{ 55 } { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
هذا من أوعاده{[570]} الصادقة ، التي شوهد تأويلها ومخبرها ، فإنه وعد من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة ، أن يستخلفهم في الأرض ، يكونون هم الخلفاء فيها ، المتصرفين في تدبيرها ، وأنه يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وهو دين الإسلام ، الذي فاق الأديان كلها ، ارتضاه لهذه الأمة ، لفضلها وشرفها ونعمته عليها ، بأن يتمكنوا من إقامته ، وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة ، في أنفسهم وفي غيرهم ، لكون غيرهم من أهل الأديان وسائر الكفار مغلوبين ذليلين ، وأنه يبدلهم من بعد خوفهم الذي كان الواحد منهم لا يتمكن من إظهار دينه ، وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار ، وكون جماعة المسلمين قليلين جدا بالنسبة إلى غيرهم ، وقد رماهم أهل الأرض عن قوس واحدة ، وبغوا لهم الغوائل .
فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية ، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها ، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي ، والأمن التام ، بحيث يعبدون الله ولا يشركون به شيئا ، ولا يخافون أحدا إلا الله ، فقام صدر هذه الأمة ، من الإيمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم ، فمكنهم من البلاد والعباد ، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها ، وحصل الأمن التام والتمكين التام ، فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة ، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة ، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح ، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله ، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين ، ويديلهم في بعض الأحيان ، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح .
{ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ْ } التمكين والسلطنة التامة لكم ، يا معشر المسلمين ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ْ } الذين خرجوا عن طاعة الله ، وفسدوا ، فلم يصلحوا لصالح ، ولم يكن فيهم أهلية للخير ، لأن الذي يترك الإيمان في حال عزه وقهره ، وعدم وجود الأسباب المانعة منه ، يدل على فساد نيته ، وخبث طويته ، لأنه لا داعي له لترك الدين إلا ذلك . ودلت هذه الآية ، أن الله قد مكن من قبلنا ، واستخلفهم في الأرض ، كما قال موسى لقومه : { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ْ } وقال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ }
ثم تركت السورة الكريمة الحديث عن المنافقين ، لتسوق وعد الله الذى لا يتخلف للمؤمنين الصادقين ، قال - تعالى - : { وَعَدَ الله . . . } .
قال الإمام ابن كثير : " هذا وعد من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أى : أئمة الناس والولاة عليهم ، وبهم تصلح البلاد ، وتخضع لهم العباد ، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك . . . فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح عليه مكة وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب ، ولهذا ثبت فى الصحيح عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها . . " .
وفى تصدير الآية الكريمة بقوله - تعالى - : { وَعَدَ الله . . } بشارة عظيمة للمؤمنين ، بتحقيق وعده - تعالى - ، إذ وعد الله لا يتخلف . كما قال - تعالى - : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، ومن بيانية ، والآية الكريمة مقررة لمضمون ما قبلها ، وهو قوله - تعالى - { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ . . . } أى : وعد الله - تعالى - بفضله وإحسانه ، الذين صدقوا فى إيمانهم من عباده ، والذين جمعوا مع الإيمان الصادق ، العمل الصالح ، وعدهم ليستخلفهم فى الأرض ، أى : ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف أصحاب العزة والسلطان والغلبة ، بدلا من أعدائهم الكفار .
قال الآلوسى : واللام فى قوله " ليستخلفنهم " واقعة فى جواب القسم المحذوف . ومفعول وعد الثانى محذوف دل عليه الجواب . أى : وعد الله الذين آمنوا استخلافهم ، وأقسم ليستخلفنهم . . . و " ما " فى قوله " كما استخلف " مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف . وقع صفة لمصدر محذوف ، أى : ليستخلفنهم استخلافا كائنا كاستخلافه " الذين من قبلهم " من الأمم المؤمنة ، الذين أسكنهم الله - تعالى - فى الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين .
هذا هو الوعد الأول للمؤمنين : أن يجعلهم - سبحانه - خلفاءه فى الأرض . كما جعل عباده الصالحين من قبلهم خلفاءه ، وأورثهم أرض الكفار وديارهم .
وأما الوعد الثانى فيتجلى فى قوله - تعالى - { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ } .
والتمكين : التثبيت والتوطيد والتمليك . يقال : تمكن فلان من الشىء ، إذا حازه وقدر عليه .
أى : وعد الله المؤمنين بأن يجعلهم خلفاءه فى أرضه ، وبأن يجعل دينهم وهو دين الإسلام الذى ارتضاه لهم . ثابتا فى القلوب ، راسخا فى النفوس . باسطا سلطانه على أعدائه ، له الكلمة العليا فى هذه الحياة ، ولمخالفيه الكلمة السفلى .
وأما الوعد الثالث فهو قوله - سبحانه - : " وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا " .
أى : وعدهم الله - تعالى - بالاستخلاف فى الأرض ، وبتمكين دينهم . وبأن يجعل لهم بدلا من الخوف الذى كانوا يعيشون فيه ، أمنا واطمئنانا ، وراحة فى البال ، وهدوءا فى الحال .
قال الربيع بن أنس عن أبى العالية فى هذه الآية : " كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين . يدعون إلى الله وحده . . . وهم خائفون ، فلما قدموا المدينة أمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين ، يمسون فى السلاح ويصبحون فى السلاح . فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله : " أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال صلى الله عليه وسلم لن تَغْبَرُوا - أى : لن تمكثوا - إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة " " .
وأنزل الله هذه الآية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فآمنوا ووضعوا السلاح . . .
ولكن هذا الاستخلاف والتمكين والأمان متى يتحقق منه - سبحانه - لعباده ؟
لقد بين الله - تعالى - الطريق إلى تحققه فقال { يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } فهذه الجملة الكريمة يصح أن تكون مستأنفة ، أى : جوابا لسؤال تقديره متى يتحقق هذا الاستخلاف والتمكين والأمان بعد الخوف للمؤمنين ؟ فكان الجواب : يعبدوننى عبادة خالصة تامة مستكملة لكل شروطها وآدابها وأركانها ، دون أن يشركوا معى فى هذه العبادة أحدا كائنا من كان .
كما يصح أن تكون حالا من الذين آمنوا ، فيكون المعنى : وعد الله - تعالى - عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، بالاستخلاف فى الأرض ، وبتمكين دينهم فيها . وبتبديل خوفهم أمنا ، فى حال عبادتهم له - سبحانه - عبادة لا يشوبها شرك أو رياء أو نقص .
وروى الإمام أحمد عن أبى بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة ، والدين والنصر والتمكين فى الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له فى الآخرة نصيب " . ذلك هو وعد الله - تعالى - لعباده الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ، وأدوا ما أمرهم به ، واجتنبوا ما نهاهم عنه ، أما الذين انحرفوا عن طريق الحق . وجحدوا نعمه - سبحانه - عليهم ، فقد بين عاقبتهم فقال : { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون } .
أى : ومن كفر بعد كل هذه النعم التى وعدت بها عبادى الصالحين ، واستعمل هذه النعم فى غير ما خلقت له ، فأولئك الكافرون الجاحدون هم الفاسقون عن أمرى ، الخارجون عن وعدى ، الناكبون عن صراطى .
وهكذا نرى الآية الكريمة قد جمعت أطراف الحكمة من كل جوانبها ، فقد رغبت المؤمنين فى إخلاص العبادة لله - تعالى - بأسمى ألوان الترغيب ، حيث بينت لهم أن هذه العبادة سيترتب عليها الاستخلاف والتمكين والأمان . ثم رهبت من الكفر والجحود ، وبينت أن عاقبتهما الفسوق والحرمان من نعم الله - تعالى - .
هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم{[21308]} . بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض ، أي : أئمةَ الناس والولاةَ عليهم ، وبهم تصلح{[21309]} البلاد ، وتخضع{[21310]} لهم العباد ، ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم ، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك . وله الحمد والمنة ، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها . وأخذ الجزية من مَجُوس هَجَر ، ومن بعض أطراف الشام ، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية - وهو المقوقس - وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة ، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة ، رحمه الله وأكرمه .
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة ، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق ، فَلَمّ شَعَث ما وَهَى عند{[21311]} موته ، عليه الصلاة والسلام{[21312]} وأطَّدَ جزيرة العرب ومهدها ، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، ففتحوا طرفا منها ، وقتلوا خلقا من أهلها . وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة ، رضي الله عنه ، ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام ، وثالثًا صحبة عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، إلى بلاد مصر ، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بُصرى ودمشق ومَخَاليفهما من بلاد حَوران وما والاها ، وتوفاه الله عز وجل ، واختار له ما عنده من الكرامة . ومَنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق ، فقام في الأمر بعده قياما تاما ، لم يَدُر الفلك بعد الأنبياء [ عليهم السلام ]{[21313]} على مثله ، في قوة سيرته وكمال عدله . وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها ، وديار مصر إلى آخرها ، وأكثر إقليم فارس ، وكَسَّر كسرى وأهانه غاية الهوان ، وتقهقر إلى أقصى مملكته ، وقَصَّر قيصر ، وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة ، وأنفق أموالهما في سبيل الله ، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله ، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة .
ثم لما كانت الدولة العثمانية ، امتدت المماليك{[21314]} الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك : الأندلس ، وقبرص ، وبلاد القيروان ، وبلاد سَبْتَةَ مما يلي البحر المحيط ، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين ، وقتل كسرى ، وباد ملكه بالكلية . وفتحت مدائن العراق ، وخراسان ، والأهواز ، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا ، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان ، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه . وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن ؛ ولهذا ثبت في الصحيح{[21315]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله زَوَى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها " {[21316]} فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، فنسأل{[21317]} الله الإيمان به ، وبرسوله ، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا .
قال الإمام مسلم بن الحجاج : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سَمُرَة قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا " . ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني{[21318]} فسألت أبي : ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : " كلهم من قريش " .
ورواه البخاري من حديث شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، به{[21319]} وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك ، وذكر معه أحاديث أخر{[21320]}
وهذا الحديث فيه دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلا وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر فإن كثيرًا من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء ، فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش ، يَلُون فيعدلون . وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة ، ثم لا يشترط أن يكون متتابعين ، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا ، وقد وُجِد منهم أربعة على الولاء ، وهم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، رضي الله عنهم . ثم كانت{[21321]} بعدهم{[21322]} فترة ، ثم وُجِد منهم ما شاء الله ، ثم قد يُوجَد منهم مَن بقي في وقت يعلمه الله . ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنيته كنيته ، يملأ الأرض عدلا وقسطا ، كما ملئت جورًا وظلما .
وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث سعيد بن جُمْهان ، عن سَفِينة - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[21323]} : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم يكون ملكا عَضُوضا " {[21324]} .
وقال الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } {[21325]} الآية ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة{[21326]} نحوا من عشر سنين ، يدعون إلى الله وحده ، وعبادته وحده لا شريك له سرًا وهم خائفون ، لا يؤمرون بالقتال ، حتى أمروا بعدُ بالهجرة إلى المدينة ، فقدموا المدينة ، فأمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين يُمْسُون في السلاح ويصبحون في السلاح ، فَغَيَّرُوا{[21327]} بذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من أصحابه{[21328]} قال : يا رسول الله ، أبدَ الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا [ فيه ]{[21329]} السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن تَغْبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليست فيهم حديدة " . وأنزل الله هذه الآية ، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله ، عز وجل ، قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا ، فأدخل [ الله ]{[21330]} عليهم الخوف فاتخذوا الحَجَزَةَ والشرط وغَيّروا ، فَغُيَّر بهم .
وقال بعض السلف : خلافة أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، حق في كتابه ، ثم تلا هذه الآية .
وقال البراء بن عازب : نزلت هذه الآية ، ونحن في خوف شديد .
وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الأنفال : 26 ] .
وقوله : { كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } كما قال تعالى عن موسى ، عليه السلام ، أنه قال لقومه : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] ، وقال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [ القصص : 5 ، 6 ] .
وقوله : { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم ، حين وفد عليه : " أتعرف الحيرة ؟ " قال{[21331]} : لم أعرفها ، ولكن قد{[21332]} سمعت بها . قال : " فوالذي نفسي بيده ، ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحِيرَة حتى
تطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز " . قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : " نعم ، كسرى بن هرمز ، وليُبذَلَنّ المالُ حتى لا يقبله أحد " . قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن افتتح{[21333]} كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ، لتكونن الثالثة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها{[21334]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن أبي سلمة ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بشر هذه الأمة بالسَّناء والرفعة ، والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب " {[21335]} .
وقوله : { يعبدونني لا يشركون بي شيئا } قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة عن أنس ، أن معاذ بن جبل حدثه قال : بينا{[21336]} أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرَّحْل ، قال : " يا معاذ " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسَعْديك . قال : ثم سار ساعة ، ثم قال : " يا معاذ بن جبل " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك . [ ثم سار ساعة ، ثم قال : " يا معاذ بن جبل " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك " ]{[21337]} . قال : " هل تدري ما حق الله على العباد " ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " [ فإن ]{[21338]} حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا " . قال : ثم سار ساعة . ثم قال : " يا معاذ بن جبل " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : " فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك " ؟ ، قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة{[21339]} .
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك ، فقد فَسَقَ عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبًا عظيما . فالصحابة ، رضي الله عنهم ، لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل ، وأطوعهم لله - كان نصرهم بحسبهم ، وأظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب ، وأيدهم تأييدًا عظيما ، وتحكموا في سائر العباد والبلاد . ولما قَصَّر الناس بعدهم في بعض الأوامر ، نقص ظهورهم بحسبهم ، ولكن قد ثبت في الصحيحين ، من غير وجه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى اليوم{[21340]} القيامة " وفي رواية : " حتى يأتي أمر الله ، وهم كذلك{[21341]} " . وفي رواية : " حتى يقاتلوا الدجال " . وفي رواية : " حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون " . وكل هذه الروايات صحيحة ، ولا تعارض بينها .
قرأ الجمهور «استخلَف » على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ أبو بكر عن عاصم والأعرج ، «استُخلِف » على بناء الفعل للمفعول ، وروي أن سبب هذه الآية أن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شكا جهد مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزلت هذه الآية عامة لأمة محمد عليه السلام ، وقوله { في الأرض } يريد في البلاد التي تجاورهم والأصقاع التي قضى بامتدادهم إليها ، و «استخلافهم » هو أن يملكهم ويجعلهم أهلها كما جرى في الشام وفي العراق وخراسان والمغرب ، وقال الضحاك في كتاب النقاش هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الخلافة بعدي ثلاثون سنة »{[8752]}
قال الفقيه الإمام القاضي : والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور ، واللام في قوله { ليستخلفنهم } لام القسم ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر «ليبَدّلنهم » بفتح الباء وشد الدال ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر والحسن وابن محيصن بسكون الباء وتخفيف الدال{[8753]} ، وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أصحابه : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تغبرون إلا قليلاً حتى يجلس الرجل منكم في الملأِ العظيم محتبياً ليس في حديدة »{[8754]} ، وقوله { يعبدونني } فعل مستأنف أي هم يعبدونني ، قوله { ومن كفر } يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون «الفسق » على هذا غير المخرج عن الملة ، قال بعض الناس في كتاب الطبري ظهر ذلك في قتلة عثمان رضي الله عنه ، ويحتمل أن يريد الكفر والفسق المخرجين عن الملة وهو ظاهر قول حذيفة بن اليمان فإنه قال كان على عهد النبي نفاق وقد ذهب ولم يبق إلا كفر بعد إيمان ،