{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ } ، أي : من مخلوقاته التي لا صنعة لكم فيها ، { ظِلَالًا } ، وذلك كأظلة الأشجار والجبال والآكام ونحوها ، { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } أي : مغارات تكنكم من الحر والبرد والأمطار والأعداء .
{ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } ، أي : ألبسة وثيابا ، { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ، ولم يذكر الله البرد ؛ لأنه قد تقدم أن هذه السورة أولها في أصول النعم ، وآخرها في مكملاتها ومتمماتها ، ووقاية البرد من أصول النعم ، فإنه من الضرورة ، وقد ذكره في أولها في قوله { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } .
{ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، أي : وثيابا تقيكم وقت البأس والحرب من السلاح ، وذلك كالدروع والزرد ونحوها ، كذلك يتم نعمته عليكم ، حيث أسبغ عليكم من نعمه ما لا يدخل تحت الحصر ، { لَعَلَّكُمْ } إذا ذكرتم نعمة الله ورأيتموها غامرة لكم من كل وجه ، { تُسْلِمُونَ } لعظمته وتنقادون لأمره ، وتصرفونها في طاعة موليها ومسديها ، فكثرة النعم من الأسباب الجالبة من العباد مزيد الشكر ، والثناء بها على الله تعالى ، ولكن أبى الظالمون إلا تمردا وعنادا .
وبعد الحديث عن نعمة البيوت والأنعام جاء الحديث عن نعمة الظلال والجبال واللباس ، فقال - تعالى - : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً . . . } .
والظلال : جمع ظل ، وهو ما يستظل به الإِنسان . أي : والله - تعالى - بفضله وكرمه جعل لكم ما تستظلون به من شدة الحر والبرد ، كالأبنية والأشجار ، وغير ذلك من الأشياء التي تستظلون بها . وقوله - تعالى - { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً . . . } نعمة ثانية ، والأكنان جمع كِن - بكسر الكاف - وأصله السُّتْرَةُ ، والجمع : أكنان وأَكِنَّة ، ومنه قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ . . . } ، أي : في أستار وأغطية فلا يصل إليها قولك . . .
والمراد بالأكنان هنا : المغارات والأسراب والكهوف المنحوتة في بطون الجبال . أي : وجعل لكم - سبحانه - من الجبال مواضع تستترون فيها من الحر أو البرد أو المطر ، أو غير ذلك من وجوه انتفاعكم بتلك الأكنان .
وقوله - سبحانه - : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } نعمة ثالثة . والسرابيل : جمع سربال ، وهي كل ما يتسربل به : أي : يلبسها الناس للتستر والوقاية كالقمصان والثياب والدروع وغيرها . أي : وجعل لكم من فضله وكرمه ملابس تتقون بها ضرر الحر وضرر البرد ، وملابس أخرى هي الدروع وما يشبهها - تتقون بها الضربات والطعنات التي تسدد إليكم في حالة الحرب .
وقال - سبحانه - : { تقيكم الحر } ، مع أنها تقي من الحر والبرد ، اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر ، أو اكتفى بذكر الحر لأنه الأهم عندهم ، إذ من المعروف أن بلاد العرب يغلب عليها الحر لا البرد .
قال صاحب الكشاف : لم يذكر البرد ؛ لأن الوقاية من الحر أهم عندهم ، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيرا محتملا ، وقيل : ما يقي من الحر يقي من البرد ، فدل ذكر الحر على البرد .
وقال القرطبى : قال العلماء : في قوله - تعالى - : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } ، دليل على اتخاذ الناس عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الأعداء . وقد لبسها النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه . . .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } ، أي : كذلك الإِتمام السابغ للنعم التي أنعم بها - سبحانه - على عباده يتم نعمته عليكم المتمثلة في نعم الدين والدنيا ، لعلكم بذلك تسلمون وجوهكم لله - عز وجل - ، وتدخلون في دين الإِسلام عن اختيار واقتناع ، فإن من شاهد كل هذه النعم ، لم يسعه إلا الدخول في الدين الحق .
وقوله : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا } ، قال قتادة : يعني : الشجر .
{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } ، أي : حصونا ومعاقل ، كما : { جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ، وهي : الثياب من القطن والكتان والصوف ، { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، كالدروع من الحديد المصفَّح والزَّرد وغير ذلك ، { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } ، أي : هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم ، وما تحتاجون إليه ، ليكون - عونًا لكم على طاعته وعبادته ، { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } ، هكذا فسره الجمهور ، وقرؤوه بكسر اللام من : " تسلمون " ، أي : من الإسلام . وقال قتادة في قوله : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ] }{[16621]} ، هذه السورة تسمى سورة النِّعَم . وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام ، عن حَنْظَلة السدوسي ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها " تَسلَمون " ، بفتح اللام ، يعني : من الجراح{[16622]} . رواه أبو عبيد القاسم بن سلام ، عن عباد ، وأخرجه ابن جرير من الوجهين ، وردَّ هذه القراءة{[16623]} .
وقال عطاء الخراساني : إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } ، وما جعل [ لكم ]{[16624]} من السهل أعظم وأكثر{[16625]} ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال{[16626]} ؟ ألا ترى إلى قوله : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } ، وما جعل لكم من غير ذلك أعظم منه وأكثر{[16627]} ، ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشَعَر ، ألا ترى إلى قوله : { وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } [ النور : 43 ] ، لعجبهم من ذلك ، وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر{[16628]} ، ولكنهم كانوا لا يعرفونه ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ، وما يقي من البرد أعظم وأكثر{[16629]} ، ولكنهم كانوا أصحاب حر .
{ والله جعل لكم مما خلق } ، من الشجر والجبل والأبنية وغيرها . { ظلالا } ، تتقون بها حر الشمس . { وجعل لكم من الجبال أكنانا } ، مواضع تسكنون بها من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها ، جمع كن . { وجعل لكم سرابيل } ، ثيابا من الصوف والكتان والقطن وغيرها . { تقيكم الحرّ } ، خصه بالذكر اكتفاء بأحد الضدين أو لأن وقاية الحر كانت أهم عندهم . { وسرابيل تقيكم بأسكم } ، يعني : الدروع والجواشن ، والسربال يعم كل ما يلبس . { كذلك } ، كإتمام هذه النعم التي تقدمت . { يتم نعمته عليكم لعلكم تُسلمون } ، أي : تنظرون في نعمه فتؤمنون به وتنقادون لحكمه . وقرئ : " تَسلمُون " ، من السلامة ، أي : تشكرون فتسلمون من العذاب ، أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك . وقيل : { تَسلمون } ، من الجراح بلبس الدروع .