{ 109 ، 110 } { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ }
يخبر تعالى عن يوم القيامة وما فيه من الأهوال العظام ، وأن الله يجمع به جميع الرسل فيسألهم : { مَاذَا أُجِبْتُمْ } أي : ماذا أجابتكم به أممكم .
ف { قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا } وإنما العلم لك يا ربنا ، فأنت أعلم منا . { إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } أي : تعلم الأمور الغائبة والحاضرة .
وبعد أن ساقت السورة الكريمة قبل ذلك ما ساقت من تشريعات حكيمة ومن تفصيل لأحوال أهل الكتاب وعقائدهم الزائفة . بعد كل ذلك اتجهت السورة في أواخرها إلى الكلام عن أحوال الناس يوم القيامة وعن معجزات عيسى - عليه السلام - وعن موقف الحواريين منه . قال - تعالى :
{ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أن عادة الله تعالى - جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام ، أتبعها إما بالإِلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة ، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر - فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع ، أتبعها بوصف أحوال القيامة .
أحدهما : أنها متصلة بما قبلها والتقدير : واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل - فيكون قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ } بدل اشتمال من قوله في الآية السابقة { واتقوا الله } والقول الثاني : أنها منقطعة عما قبلها والتقدير :
اذكروا { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } .
والمعنى : لقد سقنا لكم - أيها الناس - ما سقنا من الترغيب والترهيب وبينا لكم ما بينا من الأحكام والآداب ، فمن الواجب عليهك أن تتقوا الله وأن تحذروا عقابه ، وأن تذكروا ذلك اليوم الهائل الشديد يوم يجمع الله الرسل الذين أرسلهم إلى مختلف الأقوام . في شتى الأمكنة والأزمان فيقول لهم : ماذا أجبتم من أقوامكم ؟
أي : ما الإِجابة التي أجابكم بها أقوامكم ؟
وخص - سبحانه - الرسل بالذكر - مع أن الرسل وغيرهم سيجمعون للحساب يوم القيامة - لإِظهار شرفهم وللإِيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم من الأقوام لأن هؤلاء الأقوام إنما هم تبع لهم .
وقال - سبحانه - { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } ولم يقل - مثلا - " هل بلغتم رسالتي أولا " ؟ للإِشعار بأن الرسل الكرام قد بلغوا رسالة الله على أكمل وجه وأن الذين خالفوهم من أقوامهم سيتحملون وزر مخالفتهم يوم القيامة .
وقوله : { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } حكاية لاجابة الرسل فإن قيل : لماذا نفوا عن أنفسهم لاعلم مع أن عندهم بعض العلم ؟ فالجواب على ذلك أن هذا من باب التأديب مع الله - تعالى - فكأنهم يقولون : لا علم لنا يذكر بجانب عليمك المحيط بكل شيء ، ونحن وإن كنا قد عرفنا ما أجابنا به أقوامنا ، إلا أن معرفتنا هذه لا تتعدى الظواهر ، أما علمك أنت - يا ربنا - فشامل للظواهر والبواطن ، أو أنهم قالوا ذلك إظهارا للتشكي والالتجاء إلى الله ليحكم بينهم وبين أقوامهم الذين كذبوهم . أو أن مرادهم لا علم لنا بما كان منهم بعد أن فارقناهم وفارقنا من جاء بعدنا من الناس ، لأن علمنا مقصور على حال من شاهدناهم وعاصرناهم .
ورحم الله صاحب الكشاف قد حكى هذه الأقوال وغيرها بأسلوبه البليغ فقال :
فإن قلت : ما معنى سؤالهم ؟ قلت : توبيخ قومهم . كما كان سؤال الموءودة توبيخا للوائد . فإن قلت : كيف يقولون : " لا علم لنا وقد عملوا بما أجيبوا ؟ " .
قلت : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم - أي : بما ابتلوا به منهم - ، وكابدوا من سوء إجابتهم ، إظهارا للتشكي واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم ، وذلك أعظم على الكفرة ، وأفت في أعضادهم ، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم ، إذا اجتمع توبيخ الله لهم وتشكى أنبيائه منهم . ومثاله : أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة ، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه . فجمع بينهما ويقول له : ما فعل بك هذا الخارجي ؟ - وهو عالم بما فعل به - يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول له : أنت أعلم بما فعل بي ، تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه ، وإظهارا للكشاية وتعظيما لما حل به منه - ولله المثل الأعلى - وقيل : من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب ، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم .
وقيل معناه : علمنا ساقط مع علمك ومغمور ، لأنك علام الغيوب ، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي فيها إجابة الأمم لرسلهم .
وقيل معناه : " لا علم لنا بما كان منهم بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة ، وكيف يخفي عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجه موبخين " .
وهذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة ، عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم ، كما قال تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] وقال تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] .
وقول الرسل : { لا عِلْمَ لَنَا } قال مجاهد ، والحسن البصري ، والسُّدِّي : إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم .
قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن مجاهد : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } فيفزعون فيقولون : { لا عِلْمَ لَنَا } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا حَكَّام ، حدثنا عَنْبَسَة قال : سمعت شيخًا يقول : سمعت الحسن يقول في قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } الآية ، قال : من هول ذلك اليوم .
وقال أسباط ، عن السُّدِّي : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا } ذلك : أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول ، فلما سئلوا قالوا : { لا عِلْمَ لَنَا } ثم نزلوا منزلا آخر ، فشهدوا على قومهم . رواه ابن جرير .
ثم قال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جُرَيْج قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } ماذا عملوا بعدكم ؟ وماذا أحدثوا بعدكم ؟ قالوا : { لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } يقولون للرب ، عز وجل : لا علم لنا ، إلا علم أنت أعلم به منا .
رواه ابن جرير . ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة{[10520]} ولا شك أنه قول حسن ، وهو من باب التأدب مع الرب ، عز وجل ، أي : لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن كنا قد أجبنا وعرفنا من أجابنا ، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره ، لا علم لنا بباطنه ، وأنت العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء . فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا عِلْم ، فإنك { أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ } . .
يقول تعالى ذكره : واتقوا الله أيها الناس ، واسمعوا وَعْظَه إيَّاكم وتذكيرَه لكم ، واحذروا يوم يجمع الله الرسل . ثم حذف «واحذروا » واكتفى بقوله : " وَاتّقُوا اللّهَ واسمَعُوا " عن إظهاره ، كما قال الراجز :
عَلَفْتُها تِبْنا وَماءً بارِدا ***حتى غَدَتْ هَمّالَةً عَيْناها
يريد : وسقيتها ماء باردا ، فاستغنى بقوله «علفتها تبنا » من إظهار سقيتها ، إذ كان السامع إذا سمعه عرف معناه . فكذلك في قوله : " يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ حذف «واحذروا » لعلم السامع معناه ، اكتفاء بقوله : واتّقُوا اللّهَ واسمَعُوا إذ كان ذلك تحذيرا من أمر الله تعالى خلقه عقابه على معاصيه .
وأما قوله : " ماذَا أُجِبْتُمْ " فإنه يعني به : ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى توحيدي والإقرار بي والعمل بطاعتي والانتهاء عن معصيتي ؟ قالوا : لا علم لنا .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى قولهم : " لا عِلْمَ لَنا " لم يكن ذلك من الرسل إنكارا أن يكونوا كانوا عالمين بما عملت أممهم ، ولكنهم ذهلوا عن الجواب من هول ذلك اليوم ، ثم أجابوا بعد أن ثابت إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ ماذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا " قال : ذلك أنهم لما نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول ، فلما سئلوا ، قالوا : لا علم لنا . ثم نزلوا منزلاً آخر ، فشهدوا على قومهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، قال : سمعت الحسن يقول ، في قوله : " يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ . . . . " الاية ، قال : من هول ذلك اليوم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن الأعمش ، عن مجاهد في قوله : " يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ ماذَا أُجِبْتُمْ " فيفزعون ، فيقول : ماذا أجبتم ؟ فيقولون : " لا عِلْمَ لَنا " .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا علم لنا إلا ما علمتنا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : " يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ ماذَا أُجِبْتُمْ " فيقولون : " قالُوا لا عِلْمَ لَنا إلاّ ما عَلّمْتَنا إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ " .
وقال آخرون : معنى ذلك : قالوا لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ ماذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا " إلا علم أنت أعلم به منا .
وقال آخرون : معنى ذلك ماذَا أُجِبْتُمْ : ماذا عملوا بعدكم ؟ وماذا أحدثوا ؟
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ ماذَا أُجِبْتُمْ " : ماذا عملوا بعدكم ، وماذا أحدثوا بعدكم ؟ قالوا : " قالُوا لا عِلْمَ لَنا إلاّ مَا عَلّمْتَنا إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ " .
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : معناه : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا ، لأنه تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم قالوا : " لا عِلْمَ لَنا إلاّ مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ " : أي أنك لا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره من خفي العلوم وجليها . فإنما نفى القوم أن يكون لهم بما سئلوا عنه من ذلك علم لا يعلمه هو تعالى ذكره ، لا أنهم نفوا أن يكونوا علموا ما شاهدوا ، كيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ، وهو تعالى ذكره يخبر عنهم أنهم يخبرون بما أجابتهم به الأمم ، وأنهم سيشهدون على تبليغهم الرسالة شهداء ، فقال تعالى ذكره : " وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا " .
وأما الذي قاله ابن جريج من أن معناه : ماذا عملت الأمم بعدكم ؟ وماذا أحدثوا ؟ فتأويل لا معنى له ، لأن الأنبياء لم يكن عندها من العلم بما يحدث بعدها إلا ما أعلمها الله من ذلك ، وإذا سئلت عما عملت الأمم بعدها والأمر كذلك فإنما يقال لها : ماذا عرّفناك أنه كائن منهم بعدك ؟ وظاهر خبر الله تعالى ذكره عن مسألته إياهم يدلّ على غير ذلك .
جملة { يوم يجمع الله الرّسُلَ } استئناف ابتدائي متّصل بقوله : { فأثابهم الله بما قالوا } إلى قوله { وذلك جزاء المحسنين } [ المائدة : 85 ] . وما بينهما جمل معترضة نشأ بعضها عن بعض ، فعاد الكلام الآن إلى أحوال الذين اتّبعوا عيسى عليه السلام ، فبدّل كثير منهم تبديلاً بلغ بهم إلى الكفر ومضاهاة المشركين ، للتذكير بهول عظيم من أهوال يوم القيامة تكون فيه شهادة الرسل على الأمم وبراءتهم ممّا أحدثه أممهم بعدهم في الدين ممّا لم يأذن به الله ، والتخلّص من ذلك إلى شهادة عيسى على النصارى بأنّه لم يأمرهم بتأليهه وعبادته . وهذا متّصل في الغرض بما تقدّم من قوله تعالى : { ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى } [ المائدة : 82 ] . فإنّ في تلك الآيات ترغيباً وترهيباً ، وإبعاداً وتقريباً ، وقع الانتقال منها إلى أحكام تشريعية ناسبت ما ابتدعه اليهود والنصارى ، وذلك من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] وتفنّن الانتقال إلى هذا المبلغ ، فهذا عود إلى بيان تمام نهوض الحجّة على النصارى في مشهد يوم القيامة . ولقد جاء هذا مناسباً للتذكير العامّ بقوله تعالى : { واتّقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين } [ المائدة : 108 ] . ولمناسبة هذا المقام التزم وصف عيسى بابن مريم كلّما تكرّر ذكره في هذه الآيات أربع مرات تعريضاً بإبطال دعوى أنّه ابن لله تعالى .
ولأنّه لمّا تمّ الكلام على الاستشهاد على وصايا المخلوقين ناسب الانتقال إلى شهادة الرسل على وصايا الخالق تعالى ، فإنّ الأديان وصايا الله إلى خلقه . قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى } [ الشورى : 13 ] . وقد سمّاهم الله تعالى شهداء في قوله : { فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] .
فقوله : { يوم يجمع } ظرف ، والأظهر أنه معمول لعامللٍ محذوف يقدّر بنحو : اذكر يوم يجمع الله الرسل ، أو يقدّر له عامل يكون بمنزلة الجواب للظرف ، لأنّ الظرف إذا تقدّم يعامل معاملة الشرط في إعطائه جواباً . وقد حذف هذا العامل لتذهب نفس السامع كلّ مذهب ممكن من التهويل ، تقديره يوم يجمع الله الرسل يكون هول عظيم لا يبلغه طُولُ التعبير فينبغي طيّه . ويجوز أن يكون متعلّقاً بفعل { قالوا لا علم لنا . . . } الخ ، أي أنّ ذلك الفعل هو المقصود من الجملة المستأنفة . وأصل نظم الكلام : يجمع الله الرسل يوم القيامة فيقول الخ . فغيّر نظم الكلام إلى الأسلوب الذي وقع في الآية للاهتمام بالخبر ، فيفتتح بهذا الظرف المهول وليوردَ الاستشهاد في صورة المقاولة بين الله والرسل . والمقصود من الكلام هو ما يأتي بقوله : { وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس }
[ المائدة : 116 ] وما بينهما اعتراض . ومن البعيد أن يكون الظرف متعلّقاً بقوله : { لا يهدي القوم الفاسقين } [ المائدة : 108 ] لأنّه لا جدوى في نفي الهداية في يوم القيامة ، ولأنّ جزالة الكلام تناسب استئنافه ، ولأنّ تعلّقه به غير واسع المعنى .
ومثله قول الزجّاج : إنّه متعلّق بقوله : { واتّقوا الله } [ المائدة : 108 ] على أنّ { يوم } مفعول لأجله ، وقيل : بدل اشتمال من اسم الجلالة في قوله : { واتّقوا الله } [ المائدة : 108 ] لأنّ جمع الرسل ممّا يشمل عليه شأن الله ، فالاستفهام في قوله : { ماذا أجبتم } مستعمل في الاستشهاد . ينتقل منه إلى لازمه ، وهو توبيخ الذين كذّبوا الرسل في حياتهم أو بدّلوا وارتدّوا بعد مماتهم .
وظاهر حقيقة الإجابة أنّ المعنى : ماذا أجابكم الأقوام الذين أرسلتم إليهم ، أي ماذا تلقّوا به دعواتكم ، حملاً على ما هو بمعناه في نحو قوله تعالى : { فما كان جواب قومه } [ النمل : 56 ] . ويحمل قول الرسل : { لا علم لنا } على معنى لا علم لنا بما يضمرون حين أجابوا فأنت أعلم به منّا . أو هو تأدّب مع الله تعالى لأنّ ما عدا ذلك ممّا أجابت به الأمم يعلمه رسلهم ؛ فلا بدّ من تأويل نفي الرسل العلم عن أنفسهم وتفويضهم إلى علم الله تعالى بهذا المعنى . فأجمع الرسل في الجواب على تفويض العلم إلى الله ، أي أنّ علمك سبحانك أعلى من كلّ علم وشهادتك أعدل من كلّ شهادة ، فكان جواب الرسل متضمّناً أموراً : أحدها : الشهادة على الكافرين من أممهم بأنّ ما عاملهم الله به هو الحقّ . الثاني : تسفيه أولئك الكافرين في إنكارهم الذي لا يجديهم . الثالث : تذكير أممهم بما عاملوا به رسلهم لأنّ في قولهم : { إنّك أنت علاّم الغيوب } ، تعميماً للتذكير بكلّ ما صدر من أممهم من تكذيب وأذى وعناد . ويقال لمن يَسأل عن شيء لا أزيدك علماً بذلك ، أو أنت تعرف ما جرى . وإيراد الضمير المنفصل بعد الضمير المتّصل لزيادة تقرير الخبر وتأكيده .
وعن ابن الأنباري تأويل قول الرسل { لا علم لنا } بأنّهم نفوا أن يكونوا يعلمون ما كان من آخر أمر الأمم بعد موت رسلهم من دوام على إقامة الشرائع أو التفريط فيها وتبديلها فيكون قول الرسل { لا علم لنا } محمولاً على حقيقته ويكون محمل { ماذا } على قوله : { ماذا أجبتم } هو ما أجيبوا به من تصديق وتكذيب ومن دوام المصدّقين على تصديقهم أو نقض ذلك ، ويعضّد هذا التأويل ما جاء بعد هذا الكلام من قوله تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله } ، وقولُ عيسى عليه السلام { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم } الآية فإنّ المحاورة مع عيسى بعض من المحاورة مع بقية الرسل . وهو تأويل حسن .
وعبّر في جواب الرسل ب { قالوا } المفيد للمضي مع أنّ الجواب لم يقع ، للدلالة على تحقيق أنّه سيقع حتى صار المستقبل من قوة التحقّق بمنزلة الماضي في التحقّق .
على أنّ القول الذي تحكى به المحاورات لا يلتزم فيه مراعاة صيغته لزمان وقوعه لأنّ زمان الوقوع يكون قد تعيّن بقرينة سياق المحاورة .
وقرأ الجمهور { الغيُوب } بضم الغين . وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم بكسر الغين وهي لغة لدفع ثقل الانتقال من الضمّة إلى الباء ، كما تقدّم في بيوت في قوله تعالى { فأمسكوهنّ في البيوت } من سورة النساء ( 15 ) .
وفصل { قالوا } جرياً على طريقة حكاية المحاورات ، كما تقدّم في قوله { وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة ( 30 ) .