا شعبة عن عاصم الأحول ، عن عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن طلق بن يزيد - أو يزيد بن طلق - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أستاههن " {[3949]} .

وكذا رواه غير واحد ، عن شعبة . ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عاصم الأحول ، عن عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن طلق بن علي ، والأشبه أنه علي بن طلق ، كما تقدم ، والله أعلم .

حديث آخر : قال أبو بكر الأثرم في سننه : حدثنا أبو مسلم الحَرَميّ ، حدثنا أخي أنيس بن إبراهيم{[3950]} أن أباه إبراهيم بن عبد الرحمن بن القعقاع أخبره ، عن أبيه أبي القعقاع ، عن ابن مسعود ،

رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " محاش النساء حرام " {[3951]} .

وقد رواه إسماعيل بن علية ، وسفيان الثوري ، وشعبة ، وغيرهم ، عن أبي عبد الله الشقري - واسمه سلمة بن تمام : ثقة - عن أبي القعقاع ، عن ابن مسعود - موقوفًا . وهو أصح .

طريق أخرى : قال ابن عدي : حدثنا أبو عبد الله المحاملي ، حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا محمد بن حمزة ، عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تأتوا النساء في أعجازهن " {[3952]} محمد بن حمزة هو الجزري وشيخه ، فيهما مقال .

وقد روي من حديث أبي بن كعب{[3953]} والبراء بن عازب ، وعقبة بن عامر{[3954]} وأبي ذر ، وغيرهم . وفي كل منها{[3955]} مقال لا يصح معه الحديث ، والله أعلم .

وقال الثوري ، عن الصَّلت بن بَهْرام ، عن أبي المعتمر ، عن أبي جويرية{[3956]} قال : سأل رجل عليا عن إتيان امرأة في دبرها ، فقال : سفلت ، سَفَّلَ الله بك ! ألم تسمع إلى قول الله عز وجل : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 80 ] .

وقد تقدم قول ابن مسعود ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وعبد الله بن عمرو في تحريم ذلك ، وهو الثابت بلا شك عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، أنه يحرمه .

قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الدارمي في مسنده : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، عن الحارث بن يعقوب ، عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري ، أنحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكر الدُّبر . فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟

وكذا رواه ابن وهب وقتيبة ، عن الليث ، به . وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك ، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم{[3957]} .

وقال ابن جرير : حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر{[3958]} حدثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن مالك بن أنس أنه قيل له : يا أبا عبد الله ، إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال : كذب العبد ، أو العلج ، على أبي [ عبد الله ]{[3959]} فقال مالك : أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر مثل ما قال نافع . فقيل له : فإن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار : أنه سأل ابن عمر فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن ؟ فقال : وما التحميض ؟ فذكر له الدبر . فقال ابن عمر : أف ! أف ! أيفعل ذلك مؤمن - أو قال : مسلم - فقال مالك : أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب ، عن ابن عمر ، مثل ما قال نافع{[3960]} .

وروى النسائي ، عن الربيع بن سليمان ، عن أصبغ بن الفرج الفقيه ، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال : قلت لمالك : إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب ، عن سعيد {[3961]} بن يسار ، قال : قلت لابن عمر : إنا نشتري الجواري ، فنحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ قلت : نأتيهن في أدبارهن . فقال : أف ! أف ! أو يعمل هذا مسلم ؟ فقال لي مالك : فأشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر ، فقال : لا بأس به{[3962]} .

وروى النسائي أيضًا من طريق يزيد بن رومان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن ابن عمر{[3963]} كان لا يرى بأسًا أن يأتي الرجل المرأة في دبرها{[3964]} .

وروى معن{[3965]} بن عيسى ، عن مالك : أنّ ذلك حرام .

وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري : حدثني إسماعيل بن حصين ، حدثني إسماعيل{[3966]} بن روح : سألت مالك بن أنس : ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن : قال : ما أنتم قوم عرب . هل يكون الحرث إلا موضع الزرع ، لا تعدو الفرج .

قلت : يا أبا عبد الله ، إنهم يقولون : إنك تقول ذلك ؟ ! قال : يكذبون علي ، يكذبون علي .

فهذا هو الثابت عنه ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة . وهو قول سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة ، وعكرمة ، وطاوس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد بن جبر{[3967]} والحسن وغيرهم من السلف : أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار ، ومنهم من يطلق على فاعله{[3968]} الكفر ، وهو مذهب جمهور العلماء .

وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة ، حتى حكوه عن الإمام مالك ، وفي صحته عنه نظر .

[ وقد روى ابن جرير في كتاب النكاح له وجمعه عن يونس بن عبد الأحوص بن وهب إباحته ]{[3969]} .

قال الطحاوي : روى أصبغ بن الفرج ، عن عبد الرحمن بن القاسم قال : ما أدركت أحدًا أقتدي به في ديني يشك أنه حلال . يعني وطء المرأة في دبرها ، ثم قرأ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } ثم قال : فأي شيء أبين من هذا ؟ هذه حكاية الطحاوي .

وقد روى{[3970]} الحاكم ، والدارقطني ، والخطيب البغدادي ، عن الإمام مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك . ولكن في الأسانيد ضعف شديد ، وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في جزء جمعه في ذلك ، فالله أعلم .

وقال الطحاوي : حكى لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء . والقياس أنه حلال . وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب ، عن أبي سعيد الصيرفي ، عن أبي العباس الأصم ، سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، سمعت الشافعي يقول . . . فذكر . قال أبو نصر الصباغ : كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو : لقد كذب - يعني ابن عبد الحكم - على الشافعي في ذلك فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة{[3971]} كتب من كتبه ، والله أعلم .

وقال القرطبي في تفسيره : وممن ينسب إليه هذا القول - وهو إباحة وطء المرأة في دبرها - سعيد ابن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون . وهذا القول في العتبية . وحكى ذلك عن مالك في كتاب له أسماه كتاب السر ، وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ، ومالك أجل من أن يكون له كتاب السر ووقع هذا القول في العتبية ، وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من رواية كثيرة من كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن هذا لفظه قال : وحكى الكيا الهراسي الطبري عن محمد بن كعب القرظي أنه استدل على جواز ذلك بقوله : { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ* وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } الشعراء : [ 165 ، 166 ] .

يعني مثله من المباح ثم رده بأن المراد بذلك من خلق الله لهم من فروج النساء لا أدبارهن قلت : وهذا هو الصواب وما قاله القرظي إن كان صحيحًا إليه فخطأ . وقد صنف الناس في هذه المسألة مصنفات منهم أبو العباس القرطبي وسمى كتابه إطهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار .

وقوله تعالى : { وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ } أي : من فعل الطاعات ، مع امتثال ما نهاكم عنه من ترك المحرمات ؛ ولهذا قال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ } أي : فيحاسبكم على أعمالكم جميعًا .

{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : المطيعين لله فيما أمرهم ، التاركين ما عنه{[3972]} زجرهم .

وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثني محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن عطاء - قال : أراه عن ابن عباس - : { وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ } قال : يقول : " باسم الله " ، التسمية عند الجماع .

وقد ثبت في صحيح البخاري ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال : باسم الله ، اللهم جَنِّبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا " {[3973]} .


[3870]:في جـ، أ، و: "ورواه مسلم وأبو داود".
[3871]:صحيح البخاري برقم (4528).
[3872]:في جـ: "عن".
[3873]:في جـ، أ، و: "في البيت".
[3874]:المسند (5/3) وسنن أبي داود برقم (2143) وسنن النسائي الكبرى برقم (9160).
[3875]:ورواه الطبري في تفسيره (4/413) والطبراني في المعجم الكبير (12/237) من طريق ابن لهيعة به.
[3876]:مشكل الآثار برقم (6118).
[3877]:في جـ: "بن خيثم".
[3878]:في أ: "بنت".
[3879]:في جـ: "وأنا".
[3880]:في جـ: "خيثم".
[3881]:المسند (6/304) وسنن الترمذي برقم (2979).
[3882]:في جـ: "خيثم".
[3883]:مسند أبي حنيفة برقم (102).
[3884]:في جـ: "العمى".
[3885]:المسند (1/297) وسنن الترمذي برقم (2980).
[3886]:المسند (1/268).
[3887]:في هـ: "شريح".
[3888]:مسند أبي يعلى (2/354) وقال الهيثمي في المجمع (6/319): "شيخه الحارث بن سريج، ضعيف كذاب" ولكنه توبع، تابعه يعقوب بن حميد، فرواه عن عبد الله بن نافع عن هشام، عن زيد بن أسلم به، أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (6118) وقد سبق.
[3889]:سنن أبي داود برقم (2164).
[3890]:في جـ: "وشهد".
[3891]:في حـ، أ، و: "أوقفه عليه".
[3892]:في جـ: "فيه".
[3893]:في جـ: "يشرخون".
[3894]:المعجم الكبير (11/77).
[3895]:في جـ: "فقال".
[3896]:بياض في جميع النسخ، وفي فتح الباري 8/130: "كذا وقع في جميع النسخ، لم يذكر ما بعد الظرف وهو المجرور، ووقع في الجمع بين الصحيحين للحميدي: يأتيها في الفرج. وهو من عنده بحسب ما فهمه" ومستفادا من هامش ط. الشعب.
[3897]:صحيح البخاري برقم (4526).
[3898]:تفسير الطبري (4/404).
[3899]:تفسير الطبري (4/406).
[3900]:سنن النسائي الكبرى برقم (8981).
[3901]:في جـ: "لما ولع".
[3902]:في جميع المخطوطات: "الفضل"، والصواب ما أثبتناه.
[3903]:في جـ، أ: "قال".
[3904]:في أ: "نجب".
[3905]:سنن النسائي الكبرى برقم (8978).
[3906]:في أ: "عن أبي زكريا".
[3907]:في أ: "عباس".
[3908]:في أ: "السير".
[3909]:في أ: "عباس".
[3910]:في جـ، أ: "عن سهل".
[3911]:ورواه الدارقطني في السنن (3/288) من طريق الحسن بن عرفة به.
[3912]:في جـ، أ: "عن عبد الله".
[3913]:المسند (5/215) وسنن النسائي الكبرى برقم (8985، 8986) وسنن ابن ماجة برقم (1924) وانظر الاختلاف فيه في: سنن النسائي (5/316 - 319).
[3914]:سنن الترمذي برقم (1165) وسنن النسائي الكبرى برقم (9001).
[3915]:صحيح ابن حبان برقم (1302) "موارد".
[3916]:سنن النسائي الكبرى برقم (9002).
[3917]:في جـ: "فقال".
[3918]:زيادة من جـ، أ، و.
[3919]:في هـ: "عن عكرمة" وهو خطأ.
[3920]:المسند (2/210).
[3921]:زوائد المسند (2/210).
[3922]:في جـ: "عمر".
[3923]:ورواه أبو الشيخ في مجلس من حديثه (62/1، 2)، وابن بشران في الأمالي (86/1، 2) من طرق عن عبد الرحمن بن زياد الأفريقي به. أ. هـ مستفادا من إرواء الغليل للألباني (8/59).
[3924]:ذكره ابن حجر في أطراف المسند (4/384) ولم أجده في المطبوع.
[3925]:زيادة من جـ، أ.
[3926]:ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (4/384) وسنن الترمذي برقم (1164).
[3927]:المسند (1/86).
[3928]:في أ، و: "عن أبي هريرة عن النبي".
[3929]:المسند (2/344) وسنن ابن ماجة برقم (1923).
[3930]:المسند (2/444) وسنن أبي داود برقم (2162) وسنن النسائي الكبرى برقم (9015).
[3931]:رواه أبو نعيم في جزء له عال عن أحمد بن القاسم بن الريان، قال الذهبي: "فيه ما ينكر".
[3932]:في جـ: "رواية"، وفي أ، و: "ورواه".
[3933]:المسند (2/408) وسنن أبي داود برقم (3904) وسنن الترمذي برقم (135) وسنن النسائي الكبرى برقم (9016) وسنن ابن ماجة برقم (639).
[3934]:زيادة من جـ، أ، وفي و: "حكيم الترمذي".
[3935]:التاريخ الكبير (3/17).
[3936]:سنن النسائي الكبرى برقم (9010).
[3937]:زيادة من جـ، أ، و.
[3938]:في جـ: "عن".
[3939]:في جـ، أ: "والنساء".
[3940]:سنن النسائي الكبرى برقم (9018).
[3941]:في جـ، أ، و: "امرأته".
[3942]:في جـ: "تلك"، وفي أ: "وذلك".
[3943]:سنن النسائي الكبرى برقم (9019).
[3944]:سنن النسائي الكبرى برقم (9021).
[3945]:رواه العقيلي في الضعفاء الكبير (1/149).
[3946]:ذكره الدارقطني في العلل (2/167) قال: "ولم يذكر طاوسا في حديث عمرو بن دينار، وقول عثمان بن اليمان أصحها".
[3947]:سنن النسائي الكبرى برقم (9008).
[3948]:سنن النسائي الكبرى برقم (9009).
[3949]:ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (4/384) من طريق غندر في مسند علي بن طلق، ولا أدري كيف وقع هنا يزيد بن طلق، وقد بين الحافظ الصواب في ذلك، والله أعلم.
[3950]:في أ: "أخي أنيس بن أبي تميم".
[3951]:ورواه الدولابي في الكنى (2/85).
[3952]:الكامل لابن عدي (3/206).
[3953]:حديث أبي بن كعب رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (5457) من طريق أبي قلابة، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب به
[3954]:حديث عقبة بن عامر رواه ابن عدي في الكامل (4/148) من طريق ابن لهيعة، عن مشرح بن هاعان، عن عقبة به.
[3955]:في أ: "منهما".
[3956]:في جـ: "عن أبي جرير به"، وفي أ: "عن أبي جويرة".
[3957]:في جـ، أ: "هذا الحكم".
[3958]:في جـ، أ، و: "أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر".
[3959]:زيادة من جـ.
[3960]:تفسير الطبري (4/405).
[3961]:في أ: "عن سفيان".
[3962]:سنن النسائي الكبرى برقم (8979).
[3963]:في أ، و: "أن عبد الله بن عمر".
[3964]:سنن النسائي الكبرى برقم (8980).
[3965]:في هـ: "معمر" والصواب ما أثبتناه من جـ، أ، و.
[3966]:في جـ، أ، و: "حدثني إسرائيل".
[3967]:في جـ: "بن جبير".
[3968]:في أ، و: "على فعله".
[3969]:زيادة من جـ، أ، و.
[3970]:في جـ: "وقد أورد".
[3971]:في جـ: "في ست".
[3972]:في أ: "ما عنهم".
[3973]:صحيح البخاري برقم (141).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 223 )

وقوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم } الآية( {[2119]} ) ، قال جابر بن عبد الله والربيع : سببها أن اليهود قالت : إن الرجل إذا أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، وعابت على العرب ذلك ، فنزلت الآية تتضمن الرد على قولهم( {[2120]} ) ، وقالت أم سلمة وغيرها : سببها أن قريشاً كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة ، فلما قدموا المدينة وتزوجوا أنصاريات أرادوا ذلك ، فلم ترده نساء المدينة إذ لم تكن عادة رجالهم إلا الإتيان على هيئة واحدة وهي الانبطاح ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وانتشر كلام الناس في ذلك ، فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث ، و { حرث } تشبيه ، لأنهنّ مزدرع الذرية ، فلفظة «الحرث » تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة ، إذ هو المزدرع( {[2121]} ) ، وقوله { أنى شئتم } معناه عند جمهور العلماء من صحابة وتابعين وائمة : من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب ، و { أنى } إنما تجيء سؤالاً أو إخباراً عن أمر له جهات ، فهي أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى ، هذا هو الاستعمال العربي( {[2122]} ) ، وقد فسر الناس { أنّى } في هذه الآية بهذه الألفاظ ، وفسرها سيبويه ب «كيف » ومن أين باجتماعهما ، وذهبت فرقة ممن فسرها ب «أين » إلى أن الوطء في الدبر جائز ، روي ذلك عن عبد الله بن عمر( {[2123]} ) ، وروي عنه خلافه وتكفير من فعله ، وهذا هو اللائق به ، ورويت الإباحة أيضاً عن ابن أبي مليكة ومحمد بن المنكدر ، ورواها مالك عن يزيد بن رومان عن سالم عن ابن عمر ، وروي عن مالك شيء في نحوه ، وهو الذي وقع في العتبية ، وقد كذب ذلك على مالك ، وروى بعضهم أن رجلاً فعل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم الناس فيه ، فنزلت هذه الآية .

قال القاضي أبو محمد : وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصنف النسائي وفي غيره أنه قال : «إتيان النساء في أدبارهن حرام » ، وورد عنه فيه أنه قال : «ملعون من أتى امرأة في دبرها »( {[2124]} ) ، وورد عنه أنه قال : «من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على قلب محمد »( {[2125]} ) ، وهذا هو الحق المتبع ، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه ، والله المرشد لا رب غيره( {[2126]} ) .

وقال السدي : معنى قوله تعالى : { وقدموا لأنفسكم } أي الأجر في تجنب ما نهيتم عنه وامتثال ما أمرتم به ، وقال ابن عباس : «هي إشارة إلى ذكر الله على الجماع » ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال : اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضي بينهما ولد لم يضره »( {[2127]} ) ، وقيل : معنى { قدموا لأنفسكم } طلب الولد ، { واتقوا الله } تحذير ، { واعلموا أنكم ملاقوه } خبر يقتضي المبالغة في التحذير ، أي فهو مجازيكم على البر والإثم( {[2128]} ) ، { وبشر المؤمنين } تأنيس لفاعلي البر ومتبعي سنن الهدى .


[2119]:- مجاز على التشبيه بالمحارث فشبهت النطفة التي تلقى في أرحامهن للاستيلاد بالبذور التي تلقى في المحارث للاستنبات. وقوله: [أنّى شئتم]، أي من أي جهة شئتم بعد أن يكون المأتي واحدا. ولهذا قيل: الحرث موضع النبت.
[2120]:- روى قول اليهود هذا الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر بن عبد الله.
[2121]:- تأتي (ازْدَرَع) بمعنى زرع، واحترث.
[2122]:- أي أنها تأتي لهذه المعاني الثلاثة، فتكون – ظرفا مكانيا بمعنى (أين) نحو: [يا مريم أنى لك هذا] أي من أين لك هذا ؟ وظرفا زمانيا بمعنى (متى) نحو: أنى جئت، أي متى جئت – واستفهامية بمعنى (كيف) نحو: [أنى يحيي هذه الله بعد موتها] أي كيف ؟ وهي في الآية لذلك كله.
[2123]:- وإنما نزلت الآية رخصة فيه، خرجه البخاري وغيره، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، وروي عنه خلاف ذلك وهو اللائق بمقامه رضي الله عنه، وأما ابن عباس فلم يرو عنه إلا التحريم.
[2124]:- رواه هو وما بعده أصحاب السنن: الترمذي والنسائي وأبو داود.
[2125]:- رواه أصحاب السنن، والإمام أحمد في مسنده، كما في الجامع الصغير بلفظ: (من أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد. وأشد من هذا من أتى ذكرا في دبره، ولعل المراد الزجر والتغليظ لا حقيقة الكفر الذي هو ضد الإيمان. والله أعلم.
[2126]:- والغالب عدم صحة ما يروى من الإباحة في هذه النازلة، وإنما هو شيء مدسوس من أصحاب الأغراض والشهوات، وأيا ما يكون صح أو لم يصح فلا ينبغي للإنسان أن يعرج على مثل هذا، والآية الكريمة ظاهرة في المنع، ويكفي أنه عمل لوطي، وكلام ابن عطية يوحي بهذه المعاني.
[2127]:- (لو) للتمني بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى لهم ذلك لينتفي عنهم ضرر الشيطان، والحديث أخرجه الشيخان، وأصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[2128]:- الضمير في قوله: [مُلاقُوه] – يجوز أن يعود على الله تعالى – أو على المفعول المحذوف الذي لقوله: (وقدِّموا) – وهو في الحالية على تقدير حذف مضاف – أي: ملاقو جزاءه – ويجوز أن يعود على الجزاء الدال عليه معمول (قدموا) المحذوف، وفي كل هذه التقديرات ردّ على من ينكر العبث – قاله (ح) في البحر المحيط 2- 172.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بذلك: نساؤكم مزدرع أولادكم، فأتوا مزدرعكم كيف شئتم، وأين شئتم، وإنما عنى بالحرث المزدَرَع، والحرث هو الزرع، ولكنهن لما كنّ من أسباب الحرث جعلن حرثا، إذ كان مفهوما معنى الكلام. عن ابن عباس:"فَأْتُوا حَرْثَكُمْ" قال: منبت الولد.

"فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ": فانكحوا مزدرع أولادكم من حيث شئتم من وجوه المأتى. والإتيان في هذا الموضع كناية عن اسم الجماع.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: "أنّى شِئْتُمْ"؛ فقال بعضهم: معنى أنّى: كيف... عن ابن عباس: يأتيها كيف شاء ما لم يكن يأتيها في دبرها أو في الحيض... مقبلة ومدبرة.

وقال آخرون: معنى: "أنّى شِئْتُمْ "من حيث شئتم، وأيّ وجه أحببتم. وقال آخرون: معنى قوله: "أنّى شِئْتُمْ" متى شئتم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أين شئتم، وحيث شئتم. وقال آخرون: معنى ذلك: ائتوا حرثكم كيف شئتم، إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا.

وأما الذين قالوا: معنى قوله: "أنّى شِئْتُمْ" كيف شئتم مقبلة ومدبرة في الفرج والقبل، فإنهم قالوا: إن الآية إنما نزلت في استنكار قوم من اليهود استنكروا إتيان النساء في أقبالهن من قِبَل أدبارهن. قالوا: وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من أن معنى ذلك على ما قلنا.

واعتلوا لقيلهم ذلك بما: حدثني به أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ" فقال ابن عباس: إن هذا الحيّ من قريش، كانوا يشرحون النساء بمكة، ويتلذّذون بهنّ مقبلات ومدبرات. فلما قدموا المدينة تزوّجوا في الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهنّ كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لم نكن نؤتى عليه، فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ" إن شئت فمقبلة وإن شئت فمدبرة وإن شئت فباركة، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث، يقول: ائت الحرث من حيث شئت.

والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: معنى قوله "أنّى شِئْتُمْ": من أيّ وجه شئتم، وذلك أنّ أنّى في كلام العرب كلمة تدل إذا ابتدئ بها في الكلام على المسألة عن الوجوه والمذاهب، فكأن القائل إذا قال لرجل: أنى لك هذا المال؟ يريد من أيّ الوجوه لك، ولذلك يجيب المجيب فيه بأن يقول: من كذا وكذا، كما قال تعالى ذكره مخبرا عن زكريا في مسألته مريم: "أنّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدَ اللّهِ" وهي مقاربة أين وكيف في المعنى، ولذلك تداخلت معانيها، فأشكلت «أنى» على سامعها ومتأوّلها حتى تأوّلها بعضهم بمعنى أين، وبعضهم بمعنى كيف، وآخرون بمعنى متى، وهي مخالفة جميع ذلك في معناها وهن لها مخالفات. وذلك أن «أين» إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال، وإنما يستدلّ على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها. ألا ترى أن سائلاً لو سأل آخر فقال: أين مالك؟ لقال بمكان كذا، ولو قال له: أين أخوك؟ لكان الجواب أن يقول: ببلدة كذا، أو بموضع كذا، فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله، فيعلم أن أين مسألة عن المحل. ولو قال قائل لآخر: كيف أنت؟ لقال: صالح أو بخير أو في عافية، وأخبره عن حاله التي هو فيها، فيعلم حينئذٍ أن كيف مسألة عن حال المسؤول عن حاله. ولو قال له: أنى يحيي الله هذا الميت؟ لكان الجواب أن يقال: من وجه كذا ووجه كذا، فيصف قولاً نظير ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال: "أنّى يُحْيى هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها" فعلاً حين بعثه من بعد مماته. فيجاء ب «أنّى» للمسألة عن الوجه وب«أين» للمسألة عن المكان، فكأنه قال: من أي وجه ومن أي موضع رجعك الطرب.

والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره: "فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ" كيف شئتم، أو تأوله بمعنى حيث شئتم، أو بمعنى متى شئتم، أو بمعنى أين شئتم أن قائلاً لو قال لآخر: أنى تأتي أهلك؟ لكان الجواب أن يقول: من قبلها أو من دبرها، كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم إذ سئلت: "أنّى لَكِ هَذَا" أنها قالت: "هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ". وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلوم أن معنى قول الله تعالى ذكره: "فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ" إنما هو: فأتوا حرثكم من حيث شئتم من وجوه المأتي، وأن ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل. وإذ كان ذلك هو الصحيح، فبين خطأ قول من زعم أن قوله: "فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ" دليل على إباحة إتيان النساء في الأدبار، لأن الدبر لا يحترث فيه، وإنما قال تعالى ذكره: حَرْث لَكُمْ فأتوا الحرث من أي وجوهه شئتم، وأيّ محترث في الدبر فيقال ائته من وجهه. وتبين بما بينا صحة معنى ما روي عن جابر وابن عباس من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين إذا أتى الرجل المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول.

"وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ".

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: قدموا لأنفسكم الخير. وقال آخرون: بل معنى ذلك وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ ذكْرَ الله عند الجماع وإتيان الحرث قبل إتيانه...عن ابن عباس: "وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ" قال: التسمية عند الجماع يقول بسم الله.

والذي هو أولى بتأويل الآية، هو أن قوله: "وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ" أمر من الله تعالى ذكره عباده بتقديم الخير، والصالح من الأعمال ليوم معادهم إلى ربهم، عدة منهم ذلك لأنفسهم عند لقائه في موقف الحساب، فإنه قال تعالى ذكره: "وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ" وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره عقب قوله: "وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ" بالأمر باتقائه في ركوب معاصيه، فكان الذي هو أولى بأن يكون الذي قبل التهديد على المعصية عاما الأمر بالطاعة عاما.

فإن قال لنا قائل: وما وجه الأمر بالطاعة بقوله: "وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ" من قوله: "نِساوكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ"؟ قيل: إن ذلك لم يقصد به ما توهمته، وإنما عنى به وقدّموا لأنفسكم من الخيرات التي ندبناكم إليها بقولنا: "يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ..." وما بعده من سائر ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجيبوا عنه مما ذكره الله تعالى ذكره في هذه الآيات، ثم قال تعالى ذكره: قد بينا لكم ما فيه رشدكم وهدايتكم إلى ما يرضي ربكم عنكم، فقدموا لأنفسكم الخير الذي أمركم به، واتخذوا عنده به عهدا لتجدوه لديه إذا لقيتموه في معادكم، واتقوه في معاصيه أن تقربوها وفي حدوده أن تضيعوها، واعلموا أنكم لا محالة ملاقوه في معادكم، فمجازٍ المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.

"وَاتّقُوا اللّهَ واعْلَمُوا أنّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشّر المُؤْمِنِينَ": وهذا تحذير من الله تعالى ذكره عباده أن يأتوا شيئا مما نهاهم عنه من معاصيه، وتخويف لهم عقابه عند لقائه، كما قد بينا قبل، وأمرٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يبشر من عباده بالفوز يوم القيامة، وبكرامة الاَخرة، وبالخلود في الجنة من كان منهم محسنا مؤمنا بكتبه ورسله وبلقائه، مصدقا إيمانه قولاً بعمله ما أمره به ربه، وافترض عليه من فرائضه فيما ألزمه من حقوقه، وبتجنبه ما أمره بتجنبه من معاصيه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فيه دليل النهي عن الاعتزال عنها، لأن المزرع إذا ترك سدى يضيع، ويخرب...

قوله: {أنكم ملاقوه} أي ملاقوا ربكم بوعده ووعيده.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} يعني طلب الولد، وقيل: التزوّج بالعفائف ليكون الولد صالحاً طاهراً، وقيل: هو لذم الإفراط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسّه النار إلاّ تحلّة القسم، فقيل: يا رسول الله اثنان، قال: واثنان، فقال: فظننا أن لو قيل واحد لقال واحد".

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَقَدِّموا لأَنْفُسِكُمْ} من الأعمال الصالحة ما ينفعكم يوم إفلاسكم، لذلك قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُّلاقُوهُ} فانظروا لأنفسكم بتقديم ما يسركم وجدانه عند ربكم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{حَرْثٌ لَّكُمْ} مواضع الحرث لكم. وهذا مجاز، شبهن بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور.

{فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} تمثيل، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم. لا تحظر عليكم جهة دون جهة، والمعنى: جامعوهن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحداً وهو موضع الحرث.

وقوله: {هُوَ أَذًى فاعتزلوا النساء}، {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}، {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة. وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدّبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم.

{واتقوا الله} فلا تجترئوا على المناهي {واعلموا أَنَّكُم ملاقوه} فتزوّدوا ما لا تفتضحون به {وَبَشّرِ المؤمنين} المستوجبين للمدح والتعظيم بترك القبائح وفعل الحسنات.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{واتقوا الله} تحذير، {واعلموا أنكم ملاقوه} خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم، {وبشر المؤمنين} تأنيس لفاعلي البر ومتبعي سنن الهدى.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{وبشر المؤمنين} أي: بحسن العاقبة في الآخرة، وفيه تنبيه على وصف الذي به يتقى الله ويقدّم الخير، ويستحق التبشير، وهو الإيمان. وفي أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبشير تأنيس عظيم ووعد كريم بالثواب الجزيل، ولم يأت بضمير الغيبة، بل أتى بالظاهر الدال على الوصف، ولكونه مع ذلك فصل آية. ولما ذكر تعالى تحريم نكاح من قام به وصف الإشراك، ذكر تحريم وطء من قام به في الحيض من المؤمنات، وغيَّا ذلك بالطهر كما غيَّا ما قبله بالإيمان، ثم أباح إذا تطهرن لنا الوطء لهنّ من حيث أمر الله وهو المكان الذي كان مشغولاً بالحيض، وأمرنا باجتناب وطئه في وقت الحيض، ثم نبه على مزية التائب والمتطهر بكونه تعالى يحبه، ولم يكتف بذلك في جملة واحدة حتى كرر ذلك في جملتين وأفرد كل وصف بمحبة فقال: إن الله يحب التوّابين ويحب المتطهرين. ثم ذكر تعالى إباحة الوطء للمرأة التي ارتفع عنها الحيض على الحالة التي يشاءها الزوج ويختارها، من كونها مقبلة أو مدبرة، أو مجنبة أو مضطجعة، ومن أي شق شاء، لما في التنقل من مزيد الالتذاذ، والاستمتاع بالنظر إلى سائر بدنها، والهيآت المحركة للباه.

ونبه بالحرث على أنه محل النسل، فدل ذلك على تحريم الوطء في الدبر لأنه ليس محل النسل، وإذا كانوا قد منعوا من وطء الحائض لما اشتمل عليه محل الوطء من الأذى بدم الحيض، فلأن يمنعوا من المحل الذي هو أكثر أذى أولى وأحرى، ولما كان قدم نهي وأمر في الآيات السابقة وفي هذا، ختم ذلك بالأمر بتقديم العمل الصالح، وأن ما قدّمه الإنسان إنما هو عائد على نفع نفسه، ثم أمر بتقوى الله تعالى، وأمر بأن يعلم ويوقن اليقين الذي لا شك فيه أنا ملاقو الله، فيجازينا على أعمالنا، وأمر نبيه أن يبشر المؤمنين، وهم الذين امتثلوا ما أمر به واجتنبوا ما نهى عنه، فكان ابتداء هذه الآيات بالتحذير عن معاطاة العصيان، واختتامها بالتبشير لأهل الإيمان آيات تعجز عن وصف ما تضمنته البدائع الألسن، ويذعن لفصاحتها الجهبذ اللسن، جمعت بين براعة اللفظ ونصاعة المعنى، وتعلق الجمل وتأنق المبنى، من سؤال وجواب، وتحذير من عقاب، وترغيب في ثواب، هدت إلى الصراط المستقيم، وتلقيت من لدن حكيم عليم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما بين سبحانه وتعالى المأتي في الآية السابقة نوع بيان أوضحه مشيراً إلى ثمرة النكاح الناهية لكل ذي لب عن السفاح فقال: {نساؤكم} أي اللاتي هن حل لكم بعقد أو ملك يمين ولما كان إلقاء النطفة التي يكون منها النسل كإلقاء البذر الذي يكون منه الزرع شبههن بالمحارث دلالة على أن الغرض الأصيل طلب النسل فقال مسمياً موضع الحرث باسمه موقعاً اسم الجزء على الكل موحداً لأنه جنس {حرث لكم} فأوضح ذلك.

قال الحرالي: ليقع الخطاب بالإشارة أي في الآية الأولى لأولي الفهم وبالتصريح أي في هذه لأولي العلم لأن الحرث كما قال بعض العلماء إنما يكون في موضع الزرع...

وفي تخصيص الحرث بالذكر وتعميم جميع الكيفيات الموصلة إليه بقوله: {فأتوا حرثكم} أي الموضع الصالح للحراثة {أنى شئتم} أي من أين وكيف إشارة إلى تحريم ما سواه لما فيه من العبث بعدم المنفعة. قال الثعلبي: الأدبار موضع الفرث لا موضع الحرث.

ولما كانت هذه أموراً خفية لا يحمل على صالحها وتحجر عن فاسدها إلا محض الورع قال: {وقدموا} أي أوقعوا التقديم.

ولما كان السياق للجمع وهو من شهوات النفس قال مشيراً إلى الزجر عن اتباعها كل ما تهوى: {لأنفسكم} أي من هذا العمل وغيره من كل ما يتعلق بالشهوات ما إذا عرض على من تهابونه وتعتقدون خيره افتخرتم به عنده وذلك بأن تصرفوا مثلاً هذا العمل عن محض الشهوة إلى قصد الإعفاف وطلب الولد الذي يدوم به صالح العمل فيتصل الثواب،

ولما كانت أفعال الإنسان في الشهوات تقرب من فعل من عنده شك احتيج إلى مزيد وعظ فقال: {واتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين ما يكرهه الملك الأعظم من ذلك وغيره وقاية من الحلال أو المشتبه.

وزاد سبحانه وتعالى في الوعظ والتحذير بالتنبيه بطلب العلم وتصوير العرض فقال: {واعلموا أنكم ملاقوه} وهو سائلكم عن جميع ما فعلتموه من دقيق وجليل وصالح وغيره فلا تقعوا فيما تستحيون منه إذا سألكم فهو أجل من كل جليل.

قال الحرالي: وفيه إشعار بما يجري في أثناء ذلك من الأحكام التي لا يصل إليها أحكام حكام الدنيا مما لا يقع الفصل فيه إلا في الآخرة من حيث إن أمر ما بين الزوجين سر لا يفشى... فأنبأ تعالى أن أمر ما بين الزوجين مؤخر حكمه إلى لقاء الله عز وجل حفيظة على ما بين الزوجين ليبقى سراً لا يظهر أمره إلا الله تعالى، وفي إشعاره إبقاء للمروة في أن لا يحتكم الزوجان عند حاكم في الدنيا وأن يرجع كل واحد منهما إلى تقوى الله وعلمه بلقاء الله...

ولما كان هذا لا يعقله حق عقله كل أحد أشار إلى ذلك بالالتفات إلى أكمل الخلق فقال عاطفاً على ما تقديره: فأنذر المكذبين فعلاً أو قولاً، قوله تعالى: {وبشر المؤمنين} أي الذين صار لهم الإيمان وصفاً راسخاً تهيؤوا به للمراقبة، وهو إشارة إلى أن مثل هذا من باب الأمانات لا يحجز عنه إلا الإخلاص في الإيمان والتمكن فيه.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

فهذه أوامر تدل على أن هنا شيئا يرغب فيه وشيئا يرغب عنه ويحذر منه؛

أما ما يرغب فيه فهو ما يقدم للنفس وهو ما ينفعها في المستقبل ولا أنفع للإنسان في مستقبله من الولد الصالح، فهو ينفعه في دنياه كما هو ظاهر، وفي دينه من حيث إن الوالد سبب وجوده وصلاحه، وقد ورد في الحديث أن الولد الصالح من عمل المرء الذي ينفعه دعاؤه بعد موته، ولا يكون الولد صالحا إلا إذا أحسن والداه تربيته، فالأمر بالتقديم للنفس، يتضمن الأمر باختيار المرأة الودود الولود التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وعملها، كما يختار الزراعة في الأرض الصالحة، التي يرجى نماء النبات فيها وإيتاؤه الغلة الجيدة، ويتضمن الأمر بحسن تربية الولد وتهذيبه.

وأما ما يحذر منه ويتقى الله فيه فهو إخراج النساء عن كونهن حرثا بإضاعة مادة النسل في المحيض أو بوضعها في غير موضع الحرث، وكذلك اختيار المرأة الفاسدة التربية وإهمال تربية الولد. فإن الأمر بالتقوى ورد بعد نهي عن إتيان النساء في المحيض والأمر بإتيانهن من حيث أمر الله تعالى وهو موضع الحرث والأمر بالتقديم لأنفسنا فوجب تفسير التقوى بتجنب مخالفة هذا الهدى الإلهي.

وقوله تعالى {واعلموا أنكم ملاقوه} إنذار للذين يخالفون عن أمره بأنهم يلاقون جزاء مخالفتهم في الآخرة كما يلاقونها في الدنيا، بفقد منافع الطاعة والامتثال وتجرع مرارة عاقبة المخالفة والعصيان.

ثم قرن إنذار العاصين بتبشير المطيعين فقال {وبشر المؤمنين} الذين يقفون عند الحدود ويتبعون هدى الله تعالى في أمر النساء والأولاد، وقد حذف ما به البشارة ليفيد أنه عام يشمل منافع الدنيا ونعيم الآخرة.

ولا يعزب عن فكر العاقل أن من يختار لنفسه المرأة الصالحة ولا يخرج في شأن الزوجية عن سنة الفطرة والشريعة في ابتغاء الولد، ثم إنه يحسن تربية ما يرزقه الله من ولد، فإنه يكون في الدنيا قرير العين بحسن حاله وحال أهله وسعادة بيته. وأما الذين تطغى بهم شهواتهم فتخرجهم عن الحدود والسنن فإنهم لا يسلمون من المنغصات والشقاء في حياتهم الدنيا، وهو في الآخرة أشقى وأضل سبيلا، وإنما سعادة الدارين في تكميل النفس بالاعتقاد الصحيح، والأخلاق المعتدلة، وتلك هي الفطرة السليمة.

والتعبير بالمؤمنين يشعر بأن العمل والامتثال والإذعان مما يتحقق به إيمان المؤمن وأن فائدة الإيمان بثمراته هذه، وإن شئت قلت بتمام أركانه وهي الاعتقاد والقول والفعل، كما ورد في الأحاديث الصحيحة المبينة للآيات الكريمة، والدامغة للذين يفصلون بين الاعتقاد والأعمال اللازمة له.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ثم قال: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} لم يذكر المبشر به ليدل على العموم، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وكل خير واندفاع كل ضير، رتب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة. وفيها محبة الله للمؤمنين، ومحبة ما يسرهم، واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

في هذا الظل يصور لونا من الوان العلاقة الزوجية يناسبه ويتسق مع خطوطه: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}.. وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك العلاقة في هذا الجانب، وإلى أهدافها واتجاهاتها. نعم! إن هذا الجانب لا يستغرق سائر العلاقات بين الزوج وزوجه. وقد جاء وصفها وذكرها في مواضع أخرى مناسبة للسياق في تلك المواضع. كقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}.. وقوله: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}.. فكل من هذه التعبيرات يصور جانبا من جوانب تلك العلاقة العميقة الكبيرة في موضعه المناسب. أما مناسبة السياق هنا فيتسق معها التعبير بالحرث. لأنها مناسبة إخصاب وتوالد ونماء. وما دام حرثا فأتوه بالطريقة التي تشاءون. ولكن في موضع الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث: {فأتوا حرثكم أنى شئتم}.. وفي الوقت ذاته تذكروا الغاية والهدف، واتجهوا إلى الله فيه بالعبادة والتقوى؛ فيكون عملا صالحا تقدمونه لأنفسكم. واستيقنوا من لقاء الله، الذي يجزيكم بما قدمتم: {وقدموا لأنفسكم. واتقوا الله. واعلموا أنكم ملاقوه}..

ثم يختم الآية بتبشير المؤمنين بالحسنى عند لقاء الله، وفي هذا الذي يقدمونه من الحرث، فكل عمل للمؤمن خير، وهو يتجه فيه إلى الله: {وبشر المؤمنين} هنا نطلع على سماحة الإسلام، الذي يقبل الإنسان كما هو، بميوله وضروراته، لا يحاول أن يحطم فطرته باسم التسامي والتطهر؛ ولا يحاول أن يستقذر ضروراته التي لا يد له فيها؛ إنما هو مكلف إياها في الحقيقة لحساب الحياة وامتدادها ونمائها! إنما يحاول فقط أن يقرر إنسانيته ويرفعها، ويصله بالله وهو يلبي دوافع الجسد. يحاول أن يخلط دوافع الجسد بمشاعر إنسانية أولا، وبمشاعر دينية أخيرا؛ فيربط بين نزوة الجسد العارضة وغايات الإنسانية الدائمة ورفرفة الوجدان الديني اللطيف؛ ويمزج بينها جميعا في لحظة واحدة، وحركة واحدة، واتجاه واحد، ذلك المزج القائم في كيان الإنسان ذاته، خليفة الله في أرضه، المستحق لهذه الخلافة بما ركب في طبيعته من قوى وبما أودع في كيانه من طاقات.. وهذا المنهج في معاملة الإنسان هو الذي يلاحظ الفطرة كلها لأنه من صنع خالق هذه الفطرة. وكل منهج آخر يخالف عنه في قليل أو كثير يصطدم بالفطرة فيخفق، ويشقى الإنسان فردا وجماعة. والله يعلم وأنتم لا تعلمون...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذه الجملة تذييل ثان لجملة: {فأتوهن من حيث أمركم الله} [البقرة: 222] قصد به الارتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لولا إرادة حفظهم من الأذى...

وتعتبر جملة {نساؤكم حرث} مقدِّمة لجملة {فأتوا حرثكم أنى شئتم} وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنّى شاءوا، والعلةُ قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة {فأتوا حرثكم أنى شئتم} ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة.

والحرث مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة تشق التراب ليزرع في شقوقه زريعة أو تغرس أشجار. وهو هنا مطلق على معنى اسم المفعول.

والحرث في هذه الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولاً لفعل {فأتوا حرثكم} وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه، وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل". والفاء في {فأتوا حرثكم أنى شئتم} فاء فصيحة لابتناء ما بعدها على تقرر أن النساء حرث لهم، لا سيما إذا كانوا قد سألوا عن ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال.

فالذي يتبادر من موقع الآية وتساعد عليه معاني ألفاظها أنها تذييل وارد بعد النهي عن قربان النساء في حال الحيض. فتحمل (أنى) على معنى متى ويكون المعنى فأتوا نساءكم متى شئتم إذا تطهرن فوزانها وزان قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} بعد قوله: {غير محلي الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 2].

أقول: قد أجمل كلام الله تعالى هنا، وأبهم وبين المبهمات بمبهمات من جهة أخرى لاحتمال {أمركم الله} معاني ليس معنى الإيجاب والتشريع منها، إذ لم يعهد سبق تشريع من الله في هذا... ثم أتبع بقوله: {يحب التوابين} [البقرة: 222] فربما أشعر بأن فعلاً في هذا البيان كان يرتكب والله يدعو إلى الانكفاف عنه وأتبع بقوله: {ويحب المتطهرين} فأشعر بأن فعلاً في هذا الشأن قد يلتبس بغيرِ التنزه والله يحب التنزه عنه، مع احتمال المحبة عنه لمعنى التفضيل والتكرمة مثل {يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين} [التوبة: 108]، واحتمالها لمعنى: ويبغض غير ذلك، ثم جاء ما هو كالدليل وهو قوله: {نساؤكم حرث لكم} فجعلن حرثاً على احتمال وجوه في الشبه؛ فقد يقال: إنه وكل للمعروف، وقد يقال: إنه جعل شائعاً في المرأة، فلذلك نيط الحكم بذات النساء كلها، ثم قال: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} فجاء بأنى المحتملة للكيفيات وللأمكنة وهي أصل في الأمكنة ووردت في الكيفيات، وقد قيل: إنها ترد للأزمنة فاحتمل كونها أمكنة الوصول من هذا الإتيان، أو أمكنة الورود إلى مكان آخر مقصود فهي أمكنة ابتداء الإتيان أو أمكنة الاستقرار فأُجمِل في هذا كله إجمالا بديعا وأثنى ثناء حسنا.

{وَقَدِّمُواْ لأنفُسِكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّكُم ملاقوه وَبَشِّرِ المؤمنين} عطف على جملة {فأتوا حرثكم} أو على جملة {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}. عطف الإنشاء على الخبر، على أن الجملة المعطوف عليها وإن كانت خبراً فالمقصود منها الأمر بالتوبة والتطهر؛ فكرر ذلك اهتماماً بالحرص على الأعمال الصالحة بعد الكلام على اللذائذ العاجلة. وحذف مفعول {وقدموا} اختصاراً لظهوره؛ لأن التقديم هنا إعداد الحسنات فإنها بمنزلة الثَّقَل الذي يقدمه المسافر.

وقوله: {لأنفسكم} متعلق ب {قدموا}، واللام للعلة أي لأجل أنفسكم أي لنفعها، وقوله: {واتقوا الله} تحريض على امتثال الشرع بتجنب المخالفة، فيدخل تحته التخلي عن السيئات والتحلي بالواجبات والقربات، فمضمونها أعم من مضمون جملة {وقدموا لأنفسكم} فلذلك كانت هذه تذييلاً.

وقوله: {واعلموا أنكم ملاقوه} يجمع التحذير والترغيب، أي فلاقوه بما يرضى به عنكم كقوله: {ووجد الله عنده} [النور: 39] وهو عطف على قوله: {واتقوا الله}.

والملاقاة: مفاعلة من اللقاء وهو الحضور لدى الغير بقصد أو مصادفة. وأصل مادة لقي تقتضي الوقوع بين شيئين فكانت مفيدة معنى المفاعلة بمجردها، فلذلك كان لقي ولاقى بمعنى واحد، وإنما أمرهم الله بعلم أنهم ملاقوه مع أن المسلمين يعلمون ذلك تنزيلاً لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن، ليزاد من تعليمهم اهتماماً بهذا المعلوم وتنافساً فيه

على أننا رأينا أن في افتتاح الجملة بكلمة: {اعلموا} اهتماماً بالخبر واستنصاتاً له وهي نقطة عظيمة...

وقد رتبت الجمل الثلاث الأول على عكس ترتيب حصول مضامينها في الخارج؛ فإن الظاهر أن يكون الإعلام بملاقاة الله هو الحاصل أولاً ثم يعقبه الأمر بالتقوى ثم الأمر بأن يقدموا لأنفسهم، فخولف الظاهر للمبادرة بالأمر بالاستعداد ليوم الجزاء، وأعقب بالأمر بالتقوى إشعاراً بأنها هي الاستعداد ثم ذكِّروا بأنهم ملاقو الله فجاء ذلك بمنزلة التعليل...

وقوله: {وبشر المؤمنين} تعقيب للتحذير بالبشارة، والمراد: المؤمنون الكاملون وهم الذين يسرون بلقاء الله كما جاء: « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» وذِكر هذه البشارة عقب ما تقدم إشارة إلى أن امتثال الأحكام المتقدمة من كمال الإيمان.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} في هذه الآية يشير الله سبحانه وتعالى إلى ثلاثة أمور:

أولها: بيان أن المقصد من الزواج ليس هو قضاء الوطر وإشباع الشهوة، فإن ذلك كما يكون في زواج شرعي يكون في المسافدة الحيوانية، إنما المقصد هو النسل وبقاء هذا الإنسان في الوجود على أكمل وجه، وتهذيب النشء بين أبويه وفي أحضانهما لتنمو غرائزه وتتهذب طبائعه، وتستيقظ ينابيع الخير فيه.

و ثاني هذه الأمور: أن ما يكون بين الزوجين اللذين جمعهما الله بكلمة الشرع وحكمه هو الأنس الروحي مع المتعة الجسدية، وإن ذلك ليقتضي زوال الكلفة، وأن يكون بينهما من المباسطة ما تسهل معه الحياة، ويكون في البيت تخفيف أعبائها، واستجمام القوى، ليستطيع تحمل تكليفاتها.

و ثالث هذه الأمور: أن الدين يجب أن يكون مسيطرا، ويجب أن تكون العدالة قائمة، والمودة حاكمة فيما بين الرجل والمرأة...

و قد أشير إلى الأمر الأول بقوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم} وأشير إلى الأمر الثاني بقوله تعالى: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} وأشير إلى الأمر الثالث بقوله تعالى: {و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين}...

وقد قال في وجه التشبيه الراغب الأصفهاني (بالنساء زرع ما فيه بقاء نوع الإنسان، كما أنه بالأرض زرع ما به بقاء أشخاصهم).

ففي الكلام إذن تشبيه الزوجة بالحرث، ووجه التشبيه الذي ذكره كان بين الزوجة وبين الأرض الخصبة المنتجة من حيث إن كليهما يمد الوجود الإنساني، فالزوجة تمده بعنصر تكوينه وإنشائه، والأرض تمده بالزرع الذي يكون به بقاؤه...

وكيفما كان توجيه التشبيه من الناحية اللفظية، فإن الجملة الكريمة ترمي إلى معنى كريم، وهو أن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست هي قضاء الوطر لإشباع الشهوة المجردة، بل هي تنظيم النسل فلا يصح للرجل الكامل الذي اتجهت به الإنسانية نحو الكمال أن ينظر إلى زوجه إلا على أنها مستودع سر الوجود الإنساني، وأنها مرمى ولده، وأن قطعة منه تتصل بها فيختلط وجوده بوجودها، وتخرج من رحمها وديعته، وقد امتزجت فيها عناصرهما وخواصهما وطبائعهما، وصارت صورة في الوجود لأشخاصهما، ومنازعهما، وإذا كانت الخلطة الفطرية قد أوجد الله بها ذلك المخلوق الذي يريان فيه أنفسهما موحدة متلاقية، فإن ذلك يتقاضاهما أو يحملهما على تنشئته على صورة لما يصبوان إليه من كمال، وإذا تقاصرت نفس أحدهما عن الآخر فقد يكون الاضطراب في تكوينه الخلقي، بل يكون نقص في تكميل نموه الجسمي.

و إذا كان ذلك بعض ما يشير إليه التعبير عن الأزواج بأنهن حرث، فإنه بلا شك يحث الرجل على أن يتخير موضع حرثه، كما يتخير موضع زرعه، فإنه لا يطلب لبذره إلا الخصبة القوية من الأرض، فكذلك لا يطلب إلا القوية من النساء في جسمها وخلقها ودينها، وطيب أرومتها، وكرم بيئتها، ليكون الولد قويا، ولينشأ نشأة كاملة تربي فيه قوة الجسم والخلق والدين والعقل، ولذا جاء في المأثور "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم "وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم وخضراء الدمن" وهي المرأة الجميلة التي نبتت في منبت سوء. فلا تطلب المرأة لجمالها ولمالها، ولا لجاه أسرتها، ولكن تطلب لدينها وخلقها، ولبيئتها الدينية الخلقية الطاهرة.

وقوله تعالى: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} يشير إلى المباسطة التي تكون بين الزوجين، وإبعاد ما يتكلفه الإنسان في لقاء الإنسان، فإن ذلك يزول عندما يكون الرجل مع زوجه، ويستروح راحة الحياة، ومودة العشرة الزوجية، فإن قوله: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} معناه قاربوا أو باشروا نساءكم كيفما شئتم. فكان قوله تعالى: [{فأتوا حرثكم أنى شئتم} مزيلا للتكلف، داعيا إلى المباسطة، ليكون ما بين الرجل والمرأة فيه استرواح للنفوس، واستجمام للقلوب،

وذكر الحرث في قوله سبحانه: {فأتوا حرثكم] للإشارة إلى أنه مع إباحة الاستمتاع الجسدي، والاسترواح النفسي، وإحلال المباسطة محل التكلف والتزمت، مع كل هذا لا ينسى المقصود الأصلي، وهو أن الغاية هو النسل والقيام على شئونه وتربيته، فإذا كانت الحياة الزوجية يزول فيها كل ما يحجب الإنسان عن الإنسان من ظواهر وأشكال، فإن لذلك غايتين ساميتين: إحداهما: النسل وتهذيبه والقيام على شئونه. و الثانية: الاستجمام والاستعداد بهذا الاستجمام للقيام بأعباء الحياة موفور القوى النفسية التي هي معين الصبر، وأساس الاحتمال.

{و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين} اشتملت هذه الجمل السامية على ثلاثة أوامر، وبشرى، أما الأوامر الثلاثة فهي {و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه}، وأما البشرى، فهي {و بشر المؤمنين.

و الأمر الأول: وهو قوله تعالى {و قدموا لأنفسكم} معناه اعملوا في حاضركم ما يكون لمستقبلكم ذخرا وعتادا، وقدموا من الأعمال الصالحة في الحاضر، ما يكون نفعا لكم في المستقبل، لأن من يعمل عملا صالحا في حاضره، يمكن للمستقبل الحسن لنفسه، وهذا المعنى عام يشمل كل عمل صالح، وكل بر يقدم عليه الإنسان، فهو حصن المستقبل، يقدمه لنفسه من بناء الحاضر على عماد مكين من الخير، وهو في هذه الآية يدل مع هذا العموم على معنى فيها على وجه الخصوص، وهو ما يتناسب مع الزواج وعشرة الأهل، والقيام على شئونهم، فالمعنى على هذا: قدموا لأنفسكم في أمر الزواج وما يثمره، بأن تختاروا عند الزواج ذات الخلق والدين والعفاف والاعتدال، حتى يكون لكم حياة هنيئة في حياتكم الزوجية، فمن اختار الزوج العفيفة ذات الدين فقد قدم لنفسه، ولمستقبله، وإذا أحسنتم الاختيار فاطلبوا النسل وقوموا على شئونه وتعهده بالخلق الجميل وبث الفضيلة في نفسه، فإن من قام على تربية ولده فقد قدم لنفسه، والولد عمل صالح لأبيه، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من بر يؤثر عنه، وولد صالح يذكره ويدعو له، وصدقة جارية مأثورة عنه، ثم إذا أحسنتم اختيار الزوج فأحسنوا عشرتها، وخذوها بالرفق والدين والفضيلة والمعاملة الحسنة والقيام بحقها، فإن من يفعل ذلك يقدم لنفسه، فإن المرأة إذا جمحت نغصت البيت، وكان العيش نكدا، فمن أحسن معاملة أهله فقد قدم لنفسه. و على هذا يكون لقوله تعالى: "وقدموا لأنفسكم" معنى عام يشمل كل خير، ويدخل في عمومه معنى خاص، وهو ما يتعلق بالزواج والعشرة الزوجية والولد.

و الأمر الثاني: قوله تعالى: {واتقوا الله} وله معنى عام هو أن يجعلوا بينهم وبين عصيان الله وقاية، ويخافوا الله سبحانه، ويجتنبوا المعاصي، والأذى، وظلم الحقوق، والاعتداء على الناس، وخصوصا الرقيق، ويدخل في هذا المعنى العام معنى خاص يتصل بموضوع الآيات الكريمة، وهو الزواج وما يثمره، وهو أن يتقي أذى العشير، وظلم المرأة، وهضمها حقوقها، وظلم الأولاد بعدم القيام على شئونهم، وحسن تربيتهم، وإن أذى المرأة ظلم ليس فوقه ظلم، وهو ظلمات يوم القيامة. وفي المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم، اتخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله".و كان آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أن يتقوا الله تعالى في المرأة والرقيق.

و الأمر الثالث: قوله {واعلموا أنكم ملاقوه} والإيمان بلقاء الله تعالى هو الذي يربي النفس على فعل الطاعات واجتناب المنهيات، وهو الذي يجعل الإنسان يطمئن إلى فعل الخير، إذ يعلم أن فيه رضوان الله، وهو سيلقاه، ويجنب نفسه فعل الشر، لأن فيه غضب الله، وسيلقاه، وسيجزيه الجزاء الأوفى، سيجزيه على الإحسان إحسانا، وعلى السوء سوءا، إنه بكل شيء عليم. وهذا المعنى عام في كل شئون الحياة، ويدخل في هذا العموم المعنى الخاص بالحياة الزوجية، وهو أن يراقب الله في معاملته لأهله وولده، وإن المرأة إن كانت بين يديه قد فقدت النصير، أو حيل بينها وبين نصرائها، فليعلم أن الله معها، وأنه عليه رقيب، وانه سيلاقيه وسيأخذه أخذ عزيز مقتدر، ومنتقم جبار، وأنه إن استبد به طغيانه فأكل حقوقها، وانحرفت فطرته فضيع أولاده، فإن الله عليه رقيب، وسيلقاه، ويجزيه على سوء ما صنع، وإذا أحسن العشرة، وقام بحق الله وحق الزوج وحق الولد، فأعطى كل ذي حق حقه، فإن الله سيلقاه، وسيجزيه من الخير بما قدمت يداه.

وإن هذه هي بشرى المؤمنين، وهي قوله تعالى: {وبشر المؤمنين} فالإيمان يتقاضى المؤمن أن يقوم بحق أهله وبحق ولده، وأن يكون حسن العشرة، وألا يهضم أهله، وإن لم يفعل فليس من الإيمان في شيء، والله ولي المتقين.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

لو أمعنا النظر في قوله سبحانه، لوجدنا فيه إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني. فالمرأة بموجب هذا التعبير ليست وسيلة لإطفاء الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النوع البشري...

وفي ختام هذه الآية تأمر بالتقوى وتقول: {واتّقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه وبشّر المؤمنين}. لمّا كانت المقاربة الجنسيّة تعتبر من المسائل المهمّة ومن أشد الغرائز إلحاحاً على الإنسان، فإنّ الله تعالى يدعو في هذه الآية الإنسان إلى الدقّة في أمر ممارسة هذه الغريزة والحذر من الانحراف، وتُنذر الجميع بأنّهم ملاقوا ربّهم وليس لهم طريق للنّجاة سوى الإيمان والتقوى.