{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا }
هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق . وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين ، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر ، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، أهلِ الرأي : والعلم والنصح والعقل والرزانة ، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها . فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك . وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة{[216]} أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته ، لم يذيعوه ، ولهذا قال : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي : يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة .
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله ، ولا يتقدم بين أيديهم ، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ . وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها ، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه ، هل هو مصلحة ، فيُقْدِم عليه الإنسان ؟ أم لا ، فيحجم عنه ؟
ثم قال تعالى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي : في توفيقكم وتأديبكم ، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون ، { لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل ، فلا تأمره نفسه إلا بالشر . فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك ، لطف به ربه ووفقه لكل خير ، وعصمه من الشيطان الرجيم .
ثم حكى القرآن بعد ذلك مسلكا آخر من المسالك الذميمة التى عرفت عن المنافقين وضعفاء النفوس فقال - تعالى - { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ } .
والمراد بالأمر هنا : الخبر الذى يكون له أثر إذا أشيع وأذيع .
وقوله { أَذَاعُواْ بِهِ } أى نشروه وأشاعوه . يقال : أذاع الخبر وأذاع به أفشاه وأعلنه .
والمعنى : أن هؤلاء الذين فى قلوبهم مرض إذا سمعوا شيئا من الآخبار التى تتعلق بأمن المسلمين أو خوفهم أذاعواها وأظهروها قبل أن يقفوا على حقيقتها .
قال الآلوسى : والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين ، أو لبيان جناية الضعفاء أثر بيان جناية المنافقين ، وذلك أنهم كانوا إذا غزت سرية من المسلمين قالوا عنها : أصاب المسلمون من عدوهم كذا . وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا من غير أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم هو الذى يخبرهم به . وقيل : كان الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين .
ثم بين - سبحانه - ما كان يجب عليهم فعله فقال - : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } .
والمراد بأولى الأمر : كبار الصحابة البصراء بالأمور . وقيل المراد بهم : الولاة وأمراء السرايا .
ويستبطونه أى يستخرجونه . والاستنباط - كما يقول القرطبى - مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته . والنبط : الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر . وسمى النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما فى الأرض .
والمعنى : أن هؤلاء المنافقين وضعاف الإِيمان كان من شأنهم وحالهم أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن أو خوف يتعلق بالمؤمنين أشاعوه وأظهروه بدون تحقق أو تثبت ، بقصد بليلة الأفكار ، واضطراب حال المؤمنين ، ولو أن هؤلاء المنافقين ومن يستمعون إليهم ردوا ذلك الخبر الذى جاءهم والذى أشاعوا بدون تثبت ، لو أنهم ردوه الى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى كبار الصحابة البصراء فى الأمور : { لَعَلِمَهُ } أى لعلم حقيقة ذلك الخبر { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ } أى : الذين يستخرجونه ويستعملونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون للأخبار { مِنْهُمْ } أى : من الرسول وأولى الأمر .
أى : لو أن أولئك المنافقين وأشباههم الذين يستخرجون الأخبار ويذيعونها بغير تثبت سكتوا عن إذاعتها وردوا الأمر فى شأنها إلى الرسول وإلى كبار أصحابه ، لو أنهم فعلوا ذلك لعلموا من جهة الرسول وجهة كبار أصحابه حقيقة تلك الأخبار ، وما يجب عليهم نحوها من كتمان أو إذاعة .
وعلى هذا يكون الضمير فى قوله { مِنْهُمْ } فى الموضعين يعود إلى الرسول وإلى أولى الأمر .
ويكون المراد بالذين يستنبطونه : المنافقون وضعاف الإِيمان الذين يذيعون الأخبار ويكون فى الكلام إظهار فى مقام الإِضمار ؛ حيث قال : سبحانه - { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ولم يقل لعلموه منهم ، وذلك لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام ، وللمبالغة فى ذمهم على بجثهم وراء الأخبار الخفية الهامة واستنباطها وتطلبها ثم إذاعتها بقصد الإِضرار بمصلحة المسلمين .
وقد ذكر الفخر الرازى فى المراد بالذين يستنطبونه وجها آخر فقال :
وفى قوله { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قولان :
الأول : أنهم أولئك المنافقون المذيعون .
والتقدير : لو أن هؤلاء المنافقين المذيعين للأخبار ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولى الأمر ، وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم ، لعلمه الذين يستنطبونه وهم هؤلاء المنافقون المذيعون { مِنْهُمْ } أى من جانب الرسول ومن جانب أولى الأمر .
والقول الثانى : أنهم طائفة من أولى الأمر . والتقدير : ولو أن المنافقين ردوا إلى الرسول وإلى أولى الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولى الأمر ، وذلك لأن أولى الأمر فريقان : بعضهم من يكون مستنبطا ، وبعضهم من لا يكون كذلك . فقوله { مِنْهُمْ } يعنى لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولى الأمر .
فإن قيل : إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الاخبار إلى الرسول وإلى المؤمنين هم المنافقون فكيف جعل أولى الأمر منهم فى قوله { وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ } ؟ قلنا : إنما جعل أولى الأمر منهم على حسب الظاهر . لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون . ونظيره قوله - تعالى - : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان فضله على عباده فقال { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً } .
أى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم - أيها المؤمنون - بتوفيقه إياكم إلى الخير والطاعة ، لوقعتم فى إغواء الشيطان كما وقع هؤلاء المنافقون وأشباههم ، إلا عددا قليلا منكم وهم الذين أخلصوا دينهم لله واعتصموا به فصاروا لا سبيل للشيطان عليهم كما قال - تعالى - { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } هذا . ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب عدم إذاعة الأخبار - خصوصها فى حالات الحرب - إلا بعد التأكد من صحتها ومن عدم إضرارها بمصلحة المسلمين .
وفى ذلك يقول الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة . وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " .
وفى الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال . أى : الذى يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين .
وفى الصحيح " من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " .
وفى سنن أبى داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بئس مطية الرجل زعموا " .
وقد عدد الفخر الرازى المضار التى تعود على الأمة بسبب إذاعة الأخبار بدون تثبت فقال : وكان سبب الضرر من إذاعة هذه الأخبار من وجوه :
الأول : أن مثل هذه الإِرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير .
الثاني : أنه إذا كان ذلك الخبر فى جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة . فإذا لم توجد فيه تلك الزيادات ، أورث ذلك شبهة للضعفاء فى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المنافقين كانوا يروون هذه الإِرجافات عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وإن كان ذلك فى جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين ، ووقعوا عنده فى الحيرة والاضطراب ، فكانت تلك الإِرجافات سببا للتفنة من هذا الوجه .
الثالث : أن الإِرجاف سبب لتوفير الدواعى على البحث الشديد والاستقصاء التام . وذلك سبب لظهورا لأسرار . وذلك ما لا يوافق المصحلة .
الرابع : أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار . فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثانى . فإن قوع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم . أرجف المنافقون بذلك ، فوصل الخبر إلى الكفار فأخذوا فى التحصن من المسلمين . وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا فى ذلك وزادوا فيه . فظهر من ذلك أن ذلك الإِرجاف كان منشأ للفتن والآفات من كل الوجوه . ولما كان الأمر كذلك ذم الله - تعالى - تلك الإِذاعة وذلك التشهير ومنعهم منه .
وقال الشيخ محمد المنير - الذى عاصر الحروب الصليبية - معلقا على هذه الآية : ( فى هذه الآية تأديب لمن يحدث بكل ما يسمع وكفى به كذبا ؛ وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء العداوة ، والمقيمن فى نحر العدو . وما أعظم المفسدة فى لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم خيرا أو غيره . ولقد جربنا ذلك فى زماننا هذا منذ طرق العدو المخذول البلاد - طهرها الله منه وصانها من رجسه ونجسه ، وعجل للمسلمين الفتح وأنزل عليهم السكينة والنصر ) .
والخلاصة ، أن إذاعة الأخبار بدون تثبت - خصوصا فى أوقات الحروب تؤدى إلى أعظم المفاسد والشرور ، لأنها إن كانت تتعلق بالأمن فإنها قد تحدث لونا من التراخى وعدم أخذ الحذر ، وإن كانت تتعلق بالخوف فإنها قد تحدث بلبلة واضطرابا فى الصفوف .
والمجتمع الذى يكثر فيه العقلاء الفطناء هو الذى تقل فيه إذاعة الأخبار إلا من مصادرها الأصلية ، وهو الذى يرجع أفراده فى معرفة الحقائق إلى العلماء المتخصصين .
وهكذا نرى الآية الكريمة تغرس فى نفوس المؤمنين أسمى ألوان الإِخلاص لدينهم ودولتهم وقيادتهم ، فهى فى مطلعها تنكر عليهم إذاعة الاخبار بدون تحقق من صدقها ومن فائدتها ، وفى وسطها تأمرهم بأن يرجعوا إلى حقائق دينهم وإلى الحكام العادلين ، والعلماء المخصلين الذين يعرفون الأمور على وجهها ليسألوهم عما يريدون معرفته ، وفى آخرها تذكرهم بفضل الله عليهم ورحمته بهم حتى يداوموا على طاعته ، ويشكروه على نعمه .
وبعد هذا الحديث الحكيم عن أحوال المنافقين وضعفاء الإِيمان ، وعن تباطئهم عن الجهاد وإشاعتهم للأخبار بدو تثبت ، بعد كل ذلك أمر الله - تعالى - نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يستمر فى قتاله للمشركين ، وأن يحرض أصحابه على ذلك ، كما أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى طائفة من مكارم الأخلاق التى تقوى رابطتهم فقال - تعالى - : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ . . . . مِنَ الله حَدِيثاً } .
وقوله : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها ، فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة .
وقد قال مسلم في " مقدمة صحيحه " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا شعبة ، عن خبيب{[7935]} بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كفى بالمرء كذبا أن يُحدِّث بكل ما سمع " وكذا رواه أبو داود في كتاب " الأدب " من سننه ، عن محمد بن الحسين بن إشكاب ، عن علي بن حفص ، عن شعبة مسندًا{[7936]} ورواه مسلم أيضا من حديث معاذ بن هشام العنبري ، وعبد الرحمن بن مهدي . وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمر النمري ، ثلاثتهم عن شعبة ، عن خُبَيب{[7937]} عن حفص بن عاصم ، به مرسلا{[7938]} .
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي : الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تَثبُّت ، ولا تَدبُّر ، ولا تبَيُّن{[7939]} .
وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بئس مَطِيَّة الرجل زَعَمُوا عليه " .
وفي الصحيح : " من حَدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن " . {[7940]} ويذكر{[7941]} هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه ، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَلَّق نساءه ، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك ، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه : أطلقت نساءك ؟ قال : " لا " . فقلت الله أكبر . وذكر الحديث{[7942]} بطوله .
وعند مسلم : فقلت : أطلقتهن ؟ فقال : " لا " فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه . ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر .
ومعنى قوله : ( يستنبطونه ) أي : يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه ، يقال : استنبط الرجل العين ، إذا حفرها واستخرجها من قعورها{[7943]} .
ومعنى قوله : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المؤمنين .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } يعني : كلكم . واستشهد من نصر هذا القول . بقول الطرماح بن حكيم ، في مدح يزيد بن المُهَلَّب :
أشَمَّ{[7944]} كثير يُدَيِّ النوال{[7945]}*** قليل المَثَالب والقَادحة{[7946]}
{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَىَ أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِه } وإذا جاء هذه الطائفة المبيتة غير الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من الأمن . فالهاء والميم في قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ } من ذكر الطائفة المبيتة . يقول جلّ ثناؤه : وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوّهم بغلبتهم إياهم { أو الخَوْفِ } يقول : أو تخّوفهم من عدوّهم بإصابة عدوّهم منهم { أذَاعُوا بِهِ } يقول : أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم . والهاء في قوله : { أذَاعُوا بِهِ } من ذكر الأمر وتأويله : أذاعوا بالأمر من الأمن أو الخوف الذي جاءهم ، يقال : منه أذاع فلان بهذا الخبر وأذاعه ، ومنه قول أبي الأسود :
أذَاعَ بِه في النّاسِ حتى كأنّهُ ***بعَلْياءَ نارٌ أُوقِدَتْ بثَقُوبِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : سارعوا به وأفشوه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوّهم ، أو أنهم خائفون منهم ، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوّهم أمرهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : أفشوه وشنعوا به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } قال : هذا في الأخبار إذا غزت سرية من المسلمين خُبّر الناس عنها ، فقالوا : أصاب المسلمون من عدوّهم كذا وكذا ، وأصاب العدوّ من المسلمين كذا وكذا . فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرهم به . قال ابن جريج : قال ابن عباس : قوله { أذَعُوا بِهِ } قال : أعلنوه وأفشوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أذَاعُوا بِهِ } قال : نشروه . قال : والذين أذاعوا به قوم ، إما منافقون ، وإما آخرون ضعفاء .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أفْشَوْه وشنعوا به ، وهم أهل النفاق .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : ولو ردّوه : الأمر الذي نالهم من عدوّهم والمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أولي أمرهم ، يعني : وإلى أمرائهم ، وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر ، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذوو أمرهم هم الذين يقولون الخبر عن ذلك ، بعد أن ثبتت عندهم صحته أو بُطُوله ، فيصححوه إن كان صحيحا ، أو يبطلوه إن كان باطلاً . { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يقول : لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به الذين يبحثون عنه ، ويستخرجونه منهم ، يعني : أولي الأمر . والهاء والميم في قوله : { مِنْهُمْ } من ذكر أولي الأمر . يقول : لعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه . وكل مستخرج شيئا كان مستترا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب ، فهو له مستنبط ، يقال : استنبطت الركية : إذا استخرجت ماءها ، ونَبَطتها أنبطها ، والنبط : الماء المستنبط من الأرض ، ومنه قول الشاعر :
قَرِيبٌ ثراهُ ما يَنالُ عَدُوّهُ ***لَهُ نَبَطا آبي الهَوَانِ قَطُوبُ
يعني بالنبط : الماء المستنبط .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } يقول : ولو سكتوا وردّوا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وإلى أولى أمرهم حتى يتكلم هو به ، { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ } يعني عن الأخبار ، وهم الذين ينقّرون عن الأخبار .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } يقول : إلى علمائهم ، { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } لعلمه الذين يَفْحصُون عنه ، ويهمهم ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ } حتى يكون هو الذي يخبرهم ، { وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } : أولي الفقه في الدين والعقل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } : يتتبعونه ويتحسسونه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا ليث ، عن مجاهد : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قال : الذين يسألون عنه ويتحسسونه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { يَسْتَنْبِطُونَهُ } قال : قولهم : ما كان ؟ ماذا سمعتم ؟
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { الّذِينَ يسْتَنبِطونَهُ } قال : يتحسسونه .
حدثني محمد بن سيعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يقول : لعلمه الذين يتحسسونه منهم .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قال : يتتبعونه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ أذَاعُوا بِه } . . . حتى بلغ : { وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } قال : الولاة الذين يكونون في الحرب عليهم الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر أصدق أم كذب ؟ أباطل فيبطلونه ، أو حقّ فيحقونه ؟ قال : وهذا في الحرب ، وقرأ : { أذَاعُوا بِهِ وَلَوْ } فعلوا غير هذا و{ رَدّوهُ } إلى الله و{ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } . . . الاَية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولولا إنعام الله عليكم أيها المؤمنون بفضله وتوفيقه ورحمته ، فأنقذكم مما ابتلى هؤلاء المنافقين به ، الذين يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر : طاعة ، فإذا برزوا من عنده بيّت طائفة منهم غير الذي تقول ، لكنتم مثلهم ، فاتبعتم الشيطان إلا قليلاً ، كما اتبعه الذين وصف صفتهم . وخاطب بقوله تعالى ذكره : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ } الذين خاطبهم بقوله جلّ ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعا } .
ثم اختلف أهل التأويل في القليل الذي استثناهم في هذه الاَية ، من هم ، ومن أيّ شيء من الصفات استثناهم ؟ فقال بعضهم : هم المستنبطون من أولي الأمر ، استثناهم من قوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ونفي عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : إنما هو لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، إلا قليلاً منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم . وأما قوله : { إلاّ قَلِيلاً } فهو كقوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } إلا قليلاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } قال : يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم¹ وأما { إلاّ قَلِيلاً } فهو كقوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ . . . إلاّ قَلِيلاً } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج نحوه ، يعني نحو قول قتادة ، وقال : لعلموه إلا قليلاً .
وقال آخرون : بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة ، فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا . ومعنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، إلا قليلاً منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ } فانقطع الكلام ، وقوله : { إلاّ قَلِيلاً } فهو في أوّل الاَية يخبر عن المنافقين ، قال : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذَاعُوا بِهِ } إلا قليلاً ، يعني بالقليل المؤمنين ، يقول الحَمْدُ لله الّذِي أنْزَلَ الكِتَابَ عدلاً قِيما ، ولم يجعل له عوجا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هذه الاَية مقدمة ومؤخرة ، إنما هي : أذاعوا به إلا قليلاً منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير .
وقال آخرون : بل ذلك استثناء من قوله : { لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ } وقالوا : الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا همّوا بما كان الاَخرون همّوا به من اتباع الشيطان ، فعرّف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم ، واستثنى الاَخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الاَخرين . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } قال : هم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان ، إلا طائفة منهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا . قالوا : وقوله : { إلاّ قَلِيلاً } خرج مخرج الاستثناء في اللفظ ، وهو دليل على الجميع والإحاطة ، وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحد من الضلالة ، فجعل قوله : { إلاّ قَليلاً } دليلاً على الإحاطة . واستشهدوا على ذلك بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب :
أشمّ كثيرُ يَدِيّ النّوال ***ِقليلُ المَثالِبِ والقادِحَهْ
قالوا : فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب ، ومعلوم أن معناه : أنه لا مثالب فيه ولا معايب¹ لأن من وصف رجلاً بأن فيه معايب وإن وصف الذي فيه المعايب بالقلة ، فإنما ذمه ولم يمدحه ، ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه . قالوا : فكذلك قوله : { لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } إنما معناه : لاتبعتم جميعكم الشيطان .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال : عنى باستثناء القليل من الإذاعة¹ وقال : معنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلاً ، ولو ردّوه إلى الرسول .
وإنما قلنا : إن ذلك أولى بالصواب لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا ، وغير جائز أن يكون من قول : { لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ } لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته فغير جائز أن يكون من تباع الشيطان ، وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب ، ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب سبيل فنوجّهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون : معنى ذلك : لاتبعتم الشيطان جميعا ، ثم زعم أن قوله : { إلاّ قَلِيلاً } دليل على الإحاطة بالجميع . هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل لا وجه له ، وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } لأن علم ذلك إذا ردّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم ، استوى في علم ذلك كل مستنبط حقيقة ، فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم وخصوص بعضهم بعلمه مع استواء جميعهم في علمه . وإذ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا ، ودخل هذه الأقوال الثلاثة ما بينا من الخلل ، فبّين أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع ، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من الإذاعة .
وقوله تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن } الآية ، قال جمهور المفسرين : الآية في المنافقين حسبما تقدم من ذكرهم ، والآية نازلة في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه ، والمعنى : أن المنافقين كانوا يشرئبون إلى سماع ما يسوء النبي في سراياه ، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين أو فتح عليهم ، حقروها وصغروا شأنها وأذاعوا بذلك التحقير والتصغير ، وإذا طرأت لهم شبهة خوف المسلمين أو مصيبة عظموها وأذاعوا ذلك التعظيم ، و { أذاعوا به } معناه : أفشوه ، وهو فعل يتعدى بحرف جر وبنفسه أحياناً ، تقول أذعت كذا وأذعت به ، ومنه قول أبي الأسود : [ الطويل ]
أَذَاعُوا بِهِ في النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ *** بِعَلْيَاءِ نَارٍ أَوقِدَتْ بِثُقُوبِ{[4166]}
وقالت فرقة : الآية نازلة في المنافقين ، وفي من ضعف جلده عن الإيمان من المؤمنين وقلت تجربته .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : فإما أن يكون ذلك في أمر السرايا فإنهم كانوا يسمعون أقوال المنافقين فيقولونها مع من قالها ، ويذيعونها مع من أذاعها ، وهم غير متثبتين في صحتها ، وهذا هو الدال على قلة تجربتهم ، وإما أن يكون ذلك في سائر الأمور الواقعة ، كالذي قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنه جاء وقوم في المسجد يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، قال : فدخلت على عائشة فقلت : يابنة أبي بكر بلغ من أمرك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : يابن الخطاب عليك بعيبتك{[4167]} ، قال : فدخلت على حفصة فقلت : يا حفصة قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحبك ولولا أنا لطلقك فجعلت تبكي قال فخرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غرفة له ، ورباح مولاه جالس على أسكفة{[4168]} الغرفة ، فقلت : يا رباح استأذن لي على رسول الله ، فنظر إلى الغرفة ثم نظر إليَّ وسكت ، فقلت : يا رباح استأذن لي على رسول الله فلعله يظن أني جئت من أجل حفصة ، والله لو أمرني أن أضرب عنقها لضربته ، فنظر ثم أشار إليَّ بيده : أن ادخل ، فدخلت وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع على حصير وقد أثر في جنبه ، وإذ ليس في غرفته إلا قبضة من شعير ، وقبضة من قرظ ، وإذا أفيقان معلقان ، فبكيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يابن الخطاب ؟ فقلت : يارسول الله ، أنت صفوة الله من خلقه ورسوله ، وليس لك من الدنيا إلا هذا ، وكسرى وقيصر في الأشجار والأنهار ، فقال : ها هنا أنت ياعمر ؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ فقلت : بلى ، ثم جعلت أحدثه حتى تهلل وابتسم ، فقلت إنهم ادعوا أنك طلقت نساءك ، فقال :لا ، فقلت أتأذن لي أن أعرف الناس ؟ فقال :افعل إن شئت . قال :فقمت على باب المسجد فقلت : ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه ، فانزل الله في هذه القصة :{ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } . الآية وأنا الذي استنبطه ،
وقوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول }الآية . المعنى : لو أمسكوا عن الخوض ، واستقصوا الأمور من قبل الرسول ، أو أولي الأمر_وهم الأمراء_ قاله السدي ، وابن زيد ، وقيل :أهل العلم ، قاله
وغيرهما ، والمعنى يقتضيهما معا . . { لعلمه }طلابه من أولي الأمر ، والبحثة عنه وهم مستنبطوه كما يستنبط الماء وهو :النبط ، أي :الماء المستخرج من الأرض ، ومنه قول الشاعر :
قريب ثراه ما ينال عدوه *** *** له نبطا آبي الهوان قطوب
وهذا التأويل جار مع قول عمر ، أنا استنبطته ببحثي وسؤالي ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى لعلمه المسؤولون المستنبطون ، فأخبروا بعلمهم ، وقرأ أبو السمال ، «لعلْمه » بسكون اللام وذلك مثل «شجَر{[4169]} بينهم » والضمير في { ردوه } عائد على الأمر ، وفي { ومنهم } يحتمل أن يعود على { الرسول } و { أولي الأمر } ، ويحتمل أن يعود على الجماعة كلها ، أي لعلمه البحثة من الناس ، وقوله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } الآية ، هذا خطاب لجميع المؤمنين باتفاق من المتأولين ، والمعنى : ولولا هداية الله وإرشاده لكم بالإيمان وذلك فضل منه ورحمة - لكنتم على كفركم ، وذلك هو اتباع الشيطان . وحكى الزجاج : لولا فضل الله في هذا القرآن ورسالة محمد عليه السلام ، واختلف المتأولون في الاستثناء بقوله { إلا قليلاً } مم هو ؟ فقال ابن عباس وابن زيد : ذلك مستثنى من قوله : «أذاعوا به إلا قليلاً » ورجحه الطبري ، وقال قتادة : ذلك مستثنى من قوله : «يستنبطونه إلا قليلاً » وقالت فرقة : ذلك مستثنى من قوله : { لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } ، على سرد الكلام دون تقدير تقديم ، ثم اختلفت هذه الفرقة ، فقال الضحاك : إن الله هدى الكل منهم إلى الإيمان ، فكان منهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ، ولا عنت له شبهة ارتياب ، فذلك هو القليل ، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر ، فلولا فضل الله بتجديد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان .
قال القاضي أبو محمد : هذا معنى قول الضحاك ، ويجيء الفضل معيناً ، أي :رسالة محمد والقرآن ، لأن الكل إنما هُدي بفضل الله على الإطلاق ، وقال قوم : المخاطب بقوله { اتبعتم } جميع المؤمنين ، وقوله : { إلا قليلاً } إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم ، كورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وغيرهما ، وقال قوم : الاستثناء إنما هو من الإتباع ، أي { لاتبعتم الشيطان } كلكم { إلا قليلاً } من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها ، وقال قوم : قوله : { إلا قليلاً } عبارة عن العدم ، يريدون لاتبعتم الشيطان كلكم ، وهذا الأخير قول قلق ، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم :_أرض قل ما تنبت كذا_بمعنى :لا تنبته ، لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها ، ولكن قد ذكره الطبري .
عطف على جملة { ويقولون طاعة } [ النساء : 81 ] فضمير الجمع راجع إلى الضمائر قبله ، العائدة إلى المنافقين ، وهو الملائم للسياق ، ولا يعكّر عليه إلاّ قوله : { وإلَى أولي الأمر منهم } ، وسنعلم تأويله ، وقيل : الضمير هذا راجع إلى فريق من ضعفة المؤمنين : ممّن قلّت تجربَته وضعف جَلده ، وهو المناسب لقوله : { وإلى أولي الأمر منهم } بحسب الظاهر ، فيكون معَاد الضمير محذوفاً من الكلام اعتماداً على قرينة حال النزول ، كما في قوله : { حتّى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] .
والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة ، من المسلمين الأغرار .
ومعنى { جاءهم أمر } أي أخبروا به ، قال امرؤ القيس :
فالمجيء مجاز عرفي في سماع الأخبار ، مثل نظائره . وهي : بلغ ، وانتهى إليه وأتاه ، قال التابغة :
أتأني -أبيتَ اللعن- أنَّكَ لُمَتَنِي
والأمر هنا بمعنى الشيء ، وهو هنا الخبر ، بقرينة قوله : { أذاعوا به } .
ومعنى { أذاعوا } أفْشَوْا ، ويتعدّى إلى الخبر بنفسه ، وبالباء ، يقال : أذاعَه وأذاع به ، فالباء لتوكيد اللصوق كما في { وامْسَحُوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .
والمعنى إذا سمعوا خبَراً عن سَرايا المسلمين من الأمن ، أي الظَّفَر الذي يوجب أمن المسلمين أو الخوف وهو ما يوجب خوف المسلمين ، أي اشتداد العدوّ عليهم ، بادروا بإذاعته ، أو إذا سمعوا خَبراً عن الرسول عليه السلام وعن أصحابه ، في تدبير أحوال المسلمين من أحوال الأمن أو الخوف ، تحدّثوا بتلك الأخبار في الحالين ، وأرجفوها بين الناس لقصد التثبيط عن الاستعداد ، إذا جاءت أخبار أمن حتّى يؤخذ المؤمنون وهم غَارَّون ، وقصد التجبين إذا جاءت أخبار الخوف ، واختلاف المعَاذير للتهيئة للتخلّف عن الغزو إذا استنفروا إليه ، فحذّر الله المؤمنين من مكائد هؤلاء ، ونبّه هؤلاء على دخيلتهم ، وقَطَع معذرتهم في كيدهم بقوله : { ولو ردّوه إلى الرسول } الخ ، أي لولا أنّهم يقصدون السوء لاستثبتوا الخبر من الرسول ومن أهل الرأي .
وعلى القول بأنّ الضمير راجع إلى المؤمنين فالآية عتاب للمؤمنين في هذا التسرّع بالإذاعة ، وأمرُهم بإنهاء الأخبار إلى الرسول وقادة الصحابة ليضعوه مواضعه ويعلّموهم محامله .
وقيل : كان المنافقون يختلقون الأخبار من الأمن أو الخوف ، وهي مخالفة للواقع ، ليظنّ المسلمون الأمْن حين الخوف فلا يأخذوا حذرهم ، أو الخوفَ حين الأمن فتضطرب أمورهم وتختلّ أحوال اجتماعهم ، فكان دهماء المسلمين إذا سمعوا ذلك من المنافقين راج عندهم فأذاعوا به ، فتمّ للمنافقين الدست ، وتمشّت المكيدة ، فلامهم الله وعلّمهم أن ينهوا الأمر إلى الرسول وجلّة أصحابه قبل إشاعته ليعلموا كنه الخبر وحالَه من الصدق أو الكذب ، ويأخذوا لكلّ حالة حيطتها ، فيسلم المؤمنون من مكر المنافقين الذي قصدوه . وهذا بعيد من قوله : { جاءهم } وعلى هذا فقوله : { لَعَلِمَه } هو دليل جواب ( لو ) وعِلَّتُه ، فجُعل عوضه وحذف المعلول ، إذ المقصود لعلمه الذين يستنبطونه من أولي الأمر فلَبَيَّنُوه لهم على وجهه .
ويجوز أن يكون المعنى : ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلم ذلك المنافقون الذين اختلقوا الخبَر فلَخابوا إذ يوقنون بأنّ حيلتهم لم تتمشّ على المسلمين ، فيكون الموصول صادقاً على المختلقين بدلالة المقام ، ويكون ضمير { منهم } الثاني عائداً على المنافقين بقرينة المقام .
والردّ حقيقته إرجاع شيء إلى ما كان فيه من مكان أو يَدٍ . واستعمل هنا مجازاً في إبلاغ الخبر إلى أوْلى الناس بعلمه . وأولو الأمر هم كبّراء المسلمين وأهل الرأي منهم ، فإن كان المتحدّث عنهم المنافقين فوصف أولي الأمر بأنّهم منهم جارٍ على ظاهر الأمر وإرخاءِ العِنان ، أي أولو الأمر الذين يجعلون أنفسهم بعضَهم ؛ وإن كان المتحدّث عنهم المؤمنين ، فالتبعيض ظاهر .
والاستنباط حقيقته طلب النَّبَط بالتحريك ؛ وهو أول الماء الذي يخرج من البئر عند الحفر ؛ وهو هنا مجاز في العلم بحقيقة الشيء ومعرفة عواقبه ، وأصله مكنية : شبّه الخبر الحادث بحفير يُطلب منه الماء ، وذكْر الاستنباط تَخييلٌ . وشاعت هذه الاستعارة حتّى صارت حقيقة عرفية ، فصار الاستنباط بمعنى التفسير والتبيين ، وتعدية الفعل إلى ضمير الأمر على اعتبار المعنى العرفي ، ولولا ذلك لقيل : يستنبطون منه ، كما هو ظاهر ، أوْ هو على نزع الخافض .
وإذا جريتَ على احتمال كون ( يستنبطون ) بمعنى يختلقون كما تقدّم كانت { يستنبطونه } تبعية ، بأن شبّه الخبر المختلَق بالماء المحْفور عنه ، وأطلق يستنبطون بمعنى يختلقون ، وتعدّى الفعل إلى ضمير الخبرلأنّه المستخرَج . والعرب يكثرون الاستعارة من أحوال المياه كقولهم : يُصْدر ويُورِد ، وقولهم ضَرَبَ أخماساً لأسْدَاسٍ ، وقولهم : يَنْزِع إلى كذا ، وقوله تعالى : { فإنّ للذين ظلموا ذَنُوباً مثلَ ذَنوب أصحابهم } [ الذاريات : 59 ] ، وقال عَبدة بن الطبيب :
ومنه قولهم : تَساجل القوم ، أصله من السَّجْل ، وهو الدلو .
إذَا ما اصطبَحْتُ أرْبعاً خطّ مِئْزَري *** وأتْبَعْتُ دلوي في السماح رِشاءها
فذكَر الدلوَ والرشاء . وقال النابغة :
خَطاطِيف حَجْنٍ في حِبالٍ متينَة *** تَمُدّ بها أيْدٍ إليكَ نَوازِع
ولولا أبُو الشقراء مَا زال ماتح *** يُعالج خَطَّافاً بإحدى الجرائر
وقالوا أيضاً : « انتهز الفرصة » ، والفرصة نوبة الشرب ، وقالوا : صدر الوم عن رأي فلان ووَردوا على رأيه .
وقوله : { منهم } وصفٌ للذين يستنبطونه ، وهم خاصّة أولي الأمر من المسلمين ، أي يردّونه إلى جماعةِ أولي الأمر فيفهمه الفاهمون من أولي الأمر ، وإذا فهمه جميعهم فأجدَر .
وقوله : { ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه } امتنان بإرشادهم إلى أنواع المصالح ، والتحذير من المكائد ومن حبائل الشيطان وأنصاره .
واستثناء { إلاّ قليلاً } من عموم الأحوال المؤذن بها { اتّبعتم } ، أي إلاّ في أحوال قليلة ، فإن كان المراد من فضل الله ورحمته ما يشمل البعثة فما بعدها ، فالمراد بالقليل الأحوال التي تنساق إليها النفوس في بعض الأحوال بالوازع العقلي أو العادي ، وإن أريد بالفضل والرحمة النصائح والإرشاد فالمراد بالقليل ما هو معلوم من قواعد الإسلام . ولك أن تجعله استثناء من ضمير { اتّبعتم } أي إلاّ قليلاً منكم ، فالمراد من الاتّباع اتّباع مثل هذه المكائد التي لا تروج على أهل الرأي من المؤمنين .