{ ولما فرغ تعالى من [ ذكر ] أحكام الصيام فالجهاد ، ذكر أحكام الحج فقال : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
يستدل بقوله [ تعالى ] : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } على أمور :
أحدها : وجوب الحج والعمرة ، وفرضيتهما .
الثاني : وجوب إتمامهما بأركانهما ، وواجباتهما ، التي قد دل عليها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله : " خذوا عني مناسككم "
الثالث : أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة .
الرابع : أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما ، ولو كانا نفلا .
الخامس : الأمر بإتقانهما وإحسانهما ، وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما .
السادس : وفيه الأمر بإخلاصهما لله تعالى .
السابع : أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما ، إلا بما استثناه الله ، وهو الحصر ، فلهذا قال : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي : منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما ، بمرض ، أو ضلالة ، أو عدو ، ونحو ذلك من أنواع الحصر ، الذي هو المنع .
{ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي : فاذبحوا ما استيسر من الهدي ، وهو سبع بدنة ، أو سبع بقرة ، أو شاة يذبحها المحصر ، ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لما صدهم المشركون عام الحديبية ، فإن لم يجد الهدي ، فليصم بدله عشرة أيام كما في المتمتع ثم يحل .
ثم قال تعالى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وهذا من محظورات الإحرام ، إزالة الشعر ، بحلق أو غيره ، لأن المعنى واحد من الرأس ، أو من البدن ، لأن المقصود من ذلك ، حصول الشعث والمنع من الترفه بإزالته ، وهو موجود في بقية الشعر .
وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر ، تقليم الأظفار بجامع الترفه ، ويستمر المنع مما ذكر ، حتى يبلغ الهدي محله ، وهو يوم النحر ، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر ، كما تدل عليه الآية .
ويستدل بهذه الآية على أن المتمتع إذا ساق الهدي ، لم يتحلل من عمرته قبل يوم النحر ، فإذا طاف وسعى للعمرة ، أحرم بالحج ، ولم يكن له إحلال بسبب سوق الهدي ، وإنما منع تبارك وتعالى من ذلك ، لما فيه من الذل والخضوع لله والانكسار له ، والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد ، وليس عليه في ذلك من ضرر ، فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض ، ينتفع بحلق رأسه له ، أو قروح ، أو قمل ونحو ذلك فإنه يحل له أن يحلق رأسه ، ولكن يكون عليه فدية من صيام ثلاثة أيام ، أو صدقة على ستة مساكين{[131]} أو نسك ما يجزئ في أضحية ، فهو مخير ، والنسك أفضل ، فالصدقة ، فالصيام .
ومثل هذا ، كل ما كان في معنى ذلك ، من تقليم الأظفار ، أو تغطية الرأس ، أو لبس المخيط ، أو الطيب ، فإنه يجوز عند الضرورة ، مع وجوب الفدية المذكورة لأن القصد من الجميع ، إزالة ما به يترفه .
ثم قال تعالى : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } أي : بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو وغيره ، { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } بأن توصل بها إليه ، وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها .
{ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي : فعليه ما تيسر من الهدي ، وهو ما يجزئ في أضحية ، وهذا دم نسك ، مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة ، ولإنعام الله عليه بحصول الانتفاع بالمتعة بعد فراغ العمرة ، وقبل الشروع في الحج ، ومثلها القِران لحصول النسكين له .
ويدل مفهوم الآية ، على أن المفرد للحج ، ليس عليه هدي ، ودلت الآية ، على جواز ، بل فضيلة المتعة ، وعلى جواز فعلها في أشهر الحج .
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } أي الهدي أو ثمنه { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } أول جوازها من حين الإحرام بالعمرة ، وآخرها ثلاثة أيام بعد النحر ، أيام رمي الجمار ، والمبيت ب " منى " ولكن الأفضل منها ، أن يصوم السابع ، والثامن ، والتاسع ، { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } أي : فرغتم من أعمال الحج ، فيجوز فعلها في مكة ، وفي الطريق ، وعند وصوله إلى أهله .
{ ذَلِكَ } المذكور من وجوب الهدي على المتمتع { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بأن كان عند مسافة قصر فأكثر ، أو بعيدا عنه عرفات ، فهذا الذي يجب عليه الهدي ، لحصول النسكين له في سفر واحد ، وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام ، فليس عليه هدي لعدم الموجب لذلك .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أموركم ، بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، ومن ذلك ، امتثالكم ، لهذه المأمورات ، واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية .
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن عصاه ، وهذا هو الموجب للتقوى ، فإن من خاف عقاب الله ، انكف عما يوجب العقاب ، كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب ، وأما من لم يخف العقاب ، ولم يرج الثواب ، اقتحم المحارم ، وتجرأ على ترك الواجبات .
استمع إلى سورة البقرة وهي تحدثك عن بعض أحكام الحج وآدابه فتقول :
{ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ . . . }
تعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التي وردت في القرآن الكريم مبينة ما يتعلق بأحكام الحج وآدابه ، وسنحاول - بعون الله - أن نبين ما اشتملت عليه من آداب سامية ، وتوجيهات حكيمة ، بأسلوب هو إلى الإِيجاز أقرب منه إلى الإسهاب والإِطناب ، قاصدين عدم التعرض لتفريعات الفقهاء واختلافاتهم إلا بالقدر الذي يقتضيه المقام .
والحج في اللغة : القصد يقال حج فلان الشيء : إذا قصده مرة بعد أخرى .
وفي الشرع : القصد لزيارة بيت الله الحرام في وقت مخصوص بأفعال مخصوصة ، وبكيفية مخصوصة ، بينتها الشريعة الإِسلامية .
والعمرة في اللغة : الزيارة ، مأخوذة من العمارة التي هي ضد الخراب ثم أطلقت على الزيارة التي يقصد بها عمارة المكان .
وفي الشرع : زيارة بيت الحرام للتقرب إليه ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أركانها وشروطها وكيفيتها .
وقد كانت شعيرة الحج والعمرة معروفتين عند العرب قبل الإِسلام ، ولكن بأفعال وبكيفية فيها الكثير من الأباطيل والأوهام ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يسيروا في أدائها على الطريقة التي سار عليها فقال : " خذوا عني مناسككم " .
قال ابن كثير : " وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان ، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معاً في ذي القعدة سنة عشر . وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته " .
وقد اختلف العلماء في المقصود من الإِتمام في قوله - تعالى - { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } فبعضهم يرى أن المراد بإتمامهما : إقامتهما وإيجادهما وإنشاؤهما فيكون المعنى : أقيموا الحج والعمرة لله : أي أدوهما وائتوا بهما . فالأمر في " أتموا " منصب على الإِنشاء والأداء . فهو كقوله - تعالى - : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } وأصحاب هذا الرأي يرون أن العمرة واجبة كالحج ، لأن الله - تعالى - أمر بهما معاً ، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " تابعوا بين الحج والعمرة . . " .
وإلى هذا الرأي أتجه سعيد بن جبير ، وعطاء ، وسفيان الثوري ، والشافعية .
ويرى كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء كالأحناف والمالكية - أن المراد بإتمامهما : الإِتيان بهما تامين بمناسكهما المشروعة لوجه الله - تعالى - وأن على المسلم إذا شرع فيهما أو في أحدهما أن يتمه ويأتي به كاملا ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عمرة القضاء .
فيكون المعنى : ائتوا بالحج والعمرة كاملي الأركان والشروط والآداب خالصين لوجه الله - تعالى - .
فالأمر على هذا الرأي منصب على الإِتمام لا على أصل الأداء .
وأصحابه يرون أن العمرة ليست واجبة كالحج لعدم قيام الدليل على وجوبها ، وليس في الآية ما يفيد الوجوب ، بل فيها ما يفيد وجوب الإِتمام إن شرع فيهما أو في أحدهما . وفرضية الحج إنما ثبتت بقوله - تعالى - : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } وأيضاً ، فإن أركان العمرة وأفعالها تدخل في ثنايا أفعال الحج وأركانه ، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " إلى غير ذلك من الأدلة التي ساقها كل فريق لتدعيم رأيه .
ومجمل القول أن فرضية الحج مجمع عليها بين العلماء ، وأما فرضية العمرة ففيها خلاف ، انتصر كثير من العلماء فيه للرأي القائل بأنها ليست فرضاً للحج ، بل هي سنة .
وقد كانت فرضية الحج في السنة التاسعة من الهجرة على أرجح الروايات . ويرى بعض العلماء أن الحج قد فرض قبل ذلك ، إلا أن تنفيذه لم يتم إلا في السنة التاسعة عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج ، وكان ذلك تمهيداً لجحه صلى الله عليه وسلم سنة عشر .
وقد أمر - سبحانه - بإتمام الحج والعمرة لله دون غيره لأن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر ، والتفاخر ، وقضاء الحوائج ، وحضور الأسواق ، دون أن يكون لله - تعالى - فيه حظ يقصد ، ولا قربة تعتقد ، فأمر - سبحانه - المسلمين أن ينزهوا عباداتهم - وخصوصاً الحج - عن الأٌوال السيئة ، والأفعال القبيحة ، وأن يقصدوا بأداء ما كلفهم الله به الإِخلاص والطاعة له - سبحانه - .
وبعد أن أمر الله - تعالى - عباده بأن يتموا الحج والعمرة له ، أردف ذلك ببيان ما يجب عليهم عمله فيما لو حال حائل بينهم وبين إتمامهما فقال : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي } والإِحصار والحصر في اللغة : بمعنى الحبس والمنع والتضييق سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو جور سلطان أو ما يشبه ذلك . قال - تعالى - في شأن قتال المشركين : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم } أي : ضيقوا عليهم المنافذ . ويقال للذي لا يبوح بسره : حصر ؛ لأنه حبس نفسه عن البوح بسره .
ويرى بعض علماء اللغة أن الإِحصار يكون الحبس والمنع فيه من ذات الشخص كالمرض وذهاب النفقة ، وأما الحصر فيكون الحبس والمنع فيه لا من ذات الشخص ، بل بسبب أمر خارجي كالعدو ونحوه .
{ الهدي } : - بتخفيف الياء وتشديدها - مصدر بمعنى المفعول ، أي : المهدي والمراد به ما يهدي إلى بيت الله الحرام من الإِبل والبقرة والشاة ليذبح تقرباً إلى الله - تعالى - .
و { استيسر } هنا بمعنى يسر وتيسر أي : ما أمكن تحصيله من الهدى بدون مشقة أو تعب .
والمعنى : أتموا - أيها المؤمنون - الحج والعمرة لله متى قدرتم على ذلك ، فإن { أُحْصِرْتُمْ } أي منعتم بعد الإِحرام من الوصول إلى البيت الحرام بسبب عدو أز مرض أو نحوهما ، فعليكم إذا أردتم التحلل من الإِحرام أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى .
وبعض العلماء - كالشافعية والمالكية - يرون أن المراد بالإِحصار في الآية ما كان بسبب عدو ، كما حدث للمسلمين في صلح الحديبية ، أما إذا كان الإِحصار بسبب مرض ، فإن الحاج أو المعتمر يبقى على إحرامه حتى يبرأ من مرضه ثم يذهب إلى البيت فيطوف به سبعاً ، ويسعى بين الصفا والمروة ، وبهذا يتحلل من عمرته أو حجه ، ولا يتحلل بالذبح ، إذ التحلل بالذبح عندهم لا يكون إلا في حالة الإِحصار بسبب العدو . أما الأحناف فيرون أن الإِحصار سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو ما يشبههما فإنه يسيغ التحلل بالذبح ، إذ الآية عندهم تعم كل منع ، وعلى من أحصر أن يقضي الحج أو العمرة فيما بعد .
وفي هذه الجملة الكريمة تقرير للمبادئ التي جاءت بها شريعة الإِسلام تلك المبادئ التي تتوخى في كل شئونها التيسير لا التعسسير ، والرفق لا التشديد قال - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقال - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ثم قال - تعالى - : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } .
حلق الرأس أو تقصيرها علامة على الانتهاء من الإِحرام ، كما أن التسليم علامة الانتهاء من الصلاة ، أو علامة قطعهما عند الاضطرار إلى ذلك . والحلق بالنسبة للرجال أفضل من التقصير ، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم أغفر للمحلقين . قالوا : يا رسول الله وللمقصرين . قال : اللهم اغفر للمحلقين . قالوا : يا رسول الله وللمقصرين : قال : وللمقصرين " أما بالنسبة للنساء فيكفي التقصير .
والمحل : اسم لزمان الحلول أو مكانه . يقال : بلغ الدين محله إذا حل وقت أدائه ، كما يقال : بلغ الشخص محله إذا وصل إلى المكان الذي ينزل به .
قال الآلوسي : وكون المراد بالمحل هنا المكان هو الظاهر في الآية .
والمعنى : أتموا الحج والعمرة لله ، فإن منعتم من إتمامهما وأنتم محرمون فعليكم إذا أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى ، ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تعلموا أن الهدى المبعوث قد بلغ مكانه الذي يجب أن يراق فيه دمه ، وهو الحرم .
وهذا رأي الأحناف ، فقد قرروا أن المراد بالمحل البيت الحرام ، فهو اسم مكان ، لأن الله - تعالى - قد قال في آية أخرى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } وعليه فلا يجوز للمحصر أن يحلق ويتحلل إلا بعد أن يصل الهدى الذي يرسله إلى البيت الحرام ويذبح .
أما جمهور الفقهاء فيرون أن محل الهدى للمحصر هو المكان الذي حدث فيه الإِحصار ، ودليلهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نحر هو وأصحابه هديهم بالحدبيبة وهي ليست من الحرم ، وذلك عندما منعه المشركون من دخول مكة .
وقد أجاب الأحناف على ذلك بأن محصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول الآلوسي - كان في طريق الحديبية بأسفل مكة ، والحديبية متصلة بالحرم .
وعلى رأي جمهور الفقهاء يكون المعنى : ولا تتحللوا من إحرامكم بالحق حتى تذبحوا الهدى في الموضع الذي أحصرتم فيه ، فإذا تم الذبح فأحلقوا وتحللوا . والخطاب على كلا المعنيين يكون للمحصرين ، لأنه أقرب مذكور .
ويرى المحققون من العلماء أن رأى جمهور الفقهاء أكثر اتفاقاً مع السنة النبوية ، وفيه تسهيل على المحصرين ، والمناسب لهم هو التيسير لا التعسير ، ولا شك أن ذبحهم لهديهم في مكان إحصارهم أيسر لهم ، وحمولا قوله - تعالى - : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } على أنه خطاب عام لجميع المكلفين لا فرق بين محصر وغير محصر ، وأن المقصود من الجملة الكريمة هو البيان العام لمكان التحلل وزمانه ، أما مكان الذبح عند الإِحصار فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بذبحه لهديه في الحديبية وهي ليست من الحرم عند المحققين .
قال الإِمام الرازي : ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية ، فقال قال الشافعي وغيره : المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل وقال أبو حنيفة : إنه اسم للمكان .
وبعد أن بين - سبحانه - أن الحلق لا يجوز للمحرم ما دام مستمراً على إحرامه ، أردف ذلك ببيان بعض الحالات التي يجوز فيها للمحرم أن يحلق رأسه مع استمراره على إحرامه فقال - تعالى - : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
أي : فمن كان منكم - أيها المحرمون - مريضاً بمرض يضطر معه إلى الحلق ، أو كان به أذى من رأسه كجراحة وحشرات مؤذية ، فعليه إن حلق فدية من صيام أو صدقة أو نسك .
وقوله : { فَفِدْيَةٌ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . أي : فعليه فدية ، وأيضا ففيه إضمار آخر والتقدير : فحلق فعليه فدية .
والفدية : هي العوض عن الشيء الجليل النفيس . ولا ريب أن محرمات الحج والعمرة أمور لها جلالها وعظمها .
وعبر - سبحانه - هنا بالفدية دون الكفارة ، لأن الذي به مرض و أذى من رأسه لم يرتكب ذنباً أو إثماً حتى يكفر عنه .
قال القرطبي : والنسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله - تعالى - وتكون من الإِبل والبقر والغنم - ويجمع - أيضاً - على نسائك . والنسك : العبادة في الأصل ، ومنه قوله - تعالى - :
{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي : متعبداتنا . وقيل : أصل النسك في اللغة الغسل ؛ ومنه نسك ثوبه إذا غسله ، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة . وقيل : النسك سبائك الفضة التي خلصت من الخبث ، كل سبيكة منها نسيكة ، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام " .
وقوله - تعالى - : { مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } بيان لجنس الفدية .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار هذه الفدية ، فقد روى الشيخان عن كعب بن عجرة الأنصاري قال : " حملت أن النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال : ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا . . . أما تجد شاة ؟ قلت : لا ! ! قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك " فنزلت في خصاة وهي لكم عامة .
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الفدية في هذا الحديث ، وعامة العلماء يرون أن المحرم لعذر كهذا يخير في هذا المقام ، إن شاء صام وإن شاء تصدق وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على المساكين .
قال ابن كثير : ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل ، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك أرشده أولا إلى الأفضل فقال : أما تجد شاه ؟ فكل حسن في مقامه " .
وبعد أن بين - سبحانه كيفية التحلل عند الإِحصار ، وكيفية التحلل الجزئي من بعض المحرمات عند المرض ، عقب ذلك للبيان كيفية التحلل في حالة الأمن فقال : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } .
وقوله : { فَإِذَآ أَمِنتُم } الأمن ضد الخوف . أي : فإذا زال خوفكم وثبت أمنكم والجملة معطوفة على قوله { أُحْصِرْتُمْ } وجيء بإذا لأن فعل الشرط وهو { أَمِنتُمْ } مرغوب فيه .
وقوله : { فَمَن تَمَتَّعَ } جواب إذا . والتمتع في اللغة - كما قال الإِمام الرازي - التلذذ . يقال : تمتع بالشيء إذا تلذذ به . والمتاع كل شيء يتمتع به ، وأصله من قولهم : حبل ماتع ، أي : طويل وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به .
والمراد بالتمتع في الآية المعنى الشرعي بأن يجمع المسلم بين العمرة والحج في عام واحد في أشهر الحج ، بأن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج .
وسمي هذا النوع من الإِحرام تمتعاً ، لأن المحرم به يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد . لأنه يحرم بالعمرة أولا ويقوم بمناسكها وتلك متعة روحية وبعد الانتهاء من أدائها يتحلل فيجوز له أن يقرب النساء ويمس الطيب حتى يحرم بالحج وتلك متعة بدنية .
وهناك نوعان آخران من الإِحرام .
أحدهما : الإِفراد ومعناه : أن يحرم بالحج فقط ولا يجمع معه العمرة ، وإنما يأتي بها في وقت آخر .
وثانيهما : القرآن ومعناه : أن يجمع بين العمرة والحج في إحرام واحد ، بأن يبقى على إحرامه ويأتي بمناسك الحج والعمرة بالإِحرام نفسه .
والمعنى : فإذا ثبت أمنكم - أيها المسلمون - عند أدائكم للحج والعمرة ، فمن تمتع منكم بالعمرة إلى الحج ، بأن أحرم بها في أشهر الحج ، ثم بعد الانتهاء من أعمالها تحلل بأن حلق رأسه ، وباشر أهله إن كانوا معه ، وانتظر متحللا وصار من حقه أن يفعل كل ما يفعله من ليس محرماً إلى وقت الإِحرام بالحج ، فعليه في هذه الحالة أن يذبح ما تيسر له من الهدى من غنم أو بقر أو إبل ليكون هذا الذبح شكراً لله حيث وفقه - سبحانه - للجمع بين النسكين مع التمتع بينهما بأفعال المتحلل ، فمن لم يجد ما يذبحه فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في وقت الحج وأن يصوم سبعة أيام بعد فراغه منه .
وقوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ . . . } معطوف على { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة . . . } لأن { فَمَن تَمَتَّعَ } مع جوابه وهو { فَمَا استيسر . . . } مقدر فيه معنى تمتع واجداً الهدى ، فعطف عليه فمن لم يجد أي الهدى .
وقد جعل - سبحانه - الصيام بدلا عن الهدى زيادة الرخصة والرحمة وزيادة في الرفق والتيسير فقد جعله على مرحلتين :
إحداهما : - وهي الأقل - تكون في وقت الحج ، ويفضل كثير من الفقهاء أن يصوم سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه .
وثانيتهما : - وهي الأكثر - تكون بعد الرجوع إلى أهله حيث يطمئن ويستقر وتذهب مشقة السفر فيصوم سبعة أيام .
وبعض الفقهاء يرى جواز الصيام عند الأخذ في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحج ، ويرجح الوجه الأول ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر وفيه : " فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " .
والإِشارة في قوله - تعالى - { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } إلى الثلاثة والسبعة . ومميز العدد محذوف أي : أيام . والجملة مؤكدة لما أفاد قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } وفائدة هذا التأكيد دفع توهم أن الواو بمعنى أو ، أو أن السبعة كناية عن مطلق كثرة العدد ، وبذلك يتقرر الحكم نصاً ، ويتبين أن الذي يحل محل النسك إنما هو العشرة الكاملة وليس بعضها .
ووصف العشرة بأنها كاملة ، للتنويه بأن هذا الصوم طريق الكمال لأعمال الحج ، وأن الحاج إذا نسي بعضها لا يكون حجه تاما حتى يصوم ما أمره الله - تعالى - به .
وقوله : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } الإِشارة فيه تعود إلى التمتع المفهوم من قوله - تعالى - : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج . . . } إلخ .
أي : ذلك التمتع الذي يتمتع فيه المحرم بين النسكين ، إنما هو للشخص الذي ليس أهله من المقيمين في مكة وما حولها ، لأن المقيمين في مكة وما حولها يفردون ولا يجمعون ، إذ العمرة في إمكانهم أن يؤدوها طول أيام السنة .
وقد شرع - سبحانه - التمتع ليكون تيسيراً ورفقاً للمقيمين بعيداً عن مكة هذا رأي الأحناف .
ويرى الشافعية : أن أهل مكة وما حولها يقرنون ويتمتعون كغيرهم من أهل الآفاق ، وأن اسم الإِشارة في الجملة الكريمة يعود إلى النسك وما يقوم مقامه من الصوم لأنه أقرب مذكور .
وعلى رأيهم يكون المعنى : ذلك الذبح لما تيسر من الهدى والصيام لمن لم يتيسر له الهدى إنما هو على سكان الآفاق ، لا على سكان مكة وما حولها ، لأن سكان مكة وما حولها قد أحرموا لتمتعهم من الميقات فلا يجب عليهم شيء .
والمراد بحاضري المسجد الحرام : أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل الموقيت عند الحنفية . وقال المالكية : هم أهل مكة خاصة . وقال الشافعية : هم أهل مكة ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقثصر فيها الصلاة . ولكل أدلته المفصلة في كتب الفقه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بالأمر بتقواه وبالتحذير من عقابه فقال : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
أي : واتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه ، واعلموا أن الله شديد العقاب مع الترغيب بالثواب ، فقد جرت عادة الناس أنهم يصلحون بالثواب والعقاب .
هذا ، وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على بعض الأحكام التي تتعلق بالحج والعمرة ، والمتدبر في هذه الأحكام يراها قد امتازت بأحكم ضروب التوجيه ، وأيسر أنواع التكليف .
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعَطَفَ بذكر الجِهَاد ، شرَعَ في بيان المناسك ، فأمرَ بإتمام الحجّ والعُمْرة ، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما{[3433]} ؛ ولهذا قال بعده : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي : صُدِدْتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما . ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة مُلْزِمٌ ، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها ، كما هما قولان للعلماء . وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا " الأحكام " مستقصى{[3434]} ولله الحمد والمن وقال شعبة ، عن عمرو بن مُرّة ، عن عبد الله بن سَلَمة ، عن علي : أنه قال في هذه الآية : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قال : أن تُحْرِم من دُوَيرة أهلك .
وكذا قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وطاوس . وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية : إتمامهما{[3435]} أن تحرم من أهلك ، لا تريد إلا الحج والعمرة ، وتُهِلّ من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة ، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت : لو حججت أو اعتمرت ، وذلك يجزئ ، ولكن التمام أن تخرج له ، ولا تخرج لغيره .
وقال مكحول : إتمامهما إنشاؤهما جميعًا من الميقات .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر عن الزهري قال : بلغنا أنّ عمر قال في قول الله{[3436]} : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ قال ]{[3437]} : من تمامهما أن تُفْرد كُلَّ واحد منهما من الآخر ، وأن تعتمر في غير أشهر الحج ؛ إن الله تعالى يقول : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } .
وقال هُشَيْم عن ابن عون قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة{[3438]} فقيل له : العمرة في المحرم ؟ قال : كانوا يرونها تامة . وكذا روي عن قتادة بن دعامة ، رحمهما الله .
وهذا القول فيه نظر ؛ لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَرٍ كلها في ذي القعدة : عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، وعمرة الجِعرّانة في ذي القعدة سنة ثمان ، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معًا في ذي القعدة سنة عشر ، ولا اعتمر قَطّ في غير ذلك بعد هجرته ، ولكن قال لأم هانئ{[3439]} " عُمْرة في رمضان تعدل حجة معي " {[3440]} . وما ذاك إلا لأنها [ كانت ]{[3441]} قد عزمت على الحج معه ، عليه السلام ، فاعتاقَتْ عن ذلك بسبب الطهر ، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ، ونَصّ سعيد بن جبير على أنه من خصائصها ، والله أعلم .
وقال السدي في قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } أي : أقيموا الحج والعمرة . وقال علي بن أبي طلحة{[3442]} عن ابن عباس في قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } يقول : من أحرم بالحج أو بالعمرة {[3443]} فليس له أن يحل حتى يتمهما ، تمام الحج يوم النحر ، إذا رمى جمرة العقبة ، وطاف{[3444]} بالبيت ، وبالصفا ، والمروة ، فقد حل .
وقال قتادة ، عن زُرَارة ، عن ابن عباس أنه قال : الحج عرفة ، والعمرة الطواف . وكذا روى الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة في قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قال : هي [ في ]{[3445]} قراءة عبد الله : " وأقيموا{[3446]} الحج والعمرة إلى البيت " لا تُجاوز بالعمرة البيت . قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد ابن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس .
وقال سفيان عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قال : " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت " وكذا روى الثوري أيضًا عن إبراهيم ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قرأ : " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت " .
وقرأ الشعبي : " وأتموا{[3447]} الحج والعمرةُ لله " برفع العمرة ، وقال : ليست بواجبة . وروي عنه خلاف ذلك .
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة ، عن أنس وجماعة من الصحابة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة ، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه : " من كان معه هَدْي فليهل بحج وعمرة " {[3448]} .
وقال في الصحيح أيضًا : " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " .
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثًا غريبًا فقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عبد الله الهروي ، حدثنا غسان الهروي ، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان ، عن عطاء ، عن صفوان بن أمية أنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران ، عليه جبة ، فقال : كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي ؟ قال : فأنزل الله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " أين السائل عن العُمْرة ؟ " فقال : ها أنا ذا . فقال له : " ألق عنك ثيابك ، ثم اغتسل ، واستنشق ما استطعت ، ثم ما كنت صانعًا في حَجّك فاصنعه في عمرتك " {[3449]} هذا حديث غريب وسياق عجيب ، والذي ورد في الصحيحين ، عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال : كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبة وخَلُوق ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاءه الوحي ، ثم رفع رأسه فقال : " أين السائل ؟ " فقال : ها أنا ذا ، فقال : " أما الجبة فانزعها ، وأما الطيب الذي بك فاغسله ، ثم ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عُمْرتك " {[3450]} . ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق{[3451]} ولا ذكر نزول الآية{[3452]} ، وهو عن يعلى بن أمية ، لا [ عن ]{[3453]} صفوان بن أمية ، والله أعلم .
وقوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ذكروا أنّ هذه الآية نزلت في سنة ست ، أيْ عام الحديبية ، حين حال المشركون بين رسُول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت ، وأنزل الله في ذلك سورةَ الفتح بكمالها ، وأنزل لهم رُخْصَةً : أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة ، وأن يَتَحَللوا من إحرامهم ، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا . فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ، ففعل الناس وكان منهم من قَصّر رأسه ولم يحلقه ، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : " رَحِم الله المُحَلِّقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ فقال في الثالثة : " والمقصرين " {[3454]} . وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك ، كُلُّ سبعة في بَدَنة ، وكانوا ألفًا وأربعمائة ، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم ، وقيل : بل كانوا على طَرف الحرم ، فالله أعلم .
ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو ، فلا يتحلل إلا من حصره عَدُو ، لا مرض ولا غيره ؟ على قولين :
فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عَنْ عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، وابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وابن أبي نَجِيح [ ومجاهد ]{[3455]} عن ابن عباس ، أنه قال : لا حَصْرَ إلا حصرُ العدو ، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء ، إنما قال الله تعالى : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } فليس الأمن حصرًا .
قال : وروي عن ابن عمر ، وطاوس ، والزهري ، وزيد بن أسلم ، نحو ذلك .
والقول الثاني : أن الحصر أعمّ من أن يكون بعدُوّ أو مرض أو ضلال - وهو التَّوَهان عن الطريق أو نحو ذلك . قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا حَجَّاج بن الصوّافُ ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو{[3456]} الأنصاري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كُسِر أو عَرِج فقد حل ، وعليه حجة أخرى " .
قال : فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا صدق .
وأخرجه{[3457]} أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير ، به{[3458]} . وفي رواية لأبي داود وابن ماجة : من عرج أو كُسر أو مَرض - فذكر معناه . ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن عرفة ، عن إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف ، به . ثم قال : وروي عن ابن مسعود ، وابن الزبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، والنخعي ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، أنهم قالوا : الإحصار من عدو ، أو مرض ، أو كسر .
وقال الثوري : الإحصار من كل شيء آذاه . وثبت في الصحيحين عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل على ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، فقالت : يا رسول الله ، إني أريد الحج وأنا شاكية . فقال : " حُجِّي واشترطي : أنَّ مَحِلِّي حيثُ حبَسْتَني " {[3459]} . ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله{[3460]} . فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث . وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القولَ بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث . قال البيهقي وغيره من الحفاظ : فقد صح ، ولله الحمد .
وقوله : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال الإمام مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي ابن أبي طالب أنه كان يقول : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } شاة . وقال ابن عباس : الهَدْي من الأزواج الثمانية : من الإبل والبقر والمعز والضأن .
وقال الثوري ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال : شاة . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وأبو العالية ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وعبد الرحمن بن القاسم ، والشعبي ، والنّخعي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم مثلَ ذلك ، وهو مذهب الأئمة الأربعة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة وابن عمر : أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر .
قال : ورُوِي عن سالم ، والقاسم ، وعروة بن الزبير ، وسعيد بن جبير - نحوُ ذلك .
قلت : والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قضية{[3461]} الحديبية ، فإنه لم يُنْقَل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذاك شاة ، وإنما ذبحوا الإبل والبقر ، ففي الصحيحين عن جابر قال : أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة{[3462]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال : بقدر يَسَارته{[3463]} .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : إن كان موسرًا فمن الإبل ، وإلا فمن البقر ، وإلا فمن الغنم . وقال هشام بن عروة ، عن أبيه : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال : إنما ذلك فيما بين الرّخص والغلاء .
والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجْزَاء ذبح الشاة في الإحصار : أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي ، أي : مهما تيسر مما يسمى هديًا ، والهَدْي من بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم ، كما قاله الحَبْر البحر{[3464]} ترجمان القرآن وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد ثَبتَ في الصحيحين عن عائشة أمّ المؤمنين ، رضي الله عنها ، قالت : أهْدَى النبي صلى الله عليه وسلم مَرة غنمًا{[3465]} .
وقوله : { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } معطوف على قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وليس معطوفًا على قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } كما زعمه ابن جرير ، رحمه الله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم ، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }
ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة ، إن كان قارنًا ، أو من فعْل أحدهما إن كان مُفْردًا أو متمتعًا ، كما ثبت في الصحيحين عن حَفْصَةَ أنها قالت : يا رسول الله ، ما شأن{[3466]} الناس حَلّوا من العمرة ، ولم تَحِلّ أنت من عمرتك ؟ فقال : " إني لَبَّدْتُ رأسي وقلَّدت هَدْيي ، فلا أحلّ حتى أنحر " {[3467]} .
وقوله : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني : سمعت عبد الله بن مَعْقل ، قال : فعدت إلى كعب بن عُجْرَةَ في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - فسألته عن { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ } فقال : حُملْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقملُ يتناثر على وجهي . فقال : " ما كنتُ أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا ! أما تجد شاة ؟ " قلت : لا . قال : " صُمْ ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من طعام ، واحلق رأسك " . فنزلت فيّ خاصة ، وهي لكم عامة{[3468]} .
وقال الإمام أحمدُ : حدثنا إسماعيلُ ، حدثنا أيوب ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عُجْرَة قال : أتى عَلَيّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر ، والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي - أو قال : حاجبي - فقال : " يُؤْذيك{[3469]} هَوَامُّ رأسك ؟ " . قلت : نعم . قال : " فاحلقه ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك نسيكة " . قال أيوب : لا أدري بأيتهن بدأ{[3470]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا أبو بشر{[3471]} عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، ونحن محرمون وقد حصره المشركون{[3472]} وكانت لي وَفْرة ، فجعلت الهوام تَسَاقَطُ على وجهي ، فمر بي رسول الله{[3473]} صلى الله عليه وسلم فقال : " أيؤذيك هوام رأسك ؟ " فأمره أن يحلق . قال : ونزلت هذه الآية : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }{[3474]} .
وكذا رواه عفان ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، وهو جعفر بن إياس ، به . وعن شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، به{[3475]} . وعن شعبة ، عن داود ، عن الشعبي ، عن كعب بن عُجْرَة ، نحوه .
ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب ابن عجرة - فذكر نحوه{[3476]} .
وقال سعد{[3477]} بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن أبان بن صالح ، عن الحسن البصري : أنه سمع كعب بن عُجْرَة يقول : فذبحت شاة . رواه ابن مَرْدُوَيه . وروي أيضًا من حديث عمر بن قيس ، سندل - وهو ضعيف{[3478]} - عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النسك شاة ، والصيام ثلاثة أيام ، والطعام{[3479]} فَرَق ، بين ستة " {[3480]} .
وكذا رُوي عن علي ، ومحمد بن كعب ، وعكرمة{[3481]} وإبراهيم [ النخعي ]{[3482]} ومجاهد ، وعطاء ، والسدي ، والربيع بن أنس .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا عبد الله بن وهب : أن مالك بن أنس حدثه{[3483]} عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب ابن عُجْرة : أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فآذاه القَمْل في رأسه ، فأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه ، وقال : " صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، مُدّين مدّين لكل إنسان ، أو انسُك شاة ، أيَّ ذلك فعلتَ أجزأ عنك " {[3484]} .
وهكذا روى ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال : إذا كان " أو " فأيه أخذتَ أجزأ عنك .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن ، وحُميد الأعرج ، وإبراهيم النخَعي ، والضحاك ، نحو ذلك .
قلت : وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يُخَيَّر{[3485]} في هذا المقام ، إن شاء صام ، وإن شاء تصدّق بفَرق ، وهو ثلاثة آصع ، لكل مسكين نصفُ صاع ، وهو مُدّان ، وإن شاء ذبح شاة وتصدّق بها على الفقراء ، أيّ ذلك فعل أجزأه . ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاءَ بالأسهل فالأسهل : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } ولما أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم كعبَ بن عجرة بذلك ، أرشده إلى الأفضل ، فالأفضل فقال : انسك شاة ، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام . فكلّ حسن في مقامه . ولله الحمد والمنة .
وقال ابن جرير : حدّثنا أبو كُرَيْب ، حدّثنا أبو بكر بن عياش قال : ذكر الأعمشُ قال : سأل إبراهيمُ سعيدَ بن جبير عن هذه الآية : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } فأجابه يقول : يُحْكَم عليه طعام ، فإن كان عنده اشترى شاة ، وإن لم يكن قوّمت الشاة دراهم ، وجعل مكانها طعام فتصدق ، وإلا صام بكل نصف صاع يومًا ، قال إبراهيم : كذلك سمعت علقمة يذكر . قال : لما قال لي سعيد بن جبير : من هذا ؟ ما أظرفه ! قال : قلت : هذا إبراهيم . فقال : ما أظرفه ! كان يجالسنا . قال : فذكرت ذلك لإبراهيم ، قال : فلما قلت : " يجالسنا " انتفض منها{[3486]} .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا عبُيَد الله{[3487]} بن معاذ ، عن أبيه ، عن أشعث ، عن الحسن في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال : إذا كان بالمُحْرِم أذى من رأسه ، حَلَق وافتدى بأيّ هذه الثلاثة شاء ، والصيام عشرة أيام ، والصدقة على عشرة مساكين ، كلّ مسكين مَكُّوكين : مكوكا من تمر ، ومكوكا من بُر ، والنسك شاة .
وقال قتادة ، عن الحسن وعكرمة في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال : إطعام عشرة مساكين .
وهذان القولان من سعيد بن جبير ، وعلقمة ، والحسن ، وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر ؛ لأنه قد ثَبَتت السنةُ في حديث كعب بن عُجْرة بصيام ثلاثة أيام ، [ لا عشرة و ]{[3488]} لا ستة ، أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة ، وأن ذلك على التخيير كما دَلّ عليه سياق القرآن . وأما هذا الترتيبُ فإنما هو معروفٌ في قَتْل الصيد ، كما هو نص القرآن . وعليه أجمع الفقهاء هناك ، بخلاف هذا ، والله أعلم .
وقال هُشَيم : أخبرنا ليث ، عن طاوس : أنه كان يقول : ما كان من دم أو طعام{[3489]} فبمكة ، وما كان من صيام فحيث شاء . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، والحسن .
وقال هُشَيم : أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء : أنه كان يقول : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء .
وقال هشيم : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد ، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر ، قال : حج عثمان بن عفان ، ومعه علي والحسين{[3490]} بن علي ، فارتحل عثمان . قال أبو أسماء : وكنت مع ابن جعفر ، فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه ، قال : فقلت : أيها النؤوم{[3491]} . فاستيقظ ، فإذا الحسين{[3492]} بن علي . قال : فحمله ابنُ جعفر حتى أتينا به السُّقْيا قال : فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس . قال : فمرضناه نحوا من عشرين ليلة . قال : قال علي للحسين : ما الذي تجد ؟ قال : فأومأ بيده إلى رأسه . قال : فأمر به عَليّ فَحَلَق رأسه ، ثم دعا ببدنَةٍ فنحرها . فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة . وإن كانت عن{[3493]} التحلل فواضح .
وقوله : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي : إذا تمكنتم من أداء المناسك ، فمن كان منكم مُتَمتِّعًا بالعُمرة إلى الحج ، وهو يشمل من أحرم بهما ، أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص ، وهو المعروف في كلام الفقهاء . والتمتع العام يشمل القسمين ، كما دلت عليه الأحاديثُ الصحاح ، فإن من الرُواة من يقولُ : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وآخر يقول : قَرَن . ولا خلاف أنّه ساق الهدي{[3494]} .
وقال تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي : فليذبح ما قدر عليه من الهدي ، وأقله شاة ، وله أن يذبح البقر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر . وقال الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة{[3495]} عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح بقرة عن نسائه ، وكن متمتعات . رواه أبو بكر بن مَرْدويه{[3496]} .
وفي هذا دليل على شرعية{[3497]} التمتع ، كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين قال : نزلت آية المتعة{[3498]} في كتاب الله ، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم لم يُنزل قرآن يُحَرّمه ، ولم يُنْهَ عنها ، حتى مات . قال رجل بِرَأيه ما شاء{[3499]} . قال البخاري : يقال : إنه عُمَر . وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحًا به أن عمر ، رضي الله عنه ، كان ينهى الناس عن التمتع ، ويقول : إن{[3500]} نأخذ بكتاب الله فإنّ الله يأمر بالتمام . يعني قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وفي نفس الأمر لم يكن عمر ، رضي الله عنه ، ينهى عنها محَرِّمًا لها ، إنما كان يَنْهَى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين ، كما قد صرح به ، رضي الله عنه .
وقوله : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } يقول تعالى : فمن لم يجد هَدْيًا فَلْيصمْ ثلاثة أيام في الحج ، أي : في أيام المناسك . قال العلماء : والأولى أن يصومها قبل يوم عَرَفة في العشر{[3501]} ، قاله عطاء . أو من حين يحرم ، قاله ابن عباس وغيره ، لقوله : { فِي الْحَجِّ } ومنهم من يجوِّز صيامها من أول شوال ، قاله طاوس ومجاهد وغير واحد . وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين ، وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، والسّدّي ، وعطاء ، وطاوس ، والحكم ، والحسن ، وحماد ، وإبراهيم ، وأبو جعفر الباقر ، والربيع ، ومقاتل بن حَيّان . وقال العوفي ، عن ابن عباس : إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة ، فإذا كان يومُ عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله . وكذا رَوَى أبو إسحاق عن وبرة ، عن ابن عمر ، قال : يصوم يومًا قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة . وكذا رَوَى عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أيضًا .
فلو لم يَصُمْها أو بعضها قبل [ يوم ]{[3502]} العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق ؟ فيه قولان للعلماء ، وهما للإمام الشافعي أيضًا ، القديم منهما أنه يجوزُ له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري : لم يرَخّص في أيام التشريق أن يُصَمن{[3503]} إلا لمن لا يجد الهَدي{[3504]} . وكذا رواه مالك ، عن الزّهري ، عن عروة ، عن عائشة . وعن سالم ، عن ابن عمر [ إنما قالوا ذلك لعموم قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ } ] {[3505]} . {[3506]} وقد روي من غير وجه عنهما . ورواه سفيان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أنه كان يقول : من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق . وبهذا يقول عُبَيد بن عُمَير الليثي {[3507]} وعكرمة ، والحسن البصري ، وعروة بن الزبير ؛ وإنما قالوا ذلك لعموم قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } والجديد من القولين : أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق ، لما رواه مسلم عن نبَيْشَة {[3508]} الهذلي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله " {[3509]} .
وقوله : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } فيه قولان :
أحدهما : إذا رجعتم في الطريق . ولهذا قال مجاهد : هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق . وكذا قال عطاء بن أبي رباح .
والقول الثاني : إذا رجعتم إلى أوطانكم ؛ قال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن سالم ، سمعت ابن عمر قال : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } قال : إذا رَجَع إلى أهله{[3510]} ، وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والربيع بن أنس . وحكى على ذلك أبو جعفر بن جرير الإجماع .
وقد قال البخاري : حدثنا يحيى بن بُكَير ، حدثنا الليث ، عن عُقَيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهَدْي من ذي الحُلَيفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعمرة ، ثم أهلَّ بالحج ، فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج . فكان مِنَ الناس مَنْ أهدى فساق الهَدْي ، ومنهم من لم يُهْد . فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس : " من كان منكم أهدى فإنه لا يَحل لشيء حَرُم منه حتَى يقضي حَجّه ، ومَنْ لم يكن منكم أهدى فَلْيَطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة ، وَلْيُقَصِّر وليَحللْ{[3511]} ثم ليُهِلّ بالحج ، فمن لم يجد هديًا فليصُمْ ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " . وذكر تمام الحديث{[3512]} .
قال الزهري : وأخبرني عروة ، عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ، به{[3513]} .
وقوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } قيل : تأكيد ، كما تقول العرب : رأيت بعيني ، وسمعت بأذني وكتبت بيدي . وقال الله تعالى : { وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وقال : { وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ العنكبوت : 48 ] ، وقال : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [ الأعراف : 142 ] .
وقيل : معنى { كَامِلَةٌ } الأمْرُ بإكمالها وإتمامها ، اختاره ابنُ جرير . وقيل : معنى { كَامِلَةٌ } أي : مُجْزئة عن الهَدْي . قال{[3514]} هُشَيْم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن البصري ، في قوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } قال : مِنَ الهَدْي .
وقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال ابن جرير : اختلف أهلُ التأويل فيمن عُني بقوله : { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم مَعْنِيُّون به ، وأنه لا متعة لهم ، فقال بعضهم : عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم .
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان - هو الثوري - قال : قال ابن عباس ومجاهد : هم أهل الحَرَم . وكذا روى ابن المبارك ، عن الثوري ، وزاد : الجماعة عليه .
وقال قتادة : ذُكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة ، لا متعة لكم ، أحلت لأهل الآفاق وحُرِّمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم واديا - أو قال : يجعل بينه وبين الحرم واديًا{[3515]} - ثم يُهِلّ بعمرة .
وقال عبد الرزاق : حدثنا{[3516]} مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : المتعةُ للناس - لا لأهل مكة - مَنْ لم يكن أهله من الحرم . وذلك قول الله عز وجل : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : وبلغني عن ابن عباس مثلُ قول طاوس .
وقال آخرون : هم أهل الحرم ومن بَيْنه وبين المواقيت ، كما قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن رجل ، عن عطاء ، قال : من كان أهله دون المواقيت ، فهو كأهل مكة ، لا يتمتع{[3517]} .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن مكحول ، في قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : من كان دون الميقات .
وقال ابن جُرَيْج عن عطاء : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال : عرفة ، ومَرّ ، وعُرَنة ، وضَجْنان ، والرجيع{[3518]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، سمعت الزهري يقول : من كان أهله على يوم أو نَحْوه تَمتَّع . وفي رواية عنه : اليوم واليومين . واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ، ومن كان منه على مسافة لا تُقْصَر منها{[3519]} الصلاة ؛ لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرًا ، والله أعلم .
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : فيما أمركم{[3520]} وما نهاكم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن خالف{[3521]} أمره ، وارتكب ما عنه زجره .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَتِمّواْ الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتّىَ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مّن رّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك أتموا الحج بمناسكه وسننه ، وأتموا العمرة بحدودها وسننها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : هو في قراءة عبد الله : «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت » . قال : لا تجاوزوا بالعمرة البيت . قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قرأ : «وأقِيمُوا الحَج والعُمْرَةَ إلى البَيْتِ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قرأ : «وأقِيمُوا الحَج والعُمْرَةَ إلى البَيْت » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وأتموا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ يقول : من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحلّ حتى يتمها تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت فقد حل من إحرامه كله ، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة ، فقد حل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : ما أمروا فيهما .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : قال إبراهيم عن علقمة بن قيس قال : «الحج » : مناسك الحج ، و«العمرة » : لا يجاوز بها البيت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : قال تقضي مناسك الحجّ : عرفة والمزدلفة ومواطنها ، والعمرة للبيت أن يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يحلّ .
وقال آخرون : تمامهما أن تحرم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله ابن سلمة ، عن عليّ أنه قال : جاء رجل إلى عليّ فقال له في هذه الآية : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ أن تحرم من دويرة أهلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : جاء رجل إلى عليّ رضوان الله عليه ، فقال : أرأيت قول الله عز وجل : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ ؟ قال : أن تحرم من دويرة أهلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير ، قال : من تمام العمرة أن تحرم من دويرة أهلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن ثور بن يزيد ، عن سليمان بن موسى ، عن طاوس ، قال : تمامهما : إفرادهما مؤتنفتين من أهلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سفيان ، عن ثور ، عن سليمان بن موسى ، عن طاوس : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : تفردهما مؤقتتين من أهلك ، فذلك تمامهما .
وقال آخرون : تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحجّ ، وتمام الحجّ أن يؤتى بمناسكه كلها حتى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : وتمام العمرة ما كان في غير أشهر الحجّ . وما كان في أشهر الحجّ ، ثم أقام حتى يحجّ فهي متعة عليه فيها الهدي إن وجد ، وإلا صام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : ما كان في غير أشهر الحجّ فهي عمرة تامة ، وما كان في أشهر الحجّ فهي متعة وعليه الهدي .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن ابن عون ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة . قال : فقيل له : العمرة في المحرّم ؟ قال : كانوا يرونها تامة .
وقال آخرون : إتمامهما أن تخرج من أهلك لا تريد غيرهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني رجل ، عن سفيان ، قال : هو يعني تمامهما أن تخرج من أهلك لا تريد إلا الحجّ والعمرة ، وتهلّ من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة ، حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت : لو حججت أو اعتمرت . وذلك يجزىء ، ولكن التمام أن تخرج له لا تخرج لغيره .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أتموا الحجّ والعمرة لله إذا دخلتم فيهما . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ليست العمرة واجبة على أحد من الناس . قال : فقلت له : قول الله تعالى : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ ؟ قال : ليس من الخلق أحد ينبغي له إذا دخل في أمر إلا أن يتمه ، فإذا دخل فيها لم ينبغ له أن يهلّ يوما أو يومين ثم يرجع ، كما لو صام يوما لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال : حدثني سعيد بن أبي بردة أن الشعبي وأبا بردة تذاكرا العمرة ، قال : فقال الشعبي : تطوّع : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ وقال أبو بردة : هي واجبة : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن عون ، عن الشعبي أنه كان يقرأ وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ .
وقد رُوي عن الشعبي خلاف هذا القول ، وإن كان المشهور عنه من القول هو هذا . وذلك ما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن الشعبي ، قال : العمرة واجبة .
فقراءة من قال : العمرة واجبة نَصْبها بمعنى أقيموا فرض الحج والعمرة . كما :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : أخبرنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت أبا إسحاق ، يقول : سمعت مسروقا يقول : أمرتم في كتاب الله بأربع : بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحجّ ، والعمرة قال : ثم تلا هذه الآية : وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ إلى الْبَيْتِ .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يروي عن الحسن ، عن مسروق ، قال : أمرنا بإقامة أربعة : الصلاة ، والزكاة ، والعمرة ، والحجّ ، فنزلت العمرة من الحجّ منزلة الزكاة من الصلاة .
حدثنا ابن بشار ، قال : أنبأنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال عليّ بن حسين وسعيد بن جبير ، وسئلا : أواجبة العمرة على الناس ؟ فكلاهما قال : ما نعلمها إلا واجبة ، كما قال الله : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ .
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، قال : سأل رجل سعيد بن جبير عن العمرة فريضة هي أم تطوّع ؟ قال : فريضة . قال : فإن الشعبي يقول : هي تطوّع . قال : كذب الشعبي وقرأ : وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة عمن سمع عطاء يقول في قوله : وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ قال : هما واجبان : الحجّ ، والعمرة .
فتأويل هؤلاء في قوله تبارك وتعالى : وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ أنهما فرضان واجبان من الله تبارك وتعالى ( أمر ) بإقامتهما ، كما أمر بإقامة الصلاة ، وأنهما فريضتان ، وأَوجب العمرة وجوب الحجّ . وهم عدد كثير من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من الخالفين كرهنا تطويل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم . وقالوا : معنى قوله : وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ وأقيموا الحجّ والعمرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ يقول : أقيموا الحجّ والعمرة .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ثوير ، عن أبيه ، عن عليّ : «وَأَقِيمُوا الحجّ والعُمْرَةَ للبيْتِ » ثم هي واجبة مثل الحجّ .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا ثوير ، عن أبيه ، عن عبد الله : «وَأَقِيمُوا الحجّ وَالْعُمْرَةَ إلى الْبَيْتِ » ثم قال عبد الله : والله لولا التحرّج وأني لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شيئا ، لقلت إن العمرة واجبة مثل الحجّ .
وكأنهم عنوا بقوله : أقيموا الحجّ والعمرة : ائتوا بهما بحدودهما وأحكامهما على ما فرض عليكم .
وقال آخرون ممن قرأ قراءة هؤلاء بنصب العمرة : العمرة تطوّع . ورأوا أنه لا دلالة على وجوبها في نصبهم العمرة في القراءة ، إذ كان من الأعمال ما قد يلزم العبد عمله وإتمامه بدخوله فيه ، ولم يكن ابتداء الدخول فيه فرضا عليه ، وذلك كالحجّ التطوّع لا خلاف بين الجميع فيه أنه إذا أحرم به أن عليه المضيّ فيه وإتمامه ولم يكن فرضا عليه ابتداء الدخول فيه . وقالوا : فكذلك العمرة غير فرض واجب الدخول فيها ابتداء ، غير أن على من دخل فيها وأوجبها على نفسه إتمامها بعد الدخول فيها .
قالوا : فليس في أمر الله بإتمام الحجّ والعمرة دلالة على وجوب فرضها .
قالوا : وإنما أوجبنا فرض الحجّ بقوله عزّ وجل : ولِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً . وممن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي معشر عن إبراهيم ، قال : قال عبد الله : الحجّ فريضة ، والعمرة تطوّع .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي عروبة ، عن أبي معشر ، عن النخعي ، عن ابن مسعود مثله .
وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عثمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، قال : العمرة ليست بواجبة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن سماك ، قال : سألت إبراهيم عن العمرة فقال : سنة حسنة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا عبد الله بن عون ، عن الشعبي ، قال : العمرة تطوّع .
فأما الذين قرءوا ذلك برفع العمرة فإنهم قالوا : لا وجه لنصبها ، فالعمرة إنما هي زيارة البيت ، ولا يكون مستحقا اسم معتمر إلا وهو له زائر ، قالوا : وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته ، وهو متى بلغه فطاف به وبالصفا والمروة ، فلا عمل يبقى بعده يؤمر بإتمامه بعد ذلك ، كما يؤمر بإتمامه الحاج بعد بلوغه والطواف به وبالصفا والمروة بإتيان عرفة والمزدلفة ، والوقوف بالمواضع التي أمر بالوقوف بها وعمل سائر أعمال الحجّ الذي هو من تمامه بعد إتيان البيت ، لم يكن لقول القائل للمعتمر أتمّ عمرتك وجه مفهوم ، وإذا لم يكن له وجه مفهوم فالصواب من القراءة في العمرة الرفع على أنه من أعمال البرّ لله ، فتكون مرفوعة بخبرها الذي بعدها ، وهو قوله : لله .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا ، قراءة من قرأ بنصب العمرة على العطف بها على الحج ، بمعنى الأمر بإتمامهما له . ولا معنى لاعتلال من اعتلّ في رفعها بأن العمرة زيارة البيت ، فإن المعتمر متى بلغه ، فلا عمل بقي عليه يؤمر بإتمامه ، وذلك أنه إذا بلغ البيت فقد انقضت زيارته وبقي عليه تمام العمل الذي أمره الله به في اعتماره ، وزيارته البيت وذلك هو الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، وتجنب ما أمر الله بتجنبه إلى إتمامه ذلك ، وذلك عمل وإن كان مما لزمه بإيجاب الزيارة على نفسه غير الزيارة . هذا مع إجماع الحجة على قراءة العمرة بالنصب ، ومخالفة جميع قرّاء الأمصار قراءة من قرأ ذلك رفعا ، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على خطأ من قرأ ذلك رفعا .
وأما أولى القولين اللذين ذكرنا بالصواب في تأويل قوله : والعُمْرَةَ لِلّهِ على قراءة من قرأ ذلك نصبا فقول عبد الله بن مسعود ، ومن قال بقوله من أن معنى ذلك : وأتموا الحجّ والعمرة لله إلى البيت بعد إيجابكم إياهما لا أن ذلك أمر من الله عزّ وجل بابتداء عملهما والدخول فيهما وأداء عملهما بتمامه بهذه الآية ، وذلك أن الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا من أن يكون أمرا من الله عزّ وجل بإقامتهما ابتداء وإيجابا منه على العباد فرضهما ، وأن يكون أمرا منه بإتمامهما بعد الدخول فيهما ، وبعد إيجاب موجبهما على نفسه ، فإذا كانت الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا ، فلا حجة فيها لأحد الفريقين على الاَخر ، إلا وللاَخر عليه فيها مثلها . وإذا كان كذلك ولم يكن بإيجاب فرض العمرة خبر عن الحجة للعذر قاطعا ، وكانت الأمة في وجوبها متنازعة ، لم يكن لقول قائل هي فرض بغير برهان دالّ على صحة قوله معنى ، إذ كانت الفروض لا تلزم العباد إلا بدلالة على لزومها إياهم واضحة .
فإن ظنّ ظانّ أنها واجبة وجوب الحجّ ، وأن تأويل من تأوّل قوله : وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ بمعنى : أقيموا حدودهما وفروضهما أولى من تأويلنا بما :
حدثني به حاتم بن بكير الضبي ، قال : حدثنا أشهل بن حاتم الأرطبائي ، قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد بن جحادة ، عن رجل ، عن زميل له ، عن أبيه ، وكان أبوه يكنى أبا المنتفق ، قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعرفة ، فدنوت منه ، حتى اختلفت عنق راحلتي وعنق راحلته ، فقلت : يا رسول الله أنبئني بعمل ينجيني من عذاب الله ويدخلني جنته قال : «اعْبُدِ اللّهَ وَلا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئَا ، وأقِمِ الصّلاةَ المَكْتُوبَةَ ، وأدّ الزكاةَ المَفُرُوضَةَ ، وحُجّ واعْتَمِرْ » قال أشهل : وأظنه قال : «وصم رمضان ، وانظر ماذا تحبّ من الناس أن يأتوه إليك فافعله بهم ، وما تكره من الناس أن يأتوه إليك فذرهم منه » .
وما حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ومحمد بن أبي عدي ، عن شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبي رزين العقيلي رجل من بني عامر قال : قلت يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن ، وقد أدركه الإسلام ، أفأحج عنه ؟ قال : «حُجّ عَنْ أبِيكَ واعْتَمِرْ » .
وما حدثني به يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : «اعْبُدُوا اللّهَ وَلا تُشْركُوا بِهِ شَيْئا ، وأقِيمُوا الصّلاةَ ، وآتُوا الزّكاةَ ، وحُجّوا وَاعَتَمِرُوا واسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ » . وما أشبه ذلك من الأخبار ، فإن هذه أخبار لا يثبت بمثلها في الدين حجة لوَهْيِ أسانيدها ، وأنها مع وهي أسانيدها لها في الأخبار أشكال تنبىء عن أن العمرة تطوع لا فرض واجب . وهو ما :
حدثنا به محمد بن حميد ، ومحمد بن عيسى الدامغاني ، قالا : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ ، فقال : «لا ، وأنْ تَعْتَمِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا شريك ، عن معاوية بن إسحاق ، عن أبي صالح الحنفي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحَجّ جِهادٌ والعُمْرَةُ تَطَوّعٌ » .
وقد زعم بعض أهل الغباء أنه قد صح عنده أن العمرة واجبة بأنه لم يجد تطوعا إلا وله إمام من المكتوبة فلما صح أن العمرة تطوع وجب أن يكون لها فرض ، لأن الفرض إمام التطوّع في جميع الأعمال .
فيقال لقائل ذلك : فقد جعل الاعتكاف تطوعا ، فما الفرض الذي هو إمام متطوّعه ؟ ثم يسئل عن الاعتكاف أواجب هو أم غير واجب ؟ فإن قال : واجب ، خرج من قول جميع الأمة ، وإن قال : تطوع ، قيل : فما الذي أوجب أن يكون الاعتكاف تطوعا والعمرة فرضا من الوجه الذي يجب التسليم له ؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله .
وبما استشهدنا من الأدلة ، فإن أولى القراءتين بالصواب في العمرة قراءة من قرأها نصبا . وإن أولى التأويلين في قوله وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ تأويل ابن عباس الذي ذكرنا عنه من رواية علي بن أبي طلحة عنه من أنه أمر من الله بإتمام أعمالهما بعد الدخول فيهما وإيجابهما على ما أمر به من حدودهما وسننهما .
وإن أولى القولين في العمرة بالصواب قول من قال : هي تطوّع لا فرض . وإن معنى الآية : وأتموا أيها المؤمنون الحجّ والعمرة لله بعد دخولكم فيهما وإيجابكموهما على أنفسكم على ما أمركم الله من حدودهما .
وإنما أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية على نبيه عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية التي صدّ فيها عن البيت معرفه والمؤمنين فيها ما عليهم في إحرامهم إن خلي بينهم وبين البيت ، ومبينا لهم فيها ما المخرج لهم من إحرامهم إن أحرموا ، فصدّوا عن البيت وبذكر اللازم لهم من الأعمال في عمرتهم التي اعتمروها عام الحديبية وما يلزمهم فيها بعد ذلك في عمرتهم وحجهم ، افتتح بقوله : يَسْألُونَكَ عَن الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ والحَجّ . وقد دللنا فيما مضى على معنى الحجّ والعمرة بشواهد ، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : فإنْ أُحْصِرُتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي .
اختلف أهل التأويل في الإحصار الذي جعل الله على من ابتلي به في حجه وعمرته ما استيسر من الهدي ، فقال بعضهم : هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه كان يقول : الحصر : الحبس كله . يقول : أيما رجل اعترض له في حجته أو عمرته فإنه يبعث بهديه من حيث يحبس . قال : وقال مجاهد في قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فإن أحصرتم : يمرض إنسان أو يكسر أو يحبسه أمر فغلبه كائنا ما كان ، فليرسل بما استيسر من الهدي ، ولا يحلق رأسه ، ولا يحل حتى يوم النحر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : الإحصار كل شيء يحبسه .
وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن سعيد ، عن قتادة أنه قال : في المحصر : هو الخوف والمرض والحابس إذا أصابه ذلك بعث بهديه ، فإذا بلغ الهدي محله حل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حبسه عن البيت يبعث بهديه ، فإذا بلغ محله صار حلالاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كل شيء حبس المحرم فهو إحصار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن إبراهيم ، قال أبو جعفر : أحسبه عن شريك ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن إبراهيم : فإنْ أُحْصِرْتُمْ قال : مرض أو كسر أو خوف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْي يقول : من أحرم بحجّ أو بعمرة ، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده ، أو عذر يحبسه فعليه قضاؤها .
وعلة من قال بهذه المقالة أن الإحصار معناه في كلام العرب : منع العلة من المرض وأشباهه غير القهر والغلبة من قاهر أو غالب إلا غلبة علة من مرض أو لدغ أو جراحة ، أو ذهاب نفقة ، أو كسر راحلة . فأما منع العدوّ ، وحبس حابس في سجن ، وغلبة غالب حائل بين المحرم والوصول إلى البيت من سلطان ، أو إنسان قاهر مانع ، فإن ذلك إنما تسميه العرب حصرا لا إحصارا .
قالوا : ومما يدل على ذلك قول الله جل ثناؤه : وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا يعني به : حاصرا : أي حابسا .
قالوا : ولو كان حبس القاهر الغالب من غير العلل التي وصفنا يسمى إحصارا لوجب أن يقال : قد أحصر العدوّ . قالوا : وفي اجتماع لغات العرب على «حوصر العدوّ » و«العدوّ محاصر » ، دون «أحصر العدوّ » و«هم محصرون » ، و«أحصر الرجل » بالعلة من المرض والخوف ، أكبر الدلالة على أن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ بمرض أو خوف أو علة مانعة .
قالوا : وإنما جعلنا حبس العدوّ ومنعه المحرم من الوصول إلى البيت بمعنى حصر المرض قياسا على ما جعل الله جل ثناؤه من ذلك للمريض الذي منعه المرض من الوصول إلى البيت ، لا بدلالة ظاهر قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ ، إذ كان حبس العدوّ والسلطان والقاهر علة مانعة ، نظيرة العلة المانعة من المرض والكسر .
وقال آخرون : معنى قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ فإن حبسكم عدوّ عن الوصول إلى البيت ، أو حابس قاهر من بني آدم . قالوا : فأما العلل العارضة في الأبدان كالمرض والجراح وما أشبهها ، فإن ذلك غير داخل في قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس أنه قال : الحصر : حصر العدوّ ، فيبعث الرجل بهديته ، فإن كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو ، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة ، فإنه يبعث بها ويحرم قال محمد بن عمرو ، قال أبو عاصم : لا ندري قال يحرم أو يحلّ من يوم يواعد فيه صاحب الهدي إذا اشترى ، فإذا أمن فعليه أن يحجّ أو يعتمر ، فإذا أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي ، فإنه يحلّ حيث يحبس ، فإن كان معه هدي فلا يحلّ حتى يبلغ الهدي محله ، فإذا بعث به فليس عليه أن يحجّ قابلاً ، ولا يعتمر إلا أن يشاء .
حُدثت عن أبي عبيد القاسم بن سلام ، قال : ثني يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لا حصر إلا من حبس عدوّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس مثل حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم ، إلا أنه قال : فإنه يبعث بها ويحرم من يوم واعد فيه صاحب الهدية إذا اشترى . ثم ذكر سائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .
وقال مالك بن أنس : «بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّ وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي ، وحلقوا رؤوسهم ، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت ، وقبل أن يصل إليه الهدي ، ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء » .
حدثني بذلك يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب عنه . قال : وسئل مالك عمن أحصر بعدوّ وحيل بينه وبين البيت ؟ فقال : يحلّ من كلّ شيء ، وينحر هديه ، ويحلق رأسه حيث يحبس ، وليس عليه قضاء إلا أن يكون لم يحجّ قط ، فعليه أن يحجّ حجة الإسلام . قال : والأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدوّ بمرض أو ما أشبهه ، أن يبدأ بما لا بدّ منه ، ويفتدي ، ثم يجعلها عمرة ، ويحجّ عاما قابلاً ويهدي .
وعلة من قال هذه المقالة أعني من قال قولَ مالك أن هذه الآية نزلت في حصر المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت ، فأمر الله نبيه ومن معه بنحر هداياهم والإحلال . قالوا : فإنما أنزل الله هذه الآية في حصر العدوّ ، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلى غير المعنى الذي نزلت فيه .
قالوا : وأما المريض ، فإنه إذا لم يطق لمرضه السير حتى فاتته عرفة ، فإنما هو رجل فاته الحجّ ، عليه الخروج من إحرامه بما يخرج به من فاته الحج ، وليس من معنى المحصر الذي نزلت هذه الآية في شأنه .
وأولى التأويلين بالصواب في قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ تأويل من تأوله بمعنى : فإن أحصركم خوف عدوّ أو مرض أو علة عن الوصول إلى البيت ، أي صيركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم ، فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتموه على أنفسكم من عمل الحجّ والعمرة . فلذا قيل «أحصرتم » ، لما أسقط ذكر الخوف والمرض . يقال منه : أحصرني خوفي من فلان عن لقائك ، ومرضي عن فلان ، يراد به : جعلني أحبس نفسي عن ذلك . فأما إذا كان الحابس الرجل والإنسان ، قيل : حصرني فلان عن لقائك ، بمعنى حبسني عنه .
فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأوّل من قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فإن حبسكم حابس من العدوّ عن الوصول إلى البيت ، لوجب أن يكون : فإن حُصِرتم .
ومما يبين صحة ما قلناه من أن تأويل الآية مراد بها إحصار غير العدوّ وأنه إنما يراد بها الخوف من العدوّ ، قوله : فإنْ أمِنْتُمْ فمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ ، والأمن إنما يكون بزوال الخوف . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى الله في هذه الآية هو الخوف الذي يكون بزواله الأمن .
وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن حبس الحابس الذي ليس مع حبسه خوف على النفس من حبسه داخلاً في حكم الآية بظاهرها المتلّو ، وإن كان قد يلحق حكمه عندنا بحكمه من وجه القياس من أجل أن حبس من لا خوف على النفس من حبسه ، كالسلطان غير المخوفة عقوبته ، والوالد وزوج المرأة ، إن كان منهم أو من بعضهم حبس ، ومنع عن الشخوص لعمل الحجّ ، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرام ، غير داخل في ظاهر قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ لما وصفنا من أن معناه : فان أحصركم خوف عدوّ ، بدلالة قوله : فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحجّ . وقد بين الخبر الذي ذكرنا آنفا عن ابن عباس أنه قال : الحصر : حصر العدوّ .
وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآية لما وصفنا ، وكان ذلك منعا من الوصول إلى البيت ، فكل مانع عرض للمحرم فصدّه عن الوصول إلى البيت ، فهو له نظير في الحكم .
ثم اختلف أهل العلم في تأويل قوله : فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فقال بعضهم : هو شاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : مَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وحدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : مَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد عن ابن عباس ، مثله .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن النعمان بن مالك ، قال : تمتعت فسألت ابن عباس فقال : مَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : قلت شاة ؟ قال : شاة .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق . عن النعمان بن مالك ، قال : سألت ابن عباس عما استيسر من الهدي ؟ قال : من الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والمعز والضأن .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال الزهري : أخبرنا وسئل عن قول الله جل ثناؤه : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : كان ابن عباس يقول : من الغنم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : ما استيسر من الهدي : من الأزواج الثمانية .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد ، قال : قيل للأشعث : ما قول الحسن : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ ؟ قال : شاة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ ؟ قال : شاة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله ، إلا أنه كان يقال : أعلاه بدنة ، وذكر سائر الحديث مثله .
حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن زرارة ، عن ابن عباس ، قال : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا محمد بن نَقِيع ، عن عطاء ، مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : المحصر يبعث بهدي شاة فما فوقها .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : إذا أهلّ الرجل بالحج فأحصر ، بعث بما استيسر من الهدى شاة . قال : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ما استيسر من الهدي : شاة فما فوقها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني عن شعبة ، قال : حدثنا أبو جمرة ، عن ابن عباس ، قال : ما استيسر من الهدي : جزور أو بقرة أو شاة ، أو شرك في دم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن ابن عباس كان يرى أن الشاة ما استيسر من الهدي .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : ما استيسر من الهدي : شاة .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : ما استيسر من الهدي : شاة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سهل بن يوسف قال : حدثنا حميد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : قال ابن عباس : الهدي : شاة ، فقيل له : أيكون دون بقرة ؟ قال : فأنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تدرون به أن الهدي شاة ما في الظبي ؟ قالوا : شاة ، قال : هَدْيا باِلغَ الكَعْبَةِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : شاة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن دلهم بن صالح ، قال : سألت أبا جعفر ، عن قوله ما استيسر من الهدي : فقال : شاة .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالك بن أنس حدثه عن جعفر بن محمد عن أبيه : أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقول : ما استيسر من الهدي : شاة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا مطرّف بن عبد الله ، قال : حدثنا مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن عليّ رضي الله عنه ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول : ما استيسر من الهدي : شاة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال مالك : وذلك أحبّ إلي .
حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : عليه ، يعني المحصر هدي إن كان موسرا فمن الإبل ، وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : ما استيسر من الهدي : شاة ، وما عظمت شعائر الله ، فهو أفضل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا أشهب ، قال : أخبرنا ابن لهيعة أن عطاء بن أبي رباح حدثه أن ما استيسر من الهدي : شاة .
وقال آخرون : «ما استيسر من الهدي » : من الإبل والبقر ، سنّ دون سنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر ، قال : سمعت عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : «ما استيسر من الهدي » : البقرة دون البقرة ، والبعير دون البعير .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي مجلز ، قال : سأل رجل ابن عمر : ما استيسر من الهدي ؟ قال : أترضى شاة ؟ كأنه لا يرضاه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن القاسم بن محمد ونافع ، عن ابن عمر قال : ما استيسر من الهدي : ناقة أو بقرة ، فقيل له : ما استيسر من الهدي ؟ قال : الناقة دون الناقة ، والبقرة دون البقرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر أنه قال : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : جزور ، أو بقرة .
حدثنا أبو كريب ويعقوب ، قالا : حدثنا هشيم ، قال الزهري أخبرنا ، وسئل عن قول الله : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : قال ابن عمر : من الإبل والبقر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر في قوله جل ثناؤه : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : الناقة دون الناقة ، والبقرة دون البقرة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن القاسم ، عن ابن عمر في قوله : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : الإبل والبقر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : كان عبد الله بن عمر وعائشة يقولان : «ما استيسر من الهدي » : من الإبل والبقر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا الوليد بن أبي هشام ، عن زياد بن جبير ، عن أخيه عبد الله أو عبيد الله بن جبير ، قال : سألت ابن عمر عن المتعة في الهدي ؟ فقال : ناقة ، قلت : ما تقول في الشاة ؟ قال : أكلكم شاة أكلكم شاة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد وطاوس ، قالا : ما استيسر من الهدي : بقرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال في قول ابن عمر : بقرة فما فوقها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني أبو معشر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : «ما استيسر من الهدي » : قال : بدنة أو بقرة ، فأما شاة فإنها هي نسك .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : البدنة دون البدنة ، والبقرة دون البقرة ، وإنما الشاة نسك ، قال : تكون البقرة بأربعين وبخمسين .
حدثنا الربيع ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : ثني أسامة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، كان يقول : ما استيسر من الهدي : بقرة .
وحدثنا الربيع ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : ثني أسامة بن زيد أن سعيدا حدثه ، قال : رأيت ابن عمر وأهل اليمن يأتونه فيسألونه عما استيسر من الهدي ويقولون : الشاة الشاة قال : فيردّ عليهم : الشاة الشاة يحضهم إلا أن الجزور دون الجزور ، والبقرة دون البقرة ، ولكن ما استيسر من الهدي : بقرة .
وأولى القولين بالصواب قول من قال : ما استيسر من الهدي شاة لأن الله جل ثناؤه إنما أوجب ما استيسر من الهدي ، وذلك على كل ما تيسر للمهدي أن يهديه كائنا ما كان ذلك الذي يهدي . إلا أن يكون الله جل ثناؤه خصّ من ذلك شيئا ، فيكون ما خصّ من ذلك خارجا من جملة ما احتمله ظاهر التنزيل ، ويكون سائر الأشياء غيره مجزئا إذا أهداه المهدي بعد أن يستحقّ اسم هدي .
فإن قال قائل : فإن الذي أبوا أن تكون الشاة مما استيسر من الهدي بأنه لا يستحقّ اسم هدي كما أنه لو أهدى دجاجة أو بيضة لم يكن مهديا هديا مجزئا ؟ قيل : لو كان في المهدي الدجاجة والبيضة من الاختلاف نحو الذي في المهدي الشاة لكان سبيلهما واحدة في أن كل واحد منهما قد أدّى ما عليه بظاهر التنزيل إذا لم يكن أحد الهَدْيَيْن يخرجه من أن يكون مؤديا بإهدائه ما أهدى من ذلك مما أوجبه الله عليه في إحصاره . ولكن لما أخرج المهدي ما دون الجذع من الضأن والثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا من الأسنان من أن يكون مهديا ما أوجبه الله عليه في إحصاره أو متعته بالحجة القاطعة العذر ، نقلاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة ، كان ذلك خارجا من أن يكون مرادا بقوله : فمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وإن كان مما استيسر لنا من الهدايا .
ولما اختلف في الجذع من الضأن والثنيّ من المعز ، كان مجزئا ذلك عن مهديه لظاهر التنزيل ، لأنه مما استيسر من الهدي .
فإن قال قائل : فما محلّ «ما » التي في قوله جل وعز : فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ ؟ قيل : رفع .
فإن قال : بماذا ؟ قيل : بمتروك ، وذلك «فعليه » لأن تأويل الكلام : وأتموا الحجّ والعمرة أيها المؤمنون لله ، فإن حبسكم عن إتمام ذلك حابس من مرض أو كسر أو خوف عدوّ فعليكم لإحلالكم إن أردتم الإحلال من إحرامكم ما استيسر من الهدي .
وإنما اخترنا الرفع في ذلك ، لأن أكثر القرآن جاء برفع نظائره ، وذلك كقوله : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيامٍ وكقوله : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ وما أشبه ذلك مما يطول بإحصائه الكتاب ، تركنا ذكره استغناء بما ذكرنا عنه . ولو قيل موضع «ما » نصب بمعنى : فإن أحصرتم فأهدوا ما استيسر من الهدي ، لكان غير مخطىء قائله .
وأما الهدي فإنه جمع واحدها هَدِيّة ، على تقدير جَدِيّة السرج ، والجمع الجَدْي مخفف .
حدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، عن يونس ، قال : كان أبو عمرو بن العلاء يقول : لا أعلم في الكلام حرفا يشبهه .
وبتخفيف الياء وتسكين الدال من «الهدي » قرأه القراء في كل مصر ، إلا ما ذكر عن الأعرج ، فإن .
أبا هشام الرفاعي ، حدثنا ، قال : حدثنا يعقوب ، عن بشار ، عن أسد ، عن الأعرج أنه قرأ : «هَدِيّا بالِغَ الكَعْبَةِ » بكسر الدال مثقلاً ، وقرأ : «حتّى يَبْلُغَ الهَدِيّ مَحِلّه » بكسر الدال مثقلة .
واختلف في ذلك عن عاصم ، فرُوي عنه موافقة الأعرج ومخالفته إلى قراءة سائر القراء . والهدي عندي إنما سمي هديا لأنه تقرّب به إلى الله جل وعزّ مهديه بمنزلة الهدية يهديها الرجل إلى غيره متقرّبا بها إليه ، يقال منه : أهديت الهدي إلى بيت الله فأنا أهديه إهداء ، كما يقال في الهدية يهديها الرجل إلى غيره : أهديت إلى فلان هدية وأنا أهديها . ويقال للبدنة هدية ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى يذكر رجلاً أسر يشبهه في حرمته بالبدنة التي تُهْدَى :
فَلَمْ أرَ مَعْشَرا أسَرُوا هَدِيّا *** ولَمْ أرَ جارَ بَيْتٍ يُسْتَباءُ
القول في تأويل قوله تعالى : وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلّه .
يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أحصرتم فأردتم الإحلال من إحرامكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي ، ولا تحلوا من إحرامكم إذا أحصرتم حتى يبلغ الهدي الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أحصرتم فيه قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه ، محله ، وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه ، فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقه ، حتى يبلغ الهدي الذي أباح الله له الإحلال جل ثناؤه بإهدائه محله .
ثم اختلف أهل العلم في محل الهدي الذي عناه الله جل اسمه الذي متى بلغه كان للمحصر الإحلال من إحرامه الذي أحصر فيه .
فقال بعضهم : محلّ هدي المحصر الذي يحلّ به ويجوز له ببلوغه إياه حلق رأسه ، إذا كان إحصاره من خوف عدوّ منعه ذبحه إن كان مما يذبح ، أو نحره إن كان مما ينحر ، في الحلّ ذبح أو نحر أو في الحرم ( حيث حبس ) ، وإن كان من غير خوف عدوّ فلا يحلّ حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة . وهذا قول من قال : الإحصار إحصار العدوّ دون غيره . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّ هو وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم ، وحلّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت ، وقبل أن يصل إليه الهدي . ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ، ولا أن يعودوا لشيء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك ، عن نافع : أن عبد الله بن عمر خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة ، فقال : إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأهلّ بعمرة من أجل أن النبيّ كان أهلّ بعمرة عام الحديبية . ثم إن عبد الله بن عمر نظر في أمره فقال : ما أمرهما إلا واحد . قال : فالتفت إلى أصحابه فقال : ما أمرهما إلا واحد ، أشهدكم أني قد أوجبت الحجّ مع العمرة . قال : ثم طاف طوافا واحدا ، ورأى أن ذلك مُجْز عنه وأهدى . قال يونس : قال ابن وهب : قال مالك : وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدوّ كما أحصر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . فأما من أحصر بغير عدوّ فإنه لا يحلّ دون البيت . قال : وسئل مالك عمن أحصر بعدوّ وحيل بينه وبين البيت ، فقال : يحلّ من كل شيء ، وينحر هديه ، ويحلق رأسه حيث حبس ، وليس عليه قضاء إلا أن يكون لم يحجّ قط ، فعليه أن يحجّ حِجة الإسلام .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا مالك ، قال : ثني يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار : أن عبد الله بن عمر ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير أفتوا ابن حزابة المخزومي ، وصُرع في الحج ببعض الطريق ، أن يبدأ بما لا بد منه ويفتدي ، ثم يجعلها عمرة ، ويحجّ عاما قابلاً ويهدي . قال يونس : قال ابن وهب : قال مالك : وذلك الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدوّ . قال : وقال مالك : وكل من حبس عن الحجّ بعد ما يحرم إما بمرض ، أو خطأ في العدد ، أو خفي عليه الهلال ، فهو محصر ، عليه ما على المحصر يعني من المقام على إحرامه حتى يطوف أو يسعى ، ثم الحجّ من قابل والهدي .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد ، يقول : أخبرني أيوب بن موسى أن داود بن أبي عاصم أخبره : أنه حجّ مرة فاشتكى ، فرجع إلى الطائف ولم يطف بين الصفا والمروة ، فكتب إلى عطاء بن أبي رباح يسأله عن ذلك ، وأن عطاء كتب إليه : أن أهرق دما .
وعلة من قال بقول مالك في أن محل الهدي في الإحصار بالعدوّ نحره حيث حبس صاحبه ، ما :
حدثنا به أبو كريب ومحمد بن عمارة الأسدي ، قالا : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا موسى بن عبيدة ، قال : أخبرني أبو مرّة مولى أم هانىء ، عن ابن عمر ، قال : لما كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية عرض له المشركون فردّوا وجهه . قال : فنحر النبيّ صلى الله عليه وسلم الهدي حيث حبسوه ، وهي الحديبية ، وحلق ، وتأسّى به أناس فحلقوا حين رأوه حلق ، وتربص آخرون فقالوا : لعلنا نطوف بالبيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «رَحِمَ اللّهُ المُحَلّقِين » . قيل : والمقصرين قال : «رَحِمَ اللّهُ المُحَلّقِينَ » قيل : والمقصرين قال : «والمُقَصّرِين » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا معمر عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، قالا : لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم القضية بينه وبين مشركي قريش ، وذلك بالحديبية عام الحديبية ، قال لأصحابه : «قُومُوا فانْحَرُوا وَاحْلِقُوا » . قال : فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات . فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر ذلك لها ، فقالت أم سلمة : يا نبيّ الله اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حلاّقك فتحلق فقام فخرج فلم يكلم منهم أحدا حتى فعل ذلك . فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما .
قالوا : فنحر النبيّ صلى الله عليه وسلم هديه حين صدّه المشركون عن البيت بالحديبية ، وحل هو وأصحابه . قالوا : والحديبية ليست من الحرم ، قالوا ، ففي مثل ذلك دليل واضح على أن معنى قوله : حتّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلّهُ حتى يبلغ بالذبح أو النحر محل أكله ، والانتفاع به في محل ذبحه ونحره ، كما رُوي عن نبي الله عليه الصلاة والسلام في نظيره إذ أتي بلحم أتته بريرة من صدقة كان تصدّق بها عليها ، فقال : «قَرّبُوهُ فَقَدْ بَلَغَ مَحِلّهُ » يعني : فقد بلغ محل طيبه وحلاله له بالهدية إليه بعد أن كان صدقة على بريرة .
وقال بعضهم : محل هدي المحصر الحرم لا محلّ له غيره . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد : أن عمرو بن سعيد النخعي أهلّ بعمرة ، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها ، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشرّفون الناس ، فإذا هم بابن مسعود ، فذكروا ذلك له ، فقال : ليبعث بهدي ، واجعلوا بينكم يوم أمارة ، فإذا ذبح الهدي فليحل ، وعليه قضاء عمرته .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن سليمان بن مهران ، عن عمارة بن عمير وإبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال : خرجنا مهلّين بعمرة فينا الأسود بن يزيد ، حتى نزلنا ذات الشقوق ، فلدغ صاحب لنا ، فشقّ ذلك عليه مشقة شديدة ، فلم ندر كيف نصنع به ، فخرج بعضنا إلى الطريق ، فإذا نحن بركب فيه عبد الله بن مسعود ، فقلنا له : يا أبا عبد الرحمن رجل منا لدغ ، فكيف نصنع به ؟ قال : يبعث معكم بثمن هدي ، فتجعلون بينكم وبينه يوما أمارة ، فإذا نحر الهدي فليحل ، وعليه عمرة في قابل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : بينا نحن بذات الشقوق فلبى رجل منا بعمرة فلدغ ، فمرّ علينا عبد الله فسألناه ، فقال : اجعلوا بينكم وبينه يوم أمار ، فيبعث بثمن الهدي ، فإذا نحر حلّ وعليه العمرة .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت إبراهيم النخعي يحدّث عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : أهلّ رجل منا بعمرة ، فلدغ ، فطلع ركب فيهم عبد الله بن مسعود ، فسألوه ، فقال : يبعث بهدى ، واجعلوا بينكم وبينه يوما أمارا ، فإذا كان ذلك اليوم فليحلّ . وقال عمارة بن عمير : وكان حسبك به عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله : وعليه العمرة من قابل .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : خرجنا عمارا ، فلما كنا بذات الشقوق لدغ صاحب لنا ، فاعترضنا للطريق نسأل عما نصنع به ، فإذا عبد الله بن مسعود في ركب ، فقلنا له : لدغ صاحب لنا ، فقال : اجعلوا بينكم وبين صاحبكم يوما . وليرسل بالهدي ، فإذا نحر الهدي فليحلل ، ثم عليه العمرة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن الحجاج ، قال : حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه ، عن ابن مسعود : أن عمرو بن سعيد النخعي أهلّ بعمرة ، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها ، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوّفون الناس ، فإذا هم بابن مسعود ، فذكروا ذلك له ، فقال : ليبعث بهدي ، واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار ، فإذا ذبح الهدي فليحلّ ، وعليه قضاء عمرته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ يقول : من أحرم بحج أو عمرة ، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عذر يحبسه ، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي ، شاة فما فوقها يذبح عنه . فإن كانت حجة الإسلام ، فعليه قضاؤها ، وإن كانت حجة بعد حجة الفريضة أو عمرة فلا قضاء عليه . ثم قال : وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ فإن كان أحرم بالحجّ فمحله يوم النحر ، وإن كان أحرم بعمرة فمحل هديه إذا أتى البيت .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ فهو الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان يحبس عن البيت فيهدي إلى البيت ، ويمكث على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ، فإذا بلغ الهدي محله حلق رأسه ، فأتمّ الله له حجه . والاحصار أيضا : أن يحال بينه وبين الحجّ ، فعليه هدي إن كان موسرا من الإبل ، وإلا فمن البقر ، وإلا فمن الغنم . ويجعل حجه عمرة ، ويبعث بهديه إلى البيت ، فإذا نحر الهدي فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا بشر بن السري ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : سئل عليّ رضي الله عنه عن قول الله عزّ وجل : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ فإذا أحصر الحاج بعث بالهدي ، فإذا نحر عنه حلّ ، ولا يحلّ حتى ينحر هديه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، قال : سمعت عطاء يقول : من حبس في عمرته ، فبعث بهدية فاعترض لها فإنه يتصدّق بشيء أو يصوم ، ومن اعترض لهديته ، وهو حاجّ ، فإن محلّ الهدي والإحرام يوم النحر ، وليس عليه شيء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، مثله .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ الرجل يحرم ثمّ يخرج فيحصر ، إما بلدغ أو مرض فلا يطيق السير ، وإما تنكسر راحلته ، فإنه يقيم ، ثم يبعث بهدي شاة فما فوقها . فإن هو صحّ فسار فأدرك فليس عليه هدي ، وإن فاته الحجّ فإنها تكون عمرة ، وعليه من قابل حجة . وإن هو رجع لم يزل محرما حتى ينحر عنه يوم النحر . فإن هو بلغه أن صاحبه لم ينحر عنه عاد محرما وبعث بهدي آخر ، فواعد صاحبه يوم ينحر عنه بمكة ، فنحر عنه بمكة ويحلّ ، وعليه من قابل حجة وعمرة . ومن الناس من يقول عمرتان . وإن كان أحرم بعمرة ثم رجع وبعث بهديه ، فعليه من قابل عمرتان ، وأناس يقولون : لا بل ثلاث عُمَرٍ نحو مما صنعوا في الحج حين صنعوا ، عليه حجة وعمرتان .
حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس ، قال : إذا أحصر الرجل بعث بهديه إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو ، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة ، فإنه يبعث بها مكانه ، ويواعد صاحب الهدي . فإذا أمن فعليه أن يحج ويعتمر . فإن أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي ، فإنه يحل حيث يحبس ، وإن كان معه هدي فلا يحل حتى يبلغ الهدي محله إذا بعث به ، وليس عليه أن يحج قابلاً ولا يعتمر إلا أن يشاء .
وعلة من قال هذه المقالة ، أن محل الهدايا والبدن الحرم أن الله عز وجل ذكر البدن والهدايا فقال : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ لَكُمْ فِيها مَنافعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ ، فجعل محلها الحرم ، ولا محلّ للهدي دونه .
قالوا : وأما ما ادّعاه المحتجون بنحر النبيّ صلى الله عليه وسلم هداياه بالحديبية حين صدّ عن البيت فليس ذلك بالقول المجتمع عليه ، وذلك أن :
الفضل بن سهل حدثني ، قال : حدثنا مخوّل بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن مجزأة بن زاهر الأسلمي ، عن أبيه ، عن ناجية بن جندب الأسلمي ، قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم حين صدّ عن الهدي ، فقلت : يا رسول الله ابعث معي بالهدي فلننحره بالحرم قال : «كَيْفَ تصْنَعُ بهِ » ؟ قلت : آخذ به أودية فلا يقدرون عليه . فانطلقت به حتى نحرته بالحرم .
قالوا : فقد بين هذا الخبر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحر هداياه في الحرم ، فلا حجة لمحتجّ بنحره بالحديبية في غير الحرم .
وقال آخرون : معنى هذه الآية وتأويلها على غير هذين الوجهين اللذين وصفنا من قول الفريقين اللذين ذكرنا اختلافهم على ما ذكرنا . وقالوا : إنما معنى ذلك : فإن أحصرتم أيها المؤمنون عن حجكم فمنعتم من المضيّ لإحرامه لعائق مرض أو خوف عدوّ وأداء اللازم لكم وحجكم حتى فاتكم الوقوف بعرفة ، فإن عليكم ما استيسر من الهدي لما فاتكم من حجكم مع قضاء الحجّ الذي فاتكم . فقال أهل هذه المقالة : ليس للمحصر في الحجّ بالمرض والعلل غيره الإحلال إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة إن فاته الحجّ . قالوا : فأما إن أطاق شهود المشاهد فإنه غير محصر . قالوا : وأما العمرة فلا إحصار فيها ، لأن وقتها موجود أبدا . قالوا : والمعتمر لا يحلّ إلا بعمل آخر ما يلزمه في إحرامه . قالوا : ولم يدخل المعتمر في هذه الآية ، وإنما عنى بها الحاج .
ثم اختلف أهل هذه المقالة ، فقال بعضهم : لا إحصار اليوم بعدوّ كما لا إحصار بمرض يجوّز لمن فاته أن يحلّ من إحرامه قبل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبر اهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن طاوس ، قال : قال ابن عباس : لا إحصار اليوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال سمعت يحيى بن سعيد يقول : أخبرني عبد الرحمن بن القاسم أن عائشة قالت : لا أعلم المحرم يحل بشيء دون البيت .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لا حصر إلا من حبسه عدو ، فيحل بعمرة ، وليس عليه حج ولا عمرة .
وقال آخرون منهم : حصار العدو ثابت اليوم وبعد اليوم ، على نحو ما ذكرنا من أقوالهم الثلاثة التي حكينا عنهم . ذكر من قال ذلك : وقال : ومعنى الآية : فإن أحصرتم عن الحج حتى فاتكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي لفوته إياكم :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبري يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، قال : كان عبد الله بن عمر ينكر الاشتراط في الحج ، ويقول : أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت والصفا والمروة ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما قابلاً ، ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديا .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : المحصر لا يحل من شيء حتى يبلغ البيت ويقيم على إحرامه كما هو إلا أن تصيبه جراحة أو جرح ، فيتداوى بما يصلحه ويفتدي . فإذا وصل إلى البيت ، فإن كانت عمرة قضاها ، وإن كانت حجة فسخها بعمرة ، وعليه الحج من قابل والهدي ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله ، قال : أخبرني نافع : أن ابن عمر مر على ابن حزابة وهو بالسقيا ، فرأى به كسرا فاستفتاه ، فأمره أن يقف كما هو لا يحلّ من شيء حتى يأتي البيت إلا أن يصيبه أذى فيتداوى وعليه ما استيسر من الهدي . وكان أهلّ بالحج .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر ، قال : من أحصر بعد أن يهلّ بحجّ ، فحبسه خوف أو مرض أو خلا له ظهر يحمله أو شيء من الأمور كلها ، فإنه يتعالج لحبسه ذلك بكل شيء لا بدّ له منه ، غير أنه لا يحلّ من النساء والطيب ، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها صيامٍ أو صدقة أو نسك . فإن فاته الحجّ وهو بمحبسه ذلك ، أو فاته أن يقف في مواقف عرفة قبل الفجر من ليلة المزدلفة ، فقد فاته الحجّ ، وصارت حجته عمرة يقدم مكة فيطوف بالبيت وبالصفا والمروة . فإن كان معه هدي نحره بمكة قريبا من المسجد الحرام ، ثم حلق رأسه ، أو قصر ، ثم حلّ من النساء والطيب وغير ذلك . ثم عليه أن يحجّ قابلاً ويهدي ما تيسر من الهدي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : المحصر لا يحلّ حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة . وإن اضطّر إلى شيء من لبس الثياب التي لا بدّ له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى .
فهذا ما رُوي عن ابن عمر في الإحصار بالمرض وما أشبهه ، وأما في المحصر بالعدوّ فإنه كان يقول فيه بنحو القول الذي ذكرناه قبل عن مالك بن أنس أنه كان يقوله .
حدثني تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، قال : أخبرنا عبيد الله ، عن نافع : أن ابن عمر أراد الحجّ حين نزل الحجاج بابن الزبير فكلمه ابناه سالم وعبيد الله ، فقالا : لا يضرّك أن لا تحجّ العام ، إنا نخاف أن يكون بين الناس قتال فيحال بينك وبين البيت . قال : إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حال كفار قريش بينه وبين البيت فحلق ورجع .
وأما ما ذكرناه عنهم في العمرة من قولهم إنه لا إحصار فيها ولا حصر ، فإنه :
حدثني به يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثني هشيم ، عن أبي بشر ، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير أنه أهلّ بعمرة فأحصر ، قال : فكتب إلى ابن عباس وابن عمر ، فكتبا إليه أن يبعث بالهدي ، ثم يقيم حتى يحلّ من عمرته . قال : فأقام ستة أشهر أو سبعة أشهر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا يعقوب ، عن أبي العلاء بن الشخير ، قال : خرجت معتمرا فصرعت عن بعيري فكسرت رجلي . فأرسلنا إلى ابن عباس وابن عمر نسألهما ، فقالا : إن العمرة ليس لها وقت كوقت الحجّ ، لا تحلّ حتى تطوف بالبيت ، قال : فأقمت بالدّثِينَةِ أو قريبا منه سبعة أشهر أو ثمانية أشهر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني مالك ، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال : خرجت إلى مكة ، حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي ، فأرسلت إلى مكة إلى عبد الله بن عباس ، وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس ، فلم يرخص لي أحد أن أحلّ ، فأقمت على ذلك إلى سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن شهاب في رجل أصابه كسر وهو معتمر ، قال : يمكث على إحرامه حتى يأتي البيت ويطوف به وبالصفا والمروة ، ويحلق أو يقصر ، وليس عليه شيء .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من قال : إن الله عزّ وجل عنى بقوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوُسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ كل محصر في إحرام بعمرة كان إحرام المحصر أو بحجّ ، وجعل محل هديه الموضع الذي أحصر فيه ، وجعل له الإحلال من إحرامه ببلوغ هديه محله . وتأول بالمحل المنحر أو المذبح ، وذلك حين حلّ نحرُه أو ذبحُه في حرم كان أو في حلّ ، وألزمه قضاء ما حلّ منه من إحرامه قبل إتمامه إذا وجد إليه سبيلاً ، وذلك لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صدّ عام الحديبية عن البيت وهو محرم وأصحابه بعمرة ، فنحر هو وأصحابه بأمره الهديَ ، وحلوا من إحرامهم قبل وصولهم إلى البيت ، ثم قضوا إحرامهم الذي حلوا منه في العام الذي بعده . ولم يدّع أحد من أهل العلم بالسير ولا غيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من أصحابه أقام على إحرامه انتظارا للوصول إلى البيت والإحلال بالطواف به وبالسعي بين الصفا والمروة ، ولا يخفى وصول هديه إلى الحرم .
فأولى الأفعال أن يقتدى به ، فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يأت بحظره خبر ، ولم تقم بالمنع منه حجة . فإذ كان ذلك كذلك ، وكان أهل العلم مختلفين فيما اخترنا من القول في ذلك ، فمن متأوّل معنى الآية تأويلنا ، ومن مخالف ذلك ، ثم كان ثابتا بما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النقل كان الذي نقل عنه أولى الأمور بتأويل الآية ، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلم أنها يومئذٍ نزلت ، وفي حكم صدّ المشركين إياه عن البيت أوحيت .
وقد رُوي بنحو الذي قلنا في ذلك خبر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : ثني الحجاج بن أبي عثمان ، قال : حدثني يحيى بن أبي كثير ، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثه ، قال : حدثني الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مَن كُسِرَ أوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلّ وَعَلَيْهِ حَجّةٌ أُخْرَى » قال : فحدثت ابن عباس وأبا هريرة بذلك ، فقالا : صدق .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا مروان ، قال : حدثنا حجاج الصوّاف ، وحدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، عن الحجاج الصوّاف ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه ، وعن ابن عباس وأبي هريرة .
ومعنى هذا الخبر الأمر بقضاء الحجة التي حلّ منها نظير فعل النبيّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قضائهم عمرتهم التي حلوا منها عام الحديبية من القابل في عام عمرة القضية .
ويقال لمن زعم أن الذي حصره عدوّ إذا حلّ من إحرامه التطوّع فلا قضاء عليه ، وأن المحصر بالعلل عليه القضاء ، ما العلة التي أوجبت على أحدهما القضاء وأسقطت عن الاَخر ، وكلاهما قد حلّ من إحرام كان عليه إتمامه لولا العلة العائقة ؟
فإن قال : لأن الآية إنما نزلت في الذي حصره العدو ، فلا يجوز لنا نقل حكمها إلى غير ما نزلت فيه قيل له : قد دفعك عن ذلك جماعة من أهل العلم ، غير أنا نسلم لك ما قلت في ذلك ، فهلا كان حكم المنع بالمرض والإحصار له حكم المنع بالعدو إذ هما متفقان في المنع من الوصول إلى البيت وإتمام عمل إحرامهما ، وإن اختلفت أسباب منعهما ، فكان أحدهما ممنوعا بعلة في بدنه ، والاَخر بمنع مانع ؟ ثم يسئل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله .
وأما الذين قالوا : لا إحصار في العمرة ، فإنه يقال لهم : قد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صد عن البيت ، وهو محرم بالعمرة ، فحل من إحرامه ؟ فما برهانكم على عدم الإحصار فيها ؟ أو رأيتم إن قال قائل : لا إحصار في حج ، وإنما فيه فوت ، وعلى الفائت الحج المقام على إحرامه حتى يطوف بالبيت ، ويسعى بين الصفا والمروة ، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن في الإحصار في الحجّ سنة ؟ فقد قال ذلك جماعة من أئمة الدين . فأما العمرة فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم سنّ فيها ما سنّ ، وأنزل الله تبارك وتعالى في حكمها ما بين من الإحلال والقضاء الذي فعله صلى الله عليه وسلم ، ففيها الإحصار دون الحجّ هل بينها وبينه فرق ؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذَىً مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ .
يعني بذلك جل ثناؤه فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ ، وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ إلا أن يضطرّ إلى حلقه منكم مضطرّ ، إما لمرض ، وإما لأذى برأسه ، من هوامّ أو غيرها ، فيحلق هنالك للضرورة النازلة به ، وإن لم يبلغ الهدي محلّه ، فيلزمه بحلاق رأسه وهو كذلك ، فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ما أذًى من رأسه ؟ قال : القمل وغيره ، والصداع ، وما كان في رأسه .
وقال آخرون : لا يحلق إن أراد أن يفتدي الحجّ بالنسك أو الإطعام إلا بعد التكفير ، وإن أراد أن يفتدي بالصوم حلق ثم صام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن أشعث ، عن الحسن ، قال : إذا كان بالمحرم أذى من رأسه فإنه يحلق حين يبعث بالشاة ، أو يطعم المساكين ، وإن كان صوم حلق ثم صام بعد ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : إذا أهلّ الرجل بالحجّ فأحصر بعث بما استيسر من الهدي شاة ، فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محلّه ، فحلق رأسه ، أو مسّ طيبا أو تداوى ، كان عليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك . قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال : من أحصر بمرض أو كسر فليرسل بما استيسر من الهدي ، ولا يحلق رأسه ، ولا يحلّ حتى يوم النحر . فمن كان مريضا ، أو اكتحل ، أو ادّهن ، أو تداوى ، أو كان به أذى من رأسه ، فحلق ، ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ هذا إذا كان قد بعث بهديه ، ثم احتاج إلى حلق رأسه من مرض ، وإلى طيب ، وإلى ثوب يلبسه ، قميص أو غير ذلك ، فعليه الفدية .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، قال : حدثني الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال : من أحصر عن الحجّ فأصابه في حبسه ذلك مرض أو أذى برأسه ، فحلق رأسه في محبسه ذلك ، فعليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : حدثنا عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر قال : من أحصر بعد أن يهلّ بحجّ ، فحبسه مرض أو خوف ، فإنه يتعالج في حبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه ، غير أنه لا يحلّ له النساء والطيب ، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها : صيامٍ ، أو صدقة ، أو نسك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : ثني بشر بن السريّ ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : سئل عليّ رضي الله عنه عن قول الله جل ثناؤه : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ قال : هذا قبل أن ينحر الهدي ، إن أصابه شيء فعليه الكفارة .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ، فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك قبل الحِلاق إذا أراد حلاقه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك فمن اشتدْ مرضه أو آذاه رأسه وهو محرم ، فعليه صيام أو إطعام أو نسك ، ولا يحلق رأسه حتى يقدم فديته قبل ذلك . وعلة من قال هذه المقالة ما .
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يعقوب ، قال : سألت عطاء ، عن قوله : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ فقال : إن كعب بن عجرة مرّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبرأسه من الصئبان والقمل كثير ، فقال له النبيّ عليه الصلاة والسلام : «هَلْ عِنْدَكَ شاةٌ » ؟ فقال كعب : ما أجدها . فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنْ شِئْتَ فأطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين ، وإنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، ثُم احْلِقْ رأسَكَ » .
فأما المرض الذي أبيح معه العلاج بالطيب وحلق الرأس ، فكل مرض كان صلاحه بحلقه كالبرسام الذي يكون من صلاح صاحبه حلق رأسه ، وما أشبه ذلك ، والجراحات التي تكون بجسد الإنسان التي يحتاج معها إلى العلاج بالدواء الذي فيه الطيب ونحو ذلك من القروح والعلل العارضة للأبدان .
وأما الأذى الذي يكون إذا كان برأس الإنسان خاصة له حلقه ، فنحو الصداع والشقيقة ، وما أشبه ذلك ، وأن يكثر صئبان الرأس ، وكل ما كان للرأس مؤذيا مما في حلقه صلاحه ودفع المضرّة الحالّة به ، فيكون ذلك له بعموم قول الله جل وعزّ : أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ . وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت عليه بسبب كعب بن عجرة ، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صئبانه ، وذلك عام الحديبية . ذكر الأخبار التي رويت في ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وحميد بن مسعدة قالا : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبي ، عن كعب بن عجرة ، قال : مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ولي وفرة فيها هوام ما بين أصل كل شعرة إلى فرعها قمل وصئبان ، فقال : «إن هَذَا لأذًى » ، قلت : أجل يا رسول الله شديد ، قال : «أمَعَكَ دَمٌ » ؟ قلت : لا . قال : «فإنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، وَإنْ شِئْتَ فَتصَدّقْ بِثَلاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ على سِتّةِ مَساكِين ، على كُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاع » .
حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي ، قال : حدثنا خالد الطحان ، عن داود ، عن عامر ، عن كعب بن عجرة ، عن النبيّ بنحوه .
حدثنا محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أسد بن عمرو ، عن أشعث ، عن عامر ، عن عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة ، قال : خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ولي وفرة من شعر ، قد قملت وأكلني الصئبان . فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «احْلِقْ » ففعلت ، فقال : «هَلْ لَكَ هَدْيٌ ؟ » فقلت : ما أجد . فقال : «إنّهُ ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ » ، فقلت : ما أجد . فقال : «صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين كُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ » . قال : ففيّ نزلت هذه الآية : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ إلى آخر الآية .
وهذا الخبر ينبىء عن أن الصحيح من القول أن الفدية إنما تجب على الحالق بعد الحلق ، وفساد قول من قال : يفتدي ثم يحلق لأن كعبا يخبر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالفدية بعد ما أمره بالحلق فحلق .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عبد الله بن معقل ، عن كعب بن عجرة أنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام ، أو فَرْق من طعام بين ستة مساكين .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عبد الله بن معقل ، قال : قعدت إلى كعب وهو في المسجد ، فسألته عن هذه الآية : فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقةٍ أوْ نُسُكٍ فقال كعب : نزلت فيّ كان بي أذى من رأسي ، فحمُلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : «ما كُنْتُ أرَى أنّ الجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ ما أرَى ، أتجِدُ شاةً ؟ » فقلت : لا فنزلت هذه الآية : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ . قال : فنزلت فيّ خاصة ، وهي لكم عامة .
حدثني تميم ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، قال : سمعت عبد الله بن معقل المري ، يقول : سمعت كعب بن عجرة يقول : حججت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقمل رأسي ولحيتي وشاربي وحاجبي ، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليّ فقال : «ما كُنْتُ أرَى هَذَا أصَابَكَ » ، ثم قال : «ادْعُوا لي حَلاّقا » فدعوه ، فحلقني . ثم قال : «أعِنْدَكَ شَيْء تَنْسُكُهُ عَنْكَ ؟ » قال : قلت لا . قال : «فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين كُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعامٍ » . قال كعب : فنزلت هذه الآية فيّ خاصة : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك ، ثم كانت للناس عامّة .
حدثني نصر بن عليّ الجهضمي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثني أيوب ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : «أتُؤْذِيكَ هَوَامّ رأسِكَ ؟ » قال : قلت نعم قال : «احْلِقْهُ وَصم ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين ، أوِ اذْبَحْ شاةً » .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله ، إلا أنه قال : والقمل يتناثر عليّ ، أو قال : على حاجبيّ . وقال أيضا : «أو انسك نسيكة » . قال أيوب : لا أدري بأيتهن بدأ .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا عبد الله بن عون ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب ، قال : فيّ أنزلت هذه الآية ، قال : فقال لي : «ادْنُه » فدنوت ، فقال : «أيؤذِيكَ هوامّك ؟ قال : أظنه قال نعم . قال : فأمرني بصيام ، أو صدقة ، أو نسك ما تيسر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن صالح بن أبي الخليل عن مجاهد ، عن كعب بن عجرة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى عليه زمن الحديبية وهو يوقد تحت قدر له وهوامّ رأسه تتناثر على وجهه ، فقال : «أتُؤْذِيكَ هَوَامّكَ ؟ » قال : نعم . قال : «احْلِقْ رأسْكَ وَعَلَيْكَ فِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ ، تذبَحُ ذَبيحَةً أوْ تَصُومُ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ تُطْعِمُ سِتّةَ مَساكِينَ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن أبي الخليل ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : ذكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى على كعب بن عجرة زمن الحديبية ، ثم ذكر نحوه .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : وأخبرني سيف ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً ، فقال : «أيُؤْذِيكَ هَوَامّكَ ؟ » قال قلت : نعم . قال : «فاحْلِقْ » قال : ففيّ نزلت هذه الآية : فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صدَقَةِ أوْ نُسُك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح وأيوب السختياني ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتهافت عليّ ، فقال : «أتُؤْذِيكَ هَوَامّكَ » ؟ قال : قلت : نعم قال : «فاحْلِق ، وَانْسُكْ نَسِيكَةٍ ، أوْ صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ فَرَقا بَيْنَ سِتّة مَساكِين » . قال أيوب : انسك نسيكة . وقال ابن أبي نجيح : اذبح شاة . قال سفيان : والفرق ثلاثة آصع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه ، فقال : «أيُؤْذِيكَ هَوَامّكَ ؟ » قال : نعم . فأمره أن يحلق وهو بالحديبية لم يتبين لهم أنهم يحلون بها ، وهم على طمع أن يدخلوا مكة . فأنزل الله الفدية ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة مساكين ، أو يهدي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، ونحن محرمون ، وقد حصرنا المشركون . قال : وكانت لي وفرة ، فجعلت الهوامّ تساقط على وجهي . فمرّ بي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أيُؤْذِيكَ هَوَامّ رأسِكَ ؟ » قال : قلت نعم . ونزلت هذه الآية : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن كعب بن عجرة ، قال : لفيّ نزلت وإياي عنى بها : فَمَنْ كانَ منكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية ، وهو عند الشجرة ، وأنا محرم : «أيُؤْذِيكَ هَوَامّهُ ؟ » قلت : نعم ، أو كلمة لا أحفظها عنى بها ذاك . فأنزل الله جل وعز : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك والنسك . شاة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، قال : قال كعب بن عجرة : والذي نفسي بيده ، لفيّ نزلت هذه الآية ، وإياي عنى بها ، ثم ذكر نحوه ، قال : وأمره أن يحلق رأسه .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة : أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فآذاه القمل في رأسه ، فأمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وقال : «صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِينُ مُدّيْنِ مُدّيْن لِكلّ إنْسانٍ ، أوِ أنْسُكْ بِشاةٍ ، أيّ ذلك فعلت أجزأك » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن حميد بن قيس ، عن مجاهد ، ( عن ابن أبي ليلى ) عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : «لَعَلّهُ آذَاكَ هَوَامّكَ ؟ » يعني القمل ، قال : فقلت : نعم يا رسول الله . فقال رسول الله : «احْلِقْ رأسَكَ ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِينَ ، أوِ أنْسُكْ بِشاة » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالك بن أنس حدّثه ، عن عطاء بن عبد الله الخراساني أنه قال : أخبرني شيخ بسوق البرم بالكوفة ، عن كعب بن عجرة أنه قال : جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي ، قد امتلأ رأسي ولحيتي قملاً ، فأخذ بجبهتي ، ثم قال : «احْلِقْ هَذَا ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكيِن » ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أنه ليس عندي ما أنسك به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن نافع ، قال : حدثني أسامة بن زيد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن كعب بن عجرة ، قال كعب : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آذاني القمل أن أحلق رأسي ، ثم أصوم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين وقد علم أنه ليس عندي ما أنسك به .
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا روح ، عن أسامة بن زيد ، عن محمد بن كعب ، قال : سمعت كعب بن عجرة يقول : أمرني ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن أحلق وأفتدي بشاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن الزبير بن عدي ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال : لقيت كعب بن عجرة في هذه السوق ، فسألته عن حلق رأسه ؟ فقال : أحرمتُ فآذاني القمل . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاني وأنا أطبخ قدرا لأصحابي ، فحك بأصبعه رأسي فانتثر منه القمل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «احْلِقْهُ وأطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريح ، قال : أخبرني عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية عام حبسوا بها ، وقمل رأس رجل من أصحابه يقال له كعب بن عجرة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «أتُؤْذِيكَ هَذِهِ الهَوَامّ ؟ » قال : نعم . قال : «فاحْلِقْ وَاجْزُزْ ثُمّ صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِينَ مُدّيْنِ مُدّيْنِ » . قال : قلت أسمى النبي صلى الله عليه وسلم مدّين مدّين ؟ قال : نعم ، كذلك بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك لكعب ، ولم يسمّ النسك . قال : وأخبرني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر كعبا بذلك بالحديبية قبل أن يؤذن للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحلق والنحر ، لا يدري عطاء كم بين الحلق والنحر .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : ثني الليث ، عن ابن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن فضالة بن محمد الأنصاري ، أنه أخبره عمن لا يتهم من قومه : أن كعب بن عجرة أصابه أذى في رأسه ، فحلق قبل أن يبلغ الهدي محله ، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام .
حدثني المثنى قال : حدثنا أبو الأسود ، قال : أخبرنا ابن لهيعة ، عن مخرمة ، عن أبيه ، قال : سمعت عمرو بن شعيب يقول : سمعت شعيبا يحدّث عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة : «أيُؤْذِيَكَ دَوَابّ رأسِكَ ؟ » قال : نعم ، قال : «فاحْلِقْهُ وَافْتَدِ إمّا بِصَوْم ثَلاثَةِ أيّامٍ ، وإمّا أنْ تُطْعِمَ سِتّةَ مَساكِين ، أوْ نُسُكِ شاةٍ » ففعل .
وقد بينا قبل معنى الفدية ، وأنها بمعنى الجزاء والبدل .
واختلف أهل العلم في مبلغ الصيام والطعام اللذين أوجبهما الله على من حلق شعره من المحرمين في حال مرضه أو من أذى برأسه ، فقال بعضهم : الواجب عليه من الصيام ثلاثة أيام ، ومن الطعام ثلاثة آصع بين ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع . واعتلّوا بالأخبار التي ذكرناها قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك : فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : الصيام : ثلاثة أيام ، والطعام : إطعام ستة مساكين ، والنسك : شاة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ومجاهد أنهما قالا في قوله : فَفِدّيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قالا : الصيام ثلاثة أيام ، والطعام : إطعام ستة مساكين ، والنسك : شاة فصاعدا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن معقل ، عن كعب بن عجرة أنه قال في قوله : فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : الصيام ثلاثة أيام ، والطعام : إطعام ستة مساكين ، والنسك : شاة فصاعدا إلا أنه قال في إطعام المساكين : ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فمَنْ كانَ مِنكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك إن صنع واحدا فعليه فدية ، وإن صنع اثنين فعليه فديتان ، وهو مخير أن يصنع أيّ الثلاثة شاء . أما الصيام فثلاثة أيام ، وأما الصدقة فستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، وأما النسك فشاة فما فوقها . نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري كان أحصر فقمل رأسه ، فحلقه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فمن كان مريضا أو اكتحل ، أو ادّهن ، أو تداوى ، أو كان به أذى من رأسه من قمل فحلق ، ففدية من صيام ثلاثة أيام ، أو صدقة فرق بين ستة مساكين ، أو نسك ، والنسك : شاة .
حدثت عن عمار بن الحسن ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حّتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ قال : فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق ، ففدية من صيام أو صدقة ، أو نسك . قال : فالصيام ثلاثة أيام ، والصدقة : إطعام ستة مساكين ، بين كل مسكينين صاع . والنسك : شاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن عبد الكريم ، عن سعيد بن جبير ، قال : يصوم صاحب الفدية مكان كل مدين يوما ، قال : مدّا لطعامه ، ومدّا لإدامه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة بإسناده مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بشر بن السري ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : سئل عليّ رضي الله عن قول الله : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذىً مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : الصيام ثلاثة أيام ، والصدقة : ثلاثة آصع على ستة مساكين ، والنسك : شاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يزيد بن أبي حبيب ، عن حرب بن قيس مولى يحيى بن أبي طلحة أنه سمع محمد بن كعب ، وهو يذكر الرجل الذي نزل فيه : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذىً مِنْ رأسِهِ قال : فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما الصيام : فثلاثة أيام ، وأما المساكين فستة ، وأما النسك فشاة .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : إذا أهلّ الرجل بالحجّ فأحصر بعث بما استيسر من الهدي شاة ، فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله حلق رأسه ، أو مسّ طيبا ، أو تداوى ، كان عليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك . والصيام : ثلاثة أيام ، والصدقة : ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، والنسك : شاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ومجاهد قوله : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قالا : الصيام ثلاثة أيام ، والصدقة : ثلاثة آصع على ستة مساكين ، والنسك : شاة .
وقال آخرون : الواجب عليه إذا حلق رأسه من أذى ، أو تطيب لعلة من مرض ، أو فعل ما لم يكن له فعله في حال صحته وهو محرم من الصوم : صيام عشرة أيام ، ومن الصدقة : إطعام عشرة مساكين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن أبي عمران ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن أشعث ، عن الحسن في قوله : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : إذا كان بالمحرم أذى من رأسه ، حلق وافتدى بأيّ هذه الثلاثة شاء فالصيام : عشرة أيام ، والصدقة على عشرة مساكين ، كل مسكين مكّوكين ، مكوكا من تمر ، ومكوكا من برّ ، والنسك : شاة .
حدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي ، قال : حدثنا بشر بن عمرو ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن الحسن وعكرمة : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال : إطعام عشرة مساكين .
وقاس قائلو هذا القول كل صيام وجب على محرم أو صدقة جزاء من نقص دخل في إحرامه ، أو فعل ما لم يكن له فعله بدلاً من دم على ما أوجب الله على المتمتع من الصوم إذا لم يجد الهدي . وقالوا : جعل الله على المتمتع صيام عشرة أيام مكان الهدي إذا لم يجده ، قالوا : فكل صوم وجب مكان دم فمثله ، قالوا : فإذا لم يصم وأراد الإطعام فإن الله جل وعز أقام إطعام مسكين مكان صوم يوم لمن عجز عن الصوم في رمضان . قالوا : فكل من جعل الإطعام له مكان صوم لزمه فهو نظيره ، فلذلك أوجبوا إطعام عشرة مساكين في فدية الحلق .
وقال آخرون : بل الواجب على الحالق النسك شاة إن كانت عنده ، فإن لم تكن عنده قوّمت الشاة دراهم والدراهم طعاما ، فتصدّق به ، وإلا صام لكل نصف صاع يوما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : ذكر الأعمش ، قال : سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك فأجابه بقوله : يحكم عليه إطعام ، فإن كان عنده اشترى شاة ، فإن لم تكن قوّمت الشاة دراهم فجعل مكانه طعاما فتصدّق ، وإلا صام لكل نصف صاع يوما . فقال إبراهيم : كذلك سمعت علقمة يذكر . قال : لما قال لي سعيد بن جبير : هذا ما أظرفه قال : قلت : هذا إبراهيم قال : ما أظرفه كان يجالسنا . قال : فذكرت ذلك لإبراهيم ، قال : فلما قلت «يجالسنا » ، انتفض منها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : يحكم على الرجل في الصيد ، فإن لم يجد جزاءه قوم طعاما ، فإن لم يكن طعام صام مكان كل مدين يوما ، وكذلك الفدية .
وقال آخرون : بل هو مخير بين الخلال الثلاث يفتدي بأيها شاء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سيف بن سليمان ، عن مجاهد ، قال : كل شيء في القرآن «أو أو » ، فهو بالخيار ، مثل الجراب فيه الخيط الأبيض والأسود ، فأيهما خرج أخذته .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : كل شيء في القرآن «أو أو » فصاحبه بالخيار ، يأخذ الأولى فالأولى .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قال : كل ما كان في القرآن «كذا فمن لم يجد فكذا » فالأول فالأول ، وكل ما كان في القرآن «أو كذا أو كذا » ، فهو فيه بالخيار .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي عن يحيى بن أبي أنيسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وسئل عن قوله : فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك فقال مجاهد : إذا قال الله تبارك وتعالى لشيء «أو أو » ، فإن شئت فخذ بالأول ، وإن شئت فخذ بالاَخر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال لي عطاء وعمرو بن دينار في قوله : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قالا : له أيتهنّ شاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : كل شيء في القرآن «أو أو » ، فلصاحبه أن يختار أيه شاء .
قال ابن جريج : قال لي عمرو بن دينار : كل شيء في القرآن أو أو ، فلصاحبه أن يأخذ بما شاء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا ليث عن عطاء ومجاهد أنهما قالا : ما كان في القرآن «أو كذا أو كذا » ، فصاحبه بالخيار ، أيّ ذلك شاء فعل .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا يزيد ، عن سفيان ، عن ليث ومجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كلّ شيء في القرآن «أو أو » ، فهو مخير فيه ، فإن كان «فمن فمن » ، فالأولَ فالأولَ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، قال : كل شيء في القرآن «أو أو » ، فليتخير أيّ الكفارات شاء ، فإذا كان «فمن لم يجد » ، فالأول فالأول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان عارم ، قال : قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : قال : حدثت عن عطاء ، قال : كل شيء في القرآن «أو أو » فهو خيار .
والصواب من القول في ذلك عندنا ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتظاهرت به عنه الرواية أنه أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه من الأذى الذي كان برأسه ويفتدي إن شاء بنسك شاة ، أو صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام فرق من طعام بين ستة مساكين كل مسكين نصف صاع . وللمفتدي الخيار بين أيّ ذلك شاء لأن الله لم يحصره على واحدة منهن بعينها ، فلا يجوز له أن يعدوها إلى غيرها ، بل جعل إليه فعل أيّ الثلاث شاء . ومن أبى ما قلنا من ذلك قيل له : ما قلت في المكفر عن يمينه أمخير إذا كان موسرا في أن يكفر بأيّ الكفارات الثلاث شاء ؟ فإن قال : لا ، خرج من قول جميع الأمة ، وإن قال بلى ، سئل الفرق بينه وبين المفتدي من حلق رأسه وهو محرم من أذى به ، ثم لن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله . على أن ما قلنا في ذلك إجماع من الحجة ، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره .
وأما الزاعمون أن كفارة الحلق قبل الحلق ، فإنه يقال لهم : أخبرونا عن الكفارة للمتمتع قبل التمتع أو بعده ؟ فإن زعموا أنها قبله قيل لهم : وكذلك الكفارة عن اليمين قبل اليمين . فإن زعموا أن ذلك كذلك ، خرجوا من قول الأمة . وإن قالوا : ذلك غير جائز . قيل : وما الوجه الذي من قبله وجب أن تكون كفارة الحلق قبل الحلق وهدي المتعة قبل التمتع ولم يجب أن تكون كفارة اليمين قبل اليمين ؟ وهل بينكم وبين من عكس عليكم الأمر في ذلك فأوجب كفارة اليمين قبل اليمين وأبطل أن تكون كفارة الحلق كفارة له إلا بعد الحلق فرق من أصل أو نظير ؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله .
فإن اعتلّ في كفارة اليمين قبل اليمين أنها غير مجزئة قبل الحلف بإجماع الأمة ، قيل له فردّ الأخرى قياسا عليها إن كان فيها اختلاف .
وأما القائلون إن الواجب على الحالق رأسه من أذى من الصيام : عشرة أيام ، ومن الإطعام : عشرة مساكين فمخالفون نصّ الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيقال لهم : أرأيتم من أصاب صيدا فاختار الإطعام أو الصيام ، أتسوّون بين جميع ذلك بقتله الصيد صغيره وكبيره من الإطعام والصيام ، أم تفرّقون بين ذلك على قدر افتراق المقتول من الصيد في الصغر والكبر ؟ فإن زعموا أنهم يسوون بين جميع ذلك سوّوا بين ما يجب على من قتل بقرة وحشية وبين ما يجب على من قتل ولد ظبية من الإطعام والصيام وذلك قول إن قالوه لقول الأمة مخالف . وإن قالوا : بل نخالف بين ذلك ، فنوجب ذلك عليه على قدر قيمة المصاب من الطعام والصيام . قيل : فكيف رددتم الواجب على الحالق رأسه من أذى من الكفارة على الواجب على المتمتع من الصوم ، وقد علمتم أن المتمتع غير مخير بين الصيام والإطعام والهدي ، ولا هو متلف شيئا وجبت عليه منه الكفارة ، وإنما هو تارك عملاً من الأعمال ، وتركتم ردّ الواجب عليه وهو متلف بحلق رأسه ما كان ممنوعا من إتلافه ، ومخير بين الكفارات الثلاث ، نظير مصيب الصيد ، الذي هو بإصابته إياه له متلف ومخير في تكفيره بين الكفارات الثلاث ؟ وهل بينكم وبين من خالفكم في ذلك وجعل الحالق قياسا لمصيب الصيد ، وجمع بين حكميهما لاتفاقهما في المعاني التي وصفنا ، وخالف بين حكمه وحكم المتمتع في ذلك لاختلاف أمرهما فيما وصفنا فرق من أصل أو نظير ؟ فلن يقولوا في ذلك قولاً إلا ألزموا في الاَخر مثله ، مع أن اتفاق الحجة على تخطئة قائل هذا القول في قوله هذا كفاية عن الاستشهاد على فساده بغيره ، فكيف وهو مع ذلك خلاف ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقياس عليه بالفساد شاهد ؟
واختلف أهل العلم في الموضع الذي أمر الله أن ينسك نسك الحلق ويطعم فديته ، فقال بعضهم : النسك والإطعام بمكة لا يجزىء بغيرها من البلدان . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : ما كان من دم أو صدقة فبمكة ، وما سوى ذلك حيث شاء .
حدثني يحيى بن طلحة ، حدثنا فضيل ، عن ليث ، عن طاوس ، قال : كل شيء من الحجّ فبمكة ، إلا الصوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن النسك ، قال : النسك بمكة لا بد .
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : الصدقة والنسك في الفدية بمكة ، والصيام حيث شئت .
حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا ليث ، عن طاوس أنه كان يقول : ما كان من دم أو طعام فبمكة ، وما كان من صيام فحيث شاء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شبل ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : النسك بمكة أو بمنى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : النسك بمكة أو بمنى ، والطعام بمكة .
وقال آخرون : النسك في الحلق والإطعام والصوم حيث شاء المفتدي . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد ، قال : أخبرني أبو أسماء مولى ابن جعفر ، قال : حجّ عثمان ومعه عليّ والحسين بن علي رضوان الله عليهم ، فارتحل عثمان قال أبو أسماء : وكنت مع ابن جعفر قال : فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه ، قال : فقلنا له : أيها النائم فاستيقظ ، فإذا الحسين بن عليّ . قال : فحمله ابن جعفر حتى أتى به السّقْيا . قال : فأرسل إلى عليّ ، فجاء ومعه أسماء بنت عميس . قال : فمرّضناه نحوا من عشرين ليلة . قال : فقال عليّ للحسين : ما الذي تجد ؟ قال : فأومأ إلى رأسه . قال : فأمر به عليّ فحلق رأسه ، ثم دعا ببدنة فنحرها .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد بن عبد الله بن المسيب المخزومي أخبره أنه سمع أبا أسماء مولى عبد الله بن جعفر ، يحدث : أنه خرج مع عبد الله بن جعفر يريد مكة مع عثمان ، حتى إذا كنا بين السقيا والعرج اشتكى الحسين بن عليّ ، فأصبح في مقيله الذي قال فيه بالأمس . قال أبو أسماء : فصحبته أنا وعبد الله بن جعفر ، فإذا راحلة حسين قائمة وحسين مضطجع ، فقال عبد الله بن جعفر : إن هذه لراحلة حسين . فلما دنا منه قال له : أيها النائم وهو يظنّ أنه نائم فلما دنا منه وجده يشتكي ، فحمله إلى السقيا ، ثم كتب إلى عليّ فقدم إليه إلى السقيا فمرضه قريبا من أربعين ليلة . ثم إن عليا قيل له : هذا حسين يشير إلى رأسه ، فدعا عليّ بجزور فنحرها ، ثم حلق رأسه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني يحيى بن سعيد ، قال : أقبل حسين بن عليّ مع عثمان حراما ، حسبت أنه اشتكى بالسقيا . فذكر ذلك لعليّ ، فجاء هو وأسماء بنت عميس ، فمرّضوه عشرين ليلة ، فأشار حسين إلى رأسه ، فحلقه ونحر عنه جزورا . قلت : فرجع به ؟ قال : لا أدري .
وهذا الخبر يحتمل أن يكون ما ذكر فيه من نحر عليّ عن الحسين الناقة قبل حلقه رأسه ، ثم حلقه رأسه بعد النحر إن كان على ما رواه مجاهد عن يزيد كان على وجه الإحلال من الحسين من إحرامه للإحصار عن الحجّ بالمرض الذي أصابه ، وإن كان على ما رواه يعقوب عن هشيم من نحر عليّ عنه الناقة بعد حلقه رأسه أن يكون على وجه الافتداء من الحلق ، وأن يكون كان يرى أن نسك الفدية يجزىء نحره دون مكة والحرم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : الفدية حيث شئت .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن الحكم ، عن إبراهيم في الفدية في الصدقة والصوم والدم : حيث شاء .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبيدة ، عن إبراهيم أنه كان يقول ، فذكر مثله .
وقال آخرون : ما كان من دم نسك فبمكة ، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء المفتدي . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، وعبد الملك وغيرهما ، عن عطاء أنه كان يقول : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء .
وعلة من قال : الدم والإطعام بمكة ، القياس على هدي جزاء الصيد وذلك أن الله شرط في هديه بلوغ الكعبة فقال : يَحكُمُ بهَ ذَوا عَدْلٍ منكُم هدْيا بالغَ الكعبْةِ . قالوا : فكل هدي وجب من جزاء أو فدية في إحرام ، فسبيله سبيل جزاء الصيد في وجوب بلوغه الكعبة . قالوا : وإذا كان ذلك حكم الهدي كان حكم الصدقة مثله ، لأنها واجبة لمن وجب عليه الهدي ، وذلك أن الإطعام فدية وجزاء كالدم ، فحكمهما واحد .
وأما علة من زعم أن للمفتدي أن ينسك حيث شاء ويتصدّق ويصوم أن الله لم يشترط على الحالق رأسه من أذى هديا ، وإنما أوجب عليه نسكا أو إطعاما أو صياما ، وحيثما نسك أو أطعم أو صام فهو ناسك ومطعم وصائم ، وإذا دخل في عداد من يستحقّ ذلك الاسم كان مؤدّيا ما كلفه الله ، لأن الله لو أراد من إلزام الحالق رأسه في نسكه بلوغ الكعبة لشرط ذلك عليه ، كما شرط في جزاء الصيد ، وفي ترك اشتراط ذلك عليه دليل واضح ، أنه حيث نسك أو أطعم أجزأ .
وأما علة من قال : النسك بمكة والصيام والإطعام حيث شاء ، فالنسك دم كدم الهدي ، فسبيله سبيل هدي قاتل الصيد .
وأما الإطعام فلم يشترط الله فيه أن يصرف إلى أهل مسكنة مكان دون مكان ، كما شرط في هدي الجزاء بلوغ الكعبة ، فليس لأحد أن يدّعي أن ذلك لأهل مكان دون مكان ، إذْ لم يكن الله شرط ذلك لأهل مكان بعينه ، كما ليس لأحد أن يدّعى أن ما جعله الله من الهدي لساكني الحرم لغيرهم ، إذ كان الله قد خصّ أن ذلك لمن به من أهل المسكنة .
والصواب من القول في ذلك ، أن الله أوجب على حالق رأسه من أذى من المحرمين فدية من صيام أو صدقة أو نسك ، ولم يشترط أن ذلك عليه بمكان دون مكان ، بل أبهم ذلك وأطلقه ، ففي أي مكان نسك أو أطعم أو صام فيجزي عن المفتدي ، وذلك لقيام الحجة على أن الله إذ حرم أمهات نسائنا فلم يحصرهن على أنهن أمهات النساء المدخول بهن لم يجب أن يكنّ مردودات الأحكام على الربائب المحصورات على أن المحرمة منهن المدخول بأمها ، فكذلك كل مبهمة في القرآن غير جائز ردّ حكمها على المفسرة قياسا ، ولكن الواجب أن يحكم لكل واحدة منهما بما احتمله ظاهر التنزيل إلا أن يأتي في بعض ذلك خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بإحالة حكم ظاهره إلى باطنه ، فيجب التسليم حينئذ لحكم الرسول ، إذ كان هو المبين عن مراد الله . وأجمعوا على أن الصيام مجزىء عن الحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد .
واختلفوا فيما يجب أن يفعل بنسك الفدية من الحلق ، وهل يجوز للمفتدي الأكل منه أم لا ؟ فقال بعضهم ليس للمفتدي أن يأكل منه ، ولكن عليه أن يتصدّق بجميعه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك ، عن عطاء ، قال : ثلاث لا يؤكل منهنّ : جزاء الصيد ، وجزاء النسك ، ونذر المساكين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهارون ، عن عنبسة ، عن سالم ، عن عطاء قال : لا تأكل من فدية ، ولا من جزاء ، ولا من نذر ، وكل من المتعة ، ومن الهدي التطوّع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهارون ، عن عنبسة ، عن سالم ، عن مجاهد ، قال : جزاء الصيد والفدية والنذر لا يأكل منها صاحبها ، ويأكل من التطوّع والتمتع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن الحجاج ، عن عطاء ، قال : لا تأكل من جزاء ، ولا من فدية ، وتصدّق به .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : لا يأكل من بدنته الذي يصيب أهله حراما والكفارات كذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا عبد الملك والحجاج وغيرهما ، عن عطاء أنه كان يقول : لا يؤكل من جزاء الصيد ، ولا من النذر ، ولا من الفدية ، ويؤكل مما سوى ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم قالوا : لا يؤكل من الفدية . وقال مرة : من هدي الكفارة ، ولا من جزاء الصيد .
وقال بعضهم : له أن يأكل منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر قال : لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ، ويؤكل مما سوى ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، قال : من الفدية وجزاء الصيد والنذر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، قال : الشاة بين ستة مساكين يأكل منه إن شاء ، ويتصدّق على ستة مساكين .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني عبد الملك ، قال : ثني من سمع الحسن ، يقول : كل من ذلك كله ، يعني من جزاء الصيد والنذر والفدية .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا الأشعث عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بالأكل من جزاء الصيد ونذر المساكين .
وعلة من حظر على المفتدي الأكل من فدية حلاقه وفدية ما لزمته منه الفدية ، أن الله أوجب على الحالق والمتطيب ومن كان بمثل حالهم فدية من صيام أو صدقة أو نسك ، فلن يخلو ذلك الذي أوجبه عليه من الإطعام والنسك من أحد أمرين : إما أن يكون أوجبه عليه لنفسه أو لغيره أو له ولغيره ، فإن كان أوجبه لغيره فغير جائز له أن يأكل منه ، لأن ما لزمه لغيره فلا يجزيه فيه إلا الخروج منه إلى من وجب له أو يكون له وحده ، وما وجب له فليس عليه لأنه غير مفهوم في لغة أن يقال : وجب على فلان لنفسه دينار أو درهم أو شاة ، وإنما يجب له على غيره ، فأما على نفسه فغير مفهوم وجوبه . أو يكون وجب عليه له ولغيره ، فنصيبه الذي وجب له من ذلك غير جائز أن يكون عليه لما وصفنا . وإذا كان ذلك كذلك كان الواجب عليه ما هو لغيره وما هو لغيره بعض النسك ، وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجب عليه بعض النسك لا النسك كله .
قالوا : وفي إلزام الله إياه النسك تاما ما يبين عن فساد هذا القول .
وعلة من قال له أن يأكل من ذلك أن الله أوجب على المفتدي نسكا ، والنسك في معاني الأضاحي وذلك هو ذبح ما يجزي في الأضاحي من الأزواج الثمانية .
قالوا : ولم يأمر الله بدفعه إلى المساكين . قالوا : فإذا ذبح فقد نسك ، وفعل ما أمره الله ، وله حينئذ الأكل منه ، والصدقة منه بما شاء ، وإطعام ما أحبّ منه من أحب ، كما له ذلك في أضحيته .
والذي نقول به في ذلك : أن الله أوجب على المفتدي نسكا إن اختار التكفير بالنسك ، ولن يخلو الواجب عليه في ذلك من أن يكون ذبحه دون غيره ، أو ذبحه والتصدّق به . فإن كان الواجب عليه في ذلك ذبحه ، فالواجب أن يكون إذا ذبح نسكا فقد أدى ما عليه ، وإن أكل جميعه ولم يطعم مسكينا منه شيئا ، وذلك ما لا نعلم أحدا من أهل العلم قاله ، أو يكون الواجب عليه ذبحه والصدقة به فإن كان ذلك عليه ، فغير جائز له أكل ما عليه أن يتصدّق به ، كما لو لزمته زكاة في ماله لم يكن له أن يأكل منها ، بل كان عليه أن يعطيها أهلها الذين جعلها الله لهم . ففي إجماعهم على أن ما ألزمه الله من ذلك فإنما ألزمه لغيره ، دلالة واضحة على حكم ما اختلفوا فيه من غيره .
ومعنى النسك : الذبح لله في لغة العرب ، يقال : نسك فلان لله نسيكة ، بمعنى : ذبح لله ذبيحة يَنْسكها نَسكا . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : النسك : أن يذبح شاة .
القول في تأويل قوله تعالى : فإذَا أمِنْتُمْ .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فإذا برأتم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم أو عمرتكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : فإذَا أمِنْتُمْ فإذا برأتم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه في قوله : فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ يقول : فإذا أمنت حين تحصر إذا أمنت من كسرك من وجعك ، فعليك أن تأتي البيت فيكون لك متعة ، فلا تحل حتى تأتي البيت .
وقال آخرون : معنى ذلك : فإذا أمنتم من وجع خوفكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فإذَا أمِنْتُمْ لتعلموا أن القوم كانوا خائفين يومئذ .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فإذَا أمِنْتُمْ قال : إذا أمن من خوفه ، وبرأ من مرضه .
وهذا القول أشبه بتأويل الآية ، لأن الأمن هو خلاف الخوف ، لا خلاف المرض ، إلا أن يكون مرضا مخوفا منه الهلاك ، فيقال : فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض وشدته ، وذلك معنى بعيد .
وإنما قلنا : إن معناه الخوف من العدو لأن هذه الاَيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحديبية وأصحابه من العدو خائفون ، فعرفهم الله بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الحج ، وما الذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك ، فزال عنهم خوفهم .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ .
يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أحصرتم أيها المؤمنون ، فما استيسر من الهدي ، فإذا أمنتم فزال عنكم خوفكم من عدوكم أو هلاككم من مرضكم فتمتعتم بعمرتكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة التمتع الذي عنى الله بهذه الآية ، فقال بعضهم : هو أن يحصره خوف العدو ، وهو محرم بالحج أو مرض أو عائق من العلل حتى يفوته الحج ، فيقدم مكة ، فيخرج من إحرامه بعمل عمرة ، ثم يحل فيستمتع بإحلاله من إحرامه ذلك إلى السنة المستقبلة ، ثم يحج ويهدي ، فيكون متمتعا بالإحلال من لدن يحل من إحرامه الأوّل إلى إحرامه الثاني من القابل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمران بن موسى البصري ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، قال : سمعت ابن الزبير وهو يخطب ، وهو يقول : يا أيها الناس ، والله ما التمتع بالعمرة إلى الحجّ كما تصنعون ، إنما التمتع أن يهلّ الرجل بالحجّ فيحصره عدوّ أو مرض أو كسر أو يحبسه أمر حتى تذهب أيام الحجّ فيقدم فيجعلها عمرة ، فيتمتع بحله إلى العام القابل ثم يحجّ ويهدي هديا ، فهذا التمتع بالعمرة إلى الحجّ .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء قال : كان ابن الزبير يقول : المتعة لمن أحصر . قال : وقال ابن عباس : هي لمن أحصر ومن خليت سبيله .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : أخبرني ابن جريج قال : قال عطاء : كان ابن الزبير يقول : إنما المتعة للحصر وليست لمن خلي سبيله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فإن أحصرتم في حجكم فما استيسر من الهدي ، فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ولكن حللتم حين أحصرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة : فإنْ أُحْصِرْتُمْ قال : إذا أهلّ الرجل بالحجّ فأحصر . قال : يبعث بما استيسر من الهدي شاة . قال : فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله ، وحلق رأسه ، أو مسّ طيبا ، أو تداوى ، كان عليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك . فإذَا أمِنْتُمْ : فإذا برأ فمضى من وجهه ذلك حتى أتى البيت حلّ من حجه بعمرة وكان عليه الحجّ من قابل . وإن هو رجع ولم يتمّ إلى البيت من وجهه ذلك ، فإنّ عليه حجة وعمرة ودما لتأخيره العمرة . فإن هو رجع متمتعا في أشهر الحجّ ، فإن عليه ما استيسر من الهدي شاة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع . قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس في ذلك كله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي قال : هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حبسه حتى يبعث بهديه ، فإذا بلغت محلها صار حلالاً . فإن أمن أو برأ ووصل إلى البيت فهي له عمرة وأحل وعليه الحجّ عاما قابلاً . وإن هو لم يصل إلى البيت حتى يرجع إلى أهله ، فعليه عمرة وحجة وهدي . قال قتادة : والمتعة التي لا يتعاجم الناس فيها أن أصلها كان هكذا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ إلى : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ قال : هذا المحصر إذا أمن فعليه المتعة في الحجّ وهدي المتمتع ، فإن لم يجد فالصيام ، فإن عجل العمرة قبل أشهر الحجّ فعليه فيها هدي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بشر بن السريّ ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن عليّ : فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحجّ فعليه الهدي .
وقال آخرون : عَنَى بذلك المحصر وغير المحصر . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : أخبرني ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء أن ابن عباس كان يقول : المتعة لمن أحصر ، ولمن خلي سبيله . وكان ابن عباس يقول : أصابت هذه الآية المحصر ومن خليت سبيله .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن فسخ حجه بعمرة ، فجعله عمرة ، واستمتع بعمرته إلى حجه ، فعليه ما استيسر من الهدي . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ أما المتعة فالرجل يحرم بحجة ، ثم يهدمها بعمرة . وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين حاجا ، حتى إذا أتوا مكة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أحَبّ مِنْكمْ أنْ يَحِلّ فَلْيَحِلّ » ، قالوا : فما لك يا رسول الله ؟ قال : «أنَا مَعِي هَدْيٌ » .
وقال آخرون : بل ذلك الرجل يقدم معتمرا من أفق من الاَفاق في أشهر الحج ، فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكة حتى ينشىء منها الحج ، فيحج من عامه ذلك ، فيكون مستمتعا بإحلال إلى إحرامه بالحج . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ من يوم الفطر إلى يوم عرفة ، فعليه ما استيسر من الهدي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع ، قال : قدم ابن عمر مرة في شوال ، فأقمنا حتى حججنا ، فقال : إنكم قد استمتعتم إلى حجكم بعمرة ، فمن وجد منكم أن يهدي فليهد ، ومن لا فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله .
حدثنا ابن بشار ، وعبد الحميد بن بيان قال ابن بشار : حدثنا ، وقال عبد الحميد : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن نافع ، أنه أخبره أنه خرج مع ابن عمر معتمرين في شوال ، فأدركهما الحج وهما بمكة ، فقال ابن عمر : من اعتمر معنا في شوال ثم حج ، فهو متمتع عليه ما استيسر من الهدي ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن عطاء في رجل اعتمر في غير أشهر الحجّ ، فساق هديا تطوّعا ، فقدم مكة في أشهر الحجّ ، قال : إن لم يكن يريد الحجّ ، فلينحر هديه ثم ليرجع إن شاء ، فإن هو نحر الهدي وحلّ ، ثم بدا له أن يقيم حتى يحجّ ، فلينحر هديا آخر لتمتعه ، فإن لم يجد فليصم .
حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، مثل ذلك .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب بأنه كان يقول : من اعتمر في شوّال أو في ذي القعدة ثم أقام بمكة حتى يحجّ ، فهو متمتع ، عليه ما على المتمتع .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حجاج ، عن عطاء مثل ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ يقول : من أحرم بالعمرة في أشهر الحجّ ، فما استيسر من الهدي .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع ، قال : أخبرني ابن جريج ، قال : كان عطاء يقول : المتعة لخلق الله أجمعين ، الرجل ، والمرأة ، والحرّ ، والعبد ، هي لكل إنسان اعتمر في أشهر الحجّ ثم أقام ولم يبرح حتى يحجّ ، ساق هديا مقلدا أو لم يسق إنما سميت المتعة من أجل أنه اعتمر في شهور الحجّ فتمتع بعمرة إلى الحجّ ، ولم تسمّ المتعة من أجل أنه يحلّ بتمتع النساء .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : عَنَى بها : فإن أحصرتم أيها المؤمنون في حجكم فما استيسر من الهدي ، فإذا أمنتم فمن تمتع ممن حلّ من إحرامه بالحجّ بسبب الإحصار بعمرة اعتمرها لفوته الحجّ في السنة القابلة في أشهر الحجّ إلى قضاء الحجة التي فاتته حين أحصر عنها ، ثم دخل في عمرته فاستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحجّ ، فعليه ما استيسر من الهدي ، وإن كان قد يكون متمتعا من أنشأ عمرة في أشهر الحجّ وقضاها ثم حلّ من عمرته وأقام حلالاً حتى يحجّ من عامه غير أن الذي هو أولى بالذي ذكره الله في قوله : فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ هو ما وصفنا من أجل أن الله جل وعز أخبر عما على المحصر عن الحجّ والعمرة من الأحكام في إحصاره ، فكان مما أخبر تعالى ذكره أنه عليه إذا أمن من إحصاره فتمتع بالعمرة إلى الحجّ ما استيسر من الهدي ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، كان معلوما بذلك أنه معنيّ به اللازم له عند أمنه من إحصاره من العمل بسبب الإحلال الذي كان منه في حجه الذي أحصر فيه دون المتمتع الذي لم يتقدم عمرته ولا حجه إحصار مرض ولا خوف .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ . }
يعني بذلك جل ثناؤه : فما استيسر من الهدي ، فهَدْيه جزاء لاستمتاعه بإحلاله من إحرامه الذي حلّ منه حين عاد لقضاء حجته التي أحصر فيها وعمرته التي كانت لزمته بفوت حجته ، فإن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحجّ في حجه وسبعة إذا رجع إلى أهله .
ثم اختلف أهل التأويل في الثلاثة أيام التي أوجب الله عليه صومهنّ في الحجّ أي أيّ أيام الحجّ هن ؟ فقال بعضهم : هن ثلاثة أيام من أيام حجه ، أيّ أيام شاء بعد أن لا يتجاوز بآخرهن يوم عرفة . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا حميد بن الأسود ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه عن عليّ رضي الله عنه : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : قبل التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر ، عن ابن أبي حبيبة ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر في قوله : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : يوم قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، وإذا فاته صامها أيام منى .
حدثنا الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا حميد بن الأسود ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، قال : المتمتع يصوم قبل التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : آخرهن يوم عرفة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، قال : سألت الحكم عن صوم ثلاثة أيام في الحج ، قال : يصوم قبل التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ أنه قال : آخرها يوم عرفة .
حدثنا أبو كريب قال : حدثنا بشير ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي : صام يوما قبل يوم التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، وهارون عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : يصوم المتمتع الثلاثة الأيام لمتعته في العشر إلى يوم عرفة . قال : وسمعت مجاهدا وطاوسا يقولان : إذا صامهن في أشهر الحجّ أجزأه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهارون عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : صوم ثلاثة أيام للمتمتع ، إذا لم يجد ما يهدي يصوم في العشر إلى يوم عرفة متى صام أجزأه ، فإن صام الرجل في شوّال أو ذي القعدة أجزأه .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، قال : ثني يعقوب بن عطاء ، أن عطاء بن أبي رباح ، كان يقول : من استطاع أن يصومهنّ فيما بين أوّل يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة فليصم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : آخرها يوم عرفة .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر في هذه الآية : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : قبل يوم التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ آخرهن يوم عرفة من ذي الحجة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : كان يقال عرفة وما قبلها يومين من العشر .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : فآخرها يوم عرفة .
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : آخرها يوم عرفة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا قطر ، عن عطاء : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : آخرها يوم عرفة .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : عرفة وما قبلها من العشر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم ، قالا : صيام ثلاثة أيام في الحج في العشر آخرهن عرفة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن خير ، قال : سألت طاوسا عن صيام ثلاثة أيام في الحج ، قال : آخرهن يوم عرفة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ إلى : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ وهذا على المتمتع بالعمرة إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحجّ قبل يوم عرفة ، فإن كان يوم عرفة الثالث فقد تمّ صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا زياد بن المنذر ، عن أبي جعفر : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : آخرها يوم عرفة .
وقال آخرون : بل آخرهن انقضاء يوم منى . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن عليا كان يقول : من فاته صيام ثلاثة أيام في الحجّ صامهنّ أيام التشريق .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : ثني يونس عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، قال : قالت عائشة : يصوم المتمتع الذي يفوته الصيام أيام منى .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، قال : قال ابن عمر : من فاته صيام الثلاثة الأيام في الحجّ ، فليصم أيام التشريق فإنهنّ من الحج .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمر بن محمد أن نافعا حدّثه أن عبد الله بن عمر قال : من اعتمر في أشهر الحجّ فلم يكن معه هدي ولم يصم الثلاثة الأيام قبل أيام التشريق ، فليصم أيام منى .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى يحدّث عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، وعن سالم ، عن عبد الله بن عمر أنهما قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصوم إلا لمن يجد هديا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا هشام ، عن عبيد الله ، عن نافع عن ابن عمر قال : إذا لم يصم الثلاثة الأيام قيل النحر صام أيام التشريق ، فإنها من أيام الحجّ .
وذكر هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قال :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد عن هشام بن عروة ، عن أبيه في هذه الآية : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : هي أيام التشريق .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن وبرة ، عن ابن عمر ، قال : يصوم يوما قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة . قال : وقال عبيد بن عمير : يصوم أيام التشريق .
وعلة من قال : آخر الثلاثة الأيام التي أوجب الله صومهنّ في الحجّ على من لم يجد الهدي من المتمتعين يوم عرفة ، أن الله جل ثناؤه أوجب صومهنّ في الحجّ بقوله : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قالوا : وإذا انقضى يوم عرفة فقد انقضى الحجّ ، لأن يوم النحر يوم إحلال من الإحرام .
قالوا : وقد أجمع الجميع أنه غير جائز له صوم يوم النحر قالوا : فإن يكن إجماعهم على أن ذلك له غير جائز من أجل أنه ليس من أيام الحجّ ، فأيام التشريق بعده أحرى أن لا تكون من أيام الحجّ لأن أيام الحجّ متى انقضت من سنة ، فلن تعود إلى سنة أخرى بعدها . أو يكون إجماعهم على أن ذلك له غير جائز من أجل أنه يوم عيد ، فأيام التشريق التي بعده في معناه لأنها أيام عيد ، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صومهن كما نهى عن صوم يوم النحر .
قالوا : وإذا كان يفوت صومهن بمضيّ يوم عرفة لم يكن إلى صيامهن في الحجّ سبيل لأن الله شرط صومهن في الحجّ ، فلم يجز عنه إلا الهدي الذي فرضه الله عليه لمتعته .
وعلة من قال : آخر الأيام الثلاثة التي ذكرها الله في كتابه انقضاء آخر أيام منى ، أن الله أوجب على المتمتع ما استيسر من الهدي ، ثم الصيام إن لم يجد إلى الهدي سبيلاً .
قالوا : وإنما يجب عليه نحر هدي المتعة يوم النحر ، ولو كان له واجدا قبل ذلك . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك فإنما رخص له في الصوم يوم يلزمه نحر الهدي فلا يجد إليه سبيلاً . قالوا : والوقت الذي يلزمه فيه نحر الهدي يوم النحر والأيام التي بعده من أيام النحر ، فأما قبل ذلك فلم يمكن نحره . قالوا : فإذا كان النحر لم يكن له لازما قبل ذلك ، وإنما لزمه يوم النحر فإنما لزمه الصوم يوم النحر ، وذلك حين عدم الهدي فلم يجده ، فوجب عليه الصوم .
قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، فالصوم إنما يلزمه أوله في اليوم الذي يلي يوم النحر ، وذلك أن النحر إنما كان لزمه من بعد طلوع الفجر ، ومن ذلك الوقت إذا لم يجده يكون له الصوم . قالوا : وإذا طلع فجر يوم ولم يلزمه صومه قبل ذلك إذا كان الصوم لا يكون في بعض نهار يوم في واجب ، علم أن الواجب عليه الصوم من اليوم الذي يليه إلى انقضاء الأيام الثلاثة بعد يوم النحر من أيام التشريق .
قالوا : ولا معنى لقول القائل : إن أيام منى ليست من أيام الحج لأنهن ينسك فيهن بالرمي والعكوف على عمل الحجّ كما ينسك غير ذلك من أعمال الحجّ في الأيام قبلها .
قالوا : هذا مع شهادة الخبر الذي :
حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا يحيى بن سلام أن شعبة حدثه عن ابن أبي ليلى ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، قال : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاتته أيام العشر ، أن يصوم أيام التشريق مكانها .
لصحة ما قلنا في ذلك من القول وخطأ قول من خالف قولنا فيه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثني هشيم ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس ، فنادى في أيام التشريق ، فقال : إن هذه أيام أكل وشرب وذكر لله ، إلا من كان عليه صوم من هدي .
واختلف أهل العلم في أول الوقت الذي يجب على المتمتع الابتداء في صوم الأيام الثلاثة التي قال الله عز وجل : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ والوقت الذي يجوز له فيه صومهن ، وإن لم يكن واجبا عليه فيه صومهن . فقال بعضهم : له أن يصومهن من أول أشهر الحج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وطاوس أنهما كانا يقولان : إذا صامهنّ في أشهر الحج أجزأه . قال : وقال مجاهد : إذا لم يجد المتمتع ما يهدي فإنه يصوم في العشر إلى يوم عرفة ، متى ما صام أجزأه ، فإن صام الرجل في شوّال أو ذي القعدة أجزأه .
حدثني أحمد بن المغيرة ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا محمد بن مسلم الطائفي ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : من صام يوما في شوّال ويوما في ذي القعدة ويوما في ذي الحجة ، أجزأه عنه من صوم التمتع .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : إن شاء صام أوّل يوم من شوّال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد في قول الله جل وعز : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ قال : إن شاء صامها في العشر ، وإن شاء في ذي القعدة ، وإن شاء في شوّال .
وقال آخرون : يصومهنّ في عشر ذي الحجة دون غيرها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء : يصوم الثلاثة الأيام للمتعة في العشر إلى يوم عرفة .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، قال : حدثني يعقوب أن عطاء بن أبي رباح كان يقول : من استطاع أن يصومهنّ فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة فليصم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : ولا بأس أن يصوم المتمتع في العشر وهو حلال .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أبو شهاب ، عن الحجاج ، عن أبي جعفر ، قال : لا يصام إلا في العشر .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا الربيع ، عن عطاء أنه كان يقول في صيام ثلاثة أيام في الحجّ ، قال : في تسع من ذي الحجة أيها شئت ، فمن صام قبل ذلك في شوّال وفي ذي القعدة ، فهو بمنزلة من لم يصم .
وقال آخرون : له أن يصومهن قبل الإحرام بالحج . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن عكرمة ، قال : إذا خشي أن لا يدرك الصوم بمكة صام بالطريق يوما أو يومين .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : لا بأس أن تصوم الثلاثة الأيام في المتعة وأنت حلال .
وقال آخرون : لا يجوز أن يصومهنّ إلا بعد ما يحرم بالحج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لا يصومهنّ إلا وهو حرام .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر ، عن ابن أبي حبيبة ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لا يجزيه صوم ثلاثة أيام وهو متمتع إلا أن يحرم . وقال مجاهد : يجزيه إذا صام في ذي القعدة .
والصواب من القول في ذلك عندي أن للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة التي أوجب الله عليه صومهنّ لمتعته إذا لم يجد ما استيسر من الهدي من أول إحرامه بالحج بعد قضاء عمرته واستمتاعه بالإحلال إلى حجه إلى انقضاء آخر عمل حجه وذلك بعد انقضاء أيام منى سوى يوم النحر ، فإنه غير جائز له صومه ابتدأ صومهن قبله أو ترك صومهن فأخره حتى انقضاء يوم عرفة .
وإنما قلنا : له صوم أيام التشريق ، لما ذكرنا من العلة لقائل ذلك قَبْلُ ، فإن صامهنّ قبل إحرامه بالحج فإنه غير مجزىء صومه ذلك من الواجب عليه من الصوم الذي فرضه الله عليه لمتعته وذلك أن الله جل وعز إنما أوجب الصوم على من لم يجد هديا ممن استمتع بعمرته إلى حجه ، فالمعتمر قبل إحلاله من عمرته وقبل دخوله في حجه غير مستحق اسم متمتع بعمرته إلى حجه ، وإنما يقال له قبل إحرامه معتمر حتى يدخل بعد إحلاله في الحج قبل شخوصه عن مكة ، فإذا دخل في الحج محرما به بعد قضاء عمرته في أشهر الحج ومقامه بمكة بعد قضاء عمرته حلالاً حتى حج من عامه سمي متمتعا . فإذا استحقّ اسم متمتع لزمه الهدي ، وحينئذ يكون له الصوم بعدمه الهدي إن عدمه فلم يجده . فأما إن صامه قبل دخوله في الحجّ وإن كان من نيته الحج ، فإنما هو رجل صام صوما ينوي به قضاء عما عسى أن يلزمه أو لا يلزمه ، فسبيله سبيل رجل معسر صام ثلاثة أيام ينوي بصومهن كفارة يمين ليمين يريد أن يحلف بها ويحنث فيها ، وذلك ما لا خلاف بين الجميع أنه غير مجزىء من كفارة إن حلف بها بعد الصوم فحنث .
فإن ظن ظانّ أن صوم المعتمر بعد إحلاله من عمرته أو قبله وقبل دخوله في الحج مجزىء عنه من الصوم الذي أوجبه الله عليه إن تمتع بعمرته إلى الحج ، نظير ما أجزأ الحالف بيمين إذا كفر عنها قبل حنثه فيها بعد حلفه بها فقد ظن خطأ لأن الله جعل ثناؤه جعل لليمين تحليلاً هو غير تكفير ، فالفاعل فيها قبل الحنث فيها ما يفعله المكفر بعد حنثه فيها محلل غير مكفر . والمتمتع إذا صام قبل تمتعه صائم تكفيرا لما يظنّ أنه يلزمه ولما يلزمه ، وهو كالمكفر عن قتل صيد يريد قتله وهو محرم قبل قتله ، وعن تطيب قبل تطيبه .
ومن أبى ما قلنا في ذلك ممن زعم أن للمعتمر الصوم قبل إحرامه بالحج ، قيل له : ما قلت فيمن كفر من المحرمين عن الواجب على من ترك رمي الجمرات أيام منى يوم عرفة ، وهو ينوي ترك الجمرات ، ثم أقام بمنى أيام منى حتى انقضت تاركا رمي الجمرات ، هل يجزيه تكفيره ذلك عن الواجب عليه في ترك ما ترك من ذلك ؟ فإن زعم أن ذلك يجزيه ، سئل عن مثل ذلك في جميع مناسك الحجّ التي أوجب الله في تضييعه على المحرم أو في فعله كفارة ، فإن سوّى بين جميع ذلك فاد قوله ، وسئل عن نظير ذلك في العازم على أن يجامع في شهر رمضان ، وهو مقيم صحيح إذا كفر قبل دخول الشهر ، ودخل الشهر ففعل ما كان عازما عليه هل تجزيه كفارته التي كفر عن الواجب من وطئه ذلك ، وكذلك يسئل عمن أراد أن يظاهر من امرأته ، فإن فاد قوله في ذلك ، خرج من قول جميع الأمة . وإن أبى شيئا من ذلك ، سئل الفرق بينه وبين الصائم لمتعته قبل تمتعه وقبل إحرامه بالحجّ ، ثم عكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتمْ . }
يعني جل ثناؤه بذلك : فمن لم يجد ما استيسر من الهدي ، فعليه صيام ثلاثة أيام في حجه وصيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله ومصره .
فإن قال لنا قائل : أو ما يجب عليه صوم السبعة الأيام بعد الأيام الثلاثة التي يصومهن في الحجّ إلا بعد رجوعه إلى مصره وأهله ؟ قيل : بل قد أوجب الله عليه صوم الأيام العشرة بعدم ما استيسر من الهدي لمتعته ، ولكن الله تعالى ذكره رأفة منه بعباده رخص لمن أوجب ذلك عليه ، كما رخص للمسافر والمريض في شهر رمضان الإفطار وقضاء عدّة ما أفطر من الأيام من أيام أخر . ولو تحمل المتمتع فصام الأيام السبعة في سفره قبل رجوعه إلى وطنه ، أو صامهنّ بمكة ، كان مؤدّيا ما عليه من فرض الصوم في ذلك ، وكان بمنزلة الصائم شهر رمضان في سفره أو مرضه ، مختارا للعسر على اليسر . وبالذي قلنا في ذلك قالت علماء الأمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : هي رخصة إن شاء صامها في الطريق .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : هنّ رخصة إن شاء صامها في الطريق ، وإن شاء صامها بعد ما يرجع إلى أهله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : إن شاء صامها في الطريق ، وإنما هي رخصة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : إن شئت صم السبعة في الطريق ، وإن شئت إذا رجعت إلى أهلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن قطر ، عن عطاء ، قال : يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله أحبّ إليّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : إن شئت في الطريق ، وإن شئت بعد ما تقدم إلى أهلك .
فإن قال : وما برهانك على أن معنى قوله : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ إذا رجعتم إلى أهليكم وأمصاركم دون أن يكون معناه : إذا رجعتم من منى إلى مكة ؟ قيل : إجماع جميع أهل العلم على أن معناه ما قلنا دون غيره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : إذا رجعت إلى أهلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ إذا رجعتم إلى أمصاركم .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ قال : إلى أهلك .
القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : كامِلَةٌ فقال بعضهم : معنى ذلك : فصيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلى أهله عشرة كاملة من الهدي . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ قال : كاملة من الهدي .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد ، عن الحسن ، مثله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كملت لكم أجر من أقام على إحرامه ولم يحلّ ولم يتمتع تمتعكم بالعمرة إلى الحج .
وقال آخرون : معنى ذلك الأمر وإن كان مخرجه مخرج الخبر ، وإنما عنى بقوله : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ تلك عشرة أيام فأكملوا صومها لا تقصروا عنها ، لأنه فرض عليكم صومها .
وقال آخرون : بل قوله : كامِلَةٌ توكيد للكلام ، كما يقول القائل : سمعته بأذني ورأيته بعيني ، وكما قال : فَخَرّ عَلَيهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ولا يكون الخرّ إلا من فوق ، فأما من موضع آخر فإنما يجوز على سعة الكلام .
وقال آخرون : إنما قال : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ وقد ذكر سبعة وثلاثة ، لأنه إنما أخبر أنها مجزئة وليس يخبر عن عدّتها ، وقالوا : ألا ترى أن قوله : «كاملة » إنما هو وافية ؟ .
وأولى هذه الأقوال عندي قول من قال : معنى ذلك تلك عشرة كاملة عليكم فرضنا إكمالها . وذلك أنه جل ثناؤه قال : فمن لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، ثم قال : تلك عشرة أيام عليكم إكمال صومها لمتعتكم بالعمرة إلى الحج . فأخرج ذلك مخرج الخبر ، ومعناه الأمر بها .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ } . يعني جلّ ثناؤه بقوله ذَلِكَ أي التمتع بالعمرة إلى الحجّ لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام . كما :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني المتعة أنها لأهل الاَفاق ، ولا تصلح لأهل مكة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أن هذا لأهل الأمصار ليكون عليهم أيسر من أن يحج أحدهم مرة ويعتمر أخرى ، فتجمع حجته وعمرته في سنة واحدة .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به ، وأنه لا متعة لهم . فقال بعضهم : عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال ابن عباس ومجاهد : أهل الحرم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : أهل الحرم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : بلغنا عن ابن عباس في قوله : حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : هم أهل الحرم ، والجماعةُ عليه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة إنه لا متعة لكم أحلت لأهل الاَفاق وحرّمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم واديا أو قال : يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل بعمرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا الليث ، قال : ثني يحيى بن سعيد الأنصاري : أن أهل مكة كانوا يغزون ويتجرون ، فيقدمون في أشهر الحجّ ثم يحجون ، ولا يكون عليهم الهدي ولا الصيام أرخص لهم في ذلك ، لقول الله عزّ وجل : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : أهل الحرم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : المتعة للناس ، إلا لأهل مكة ممن لم يكن أهله من الحرم ، وذلك قول الله عزّ وجل : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ . قال : وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس .
وقال آخرون : عنى بذلك أهل الحرم ومن كان منزله دون المواقيت إلى مكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن مكحول : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : من كان دون المواقيت .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك بإسناده مثله ، إلا أنه قال : ما كان دون المواقيت إلى مكة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن عطاء ، قال : من كان أهله من دون المواقيت ، فهو كأهل مكة لا يتمتع .
وقال بعضهم : بل عنى بذلك أهل الحرم ، ومن قرب منزله منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : عرفة ، ومرّ ، وعرنة ، وضَجنان ، والرجيع ، ونخلتان .
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري والمثنى قالا : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : عرفة ومرّ ، وعرنة ، وضجنان ، والرجيع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري في هذه الآية قال : اليوم واليومين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، قال : سمعت الزهري يقول : من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء : أنه جعل أهل عرفة من أهل مكة في قوله : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : أهل مكة وفَجّ وذي طوى ، وما يلي ذلك فهو من مكة .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا قول من قال : إن حاضري المسجد الحرام من هو حوله ممن بينه وبينه من المسافة ما لا تقصر إليه الصلوات لأن حاضر الشيء في كلام العرب هو الشاهد له بنفسه . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان لا يستحق أن يسمى غائبا إلا من كان مسافرا شاخصا عن وطنه ، وكان المسافر لا يكون مسافرا إلا بشخوصه عن وطنه إلى ما تقصر في مثله الصلاة ، وكان من لم يكن كذلك لا يستحق اسم غائب عن وطنه ومنزله ، كان كذلك من لم يكن من المسجد الحرام على ما تقصر إليه الصلاة غير مستحقّ أن يقال : هو من غير حاضريه إذ كان الغائب عنه هو من وصفنا صفته .
وإنما لم تكن المتعة لمن كان من حاضري المسجد الحرام من أجل أن التمتع إنما هو الاستمتاع بالإحلال من الإحرام بالعمرة إلى الحجّ مرتفقا في ترك العود إلى المنزل والوطن بالمقام بالحرم حتى ينشىء منه الإحرام بالحجّ ، وكان المعتمر متى قضى عمرته في أشهر الحجّ ثم انصرف إلى وطنه ، أو شخص عن الحرم إلى ما تقصر فيه الصلاة ، ثم حجّ من عامه ذلك ، بطل أن يكون مستمتعا لأنه لم يستمتع بالمرفق الذي جعل للمستمتع من ترك العود إلى الميقات والرجوع إلى الوطن بالمقام في الحرم ، وكان المكيّ من حاضري المسجد الحرام لا يرتفق بذلك من أجل أنه متى قضى عمرته أقام في وطنه بالحرم ، فهو غير مرتفق بشيء مما يرتفق به من لم يكن أهله من حاضري المسجد الحرام فيكون متمتعا بالإحلال من عمرته إلى حجه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ . }
يعني بذلك جل اسمه : واتقوا الله بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده ، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما بيّن لكم من مناسككم ، فتستحلوا ما حرّم فيها عليكم . واعْلَمُوا : تيقنوا أنه تعالى ذكره شديد عقابه لمن عاقبه على ما انتهك من محارمه وركب من معاصيه .
{ وأتموا الحج والعمرة لله } أي ائتوا بهما تامين مستجمعي المناسك لوجه الله تعالى ، وهو على هذا يدل على وجوبهما ويؤيده قراءة من قرأ { وأقيموا الحج والعمرة لله } ، وما روى جابر رضي الله تعالى عنه " أنه قيل يارسول الله العمرة واجبة مثل الحج ، فقال : لا ولكن إن تعتمر خير لك " فمعارض بما روي " أن رجلا قال لعمر رضي الله تعالى عنه ، إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي أهللت بهما جميعا ، فقال : هديت لسنة نبيك " ولا يقال إنه فسر وجد أنهما مكتوبين بقوله أهللت بهما فجاز أن يكون الوجوب بسبب إهلاله بهما ، لأنه رتب الإهلال على الوجدان وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس . وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، أو أن تفرد لكل منهما سفرا ، أو أن تجرده لهما لا تشوبهما بغرض دنيوي ، أو أن تكون النفقة حلالا . { فإن أحصرتم } منعتم ، يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي ، مثل صده وأصده ، والمراد حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى : { فإذا أمنتم } ولنزوله في الحديبية ، ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام " من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل " وهو ضعيف مؤول بما إذا شرط الإحلال به لقوله عليه الصلاة والسلام لضباعة بنت الزبير " حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني " { فما استيسر من الهدي } فعليكم ما استيسر ، أو فالواجب ما استيسر . أو فاهدوا ما استيسر . والمعنى إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلل تحلل يذبح هدي تيسر عليه ، من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر . لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبعث به ، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب أن ينحر فيه ، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل الذبح فيه حلا كان أو حرما ، واقتصاره على الهدي دليل على عدم القضاء . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يجب القضاء ، والمحل –بالكسر- يطلق على عدم القضاء . وقال أبو حنيفة رحمة الله تعالى يجب القضاء ، والمحل –بالكسر- يطلق على المكان والزمان . والهدي : جمع هدية كجدي وجدية ، وقرئ { من الهدى } جمع هدية كمطى في مطية { فمن كان منكم مريضا } مرضا يحوجه إلى الحلق . { أو به أذى من رأسه } كجراحة وقمل . { ففدية } فعليه فدية إن حلق . { من صيام أو صدقة أو نسك } بيان لجنس الفدية ، وأما قدرها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لكعب بن عجرة " لعلك آذاك هوامك ، قال : نعم يا رسول الله قال : احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو انسك شاة " والفرق ثلاثة آصع { فإذا أمنتم } الإحصار . أو كنتم في حال سعة وأمن . { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره . وقيل : فمن استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج . { فما استيسر من الهدي } فعليه دم استيسره بسبب التمتع ، فهو دم جبر أن يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، إنه ندم نسك فهو كالأضحية { فمن لم يجد } أي الهدي . { فصيام ثلاثة أيام في الحج } في أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل . قال أبو حنيفة رحمه الله في أشهره بين الإحرامين ، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه . ولا يجوز صوم يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثرين . { وسبعة إذا رجعتم } إلى أهليكم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه ، أو نفرتم وفرغتم من أعماله وهو قوله الثاني ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى . وقرئ { سبعة } بالنصب عطفا على محل { ثلاثة أيام } . { تلك عشرة } فذلكة الحساب ، وفائدتها أن لا يتوهم متوهم أن الواو بمعنى أو ، كقولك جالس الحسن وابن سيرين . وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب ، وأن المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما { كاملة } صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد ، أو مبينة كمال العشرة فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها ، أو مقيدة تقيد كمال بدليتها من الهدي . { ذلك } إشارة إلى الحكم المذكور عندنا . والتمتع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا متعة ولا قرآن لحاضري المسجد الحرام عنده ، فمن فعل ذلك أي التمتع منهم فعليه دم جناية . { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عندنا ، فإن من كان على أقل فهو مقيم في الحرم ، أو في حكمه . ومن مسكنه وراء الميقات عنده وأهل الحل عند طاوس وغير المكي عند مالك . { واتقوا الله } في المحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصا في الحج { واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن لم يتقه كي يصدكم للعلم به عن العصيان .
وقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ، قال ابن زيد والشعبي وغيرهما : إتمامهما أن لا تفسخ وأن تتمهما إذا بدأت بهما .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك( {[1813]} ) ، وفعله عمران بن حصين .
وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويؤيد هذا قوله : { لله } .
وقال قتادة والقاسم بن محمد : إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج ، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم ، وهذا مبني على أن الدم في الحج والعمرة جبر نقص ، وهو قول مالك وجماعة من العلماء . وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن كثرة الدم كمال وزيادة ، وكلما كثر عندهم لزوم الدم فهو أفضل ، واحتجوا بأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أفضل الحج ؟ فقال : العج والثج( {[1814]} ) ، ومالك ومن قال بقوله يراه ثج التطوع .
وقالت فرقة : إتمامهما أن تفرد كل واحدة من حجة وعمرة ولا تقرن ، وهذا على أن الإفراد أفضل .
وقالت فرقة : القرآن أفضل ، وذلك هو الإتمام عندهم .
وقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم وغيرهم : إتمامهما أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء .
وفروض الحج : النية ، والإحرام ، والطواف المتصل بالسعي ، والسعي بين الصفا والمروة عندنا خلافاً لأبي حنيفة ، والوقوف بعرفة ، والجمرة على قول ابن الماجشون ، وأما أعمال العمرة فنية وإحرام ، وطواف ، وسعي .
واختلف في فرض العمرة فقال مالك رحمه الله : هي سنة واجبة( {[1815]} ) لا ينبغي أن تترك كالوتر ، وهي عندنا مرة واحدة في العام( {[1816]} ) ، وهذا قول جمهور أصحابه ، وحكى ابن المنذر( {[1817]} ) في الإشراف عن أصحاب الرأي أنها عندهم غير واجبة ، وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه يوجبها كالحج ، وبأنها سنة .
قال ابن مسعود وجمهور من العلماء ، وأسند الطبري النص على ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق والشعبي وجماعة تابعين : أنها وجبة كالفرض( {[1818]} ) ، وقاله ابن الجهم من المالكيين .
وقال مسروق : «الحج والعمرة فرض ، نزلت العمرة من الحج منزلة الزكاة من الصلاة » ، وقرأ الشعبي وأبو حيوة «والعمرةُ لله » برفع العمرة على القطع والابتداء ، وقرأ ابن أبي إسحاق «الحجِ » بكسر الحاء ، وفي مصحف ابن مسعود «وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله » ، وروي عنه : «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت » ، وروي غير هذا مما هو كالتفسير( {[1819]} ) .
وقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي }( {[1820]} ) ، قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما : الآية فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو .
وقال ابن عباس وغيره بعكس ذلك ، والمشهور من اللغة أحصر بالمرض وحصر بالعدو ، وفي المجمل لابن فارس حصر بالمرض وأحصر بالعدو .
وقال الفراء : «هما بمعنى واحد في المرض والعدو » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والصحيح أن حصر إنما هي فيما أحاط( {[1821]} ) وجاور فقد يحصر العدو والماء ونحوه ولا يحصر المرض ، وأحصر معناه جعل الشيء ذا حصر( {[1822]} ) كأقبر وأحمى( {[1823]} ) وغير ذلك ، فالمرض والماء والعدو وغير ذلك قد يكون محصراً لا حاصراً ، ألا ترى أن العدو كان محصراً في عام الحديبية ، وفي ذلك نزلت هذه الآية عند جمهور أهل التأويل ، وأجمع جمهور الناس على أن المحصر بالعدو يحل حيث أحصر ، وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه .
وقال قتادة وإبراهيم : يبعث بهديه إن أمكنه فإذا بلغ محله صار حلالاً ولا قضاء عليه عند الجميع إلا أن يكون ضرورة فعليه حجة الإسلام .
وقال ابن الماجشون : «ليست عليه حجة الإسلام وقد قضاها حين أحصر » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لا وجه له .
وقال أشهب : «يهدي المحصر بعدو هدياً من أجل الحصر » .
وقال ابن القاسم : «لا يهدي شيئاً إلا إن كان معه هدي فأراد نحره » ، ذكره ابن أبي زيد .
وقال عطاء وغيره : المحصر بالمرض كالمحصر بالعدو .
وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء : المحصر بالمرض لا يحله إلا البيت ، ويقيم حتى يفيق ، وإن قام سنين ، فإذا وصل البيت بعد فوت الحج قطع التلبية في أوائل الحرم وحل بعمرة ، ثم تكون عليه حجة قضاء وفيها يكون الهدي ، وقيل : إن الهدي يجب في وقت الحصر أولاً( {[1824]} ) ، ولم ير ابن عباس من أحصره المرض داخلاً في هذه الآية ، وقال : إن المريض إن لم يكن معه هدي حل حيث حبس ، وإن كان معه هدي لم يحل حتى يبلغ الهدي محله ثم لا قضاء عليه ، قال : وإنما قال الله : { فإذا أمنتم } والأمن إنما هو من العدو فليس المريض في الآية .
و { ما } في موضع رفع ، أي فالجواب أو فعليكم ما استيسر ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب أي فانحروا أو فاهدوا ، و { ما استيسر } عند جمهور أهل العلم : شاة .
وقال ابن عمر وعروة بن الزبير { ما استيسر } جمل دون جمل وبقرة دون بقرة .
وقال الحسن : أعلى الهدي بدنة وأوسطه بقرة واخسّه شاة ، و { الهدي } جمع هدية كجدية السرج وهي البراد جمعها جدى( {[1825]} ) ، ويحتمل أن يكون { الهدي } مصدراً سمي به كالرهن ونحوه فيقع للإفراد وللجمع .
وقال أبو عمرو بن العلاء : «لا أعرف لهذه اللفظة نظيراً » .
وقوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم } الآية ، الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى( {[1826]} ) ، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة ، ومحل الهدي حيث يحل نحره ، وذلك لمن لم يحصر بمنى ولمن أحصر بعد وحيث أحصر إذا لم يمكن إرساله ، وأما المريض فإن كان له هدي فيرسله إلى محله .
والترتيب( {[1827]} ) أن يرمي الحاج الجمرة ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف طواف الإفاضة ، فإن نحر رجل قبل الرمي أو حلق قبل النحر فلا حرج حسب الحديث ولا دم .
وقال( {[1828]} ) قوم : لا حرج في الحج ولكن يهرق دماً .
وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحابنا : «إذا حلق قبل أن ينحر فليهد ، وإن حلق رجل قبل أن يرمي فعليه دم قولاً واحداً في المذهب »( {[1829]} ) .
قال ابن المواز ( {[1830]} )عن مالك : ويمر الموسى على رأسه بعد الرمي ، ولا دم في ذلك عند أبي حنيفة وجماعة معه .
وقرأ الزهري والأعرج وأبو حيوة «الهدِيّ » بكسر الدال وشد الياء في الموضعين واحدته هدية ، ورويت هذه القراءة عن عاصم .
وقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً } الآية ، المعنى فحلق لإزالة الأذى { ففدية } ، وهذا هو فحوى الخطاب عند أكثر الأصوليين ، ونزلت هذه الآية في كعب بن عجرة( {[1831]} ) حين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يتناثر قملاً ، فأمره بالحلاق ونزلت الرخصة . و { فدية } رفع على خبر الابتداء ، والصيام عند مالك وعطاء ومجاهد وإبراهيم وغيرهم وجميع أصحاب مالك : ثلاثة أيام ، والصدقة : ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وذلك مدّان بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم( {[1832]} ) ، والنسك : شاة بإجماع ، ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل .
وقال الحسن بن أبي الحسن وعكرمة : الصيام عشرة أيام ، والإطعام عشرة مساكين .
وقرأ الزهري «أو نسْك » بسكون السين .
وقال سعيد بن جبير ومجاهد : النسْك شاة ، فإن لم يجدها فقيمتها يشترى بها طعام فيطعم منه مدّان لكل مسكين ، فإن لم يجد القيمة عرفها وعرف ما يشترى بها من الطعام وصام عن كل مدين يوماً .
قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه : ذلك كله حيث شاء( {[1833]} ) ، وقاله إبراهيم وهو مذهب مالك وأصحابه إلا ابن الجهم ، فإنه قال : لا يكون النسك إلا بمكة .
وقال عطاء في بعض ما روي عنه وأصحاب الرأي : النسك بمكة ، والصيام والإطعام حيث شاء .
وقال الحسن بن أبي الحسن وطاوس وعطاء أيضاً ومجاهد والشافعي : النسك والإطعام بمكة ، والصيام حيث شاء ، والمفتدي مخير في أي هذه الثلاثة شاء ، وكذلك قال مالك وغيره في كل ما في القرآن أو فإنه على التخيير .
وقوله تعالى : { فإذا أمنتم } ، قال علقمة وعروة : المعنى إذا برأتم من مرضكم . وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : إذا أمنتم من خوفكم من العدو المحصر ، وهذا أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه .
وقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } الآية ، قال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم ، وصورة المتمتع عند ابن الزبير أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ويقضي الحج من قابل ، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء ، وصورة المتمتع المحصر عند غيره أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه .
وقال ابن عباس وجماعة من العلماء : الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله ، وصورة المتمتع أن تجتمع فيه ستة شروط : أن يكون معتمراً في أشهر الحج ، وهو من غير حاضري المسجد الحرام ، ويحل( {[1834]} ) وينشىء الحج من عامه ذلك دون رجوع إلى وطنه أو ما ساواه بعداً . هذا قول مالك واصحابه ، واختلف لم سمي متمتعاً ، فقال ابن القاسم : لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج( {[1835]} ) ، وقال غيره : سمي متمتعاً لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين ، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفرة وحق الحج كذلك ، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هدياً كالقارن الذي يجمع الحج والعمرة في سفر واحد .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذه شدة على القادم مكة من سائر الأقطار لما أسقط سفراً ، والمكي لا يقتضي حاله سفراً في عمرة ولا حج لأنه في بقعة الحج فلم يلزم شيئاً لأنه لم يسقط شيئاً ، ومن قال إن اسم التمتع وحكمه إنما هو من جهة التمتع بالنساء والطيب وغير ذلك فيرد عليه أنه يستغرق قوله : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } المكي وغيره على السواء في القياس ، فكيف يشتد مع ذلك على الغريب الذي هو أعذر ويلزم هدياً ، ولا يفعل ذلك بالمكي ، فيترجح بهذا النظر أن التمتع إنما هو من أجل إسقاط أحد السفرين ، إلا أن أبا عبيد قال في كتاب الناسخ والمنسوخ له : إن العمرة في أشهر الحج ممنوعة للمكي لا تجوز له ، ورخص الله تعالى للقادم لطول بقائه محرماً وقرن الرخصة بالهدي .
قال القاضي أبو محمد : فهذه شدة على أهل مكة ، وبهذا النظر يحسن أن يكون التمتع من جهة استباحة ما لا يجوز للمحرم ، لكنه قول شاذ لا يعول عليه ، وجل الأمة على جواز العمرة في أشهر الحج للمكي ولا دم عليه ، وذكر أبو عبيد القولين عن ابن عمر واستند إليه في الذي وافقه ، وقد حكاه الطبري عن ابن عباس وقال : إنه قال يا أهل مكة لا متعة لكم ، إن الله قد أحلها لأهل الآفاق وحرمها عليكم ، وإنما يقطع أحدكم وادياً ثم يحرم بعمرة .
قال القاضي أبو محمد : فمعنى هذا أنهم متى أحرموا داموا إلى الحج ، وقال السدي : المتمتع هو الذي يفسخ الحج في العمرة( {[1836]} ) ، وذلك لا يجوز عند مالك ، وفي صحيح مسلم حديث سراقة بن مالك قال : قلت يا رسول الله : فسخ الحج في العمرة ألنا خاصة أم للأبد ؟ فقال : «بل لأبد أبد ، بل لأبد أبد »( {[1837]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وإنما شرط في المتمتع أن يحل في أشهر الحج لأنها مدة يملكها الحج فمن كان فيها محرماً فحقه أن يصل الإحرام إلى الحج ، وفي كتاب مسلم إيعاب الأحاديث في هذا المعنى ، ومذهب عمر وقول أبي ذر إن متعة النساء ومتعة الحج خاصتان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال طاوس : «من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى حج من عامه فهو متمتع » .
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري «من اعتمر بعد يوم النحر في بقية العام فو متمتع » ، وهذان قولان شاذان لم يوافقهما أحد من العلماء ، وتقدم القول فيما استيسر من الهدي( {[1838]} ) .
قوله : { لم يجد } إما بعدم المال وإما بعدم الحيوان( {[1839]} ) ، و { في الحج } قال عكرمة وعطاء : له أن يصومها في أشهر الحج وإن كان لم يحرم بالحج .
وقال ابن عباس ومالك بن أنس : له أن يصومها منذ يحرم بالحج .
وقال عطاء أيضاً ومجاهد : لا يصومها إلا في عشر ذي الحجة .
وقال ابن عمر والحسن الحكم : يصوم يوماً قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة ، وكلهم يقول : لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة لأن بانقضائه ينقضي الحج .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر ومالك بن أنس وجماعة من أهل العلم : من فاته صيامها قبل يوم النحر فله صيامها في أيام التشريق ، لأنها من أيام الحج .
وقال قوم : له ابتداء تأخيرها إلى يوم التشريق لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بأن لا يجد يوم النحر .
وقوله تعالى : { وسبعة إذا رجعتم } قال مجاهد وعطاء وإبراهيم : المعنى إذا رجعتم من منى فمن بقي بمكة صامها ، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق .
وقال قتادة والربيع : هذه رخصة من الله تعالى ، والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وطنه ، إلا أن يتشدد أحد كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان ، وقرأ زيد بن علي «وسبعةً » بالنصب ، أي وصوموا سبعة( {[1840]} ) ، ولما جاز أن يتوهم متوهم التخيير( {[1841]} ) بين ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أزيل ذلك بالجملة من قوله تعالى : { تلك عشرة كاملة }( {[1842]} ) قال الحسن بن أبي الحسن : المعنى كاملة في الثواب كمن أهدى ، وقيل كاملة في الثواب كمن لم يتمتع ، وهذا على أن الحج الذي لم تكثر( {[1843]} ) فيه الدماء أخلص وأفضل خلافاً لأبي حنيفة ، وقيل : { كاملة } توكيد كما تقول كتبت بيدي ، وكقوله تعالى : { فخر عليهم السقف من فوقهم }( {[1844]} ) [ النحل : 6 ] ، وقيل : لفظها الإخبار ومعناها الأمر أي أكملوها فذلك فرضها .
وقال الاستاذ الأجل أبو الحسن علي بن أحمد( {[1845]} ) : المعنى تلك كاملة ، وكرر الموصوف تأكيداً كما تقول زيد رجل عاقل( {[1846]} ) .
وقوله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله } الآية ، الإشارة إلى التمتع وهديه وحكمه ، وهذا على قول من يرى أن المكي لا تجوز له المتعة في أشهر الحج ، فكان الكلام ذلك الترخيص ، ويتأيد هذا بقوله { لمن } ، لأن اللام أبداً إنما تجيء مع الرخص ، تقول لك أن تفعل كذا ، وأما مع الشدة فالوجه أن تقول عليك ، وأما من يرى أن المكي يعتمر ولا دم عليه لأنه لم يسقط سفراً فالإشارة بذلك -على قوله - هي إلى الهدي ، أي ذلك الاشتداد والإلزام .
واختلف الناس في { حاضري المسجد الحرام } بعد الإجماع على أهل مكة وما اتصل بها ، وقال الطبري : بعد الإجماع على أهل الحرم ، وليس كما قال : فقال بعض العلماء : من كان حيث تجب الجمعة عليه بمكة فهو حضري ، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي .
قال القاضي أبو محمد : فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة ، وقال بعضهم : من كان بحيث لا تقصر الصلاة إلى مكانه فهو حاضر أي شاهد ، ومن كان أبعد من ذلك فهو غائب ، وقال عطاء بن أبي رباح : مكة وضجنان( {[1847]} ) وذو طوى وما أشبهها حاضرو المسجد الحرام .
وقال ابن عباس ومجاهد : أهل الحرم كله حاضرو المسجد الحرام ، وقال مكحول( {[1848]} ) وعطاء : من كان دون المواقيت من كل جهة حاضروا المسجد الحرام .
وقال الزهري : من كان على يوم أو يومين فهو من حاضري المسجد الحرام( {[1849]} ) ، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم ، وحذر من شديد عقابه .
هذا عود إلى الكلام على العمرة فهو عطف على قوله : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } الخ [ البقرة : 189 ] وما بينهما استطراد أو اعتراض ، على أن عطف الأحكام بعضها على بعض للمناسبة طريقة قرآنية فلك أن تجعل هذه الجملة عطفاً على التي قبلها عطف قصة على قصة .
ولا خلاف في أنّ هذه الآية نزلت في الحديبية سنة ست حين صد المشركون المسلمين عن البيت كما سيأتي في حديث كعب بن عجرة ، وقد كانوا ناوين العمرة وذلك قبل أن يفرض الحج ، فالمقصود من الكلام هو العمرة ؛ وإنما ذكر الحج على وجه الإدماج تبشيراً بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد ، وهذا من معجزات القرآن .
والإتمام إكمال الشيء والإتيان على بقايا ما بقي منه حتى يستوعب جميعه .
ومثل هذا الأمر المتعلق بوصف فعل يقع في كلامهم على وجهين : أحدهما وهو الأكثر أن يكون المطلوب تحصيل وصف خاص للفعل المتعلق به الوصف كالإتمام في قوله تعالى : { وأتموا الحج } أي كملوه إن شرعتم فيه ، وكذا قوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] على ما اخترناه وقوله تعالى : { فأتموا إليهم عهدهم } [ التوبة : 4 ] ومثله أن تقول : أسرع السير للذي يسير سيراً بطيئاً ، وثانيهما أن يجيء الأمر بوصف الفعل مراداً به تحصيل الفعل من أول وهلة على تلك الصفة نظير قوله تعالى : { ولأتم نعمتي عليكم } [ البقرة : 150 ] ، وذلك كقولك : أسرع السير فادع لي فلاناً تخاطب به مخاطباً لم يشرع في السير بعد ، فأنت تأمره بإحداث سير سريع من أول وهلة ، ونظيره قولهم : « وَسِّع فمَ الركِية ، وقولهم : وسع كم الجُبة وضيق جيبها » أي أوجدها كذلك من أول الأمر ، وهذا ضرب من ضروب التعبير ليس بكناية ولا مجاز ، ولكنه أمر بمجموع شيئين وهو أقل ؛ لأن الشأن أن يكون المطلوب بصيغة الأمر ابتداء هو الحدث الذي منه مادة تلك الصيغة .
والآية تحتمل الاستعمالين ، فإن كان الأول فهي أمر بإكمال الحج والعمرة ، بمعنى ألا يكون حجاً وعمرة مشوبين بشغب وفتنة واضطراب أو هي أمر بإكمالهما وعدم الرجوع عنهما بعد الإهلال بهما ولا يصدهم عنهما شنآن العدو ، وإن كان الثاني فهي أمر بالإتيان بهما تامين أي مستكملين ما شرع فيهما .
والمعنى الأول أظهر وأنسب بالآيات التي قبلها ، وكأنَّ هذا التحريض مشير إلى أن المقصود الأهم من الحج والعمرة هنا هما الصَّرورة في الحج وكذا في العمرة على القول بوجوبها .
واللام في ( الحج والعمرة ) لتعريف الجنس ، وهما عبادتان مشهورتان عند المخاطبين متميزتان عن بقية الأجناس ، فالحج هو زيارة الكعبة في موسم معين في وقت واحد ، للجماعة وفيه وقوف عرفة ، والعمرة زيارة الكعبة في غير موسم معين وهي لكل فرد بخصوصه .
وأصل الحج في اللغة بفتح الحاء وكسرها تكرر القصد إلى الشيء أو كثرة قاصديه . وعن ابن السكيت : الحج كثرة الاختلاف والتردد يقال حج بنو فلان فلاناً أطالوا الاختلاف إليه وفي « الأساس » : فلان تحجه الرفاق أي تقصده اهـ . فجعله مفيداً بقصد من جماعة كقول المخبل السعدي واسمه الربيع :
وأَشْهَدُ من عَوْفٍ حُلولاً كثِيرةً *** يَحُجُّون سِبَّ الزّبْرَقَانِ المزعفرا
والحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام كما حكى الله ذلك بقوله : { وأذن في الناس بالحج } [ الحج : 27 ] الآية حتى قيل : إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج ، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعي لله تعالى قال النابغة يصف الحجيج ورواحلهم :
عَلَيْهِنَّ شُعْثٌ عامدونَ لرَبِّهمِ *** فهن كأطراف الحَنيِّ خَوَاشِع
وكانوا يتجردون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون ، وكان الحج طوافاً بالبيت وسعياً بين الصفا والمروة ووقوفاً بعرفة ونحراً بمنى . وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطاً ولا سمناً أي لأنه أكل المترفهين ولا يستظل بسقف ، ومنهم من يحج متجرداً من الثياب ، ومنهم من لا يستظل من الشمس ، ومنهم من يحج صامتاً لا يتكلم ، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج ، ولهم في الحج مناسك وأحكام ذكرناها في « تاريخ العرب » .
وكان للأمم المعاصرة للعرب حجوج كثيرة ، وأشهر الأمم في ذلك اليهود فقد كانوا يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد أي إلى هيكل ( أورشليم ) وهو المسجد الأقصى ثلاث مرات في السنة ليذبحوا هناك فإن القرابين لا تصح إلاّ هناك ومن هذه المرات مرة في عيد الفصح .
واتخذت النصارى زيارات كثيرة ، حجاً ، أشهرها زياراتهم لمنازل ولادة عيسى عليه السلام وزيارة ( أورشليم ) ، وكذا زيارة قبر ( ماربولس ) وقبر ( ماربطرْس ) برومة ، ومن حج النصارى الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو أقدم حجهم أنهم كانوا قبل الإسلام يحجون إلى مدينة ( عسقلان ) من بلاد السواحل الشامية ، والمظنون أن الذين ابتدعوا حجها هم نصارى الشام من الغساسنة لقصد صرف الناس عن زيارة الكعبة وقد ذكره سحيم عبدُ بني الحسحاس وهو من المخضرمين في قوله يصف وحوشاً جرفها السيل :
كأَنَّ الوُحُوشَ به عَسقَلاَ *** نُ صادفْنَ في قَرْن حَجِّ ذِيَافا
أي أصابهن سم فقتلهن وقد ذكر ذلك أئمة اللغة .
وقد كان للمصريين والكلدان حج إلى البلدان المقدسة عندهم ، ولليونان زيارات كثيرة لمواقع مقدسة مثل أولمبيا وهيكل ( زفس ) وللهنود حجوج كثيرة .
والمقصود من هذه الآية إتمام العمرة التي خرجوا لقضائها ، وذِكْر الحج معها إدماج ، لأن الحج لم يكن قد وجب يومئذٍ ، إذ كان الحج بيد المشركين ففي ذكره بشارة بأنه يوشك أن يصير في قبضة المسلمين .
وأما العمرة فهي مشتقة من التعمير وهو شغل المكان ضد الإخلاء ولكنها بهذا الوزن لا تطلق إلاّ على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج ، وهي معروفة عند العرب وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر ، فكانوا يقولون " إذا برىء الدبر ، وعفا الأثر ، وخرج صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر " ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل .
واصطلح المضَريُّون على جعل رجب هو شهر العمرة ولذلك حرمته مضر فلقب برجب مضر ، وتبعهم بقية العرب ، ليكون المسافر للعمرة آمناً من عدوه ؛ ولذلك لقبوا رجباً ( منصل الأسنة ) ويرون العمرة في أشهر الحج فجوراً .
وقوله { لله } أي لأجل الله وعبادته والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلاّ لله ولا العمرة إلاّ له ، لأن الكعبة بيت الله وحرمه ، فالتقييد هنا بقوله { لله } تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم فيهما منفعة وكانوا هم سدنة الحرم ، وهم الذين منعوا المسلمين منه ، كي لا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين ، فقيل لهم إن ذلك لا يصد عن الرغبة في الحج والعمرة لأنكم إنما تحجون لله لا لأجل المشركين ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حف به ما يكدره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفاً عنه ، بل يجب إزالة ذلك العارض عنه ، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة .
ويجوز أن يكون التقييد بقوله : { لله } لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام ، فإن المشركين لما وضعوا هبلاً على الكعبة ووضعوا إسافاً ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى . وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين .
وليس في الآية حجة عند مالك وأبي حنيفة رحمهما الله على وجوب الحج ولا العمرة ولكن دليل حكم الحج والعمرة عندهما غير هذه الآية ، وعليه فمجمل الآية عندهما على وجوب هاتين العبادتين لمن أحرم لهما ، فأما مالك فقد عدهما من العبادات التي تجب بالشروع فيها وهي سبع عبادات عندنا هي الصلاة ، والصيام ، والاعتكاف ، والحج ، والعمرة ، والطواف ، والائتمام ، وأما أبو حنيفة فقد أوجب النوافل كلها بالشروع .
ومن لم ير وجوب النوافل بالشروع ولم ير العمرة واجبة يجعل حكم إتمامها كحكم أصْل الشروع فيها ويكون الأمر بالإتمام في الآية مستعملاً في القدر المشترك من الطلب اعتماداً على القرائن ، ومن هؤلاء من قرأ ، ( والعمرةُ ) بالرفع حتى لا تكون فيما شمله الأمر بالإتمام بناء على أن الأمر للوجوب فيختص بالحج .
وجعلها الشافعية دليلاً على وجوب العمرة كالحج ، ووجه الاستدلال له أن الله أمر بإتمامها فإما أن يكون الأمر بالإتمام مراداً به الإتيان بهما تامين أي مستجمعي الشرائط والأركان ، فالمراد بالإتمام المعنى الشرعي على أحد الاستعمالين السابقين ، قالوا : إذ ليس هنا كلام على الشروع حتى يؤمر بالإتمام ، ولأنه معضود بقراءة « وأقيموا الحج » وإما أن يكون المراد بالإتمام هنا الإتيان على آخر العبادة فهو يستلزم الأمر بالشروع ، لأن الإتمام يتوقف على الشروع ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيكون الأمر بالإتمام كناية عن الأمر بالفعل .
والحق أن حمل الأمر في ذلك بأصل الماهية لا بصفتها استعمال قليل كما عرفت ، وقراءة : « وأقيموا » لشذوذها لا تكون داعياً للتأويل ، ولا تتنزل منزلة خبر الآحاد ، إذا لم يصح سندها إلى من نسبت إليه وأما على الاحتمال الأول فلأن التكني بالإتمام عن إيجاب الفعل مصير إلى خلال الظاهر مع أن اللفظ صالح للحمل على الظاهر ؛ بأن يدل على معنى : إذا شرعتم فأتموا الحج والعمرة ، فيكون من دلالة الاقتضاء ويكون حقيقة وإيجازاً بديعاً ، وهو الذي يؤذن به السياق كما قدمنا ، لأنهم كانوا نووا العمرة ، على أن شأن إيجاب الوسيلة بإيجاب المتوسل إليه أن يكون المنصوص على وجوبه هو المقصد فكيف يدعي الشافعية أن { أتموا } هنا مراد منه إيجاب الشروع ، لأن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب كما أشار له العصام .
فالحق أن الآية ليست دليلاً لحكم العمرة . وقد اختلف العلماء في حكمها : فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها سنة قال مالك : لا أعلم أحداً رخص في تركها وهذا هو مذهب جابر ابن عبد الله وابن مسعود من الصحابة والنخعي من التابعين .
وذهب الشافعي وأحمد وابن الجهم من المالكية إلى وجوبهما ، وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس من الصحابة وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي وسعيد بن جبير ، وأبو بردة ، ومسروق ، وإسحاق بن راهويه .
ودليلنا حديث جابر بن عبد الله ، " قيل : يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال : لا ، وأن تعتمروا فهو أفضل " أخرجه الترمذي ، لأن عبادة مثل هذه لو كانت واجبة لأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت وجوبها بتلفيقات ضعيفة ، وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقول : لولا التحرج وأني لم أسمع من رسول الله في ذلك شيئاً لقلت : العمرة واجبة اه محل الاحتجاج قوله : لم أسمع الخ ، ولأن الله تعالى قال : { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] ولم يذكر العمرة ، ولأنه لا يكون عبادتان واجبتان هما من نوع واحد . ولأن شأن العبادة الواجبة أن تكون مؤقتة .
واحتج أصحابنا أيضاً بحديث : " بني الإسلام على خمس " وحديث جبريل في الإيمان والإسلام ولم يذكر فيهما العمرة ، وحديث الأعرابي الذي قال :
" لا أزيد ولا أنقص : فقال : أفلح إن صدق " ولم يذكر العمرة ولم يحتج الشافعية بأكثر من هذه الآية ، إذ قرنت فيها مع الحج ، وبقول بعض الصحابة وبالإحتياط .
واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على منع التمتع وهو الإحرام بعمرة ثم الحل منها في مدة الحج ثم الحج في عامه ذلك قبل الرجوع إلى بلده ، ففي البخاري أخرج حديث أبي موسى الأشعري قال : " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن فجئتُ وهو بالبطحاء ( عام حجة الوداع ) فقال : بم أهللت ؟ فقلت : أهللت كإهلال النبي قال : أحسنت هل معك من هدى قلت : لا ، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي ، ثم أهللت بالحج فكنت أفتي الناس به حتى خلافة عمر فذكرته له فقال : أن نأخذ بكتاب الله ، فإنه يأمرنا بالتمام ، قال تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } وأن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله " يريد عمر والله أعلم أن أبا موسى أهل بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم والنبي كان مهلاً بحجة وعمرة معاً فهو قارن والقارن متلبس بحج ، فلا يجوز أن يحل في أثناء حجه وتمسك بفعل الرسول عليه السلام أنه كان قارناً ولمن يحل ، وهذا مبني على عدم تخصيص المتواتر بالآحاد كما هو قوله في حديث فاطمة ابنة قيس في النفقة .
وقوله : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى } عطف على { أتموا } ، والفاء للتفريع الذكري فإنه لما أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر حكم ما يمنع من ذلك الإتمام .
ولا سيما الحج ؛ لأن وقته يفوت غالباً بعد ارتفاع المانع ، بخلاف العمرة . والإحصار في كلام العرب منع الذات من فعل ما ، يقال : أحصره منعه مانع قال تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } [ البقرة : 273 ] أي منعهم الفقر من السفر للجهاد وقال ابن ميادة :
وما هَجرُ ليلى أَن تكون تباعدتْ *** عليك ولا أنْ أحْصَرَتْكَ شغول
وهو فعل مهموز لم تكسبه همزته تعدية ، لأنه مرادف حصره ونظيرهما صده وأصده . هذا قول المحققين من أئمة اللغة ، ولكن كثر استعمال أحصر المهموز في المنع الحاصل من غير العدو ، وكثر استعمال حصر المجرد في المنع من العدو ، قال : { وخذوهم واحصروهم } [ التوبة : 5 ] فهو حقيقة في المعنيين ولكن الاستعمال غلب أحدهما في أحدهما كما قال الزمخشري في « الكشاف » ، ومن اللغويين من قال : أحصر حقيقة في منع غير العدو وحصر حقيقة في منع العدو وهو قول الكسائي وأبي عبيدة والزجاج ، ومن اللغويين من عكس وهو ابن فارس لكنه شاذ جداً .
وجاء الشرط بحرف ( إن ) لأن مضمون الشرط كريه لهم فألقى إليهم الكلام إلقاء الخبر الذي يشك في وقوعه ، والمقصود إشعارهم بأن المشركين سيمنعونهم من العمرة .
وقد اختلف الفقهاء في المراد من الإحصار في هذه الآية على نحو الاختلاف في الوضع أو في الاستعمال والأظهر عندي أن الإحصار هنا أطلق على ما يعم المنع من عدو أو من غيره بقرينة قوله تعالى عقبه : { فإذا أمنتم } فإنه ظاهر قوي في أن المراد منه الأمن من خوف العدو ، وأن هذا التعميم فيه قضاء حق الإيجاز في جمع أحكام الإحصار ثم تفريقها كما سأبينه عند قوله تعالى : { فإذا أمنتم } ، وكأنَّ هذا هو الذي يراه مالك رحمه الله ، ولذلك لم يحتج في « الموطأ » على حكم الإحصار بغير عدو بهذه الآية ، وإنما احتج بالسنة . وقال جمهور أصحابه أريد بها المنع الحاصل من مرض ونحوه دون منع العدو ، بناء على أن إطلاق الإحصار على هذا المنع هو الأكثر في اللغة . ولأن هذه الآية جعلت على المُحْصَر هدياً ولم ترد السنة بمشروعية الهدي فيمن حصره العدو أي مشروعية الهدي لأجل الإحصار أما من ساق معه الهدي فعليه نسكه لا لأجل الإحصار ، ولذلك قال مالك بوجوب الهدي على من أحصر بمرض أو نفاس أو كَسْر من كل ما يمنعه أن يقف الموقف مع الناس مع وجوب الطواف والسعي عند زوال المانع ووجوب القضاء من قابل لما في « الموطأ » من حديث معبد بن حزابة المخزومي أنه صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل ابنَ عمر وابنَ الزبير ومروانَ بنَ الحَكَم فكلهم أمره أن يتداوى ويفتدي ، فإذا أصح اعتمر ، فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل ، وأن عمر بن الخطاب أمر بذلك أبا أيوب وهَبَّار بن الأسود حين فاتهما وقوف عرفة ، بخلاف حصار العدو ، واحتج في « الموطأ » بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً من أصحابه ولا من كان معه أن يقضوا شيئاً ولا أن يعودوا لشيء ، ووجَّه أصحابنا ذلك بالتفرقة ؛ لأن المانع في المرض ونحوه من ذات الحاج ؛ فلذلك كان مطالبَاً بالإتمام ، وأما في إحصار العدو فالمانع خارجي ، والأظهر في الاستدلال أن الآية وإن صلحت لكل منع لكنها في منع غير العدو أظهر وقد تأيدت أظهريتها بالسنة .
وقال الشافعي : لا قضاء فيهما وهو ظاهر الآية للاقتصار على الهدي وهو اقتصار على مفهوم الآية ومخالفة ما ثبت بالسنة ، وقال أبو حنيفة : كل منع من عدُو أو مرض فيه وجوب القضاء والهدي ولا يجب عليه طواف ولا سَعْي بعد زوال عذره بل إن نحر هديه حل والقضاء عليه . ولا يلزمه ما يقتضيه حديث الحديبية ؛ لأن الآية إن كانت نزلت بعده فعمومها نسخ خصوص الحديث ، وإن نزلت قبله فهو آحاد لا يخصص القرآن عنده ، على أن حديث الحديبية متواتر ؛ لأن الذين شهدوا النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يزيدون على عدد التواتر ، ولم ينقل عنهم ذلك مع أنه مما تتوافر الدواعي على نقله .
وقال الشافعي : المراد هنا منع العدو بقرينة قوله { فإذا أمنتم } ولأنها نزلت في عام الحديبية وهو إحصار عدوّ ؛ ولذلك أوجب الهدي على المحصر أما محصر العدوّ فبنصّ الآية ، وأما غيره فبالقياس عليه . وعليه : إن زال عذره فعليه الطواف بالبيت والسعي ، ولم يقل بوجوب القضاء عليه ؛ إذ ليس في الآية ولا في الحديث .
وقوله : { فما استيسر من الهدى } جواب الشرط وهو مشتمل على أحد ركني الإسناد وهو المسند إليه دون المسند فلا بد من تقدير دل عليه قوله : { من الهدي } وقدره في « الكشاف » فعليكم ، والأظهر أن يقدر فعل أمر أي فاهدوا ما استيسر من الهدي ، وكلا التقديرين دال على وجوب الهدي . ووجوبه في الحج ظاهر وفي العمرة كذلك ؛ بأنها مما يجب إتمامه بعد الإحرام باتفاق الجمهور .
و ( استيسر ) هنا بمعنى يسر فالسين والتاء للتأكيد كاستعصب عليه بمعنى صعب أي ما أمكن من الهدي بإمكان تحصيله وإمكان توجيهه ، فاستيسر هنا مراد جميع وجوه التيسر .
والهدي اسم الحيوان المتقرب به لله في الحج فهو فَعْل من أهدى ، وقيل هو جمع هدية كما جمعت جدية السرج على جدي{[178]} ، فإن كان اسماً فمن بيانية ، وإن كان جمعاً فمن تبعيضية ، وأقل ما هو معروف عندهم من الهدي الغنم ، ولذلك لم يبينه الله تعالى هنا ، وهذا الهدي إن كان قد ساقه قاصد الحج والعمرة معه ثم أحصر فالبعث به إن أمكن واجب ، وإن لم يكن ساقه معه فعليه توجيهه على الخلاف في حكمه من وجوبه وعدمه ، والمقصود من هذا تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان ، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها .
وقوله : { ولا تحلقوا رؤوسكم } الآية بيان لملازمة حالة الإحرام حتى ينحر الهدي ، وإنما خص النهي عن الحلق دون غيره من منافيات الإحرام كالطيب تمهيداً لقوله : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه } ويعلم استمرار حكم الإحرام في البقية بدلالة القياس والسياق وهذا من مستتبعات التراكيب وليس بكناية عن الإحلال لعدم وضوح الملازمة . والمقصود من هذا تحصيل بعض ما أمكن من أحوال المناسك وهو استبقاء الشعث المقصود في المناسك .
والمحل بفتح الميم وكسر الحاء مكان الحلول أو زمانه يقال : حل بالمكان يحل بكسر الحاء وهو مقام الشيء والمراد به هنا مبلغه وهو ذبحه للفقراء ، وقيل محله : هو محل ذبح الهدايا وهو منى والأول قول مالك .
وقوله : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه } الآية ، المراد مرض يقتضي الحلق سواء كان المرض بالجسد أم بالرأس ، وقوله : { أو به أذى من رأسه } كناية عن الوسخ الشديد والقمل ، لكراهية التصريح بالقمل . وكلمة ( من ) للابتداء أي أذى ناشىء عن رأسه .
وفي البخاري عن كعب بن عجرة قال : « حملت إلى النبي والقمل يتناثر على وجهي ، فقال ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك هذا ، أما تجد شاة ؟ قلت : لا ، قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك ، فنزلت هذه الآية فيَّ خاصة وهي لكم عامة اهـ » ومن لطائف القرآن ترك التصريح بما هو مرذول من الألفاظ .
وقوله : { ففدية من صيام } محذوف المسند إليه لظهوره أي عليه ، والمعنى فليحلق رأسه وعليه فدية ، وقرينة المحذوف قوله : { ولا تحلقوا رؤوسكم } وقد أجمل الله الفدية ومقدارها وبينه حديث كعب بن عجرة .
والنسك بضمتين وبسكون السين مع تثليث النون العبادة ويطلق على الذبيحة المقصود منها التعبد وهو المراد هنا مشتق من نَسك كنصر وكرم إذا عبد وذبح لله وسمي العابد ناسكاً ، وأغلب إطلاقه على الذبيحة المتقرب بها إلى معبود وفي الحديث : « والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم » يعني الضحية .
الفاء للعطف على { أحصرتم } إن كان المراد من الأمن زوال الإحصار المتقدم ، ولعلها نزلت بعد أن فرض الحج ، لأن فيها ذكر التمتع وذكر صيام المتمتع إن لم يجد هدياً ثلاثة أيام في مدة الحج وسبعة إذا رجع إلى أفقه وذلك لا يكون إلاّ بعد تمكنهم من فعل الحج . والفاء لمجرد التعقيب الذكري .
وجيء بإذا لأن فعل الشرط مرغوب فيه ، والأمن ضد الخوف ، وهو أيضاً السلامة من كل ما يخاف منه أمن كفرح أمناً ، أماناً ، وأمناً ، وآمنة وإمناً بكسر الهمزة وهو قاصر بالنسبة إلى المأمون منه فيتعدى بمن تقول : أمنت من العدو ، ويتعدى إلى المأمون تقول : أمنت فلاناً إذا جعلته آمناً منك ، والأظهر أن الأمن ضد الخوف من العدو ما لم يصرح بمتعلقه وفي القرآن { ثم أبلغه مأمنه } [ التوبة : 6 ] فإن لم يذكر له متعلق نزل منزلة اللازم فدل على عدم الخوف من القتال وقد تقدم في قوله تعالى : { رب اجعل هذا بلداً آمناً } [ البقرة : 126 ] .
وهذا دليل على أن المراد بالإحصار فيما تقدم ما يشمل منع العدو ولذلك قيل ( إذا أمنتم ) ويؤيده أن الآيات نزلت في شأن عمرة الحديبية كما تقدم فلا مفهوم للشرط هنا ؛ لأنه خرج لأجل حادثة معينة ، فالآية دلت على حكم العمرة ، لأنها لا تكون إلاّ مع الأمن ، وذلك أن المسلمين جاءوا في عام عمرة القضاء معتمرين وناوين إن مكنوا من الحج أن يحجوا ، ويعلم حكم المريض ونحوه إذا زال عنه المانع بالقياس على حكم الخائف .
وقوله : { فمن تمنع } جواب ( إذا ) والتقدير فإذا أمنتم بعد الإحصار وفاتكم وقت الحج وأمكنكم أن تعتمروا فاعتمروا وانتظروا الحج إلى عام قابل ، واغتنموا خير العمرة فمن تمتع بالعمرة فعليه هدي عوضاً عن هدي الحج ، فالظاهر أن صدر الآية أريد به الإحصار الذي لا يتمكن معه المحصر من حج ولا عمرة ، وأن قوله { فإذا آمنتم } أريد به حصول الأمن مع إمكان الإتيان بعمرة وقد فات وقت الحج ، أي أنه فاته الوقت ولم يفته مكان الحج ، ويعلم أن من أمن وقد بقي ما يسعه بأن يحج عليه أن يحج .
ومعنى { تمتع بالعمرة إلى الحج } انتفع بالعمرة عاجلاً ، والانتفاع بها إما بمعنى الانتفاع بثوابها ، أو بسقوط وجوبها إن قيل إنها واجبة مع إسقاط السفر لها إذ هو قد أداها في سفر الحج ، وإما بمعنى الانتفاع بالحل منها ثم إعادة الإحرام بالحج فانتفع بألا يبقى في كلفة الإحرام مدة طويلة ، وهذا رخصة من الله تعالى ، إذ أباح العمرة في مدة الحج بعد أن كان ذلك محظوراً في عهد الجاهلية إذ كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أعظم الفجور .
فالباء في قوله : { بالعمرة } صلة فعل { تمتع } ، وقوله { إلى الحج } متعلق بمحذوف دل عليه معنى ( إلى ) تقديره متربصاً إلى وقت الحج أو بالغاً إلى وقت الحج أي أيامه وهي عشر ذي الحجة وقد فهم من كلمة ( إلى ) أن بين العمرة والحج زمناً لا يكون فيه المعتمر محرماً وهو الإحلال الذي بين العمرة والحج في التمتع والقران ، فعليه ما استيسر من الهدي لأجل الإحلال الذي بين الإحرامين ، وهذا حيث لم يهد وقت الإحصار فيما أراه والله أعلم .
والآية جاءت بلفظ التمتع على المعنى اللغوي أي الانتفاع وأشارت إلى ما سماه المسلمون بالتمتع وبالقران وهو من شرائع الإسلام التي أبطل بها شريعة الجاهلية ، واسم التمتع يشملها لكنه خص التمتع بأن يحرم الحاج بعمرة في أشهر الحج ثم يحل منها ثم يحج من عامه ذلك قبل الرجوع إلى أفقه ، وخص القران بأن يقرن الحج والعمرة في إهلال واحد ويبدأ في فعله بالعمرة ثم يحل منها ويجوز له أن يردف الحج على العمرة كل ذلك شرعه الله رخصة للناس ، وإبطالاً لما كانت عليه الجاهلية من منع العمرة في أشهر الحج ، وفرض الله عليه الهدي جبراً لما كان يتجشمه من مشقة الرجوع إلى مكة لأداء العمرة كما كانوا في الجاهلية ولذلك سماه تمتعاً .
وقد اختلف السلف في التمتع وفي صفته فالجمهور على جوازه ، وأنه يحل من عمرته التي أحرم بها في أشهر الحج ثم يحرم بعد ذلك في حجة في عامه ذلك ، وكان عثمان بن عفان لا يرى التمتع وينهى عنه في خلافته ، ولعله كان يتأول هذه الآية بمثل ما تأولها ابن الزبير كما يأتي قريباً ، وخالفه علي وعمران بن حصين ، وفي البخاري عن عمران بن حصين تمتعنا على عهد النبي ونزل القرآن ثم قال رجل من برأيه ما شاء ( يريد عثمان ) ، وكان عمر بن الخطاب لا يرى للقارن إذا أحرم بعمرة وبحجة معاً وتمم السعي بين الصفا والمروة أن يحل من إحرامه حتى يحل من إحرام حجه فقال له أبو موسى الأشعري إني جئت من اليمن فوجدت رسول الله بمكة محرماً ( أي عام الوداع ) فقال لي بم أهللت ؟ قلت أهللت بإهلال كإهلال النبي فقال لي هل معك هدي قلت لا فأمرني فطفت وسعيت ثم أمرني فأحللت وغسلت رأسي ومشطتني امرأة من عبد القيس ، فلما حدث أبو موسى عمر بهذا قال عمر : « إن نأخذ بكتاب الله فهو يأمرنا بالإتمام وإن نأخذ بسنة رسوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله » ، وجمهور الصحابة والفقهاء يخالفون رأي عمر ويأخذون بخبر أبي موسى ؛ وبحديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« لولا أن معي الهدي لأحللت » وقد ينسب بعض الناس إلى عمر أنه لا يرى جواز التمتع وهو وهم إنما رأى عمر لا يجوز الإحلال من العمرة في التمتع إلى أن يحل من الحج وذلك معنى قوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله ، فلعله رأى الإحلال للمتلبس بنية الحج منافياً لنيته وهو ما عبر عنه بالإتمام ولعله كان لا يرى الآحاد مخصصاً للمتواتر من كتاب أو سنة لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا متواتر ، إذ قد شهده كثير من أصحابه ونقلوا حجه وأنه أهل بهما جميعاً .
نعم ، كان أبو بكر وعمر يريان إفراد الحج أفضل من التمتع والقران وبه أخذ مالك روى عنه محمد بن الحسن أنه يرجح أحد الحديثين المتعارضين بعمل الشيخين ، وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يرى التمتع خاصاً بالمحصر إذا تمكن من الوصول إلى البيت بعد أن فاته وقوف عرفة فيجعل حجته عمرة ويحج في العام القابل ، وتأول قوله تعالى { إلى الحج } أي إلى وقت الحج القابل والجمهور يقولون { إلى الحج } أي إلى أيام الحج .
وقوله : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } الآية عطفت على { فمن تمتع } ، لأن { فمن تمتع } مع جوابه وهو { فما استيسر } مقدر فيه معنى فمن تمتع واجداً الهدي فعطف عليه { فمن لم يجد } .
وجعل الله الصيام بدلاً عن الهدى زيادة في الرخصة والرحمة ولذلك شرع الصوم مفرقاً فجعله عشرة أيام ثلاثة منها في أيام الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج .
فقوله : { في الحج } أي في أشهره إن كان قد أمكنه الاعتمار قبل انقضاء مدة الحج ، فإن لم يدرك الحج واعتمر فتلك صفة أخرى لا تعرض إليها في الآية .
وقوله : { تلك عشرة كاملة } فذلكة الحساب أي جامعته فالحاسب إذا ذكر عددين فصاعداً قال عند إرادة جمع الأعداد فذلك أي المعدود كذا فصيغت لهذا القول صيغة نحت مثل بسمل إذا قال باسم الله وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلاّ بالله فحروف فذلكة متجمعة من حروف فذلك كما قال الأعشى :
ثلاثٌ بالغداة فهُنَّ حَسبـي *** وستُّ حين يدْركني العِشاء
فذلك تسعة في اليوم رَيِّي *** وشُرْب المرء فوق الرَّيِّ داء
فلفظ فذلكة كلمة مولدة لم تسمع من كلام العرب غلب إطلاق اسم الفذلكة على خلاصة جمع الأعداد ، وإن كان اللفظ المحكي جرى بغير كلمة « ذلك » كما نقول في قوله : { تلك عشرة كاملة } إنها فذلكة مع كون الواقع في المحكي لفظ « تلك » لا لفظ ذلك ومثله قول الفرزدق :
ثلاث واثنتان فتلك خمس *** وسادسة تَميل إلى الشِّمام
وفي وجه الحاجة إلى الفذلكة في الآية وجوه ، فقيل هو مجرد توكيد كما تقول كتبت بيدي يعني أنه جاء على طريقة ما وقع في شعر الأعشى أي أنه جاء على أسلوب عربي ولا يفيد إلاّ تقرير الحكم في الذهن مرتين ولذلك قال صاحب « الكشاف » لما ذكر مثله كقول العرب علمان خير من علم . وعن المبرد أنه تأكيد لدفع توهم أن يكون بقي شيء مما يجب صومه .
وقال الزجاج قد يتوهم متوهم أن المراد التخيير بين صوم ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجع إلى بلده بدلاً من الثلاثة أزيل ذلك بجلية المراد بقوله : { تلك عشرة } وتبعه صاحب « الكشاف » فقال « الواو قد تجيء للإِباحة في نحو قولك : جالس الحسن وابن سيرين ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة اهـ » وهو يريد من الإباحة أنها للتخيير الذي يجوز معه الجمع ولا يتعين .
وفي كلا الكلامين حاجة إلى بيان منشأ توهم معنى التخيير فأقول : إن هذا المعنى وإن كان خلاف الأصل في الواو حتى زعم ابن هشام أن الواو لا ترد له ، وأن التخيير يستفاد من صيغة الأمر لا أنه قد يتوهم من حيث إن الله ذكر عددين في حالتين مختلفتين وجعل أقل العددين لأشق الحالتين وأكثرهما لأخفهما ، فلا جرم طرأ توهم أن الله أوجب صوم ثلاثة أيام فقط وأن السبعة رخصة لمن أراد التخيير ، فبين الله ما يدفع هذا التوهم ، بل الإشارة إلى أن مراد الله تعالى إيجاب صوم عشرة أيام ، وإنما تفريقها رخصة ورحمة منه سبحانه ، فحصلت فائدة التنبيه على الرحمة الإلهية .
ونظيره قوله تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشرٍ فتم ميقات ربه أربعين ليلة } [ الأعراف : 142 ] إذ دل على أنه أراد من موسى عليه السلام مناجاة أربعين ليلة ولكنه أبلغها إليه موزعة تيسيراً .
وقد سئلت عن حكمة كون الأيام عشرة فأجبت بأنه لعله نشأ من جمع سبعة وثلاثة ؛ لأنهما عددان مباركان ، ولكن فائدة التوزيع ظاهرة ، وحكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين ظاهرة ؛ لاختلاف حالة الاشتغال بالحج ففيها مشقة ، وحالة الاستقرار بالمنزل . وفائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عند سببها ، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة أن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال دينية وقضائية .
وأما قوله : { كاملة } فيفيد التحريض على الإتيان بصيام الأيام كلها لا ينقص منها شيء ، مع التنويه بذلك الصوم وأنه طريق كمال لصائمه ، فالكمال مستعمل في حقيقته ومجازه .
وقوله : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } إشارة إلى أقرب شيء في الكلام ، وهو هدي التمتع أو بدله وهو الصيام ، والمعنى أن الهدي على الغريب عن مكة كي لا يعيد السفر للعمرة فأما المكي فلم ينتفع بالاستغناء عن إعادة السفر فلذا لم يكن عليه هدي ، وهذا قول مالك والشافعي والجمهور ، فلذلك لم يكن عندهما على أهل مكة هدي في التمتع والقران ، لأنهم لا مشقة عليهم في إعادة العمرة ، وقال أبو حنيفة : الإشارة إلى جميع ما يتضمنه الكلام السابق على اسم الإشارة وهو التمتع بالعمرة مع الحج ووجوب الهدي ، فهو لا يرى التمتع والقران لأهل مكة وهو وجه من النظر .
وحاضرو المسجد الحرام هم أهل بلدة مكة وما جاورها ، واختلف في تحديد ما جاورها فقال مالك : ما اتصل بمكة ذلك من ذي طوى وهو على أميال قليلة من مكة . وقال الشافعي : من كان من مكة على مسافة القصر ونسبه ابن حبيب إلى مالك وغلطه شيوخ المذهب . وقال عطاء : حاضرو المسجد الحرام أهل مكة وأهل عرفة ، ومَر ، وعُرنة ، وضجنان ، والرجيع ، وقال الزهري : أهل مكة ومن كان على مسافة يوم أو نحوه ، وقال ابن زيد : أهل مكة ، وذي طوى ، وفج ، وما يلي ذلك . وقال طاووس : حاضرو المسجد الحرام كل من كان داخل الحرم ، وقال أبو حنيفة : هم من كانوا داخل المواقيت سواء كانوا مكيين أو غيرهم ساكني الحرم أو الحل .
وصاية بالتقوى بعد بيان الأحكام التي لا تخلو عن مشقة للتحذير من التهاون بها ، فالأمر بالتقوى عام ، وكون الحج من جملة ذلك هو من جملة العموم وهو أجدر أفراد العموم ، لأن الكلام فيه .
وقوله : { واعلموا أن الله شديد العقاب } افتتح بقوله : { واعلموا } اهتماماً بالخبر فلم يقتصر بأن يقال : { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } فإنه لو اقتصر عليه لحصل العلم المطلوب ، لأن العلم يحصل من الخبر ، لكن لما أريد تحقيق الخبر افتتح بالأمر بالعلم ، لأنه في معنى تحقيق الخبر ، كأنه يقول : لا تشكوا في ذلك ، فأفاد مفاد إن ، وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين } [ البقرة : 194 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأتموا الحج والعمرة لله}: من المواقيت، ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، فريضتان واجبتان، ويقال: العمرة هي الحج الأصغر، وتمام الحج والعمرة المواقيت والإحرام خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنيا، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشركون في إحرامهم، فأمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يتموهما لله، فقال: {وأتموا الحج والعمرة لله}: وهو ألا يخلطوهما بشيء، ثم خوفهم أن يستحلوا منهما ما لا ينبغي، فقال سبحانه في آخر الآية: {واعلموا أن الله شديد العقاب}، {فإن أحصرتم}، يقول: فإن حبستم كقوله سبحانه: {الذين أحصروا في سبيل الله} (البقرة: 273) يعني حبسوا، نظيرها أيضا: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} (الإسراء: 8) يعني محبسا، يقول: إن حبسكم في إحرامكم بحج أو بعمرة كسر أو مرض أو عدو عن المسجد الحرام، {فما استيسر من الهدي}، يعني فليقم محرما مكانه ويبعث ما استيسر من الهدي، أو بثمن الهدي، فيشترى له الهدي، فإذا نحر الهدي عنه، فإنه يحل من إحرامه مكانه، ثم قال: {ولا تحلقوا رءوسكم} في الإحرام، {حتى يبلغ الهدي محله}: يعني حتى يدخل الهدي مكة، فإذا نحر الهدي حل من إحرامه، {فمن كان منكم مريضا}، وذلك أن كعب بن عجرة الأنصاري كان محرما بعمرة عام الحديبية، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم على مقدم رأسه قملا كثيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا كعب أيؤذيك هوام رأسك؟"، قال نعم يا نبي الله، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق، فأنزل الله عز وجل في كعب: {فمن كان منكم مريضا} {أو به أذى من رأسه}، فحلق رأسه، {ففدية من صيام}، فعليه فدية صيام ثلاثة أيام إن شاء متتابعا، وإن شاء متقطعا، {أو صدقة} على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة، {أو نسك}، يعني شاة أو بقرة أو بعيرا ينحره، ثم يطعمه المساكين بمكة، ولا يأكل منه، وهو بالخيار، إن شاء ذبح شاة أو بقرة أو بعيرا، فأما كعب، فذبح بقرة. {فإذا أمنتم} من الحبس من العدو عن البيت الحرام، {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} يقول: وهو يريد الحج، فإن دخل مكة وهو محرم بعمرة في غرة شوال، أو ذي القعدة، أو في عشر من ذي الحجة، {فما استيسر من الهدي}، يعني شاة فما فوقها يذبحها فيأكل منها ويطعم، فقال أبو هريرة، وسلمان، وأبو العرباض للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نجد الهدي، فلنصم ثلاثة أيام، فأنزل الله عز وجل فيهم: {فمن لم يجد} الهدي فليصم، {فصيام ثلاثة أيام في الحج} في عشر الأضحى في أول يوم من العشر إلى يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة يوم الثالث، تم صومه، ثم قال: {وسبعة}، يعني ولتصوموا سبعة أيام {إذا رجعتم} من منى إلى أهليكم، {تلك عشرة كاملة}، فمن شاء صام في الطريق، ومن شاء صام في أهله، إن شاء متتابعا، وإن شاء متقطعا، ثم قال: {ذلك} التمتع {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب}، يعني من لم يكن منزله في أرض الحرم كله، فمن كان أهله في أرض الحرم، فلا متعة عليه ولا صوم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك أتموا الحج بمناسكه وسننه، وأتموا العمرة بحدودها وسننها... عن ابن عباس:"وأتموا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ" يقول: من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحلّ حتى يتمها تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت فقد حل من إحرامه كله، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة، فقد حل.
وقال آخرون: تمامهما؛ أن تحرم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلك. وقال آخرون: تمام العمرة؛ أن تعمل في غير أشهر الحجّ، وتمام الحجّ أن يؤتى بمناسكه كلها حتى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة. وقال آخرون: إتمامهما؛ أن تخرج من أهلك لا تريد غيرهما. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أتموا الحجّ والعمرة لله إذا دخلتم فيهما... قال ابن زيد: ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال: فقلت له: قول الله تعالى: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ"؟ قال: ليس من الخلق أحد ينبغي له إذا دخل في أمر إلا أن يتمه، فإذا دخل فيها لم ينبغ له أن يهلّ يوما أو يومين ثم يرجع، كما لو صام يوما لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار. وكان الشعبي يقرأ ذلك رفعا... عن شعبة، قال: حدثني سعيد بن أبي بردة أن الشعبي وأبا بردة تذاكرا العمرة، قال: فقال الشعبي: تطوّع: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةُ لِلّهِ "وقال أبو بردة: هي واجبة: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ".
وقد رُوي عن الشعبي خلاف هذا القول، وإن كان المشهور عنه من القول هو هذا... عن الشعبي، قال: العمرة واجبة.
فقراءة من قال: العمرة واجبة نَصْبها بمعنى أقيموا فرض الحج والعمرة... قال عليّ بن حسين وسعيد بن جبير، وسئلا: أواجبة العمرة على الناس؟ فكلاهما قال: ما نعلمها إلا واجبة، كما قال الله: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ"...
فتأويل هؤلاء في قوله تبارك وتعالى: "وأتمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ" أنهما فرضان واجبان من الله تبارك وتعالى أمر بإقامتهما، كما أمر بإقامة الصلاة، وأنهما فريضتان، وأَوجب العمرة وجوب الحجّ. وهم عدد كثير من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين كرهنا تطويل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم. وقالوا: معنى قوله: "وأتِمّوا الحَجّ والعُمْرَةَ لِلّهِ": وأقيموا الحجّ والعمرة... وكأنهم عنوا بقوله: أقيموا الحجّ والعمرة: ائتوا بهما بحدودهما وأحكامهما على ما فرض عليكم.
وقال آخرون ممن قرأ قراءة هؤلاء بنصب العمرة: العمرة تطوّع. ورأوا أنه لا دلالة على وجوبها في نصبهم العمرة في القراءة، إذ كان من الأعمال ما قد يلزم العبد عمله وإتمامه بدخوله فيه، ولم يكن ابتداء الدخول فيه فرضا عليه، وذلك كالحجّ التطوّع لا خلاف بين الجميع فيه أنه إذا أحرم به أن عليه المضيّ فيه وإتمامه ولم يكن فرضا عليه ابتداء الدخول فيه. وقالوا: فكذلك العمرة غير فرض واجب الدخول فيها ابتداء، غير أن على من دخل فيها وأوجبها على نفسه إتمامها بعد الدخول فيها.
قالوا: فليس في أمر الله بإتمام الحجّ والعمرة دلالة على وجوب فرضها.
قالوا: وإنما أوجبنا فرض الحجّ بقوله عزّ وجل: "ولِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً"، وممن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين. فأما الذين قرأوا ذلك برفع العمرة فإنهم قالوا: لا وجه لنصبها، فالعمرة إنما هي زيارة البيت، ولا يكون مستحقا اسم معتمر إلا وهو له زائر، قالوا: وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته، وهو متى بلغه فطاف به وبالصفا والمروة، فلا عمل يبقى بعده يؤمر بإتمامه بعد ذلك، كما يؤمر بإتمامه الحاج بعد بلوغه والطواف به وبالصفا والمروة بإتيان عرفة والمزدلفة، والوقوف بالمواضع التي أمر بالوقوف بها وعمل سائر أعمال الحجّ الذي هو من تمامه بعد إتيان البيت، لم يكن لقول القائل للمعتمر أتمّ عمرتك وجه مفهوم، وإذا لم يكن له وجه مفهوم فالصواب من القراءة في العمرة الرفع على أنه من أعمال البرّ لله، فتكون مرفوعة بخبرها الذي بعدها، وهو قوله: لله.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا، قراءة من قرأ بنصب العمرة على العطف بها على الحج، بمعنى الأمر بإتمامهما له. ولا معنى لاعتلال من اعتلّ في رفعها بأن العمرة زيارة البيت، فإن المعتمر متى بلغه، فلا عمل بقي عليه يؤمر بإتمامه، وذلك أنه إذا بلغ البيت فقد انقضت زيارته وبقي عليه تمام العمل الذي أمره الله به في اعتماره، وزيارته البيت وذلك هو الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وتجنب ما أمر الله بتجنبه إلى إتمامه ذلك، وذلك عمل وإن كان مما لزمه بإيجاب الزيارة على نفسه غير الزيارة. هذا مع إجماع الحجة على قراءة العمرة بالنصب، ومخالفة جميع قرّاء الأمصار قراءة من قرأ ذلك رفعا، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على خطأ من قرأ ذلك رفعا.
وأما أولى القولين اللذين ذكرنا بالصواب في تأويل قوله:"...والعُمْرَةَ لِلّهِ" على قراءة من قرأ ذلك نصبا؛ فقول عبد الله بن مسعود، ومن قال بقوله من أن معنى ذلك: وأتموا الحجّ والعمرة لله إلى البيت بعد إيجابكم إياهما لا أن ذلك أمر من الله عزّ وجل بابتداء عملهما والدخول فيهما وأداء عملهما بتمامه بهذه الآية، وذلك أن الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا من أن يكون أمرا من الله عزّ وجل بإقامتهما ابتداء وإيجابا منه على العباد فرضهما، وأن يكون أمرا منه بإتمامهما بعد الدخول فيهما، وبعد إيجاب موجبهما على نفسه، فإذا كانت الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا، فلا حجة فيها لأحد الفريقين على الآخر، إلا وللآخر عليه فيها مثلها. وإذا كان كذلك ولم يكن بإيجاب فرض العمرة خبر عن الحجة للعذر قاطعا، وكانت الأمة في وجوبها متنازعة، لم يكن لقول قائل هي فرض بغير برهان دالّ على صحة قوله معنى، إذ كانت الفروض لا تلزم العباد إلا بدلالة على لزومها إياهم واضحة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا شريك، عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحَجّ جِهادٌ والعُمْرَةُ تَطَوّعٌ».
وإن أولى القولين في العمرة بالصواب قول من قال: هي تطوّع لا فرض. وإن معنى الآية: وأتموا أيها المؤمنون الحجّ والعمرة لله بعد دخولكم فيهما وإيجابكموهما على أنفسكم على ما أمركم الله من حدودهما.
وإنما أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية على نبيه عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية التي صدّ فيها عن البيت معرفه والمؤمنين فيها ما عليهم في إحرامهم إن خلي بينهم وبين البيت، ومبينا لهم فيها ما المخرج لهم من إحرامهم إن أحرموا، فصدّوا عن البيت وبذكر اللازم لهم من الأعمال في عمرتهم التي اعتمروها عام الحديبية وما يلزمهم فيها بعد ذلك في عمرتهم وحجهم، افتتح بقوله: "يَسْألُونَكَ عَن الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ والحَجّ" وقد دللنا فيما مضى على معنى الحجّ والعمرة بشواهد، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته.
"فإنْ أُحْصِرُتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي".
اختلف أهل التأويل في الإحصار الذي جعل الله على من ابتلي به في حجه وعمرته ما استيسر من الهدي؛ فقال بعضهم: هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام... قال مجاهد في قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ": يمرض إنسان أو يكسر أو يحبسه أمر فغلبه كائنا ما كان، فليرسل بما استيسر من الهدي، ولا يحلق رأسه، ولا يحل حتى يوم النحر.
وعلة من قال بهذه المقالة أن الإحصار معناه في كلام العرب: منع العلة من المرض وأشباهه غير القهر والغلبة من قاهر أو غالب إلا غلبة علة من مرض أو لدغ أو جراحة، أو ذهاب نفقة، أو كسر راحلة. فأما منع العدوّ، وحبس حابس في سجن، وغلبة غالب حائل بين المحرم والوصول إلى البيت من سلطان، أو إنسان قاهر مانع، فإن ذلك إنما تسميه العرب حصرا لا إحصارا.
قالوا: ومما يدل على ذلك قول الله جل ثناؤه: "وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا": يعني به: حاصرا: أي حابسا.
قالوا: ولو كان حبس القاهر الغالب من غير العلل التي وصفنا يسمى إحصارا لوجب أن يقال: قد أحصر العدوّ. قالوا: وفي اجتماع لغات العرب على «حوصر العدوّ» و «العدوّ محاصر»، دون «أحصر العدوّ» و«هم محصرون»، و«أحصر الرجل» بالعلة من المرض والخوف، أكبر الدلالة على أن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" بمرض أو خوف أو علة مانعة.
قالوا: وإنما جعلنا حبس العدوّ ومنعه المحرم من الوصول إلى البيت بمعنى حصر المرض قياسا على ما جعل الله جل ثناؤه من ذلك للمريض الذي منعه المرض من الوصول إلى البيت، لا بدلالة ظاهر قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ"، إذ كان حبس العدوّ والسلطان والقاهر علة مانعة، نظيرة العلة المانعة من المرض والكسر.
وقال آخرون: معنى قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ": فإن حبسكم عدوّ عن الوصول إلى البيت، أو حابس قاهر من بني آدم. قالوا: فأما العلل العارضة في الأبدان كالمرض والجراح وما أشبهها، فإن ذلك غير داخل في قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ"... عن ابن عباس أنه قال: الحصر: حصر العدوّ، فيبعث الرجل بهديته، فإن كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة، فإنه يبعث بها ويحرم. قال محمد بن عمرو، قال أبو عاصم: لا ندري قال يحرم أو يحلّ من يوم يواعد فيه صاحب الهدي إذا اشترى، فإذا أمن فعليه أن يحجّ أو يعتمر، فإذا أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي، فإنه يحلّ حيث يحبس، فإن كان معه هدي فلا يحلّ حتى يبلغ الهدي محله، فإذا بعث به فليس عليه أن يحجّ قابلاً، ولا يعتمر إلا أن يشاء.
وقال مالك بن أنس: «بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّ وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي، ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء».
حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب عنه. قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدوّ وحيل بينه وبين البيت؟ فقال: يحلّ من كلّ شيء، وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث يحبس، وليس عليه قضاء إلا أن يكون لم يحجّ قط، فعليه أن يحجّ حجة الإسلام. قال: والأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدوّ بمرض أو ما أشبهه، أن يبدأ بما لا بدّ منه، ويفتدي، ثم يجعلها عمرة، ويحجّ عاما قابلاً ويهدي.
وعلة من قال هذه المقالة أعني من قال قولَ مالك أن هذه الآية نزلت في حصر المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، فأمر الله نبيه ومن معه بنحر هداياهم والإحلال. قالوا: فإنما أنزل الله هذه الآية في حصر العدوّ، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلى غير المعنى الذي نزلت فيه.
قالوا: وأما المريض، فإنه إذا لم يطق لمرضه السير حتى فاتته عرفة، فإنما هو رجل فاته الحجّ، عليه الخروج من إحرامه بما يخرج به من فاته الحج، وليس من معنى المحصر الذي نزلت هذه الآية في شأنه.
وأولى التأويلين بالصواب في قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" تأويل من تأوله بمعنى: فإن أحصركم خوف عدوّ أو مرض أو علة عن الوصول إلى البيت، أي صيركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم، فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتموه على أنفسكم من عمل الحجّ والعمرة. فلذا قيل «أحصرتم»، لما أسقط ذكر الخوف والمرض. يقال منه: أحصرني خوفي من فلان عن لقائك، ومرضي عن فلان، يراد به: جعلني أحبس نفسي عن ذلك. فأما إذا كان الحابس الرجل والإنسان، قيل: حصرني فلان عن لقائك، بمعنى حبسني عنه.
فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأوّل من قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" فإن حبسكم حابس من العدوّ عن الوصول إلى البيت، لوجب أن يكون: فإن حُصِرتم.
ومما يبين صحة ما قلناه من أن تأويل الآية مراد بها إحصار غير العدوّ وأنه إنما يراد بها الخوف من العدوّ، قوله: "فإنْ أمِنْتُمْ فمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ"، والأمن إنما يكون بزوال الخوف. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى الله في هذه الآية هو الخوف الذي يكون بزواله الأمن.
وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن حبس الحابس الذي ليس مع حبسه خوف على النفس من حبسه داخلاً في حكم الآية بظاهرها المتلّو، وإن كان قد يلحق حكمه عندنا بحكمه من وجه القياس من أجل أن حبس من لا خوف على النفس من حبسه، كالسلطان غير المخوفة عقوبته، والوالد وزوج المرأة، إن كان منهم أو من بعضهم حبس، ومنع عن الشخوص لعمل الحجّ، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرام، غير داخل في ظاهر قوله: "فإنْ أُحْصِرْتُمْ" لما وصفنا من أن معناه: فان أحصركم خوف عدوّ، بدلالة قوله: "فإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحجّ".
وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآية لما وصفنا، وكان ذلك منعا من الوصول إلى البيت، فكل مانع عرض للمحرم فصدّه عن الوصول إلى البيت، فهو له نظير في الحكم.
ثم اختلف أهل العلم في تأويل قوله: "فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ"؛ فقال بعضهم: هو شاة... عن النعمان بن مالك، قال: سألت ابن عباس عما استيسر من الهدي؟ قال: من الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والمعز والضأن.
[عن] ابن عباس كان يقول: ما استيسر من الهدي: شاة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال مالك: وذلك أحبّ إلي.
وقال آخرون: «ما استيسر من الهدي»: من الإبل والبقر، سنّ دون سنّ. وأولى القولين بالصواب قول من قال: ما استيسر من الهدي شاة؛ لأن الله جل ثناؤه إنما أوجب ما استيسر من الهدي، وذلك على كل ما تيسر للمهدي أن يهديه كائنا ما كان ذلك الذي يهدي. إلا أن يكون الله جل ثناؤه خصّ من ذلك شيئا، فيكون ما خصّ من ذلك خارجا من جملة ما احتمله ظاهر التنزيل، ويكون سائر الأشياء غيره مجزئا إذا أهداه المهدي بعد أن يستحقّ اسم هدي.
فإن قال قائل: فإن الذين أبوا أن تكون الشاة مما استيسر من الهدي بأنه لا يستحقّ اسم هدي كما أنه لو أهدى دجاجة أو بيضة لم يكن مهديا هديا مجزئا؟ قيل: لو كان في المهدي الدجاجة والبيضة من الاختلاف نحو الذي في المهدي الشاة لكان سبيلهما واحدة في أن كل واحد منهما قد أدّى ما عليه بظاهر التنزيل إذا لم يكن أحد الهَدْيَيْن يخرجه من أن يكون مؤديا بإهدائه ما أهدى من ذلك مما أوجبه الله عليه في إحصاره. ولكن لما أخرج المهدي ما دون الجذع من الضأن والثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا من الأسنان من أن يكون مهديا ما أوجبه الله عليه في إحصاره أو متعته بالحجة القاطعة العذر، نقلاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة، كان ذلك خارجا من أن يكون مرادا بقوله: فمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وإن كان مما استيسر لنا من الهدايا.
ولما اختلف في الجذع من الضأن والثنيّ من المعز، كان مجزئا ذلك عن مهديه لظاهر التنزيل، لأنه مما استيسر من الهدي.
وأما الهدي؛ فإنه جمع واحدها هَدِيّة، على تقدير جَدِيّة السرج، والجمع الجَدْي مخفف.
والهدي عندي إنما سمي هديا لأنه تقرّب به إلى الله جل وعزّ مهديه بمنزلة الهدية يهديها الرجل إلى غيره متقرّبا بها إليه، يقال منه: أهديت الهدي إلى بيت الله فأنا أهديه إهداء، كما يقال في الهدية يهديها الرجل إلى غيره: أهديت إلى فلان هدية وأنا أهديها. ويقال للبدنة هدية.
"وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلّه": فإن أحصرتم فأردتم الإحلال من إحرامكم، فعليكم ما استيسر من الهدي، ولا تحلوا من إحرامكم إذا أحصرتم حتى يبلغ الهدي الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أحصرتم فيه قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه، محله، وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه، فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقه، حتى يبلغ الهدي الذي أباح الله له الإحلال جل ثناؤه بإهدائه محله.
ثم اختلف أهل العلم في محل الهدي الذي عناه الله جل اسمه الذي متى بلغه كان للمحصر الإحلال من إحرامه الذي أحصر فيه؛
فقال بعضهم: محلّ هدي المحصر الذي يحلّ به ويجوز له ببلوغه إياه حلق رأسه، إذا كان إحصاره من خوف عدوّ منعه ذبحه إن كان مما يذبح، أو نحره إن كان مما ينحر، في الحلّ ذبح أو نحر أو في الحرم حيث حبس، وإن كان من غير خوف عدوّ فلا يحلّ حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة. وهذا قول من قال: الإحصار إحصار العدوّ دون غيره؛ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّ هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم، وحلّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا، ولا أن يعودوا لشيء...
وقال بعضهم: محل هدي المحصر الحرم لا محلّ له غيره.
وقال آخرون منهم: حصار العدو ثابت اليوم وبعد اليوم، على نحو ما ذكرنا من أقوالهم الثلاثة التي حكينا عنهم. وقال: ومعنى الآية: فإن أحصرتم عن الحج حتى فاتكم، فعليكم ما استيسر من الهدي لفوته إياكم... فأولى الأفعال أن يقتدى به، فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يأت بحظره خبر، ولم تقم بالمنع منه حجة. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين فيما اخترنا من القول في ذلك، فمن متأوّل معنى الآية تأويلنا، ومن مخالف ذلك، ثم كان ثابتا بما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النقل كان الذي نقل عنه أولى الأمور بتأويل الآية، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلم أنها يومئذٍ نزلت، وفي حكم صدّ المشركين إياه عن البيت أوحيت.
وقد رُوي بنحو الذي قلنا في ذلك خبر.
حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: ثني الحجاج بن أبي عثمان، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثه، قال: حدثني الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن كُسِرَ أوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلّ وَعَلَيْهِ حَجّةٌ أُخْرَى» قال: فحدثت ابن عباس وأبا هريرة بذلك، فقالا: صدق.
ومعنى هذا الخبر الأمر بقضاء الحجة التي حلّ منها نظير فعل النبيّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قضائهم عمرتهم التي حلوا منها عام الحديبية من القابل في عام عمرة القضية.
ويقال لمن زعم أن الذي حصره عدوّ إذا حلّ من إحرامه التطوّع فلا قضاء عليه، وأن المحصر بالعلل عليه القضاء، ما العلة التي أوجبت على أحدهما القضاء وأسقطت عن الاَخر، وكلاهما قد حلّ من إحرام كان عليه إتمامه لولا العلة العائقة؟
فإن قال: لأن الآية إنما نزلت في الذي حصره العدو، فلا يجوز لنا نقل حكمها إلى غير ما نزلت فيه قيل له: قد دفعك عن ذلك جماعة من أهل العلم، غير أنا نسلم لك ما قلت في ذلك، فهلا كان حكم المنع بالمرض والإحصار له حكم المنع بالعدو إذ هما متفقان في المنع من الوصول إلى البيت وإتمام عمل إحرامهما، وإن اختلفت أسباب منعهما، فكان أحدهما ممنوعا بعلة في بدنه، والاَخر بمنع مانع؟ ثم يسئل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله.
وأما الذين قالوا: لا إحصار في العمرة، فإنه يقال لهم: قد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صد عن البيت، وهو محرم بالعمرة، فحل من إحرامه؟ فما برهانكم على عدم الإحصار فيها؟ أو رأيتم إن قال قائل: لا إحصار في حج، وإنما فيه فوت، وعلى الفائت الحج المقام على إحرامه حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن في الإحصار في الحجّ سنة؟ فقد قال ذلك جماعة من أئمة الدين. فأما العمرة فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم سنّ فيها ما سنّ، وأنزل الله تبارك وتعالى في حكمها ما بين من الإحلال والقضاء الذي فعله صلى الله عليه وسلم، ففيها الإحصار دون الحجّ هل بينها وبينه فرق؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذَىً مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ".
يعني بذلك جل ثناؤه فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ، وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ إلا أن يضطرّ إلى حلقه منكم مضطرّ، إما لمرض، وإما لأذى برأسه، من هوامّ أو غيرها، فيحلق هنالك للضرورة النازلة به، وإن لم يبلغ الهدي محلّه، فيلزمه بحلاق رأسه وهو كذلك فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
وقال آخرون: لا يحلق إن أراد أن يفتدي الحجّ بالنسك أو الإطعام إلا بعد التكفير، وإن أراد أن يفتدي بالصوم حلق ثم صام.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه، فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك قبل الحِلاق إذا أراد حلاقه. وعلة من قال هذه المقالة ما.
حدثنا به المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يعقوب، قال: سألت عطاء، عن قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ فقال: إن كعب بن عجرة مرّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبرأسه من الصئبان والقمل كثير، فقال له النبيّ عليه الصلاة والسلام: «هَلْ عِنْدَكَ شاةٌ»؟ فقال كعب: ما أجدها. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنْ شِئْتَ فأطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين، وإنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، ثُم احْلِقْ رأسَكَ».
فأما المرض الذي أبيح معه العلاج بالطيب وحلق الرأس، فكل مرض كان صلاحه بحلقه كالبرسام الذي يكون من صلاح صاحبه حلق رأسه، وما أشبه ذلك، والجراحات التي تكون بجسد الإنسان التي يحتاج معها إلى العلاج بالدواء الذي فيه الطيب ونحو ذلك من القروح والعلل العارضة للأبدان.
وأما الأذى الذي يكون إذا كان برأس الإنسان خاصة له حلقه، فنحو الصداع والشقيقة، وما أشبه ذلك، وأن يكثر صئبان الرأس، وكل ما كان للرأس مؤذيا مما في حلقه صلاحه ودفع المضرّة الحالّة به، فيكون ذلك له بعموم قول الله جل وعزّ: أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت عليه بسبب كعب بن عجرة، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صئبانه، وذلك عام الحديبية. ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:
واختلف أهل العلم في مبلغ الصيام والطعام اللذين أوجبهما الله على من حلق شعره من المحرمين في حال مرضه أو من أذى برأسه؛ فقال بعضهم: الواجب عليه من الصيام ثلاثة أيام، ومن الطعام ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع. واعتلّوا بالأخبار التي ذكرناها قبل... عن أبي مالك: "فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك" قال: الصيام: ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة.
وقال آخرون: الواجب عليه إذا حلق رأسه من أذى، أو تطيب لعلة من مرض، أو فعل ما لم يكن له فعله في حال صحته وهو محرم من الصوم: صيام عشرة أيام، ومن الصدقة: إطعام عشرة مساكين... وقاس قائلو هذا القول كل صيام وجب على محرم أو صدقة جزاء من نقص دخل في إحرامه، أو فعل ما لم يكن له فعله بدلاً من دم على ما أوجب الله على المتمتع من الصوم إذا لم يجد الهدي. وقالوا: جعل الله على المتمتع صيام عشرة أيام مكان الهدي إذا لم يجده، قالوا: فكل صوم وجب مكان دم فمثله، قالوا: فإذا لم يصم وأراد الإطعام فإن الله جل وعز أقام إطعام مسكين مكان صوم يوم لمن عجز عن الصوم في رمضان. قالوا: فكل من جعل الإطعام له مكان صوم لزمه فهو نظيره، فلذلك أوجبوا إطعام عشرة مساكين في فدية الحلق.
وقال آخرون: بل الواجب على الحالق النسك شاة إن كانت عنده، فإن لم تكن عنده قوّمت الشاة دراهم والدراهم طعاما، فتصدّق به، وإلا صام لكل نصف صاع يوما.
وقال آخرون: بل هو مخير بين الخلال الثلاث يفتدي بأيها شاء... عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في القرآن «أو أو»، فهو مخير فيه، فإن كان «فمن فمن»، فالأولَ فالأولَ.
والصواب من القول في ذلك عندنا ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتظاهرت به عنه الرواية أنه أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه من الأذى الذي كان برأسه ويفتدي إن شاء بنسك شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام فرق من طعام بين ستة مساكين كل مسكين نصف صاع. وللمفتدي الخيار بين أيّ ذلك شاء لأن الله لم يحصره على واحدة منهن بعينها، فلا يجوز له أن يعدوها إلى غيرها، بل جعل إليه فعل أيّ الثلاث شاء. ومن أبى ما قلنا من ذلك قيل له: ما قلت في المكفر عن يمينه أمخير إذا كان موسرا في أن يكفر بأيّ الكفارات الثلاث شاء؟ فإن قال: لا، خرج من قول جميع الأمة، وإن قال بلى، سئل الفرق بينه وبين المفتدي من حلق رأسه وهو محرم من أذى به، ثم لن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله. على أن ما قلنا في ذلك إجماع من الحجة، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.
وأما الزاعمون أن كفارة الحلق قبل الحلق، فإنه يقال لهم: أخبرونا عن الكفارة للمتمتع قبل التمتع أو بعده؟ فإن زعموا أنها قبله قيل لهم: وكذلك الكفارة عن اليمين قبل اليمين. فإن زعموا أن ذلك كذلك، خرجوا من قول الأمة. وإن قالوا: ذلك غير جائز. قيل: وما الوجه الذي من قبله وجب أن تكون كفارة الحلق قبل الحلق وهدي المتعة قبل التمتع ولم يجب أن تكون كفارة اليمين قبل اليمين؟ وهل بينكم وبين من عكس عليكم الأمر في ذلك فأوجب كفارة اليمين قبل اليمين وأبطل أن تكون كفارة الحلق كفارة له إلا بعد الحلق فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
فإن اعتلّ في كفارة اليمين قبل اليمين أنها غير مجزئة قبل الحلف بإجماع الأمة، قيل له فردّ الأخرى قياسا عليها إن كان فيها اختلاف.
وأما القائلون إن الواجب على الحالق رأسه من أذى من الصيام: عشرة أيام، ومن الإطعام: عشرة مساكين فمخالفون نصّ الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقال لهم: أرأيتم من أصاب صيدا فاختار الإطعام أو الصيام، أتسوّون بين جميع ذلك بقتله الصيد صغيره وكبيره من الإطعام والصيام، أم تفرّقون بين ذلك على قدر افتراق المقتول من الصيد في الصغر والكبر؟ فإن زعموا أنهم يسوون بين جميع ذلك سوّوا بين ما يجب على من قتل بقرة وحشية وبين ما يجب على من قتل ولد ظبية من الإطعام والصيام وذلك قول إن قالوه لقول الأمة مخالف. وإن قالوا: بل نخالف بين ذلك، فنوجب ذلك عليه على قدر قيمة المصاب من الطعام والصيام. قيل: فكيف رددتم الواجب على الحالق رأسه من أذى من الكفارة على الواجب على المتمتع من الصوم، وقد علمتم أن المتمتع غير مخير بين الصيام والإطعام والهدي، ولا هو متلف شيئا وجبت عليه منه الكفارة، وإنما هو تارك عملاً من الأعمال، وتركتم ردّ الواجب عليه وهو متلف بحلق رأسه ما كان ممنوعا من إتلافه، ومخير بين الكفارات الثلاث، نظير مصيب الصيد، الذي هو بإصابته إياه له متلف ومخير في تكفيره بين الكفارات الثلاث؟ وهل بينكم وبين من خالفكم في ذلك وجعل الحالق قياسا لمصيب الصيد، وجمع بين حكميهما لاتفاقهما في المعاني التي وصفنا، وخالف بين حكمه وحكم المتمتع في ذلك لاختلاف أمرهما فيما وصفنا فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقولوا في ذلك قولاً إلا ألزموا في الاَخر مثله، مع أن اتفاق الحجة على تخطئة قائل هذا القول في قوله هذا كفاية عن الاستشهاد على فساده بغيره، فكيف وهو مع ذلك خلاف ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقياس عليه بالفساد شاهد؟
واختلف أهل العلم في الموضع الذي أمر الله أن ينسك نسك الحلق ويطعم فديته، فقال بعضهم: النسك والإطعام بمكة لا يجزئ بغيرها من البلدان... عن الحسن، قال: ما كان من دم أو صدقة فبمكة، وما سوى ذلك حيث شاء.
[و] عن طاووس، قال: كل شيء من الحجّ فبمكة، إلا الصوم.
وقال آخرون: النسك في الحلق والإطعام والصوم حيث شاء المفتدي. وقال آخرون: ما كان من دم نسك فبمكة، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء المفتدي... وعلة من قال: الدم والإطعام بمكة، القياس على هدي جزاء الصيد وذلك أن الله شرط في هديه بلوغ الكعبة فقال: "يَحكُمُ بهَ ذَوا عَدْلٍ منكُم هدْيا بالغَ الكعبْةِ". قالوا: فكل هدي وجب من جزاء أو فدية في إحرام، فسبيله سبيل جزاء الصيد في وجوب بلوغه الكعبة. قالوا: وإذا كان ذلك حكم الهدي كان حكم الصدقة مثله، لأنها واجبة لمن وجب عليه الهدي، وذلك أن الإطعام فدية وجزاء كالدم، فحكمهما واحد.
وأما علة من زعم أن للمفتدي أن ينسك حيث شاء ويتصدّق ويصوم أن الله لم يشترط على الحالق رأسه من أذى هديا، وإنما أوجب عليه نسكا أو إطعاما أو صياما، وحيثما نسك أو أطعم أو صام فهو ناسك ومطعم وصائم، وإذا دخل في عداد من يستحقّ ذلك الاسم كان مؤدّيا ما كلفه الله، لأن الله لو أراد من إلزام الحالق رأسه في نسكه بلوغ الكعبة لشرط ذلك عليه، كما شرط في جزاء الصيد، وفي ترك اشتراط ذلك عليه دليل واضح، أنه حيث نسك أو أطعم أجزأ.
وأما علة من قال: النسك بمكة والصيام والإطعام حيث شاء، فالنسك دم كدم الهدي، فسبيله سبيل هدي قاتل الصيد.
وأما الإطعام فلم يشترط الله فيه أن يصرف إلى أهل مسكنة مكان دون مكان، كما شرط في هدي الجزاء بلوغ الكعبة، فليس لأحد أن يدّعي أن ذلك لأهل مكان دون مكان، إذْ لم يكن الله شرط ذلك لأهل مكان بعينه، كما ليس لأحد أن يدّعى أن ما جعله الله من الهدي لساكني الحرم لغيرهم، إذ كان الله قد خصّ أن ذلك لمن به من أهل المسكنة.
والصواب من القول في ذلك، أن الله أوجب على حالق رأسه من أذى من المحرمين فدية من صيام أو صدقة أو نسك، ولم يشترط أن ذلك عليه بمكان دون مكان، بل أبهم ذلك وأطلقه، ففي أي مكان نسك أو أطعم أو صام فيجزي عن المفتدي، وذلك لقيام الحجة على أن الله إذ حرم أمهات نسائنا فلم يحصرهن على أنهن أمهات النساء المدخول بهن لم يجب أن يكنّ مردودات الأحكام على الربائب المحصورات على أن المحرمة منهن المدخول بأمها، فكذلك كل مبهمة في القرآن غير جائز ردّ حكمها على المفسرة قياسا، ولكن الواجب أن يحكم لكل واحدة منهما بما احتمله ظاهر التنزيل إلا أن يأتي في بعض ذلك خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بإحالة حكم ظاهره إلى باطنه، فيجب التسليم حينئذ لحكم الرسول، إذ كان هو المبين عن مراد الله. وأجمعوا على أن الصيام مجزئ عن الحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد.
واختلفوا فيما يجب أن يفعل بنسك الفدية من الحلق، وهل يجوز للمفتدي الأكل منه أم لا؟ فقال بعضهم: ليس للمفتدي أن يأكل منه، ولكن عليه أن يتصدّق بجميعه... عن عطاء، قال: ثلاث لا يؤكل منهنّ: جزاء الصيد، وجزاء النسك، ونذر المساكين.
وعلة من حظر على المفتدي الأكل من فدية حلاقه وفدية ما لزمته منه الفدية، أن الله أوجب على الحالق والمتطيب ومن كان بمثل حالهم فدية من صيام أو صدقة أو نسك، فلن يخلو ذلك الذي أوجبه عليه من الإطعام والنسك من أحد أمرين: إما أن يكون أوجبه عليه لنفسه أو لغيره أو له ولغيره، فإن كان أوجبه لغيره فغير جائز له أن يأكل منه، لأن ما لزمه لغيره فلا يجزيه فيه إلا الخروج منه إلى من وجب له أو يكون له وحده، وما وجب له فليس عليه لأنه غير مفهوم في لغة أن يقال: وجب على فلان لنفسه دينار أو درهم أو شاة، وإنما يجب له على غيره، فأما على نفسه فغير مفهوم وجوبه. أو يكون وجب عليه له ولغيره، فنصيبه الذي وجب له من ذلك غير جائز أن يكون عليه لما وصفنا. وإذا كان ذلك كذلك كان الواجب عليه ما هو لغيره وما هو لغيره بعض النسك، وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجب عليه بعض النسك لا النسك كله.
قالوا: وفي إلزام الله إياه النسك تاما ما يبين عن فساد هذا القول.
وعلة من قال له أن يأكل من ذلك أن الله أوجب على المفتدي نسكا، والنسك في معاني الأضاحي وذلك هو ذبح ما يجزي في الأضاحي من الأزواج الثمانية.
قالوا: ولم يأمر الله بدفعه إلى المساكين. قالوا: فإذا ذبح فقد نسك، وفعل ما أمره الله، وله حينئذ الأكل منه، والصدقة منه بما شاء، وإطعام ما أحبّ منه من أحب، كما له ذلك في أضحيته.
والذي نقول به في ذلك: أن الله أوجب على المفتدي نسكا إن اختار التكفير بالنسك، ولن يخلو الواجب عليه في ذلك من أن يكون ذبحه دون غيره، أو ذبحه والتصدّق به. فإن كان الواجب عليه في ذلك ذبحه، فالواجب أن يكون إذا ذبح نسكا فقد أدى ما عليه، وإن أكل جميعه ولم يطعم مسكينا منه شيئا، وذلك ما لا نعلم أحدا من أهل العلم قاله، أو يكون الواجب عليه ذبحه والصدقة به فإن كان ذلك عليه، فغير جائز له أكل ما عليه أن يتصدّق به، كما لو لزمته زكاة في ماله لم يكن له أن يأكل منها، بل كان عليه أن يعطيها أهلها الذين جعلها الله لهم. ففي إجماعهم على أن ما ألزمه الله من ذلك فإنما ألزمه لغيره، دلالة واضحة على حكم ما اختلفوا فيه من غيره.
ومعنى النسك: الذبح لله في لغة العرب، يقال: نسك فلان لله نسيكة، بمعنى: ذبح لله ذبيحة يَنْسكها نَسكا.
"فإذَا أمِنْتُمْ"،اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: فإذا برأتم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم أو عمرتكم. وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا أمنتم من وجع خوفكم. عن الربيع: "فإذَا أمِنْتُمْ" قال: إذا أمن من خوفه، وبرأ من مرضه.
وهذا القول أشبه بتأويل الآية، لأن الأمن هو خلاف الخوف، لا خلاف المرض، إلا أن يكون مرضا مخوفا منه الهلاك، فيقال: فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض وشدته، وذلك معنى بعيد.
وإنما قلنا: إن معناه الخوف من العدو لأن هذه الآيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحديبية وأصحابه من العدو خائفون، فعرفهم الله بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الحج، وما الذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك، فزال عنهم خوفهم.
"فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ": فإن أحصرتم أيها المؤمنون، فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فزال عنكم خوفكم من عدوكم أو هلاككم من مرضكم فتمتعتم بعمرتكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة التمتع الذي عنى الله بهذه الآية؛ فقال بعضهم: هو أن يحصره خوف العدو، وهو محرم بالحج أو مرض أو عائق من العلل حتى يفوته الحج، فيقدم مكة، فيخرج من إحرامه بعمل عمرة، ثم يحل فيستمتع بإحلاله من إحرامه ذلك إلى السنة المستقبلة، ثم يحج ويهدي، فيكون متمتعا بالإحلال من لدن يحل من إحرامه الأوّل إلى إحرامه الثاني من القابل. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإن أحصرتم في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ولكن حللتم حين أحصرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي.
وقال آخرون: عَنَى بذلك المحصر وغير المحصر. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن فسخ حجه بعمرة، فجعله عمرة، واستمتع بعمرته إلى حجه، فعليه ما استيسر من الهدي. وقال آخرون: بل ذلك الرجل يقدم معتمرا من أفق من الاَفاق في أشهر الحج، فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكة حتى ينشئ منها الحج، فيحج من عامه ذلك، فيكون مستمتعا بإحلال إلى إحرامه بالحج.
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عَنَى بها: فإن أحصرتم أيها المؤمنون في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فمن تمتع ممن حلّ من إحرامه بالحجّ بسبب الإحصار بعمرة اعتمرها لفوته الحجّ في السنة القابلة في أشهر الحجّ إلى قضاء الحجة التي فاتته حين أحصر عنها، ثم دخل في عمرته فاستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحجّ، فعليه ما استيسر من الهدي، وإن كان قد يكون متمتعا من أنشأ عمرة في أشهر الحجّ وقضاها ثم حلّ من عمرته وأقام حلالاً حتى يحجّ من عامه غير أن الذي هو أولى بالذي ذكره الله في قوله: "فَمَنْ تَمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ" هو ما وصفنا من أجل أن الله جل وعز أخبر عما على المحصر عن الحجّ والعمرة من الأحكام في إحصاره، فكان مما أخبر تعالى ذكره أنه عليه إذا أمن من إحصاره فتمتع بالعمرة إلى الحجّ ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، كان معلوما بذلك أنه معنيّ به اللازم له عند أمنه من إحصاره من العمل بسبب الإحلال الذي كان منه في حجه الذي أحصر فيه دون المتمتع الذي لم يتقدم عمرته ولا حجه إحصار مرض ولا خوف.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ}: فما استيسر من الهدي، فهَدْيه جزاء لاستمتاعه بإحلاله من إحرامه الذي حلّ منه حين عاد لقضاء حجته التي أحصر فيها وعمرته التي كانت لزمته بفوت حجته، فإن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحجّ في حجه وسبعة إذا رجع إلى أهله.
ثم اختلف أهل التأويل في الثلاثة أيام التي أوجب الله عليه صومهنّ في الحجّ أي أيّ أيام الحجّ هن؟ فقال بعضهم: هن ثلاثة أيام من أيام حجه، أيّ أيام شاء بعد أن لا يتجاوز بآخرهن يوم عرفة. وقال آخرون: بل آخرهن انقضاء يوم منى. وقال آخرون: يصومهنّ في عشر ذي الحجة دون غيرها. وقال آخرون: له أن يصومهن قبل الإحرام بالحج.
وقال آخرون: لا يجوز أن يصومهنّ إلا بعد ما يحرم بالحج. والصواب من القول في ذلك عندي أن للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة التي أوجب الله عليه صومهنّ لمتعته إذا لم يجد ما استيسر من الهدي من أول إحرامه بالحج بعد قضاء عمرته واستمتاعه بالإحلال إلى حجه إلى انقضاء آخر عمل حجه وذلك بعد انقضاء أيام منى سوى يوم النحر، فإنه غير جائز له صومه ابتدأ صومهن قبله أو ترك صومهن فأخره حتى انقضاء يوم عرفة.
وإنما قلنا: له صوم أيام التشريق، لما ذكرنا من العلة لقائل ذلك قَبْلُ، فإن صامهنّ قبل إحرامه بالحج فإنه غير مجزئ صومه ذلك من الواجب عليه من الصوم الذي فرضه الله عليه لمتعته وذلك أن الله جل وعز إنما أوجب الصوم على من لم يجد هديا ممن استمتع بعمرته إلى حجه، فالمعتمر قبل إحلاله من عمرته وقبل دخوله في حجه غير مستحق اسم متمتع بعمرته إلى حجه، وإنما يقال له قبل إحرامه معتمر حتى يدخل بعد إحلاله في الحج قبل شخوصه عن مكة، فإذا دخل في الحج محرما به بعد قضاء عمرته في أشهر الحج ومقامه بمكة بعد قضاء عمرته حلالاً حتى حج من عامه سمي متمتعا. فإذا استحقّ اسم متمتع لزمه الهدي، وحينئذ يكون له الصوم بعدمه الهدي إن عدمه فلم يجده. فأما إن صامه قبل دخوله في الحجّ وإن كان من نيته الحج، فإنما هو رجل صام صوما ينوي به قضاء عما عسى أن يلزمه أو لا يلزمه، فسبيله سبيل رجل معسر صام ثلاثة أيام ينوي بصومهن كفارة يمين ليمين يريد أن يحلف بها ويحنث فيها، وذلك ما لا خلاف بين الجميع أنه غير مجزئ من كفارة إن حلف بها بعد الصوم فحنث.
فإن ظن ظانّ أن صوم المعتمر بعد إحلاله من عمرته أو قبله وقبل دخوله في الحج مجزئ عنه من الصوم الذي أوجبه الله عليه إن تمتع بعمرته إلى الحج، نظير ما أجزأ الحالف بيمين إذا كفر عنها قبل حنثه فيها بعد حلفه بها فقد ظن خطأ لأن الله جعل ثناؤه جعل لليمين تحليلاً هو غير تكفير، فالفاعل فيها قبل الحنث فيها ما يفعله المكفر بعد حنثه فيها محلل غير مكفر. والمتمتع إذا صام قبل تمتعه صائم تكفيرا لما يظنّ أنه يلزمه ولما يلزمه، وهو كالمكفر عن قتل صيد يريد قتله وهو محرم قبل قتله، وعن تطيب قبل تطيبه.
ومن أبى ما قلنا في ذلك ممن زعم أن للمعتمر الصوم قبل إحرامه بالحج، قيل له: ما قلت فيمن كفَّر من المحرمين عن الواجب على من ترك رمي الجمرات أيام منى يوم عرفة، وهو ينوي ترك الجمرات، ثم أقام بمنى أيام منى حتى انقضت تاركا رمي الجمرات، هل يجزيه تكفيره ذلك عن الواجب عليه في ترك ما ترك من ذلك؟ فإن زعم أن ذلك يجزيه، سئل عن مثل ذلك في جميع مناسك الحجّ التي أوجب الله في تضييعه على المحرم أو في فعله كفارة، فإن سوّى بين جميع ذلك فاد قوله، وسئل عن نظير ذلك في العازم على أن يجامع في شهر رمضان، وهو مقيم صحيح إذا كفَّر قبل دخول الشهر، ودخل الشهر ففعل ما كان عازما عليه هل تجزيه كفارته التي كفَّر عن الواجب من وطئه ذلك، وكذلك يسئل عمن أراد أن يظاهر من امرأته، فإن فاد قوله في ذلك، خرج من قول جميع الأمة. وإن أبى شيئا من ذلك، سئل الفرق بينه وبين الصائم لمتعته قبل تمتعه وقبل إحرامه بالحجّ، ثم عكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله.
{وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتمْ}: فمن لم يجد ما استيسر من الهدي، فعليه صيام ثلاثة أيام في حجه وصيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله ومصره.
فإن قال لنا قائل: أو ما يجب عليه صوم السبعة الأيام بعد الأيام الثلاثة التي يصومهن في الحجّ إلا بعد رجوعه إلى مصره وأهله؟ قيل: بل قد أوجب الله عليه صوم الأيام العشرة بعدم ما استيسر من الهدي لمتعته، ولكن الله تعالى ذكره رأفة منه بعباده رخص لمن أوجب ذلك عليه، كما رخص للمسافر والمريض في شهر رمضان الإفطار وقضاء عدّة ما أفطر من الأيام من أيام أخر. ولو تحمل المتمتع فصام الأيام السبعة في سفره قبل رجوعه إلى وطنه، أو صامهنّ بمكة، كان مؤدّيا ما عليه من فرض الصوم في ذلك، وكان بمنزلة الصائم شهر رمضان في سفره أو مرضه، مختارا للعسر على اليسر.
فإن قال: وما برهانك على أن معنى قوله: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ إذا رجعتم إلى أهليكم وأمصاركم دون أن يكون معناه: إذا رجعتم من منى إلى مكة؟ قيل: إجماع جميع أهل العلم على أن معناه ما قلنا دون غيره. "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ"؛
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "كامِلَةٌ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: فصيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلى أهله عشرة كاملة من الهدي. وقال آخرون: بل معنى ذلك: كملت لكم أجر من أقام على إحرامه ولم يحلّ ولم يتمتع تمتعكم بالعمرة إلى الحج.
وقال آخرون: معنى ذلك الأمر وإن كان مخرجه مخرج الخبر، وإنما عنى بقوله: "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ": تلك عشرة أيام فأكملوا صومها لا تقصروا عنها، لأنه فرض عليكم صومها.
وقال آخرون: بل قوله: "كامِلَةٌ" توكيد للكلام، كما يقول القائل: سمعته بأذني ورأيته بعيني، وكما قال: "فَخَرّ عَلَيهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ" ولا يكون الخرّ إلا من فوق، فأما من موضع آخر فإنما يجوز على سعة الكلام.
وقال آخرون: إنما قال: "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ" وقد ذكر سبعة وثلاثة، لأنه إنما أخبر أنها مجزئة وليس يخبر عن عدّتها، وقالوا: ألا ترى أن قوله: «كاملة» إنما هو وافية.
وأولى هذه الأقوال عندي قول من قال: معنى ذلك تلك عشرة كاملة عليكم فرضنا إكمالها. وذلك أنه جل ثناؤه قال: فمن لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ثم قال: تلك عشرة أيام عليكم إكمال صومها لمتعتكم بالعمرة إلى الحج. فأخرج ذلك مخرج الخبر، ومعناه الأمر بها.
{ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ}: ذَلِكَ: أي التمتع بالعمرة إلى الحجّ لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام... عن الربيع: ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني المتعة أنها لأهل الاَفاق، ولا تصلح لأهل مكة.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله: "ذَلِكَ لَمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ" بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به، وأنه لا متعة لهم. فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم. وقال آخرون: عنى بذلك أهل الحرم ومن كان منزله دون المواقيت إلى مكة. وقال بعضهم: بل عنى بذلك أهل الحرم، ومن قرب منزله منه. وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا قول من قال: إن حاضري المسجد الحرام من هو حوله ممن بينه وبينه من المسافة ما لا تقصر إليه الصلوات لأن حاضر الشيء في كلام العرب هو الشاهد له بنفسه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان لا يستحق أن يسمى غائبا إلا من كان مسافرا شاخصا عن وطنه، وكان المسافر لا يكون مسافرا إلا بشخوصه عن وطنه إلى ما تقصر في مثله الصلاة، وكان من لم يكن كذلك لا يستحق اسم غائب عن وطنه ومنزله، كان كذلك من لم يكن من المسجد الحرام على ما تقصر إليه الصلاة غير مستحقّ أن يقال: هو من غير حاضريه إذ كان الغائب عنه هو من وصفنا صفته.
وإنما لم تكن المتعة لمن كان من حاضري المسجد الحرام من أجل أن التمتع إنما هو الاستمتاع بالإحلال من الإحرام بالعمرة إلى الحجّ مرتفقا في ترك العود إلى المنزل والوطن بالمقام بالحرم حتى ينشئ منه الإحرام بالحجّ، وكان المعتمر متى قضى عمرته في أشهر الحجّ ثم انصرف إلى وطنه، أو شخص عن الحرم إلى ما تقصر فيه الصلاة، ثم حجّ من عامه ذلك، بطل أن يكون مستمتعا لأنه لم يستمتع بالمرفق الذي جعل للمستمتع من ترك العود إلى الميقات والرجوع إلى الوطن بالمقام في الحرم، وكان المكيّ من حاضري المسجد الحرام لا يرتفق بذلك من أجل أنه متى قضى عمرته أقام في وطنه بالحرم، فهو غير مرتفق بشيء مما يرتفق به من لم يكن أهله من حاضري المسجد الحرام فيكون متمتعا بالإحلال من عمرته إلى حجه.
{وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ}: واتقوا الله بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما بيّن لكم من مناسككم، فتستحلوا ما حرّم فيها عليكم. "واعْلَمُوا": تيقنوا أنه تعالى ذكره شديد عقابه لمن عاقبه على ما انتهك من محارمه وركب من معاصيه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الْحَجِّ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} اختلفوا في هذا المتمتع على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه المُحْصَرُ بالحج، إذا حَلَّ منه بالإحصار، ثم عاد إلى بلده متمتعاً بعد إحلاله، فإذا قضى حجَّه في العام الثاني، صار متمتعاً بإحلالٍ بيْن الإحْرَامَين، وهذا قول الزبير.
والثاني: فمن نسخ حَجَّهُ بعمرة، فاستمتع بعمرة بعد فسخ حَجِّهِ، وهذا قول السدي.
والثالث: فمن قَدِمَ الحرم معتمراً في أشهر الحج، ثم أقام بمكة حتى أحرم منها بالحج في عامِهِ، وهذا قول ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وعطاء، والشافعي.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا}، فِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَحْرِمُوا بِهِمَا مِنْ دِيَارِكُمْ؛ قَالَهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَسُفْيَانُ.
الثَّانِي: أَتِمُّوهُمَا إلَى الْبَيْتِ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثَّالِثُ: بِحُدُودِهِمَا وَسُنَنِهِمَا؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الرَّابِعُ: أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
الْخَامِسُ: أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
السَّادِسُ: إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا؛ قَالَهُ مَسْرُوقٌ.
السَّابِعُ: أَلَا يَتَّجِرَ مَعَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ لِلشَّيْءِ اسْتِيفَاؤُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَشُرُوطِهِ، وَحِفْظُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ وَمُنْقِصَاتِهِ. وَكُلُّ الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ؛ إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّهِ}. الْأَعْمَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ، خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ، وَعِلْمٌ وَإِرَادَةٌ، وَمَصْدَرٌ وَمَوْرِدٌ، وَتَصْرِيفٌ وَتَكْلِيفٌ؛ وَفَائِدَةُ هَذَا التَّخْصِيصِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقْصِدُ الْحَجَّ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّظَاهُرِ، وَالتَّنَاضُلِ وَالتَّنَافُرِ، وَالتَّفَاخُرِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَحُضُورِ الْأَسْوَاقِ؛ وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَظٌّ يُقْصَدُ، وَلَا قُرْبَةٌ تُعْتَقَدُ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ وَقَضَاءِ حَقِّهِ، ثُمَّ سَامَحَ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ}. قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} إنَّهُ إحْصَارُ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ يَكُونُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، وَالْبُرْءُ يَكُونُ مِنْ الْمَرَضِ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَنْ احْتَجَّ عَن ابْنِ الْقَاسِمِ بِأَنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَا نَقُولُ هَكَذَا، بَلْ زَوَالُ كُلِّ أَلَمٍ مِنْ مَرَضٍ، وَهُوَ أَمْنٌ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْنِ، وَهُوَ عَامٌّ، كَمَا جَاءَ بِلَفْظِ "أُحْصِرَ "وَهُوَ عَامٌّ فِي الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ؛ لِيَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى نِظَامِ أَوَّلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ}. الْمَعْنَى أَكْمِلُوا مَا بَدَأْتُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ، مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَكُمْ مَانِعٌ؛ فَإِنْ كَانَ مَانِعٌ حَلَلْتُمْ حَيْثُ حُبِسْتُمْ وَتَرَكْتُمْ مَا مُنِعْتُمْ مِنْهُ، وَيَجْزِيكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ بَعْدَ حَلْقِ رُءُوسِكُمْ؛ فَإِذَا أَمِنْتُمْ -أَيْ زَالَ الْمَانِعُ، وَقَدْ كُنْتُمْ حَلَلْتُمْ عَنْ عُمْرَةٍ فَحَجَجْتُمْ، فَعَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"أو نسك" النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى. ويجمع أيضا على نسائك. والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله تعالى: "وأرنا مناسكنا "[البقرة: 128] أي متعبداتنا. وقيل: إن أصل النسك في اللغة الغسل، ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. وقيل: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها.
قال بعض الطلبة: فيبقى السؤال لأيّ شيء لم يقل: فهي عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ؟ فقال ابن عرفة: « تِلْكَ» القصد بها التعظيم. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن القاعدة أنّ الصوم المتتابع أعظم ثوابا من المفرّق، فقد يتوهّم بتفريقها أن ثوابها أقل من ثوابها لو كانت مجموعة (فأشار بقوله « عشرة» إلى أن ثوابها على هذه الصفة أعْظَمُ من ثوابها لو كانت مجموعة فرعا عن أن) يكون مثله ولذلك قال: « كاملة»...
قوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام...}. قال ابن عرفة: يؤخذ فيمن له أهل بمكة وأهل بغيرها. فقد قال الإمام مالك رضي الله عنه: إنها من مشبَّهات الأمور يؤخذ منه أن حكمه حكم الحاضر بدليل قول (مالك) في المسافر: إذا سافر ومر ببلد له فيها أهل فإنه يتمّ الصلاة كالمقيم...
قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب}. دليل على أنّ الطلب المتقدم قبل هذا كله للوجوب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم آيات القتال بالنفقة في سبيل الله لشدة حاجة الجهاد إليها وكان سبيل الله اسماً يقع على الحج كما يقع على الجهاد كما ورد في الحديث "الحج من سبيل الله "رجع إلى الحج والعمرة المشير إليهما {مثابة للناس} [البقرة: 125] و {إن الصفا والمروة} [البقرة: 158] الآية، و {مواقيت للناس والحج} ولا سيما وآيات القتال هذه إنما نظمت ههنا بسببهما توصيلاً إليهما بعضها سببه عمرة الحديبية التي صدّ المشركون عنها، فكان كأنه قيل: مواقيت للناس والحج فحجوا واعتمروا أي تلبسوا بذلك وإن صددتم عنه وقاتلوا في سبيل الله من قاتلكم في وجهكم ذلك لينفتح لكم السبيل،
ولما كان ذلك بعد الفتح ممكناً لا صاد عنه عبر بالإتمام فقال: {وأتموا} أي بعد فتح السبيل بالفتح {الحج والعمرة} بمناسكهما وحدودهما وشرائطهما وسننهما.
ولما تقدم الإنفاق في سبيل الله والقتال في سبيل الله نبه هنا على أن ذلك كلّه إنما هو لتقام العبادات التي هي مبنى الإسلام له سبحانه وتعالى فقال: {لله} الملك الذي لا كفوء له أي لذاته، ولم يضمر لئلا يتقيد بقيد...
ولما كان الحاج هو الشعث التفل أشار إلى حرمة التعرض لشعره بقوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم} أي شعرها إذا كنتم محرمين بحج أو عمرة، من الحلق.
قال الحرالي: وهو إزالة ما يتأتى للزوال بالقطع من الآلة الماضية في عمله، والرأس مجتمع الخلقة ومجتمع كل شيء رأسه...
قال الحرالي: والهدي ما تقرب به الأدنى للأعلى وهو اسم ما يتخذ فداء من الأنعام بتقديمه إلى الله سبحانه وتعالى وتوجيهه إلى البيت العتيق، وفي تعقيب الحلق بالهدي إشعار باشتراكهما في معنى واحد وهو الفداء،
والهدي في الأصل فداء لذبح الناسك نفسه لله سنة إبراهيم في ولده عليهما الصلاة والسلام، وإزالة الشعر فداء من جزاء لرأس لله، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن تقديم أحدهما على الآخر قال: "افعل ولا حرج"، لأن الجميع غاية بالمعنى الشامل للفداء...
{فمن تمتع} أي تلذذ باستباحة دخوله إلى الحرم بإحرامه في أشهر الحج على مسافة القصر من الحرم {بالعمرة} ليستفيد الحل حين وصوله إلى البيت ويستمر حلالاً في سفره ذلك {إلى الحج} أي إحرامه به من عامة ذلك من مكة المشرفة من غير رجوع إلى الميقات
{فما} أي فعليه ما {استيسر} وجد اليسر به {من الهدي} من النعم يكون هذا الهدي لأجل ما تمتع به بين النسكين من الحل وهو مسافر، هذا للمتمتع وأما القارن فلجمعه بين النسكين في سفر واحد وشأنهما أن يكونا في وقتين وقت حل ووقت حرم، وفي العبارة إشعار بصحة إرداف الحج على العمرة لأنه ترق من إحرام أدنى إلى إحرام أعلى...
{فمن لم يجد} أي هدياً، من الوجد وهو الطول والقدرة... ولما كان زمن الصومين مختلفاً قال: {كاملة} نفياً لتوهم أن الصوم بعد الإحلال دون ما في الإحرام، والكمال:
قال الحرالي: الانتهاء إلى الغاية التي ليس وراءها مزيد من كل وجه، وقال: فكما استوى حال الهدي في انتهائه إلى الحرم أو الحل كذلك استوى حال الصوم في البلد الحرام والبلد الحلال ليكون في إشارته إشعار بأن الأرض لله مسجد كما أن البيت الحرام لله مسجد فأظهر معنى استوائهما في الكمال في حكم الأجر لأهل الأجور والقبول لأهل القبول والرضاء لأهل الرضاء والوصول لأهل الوجهة كل عامل على رتبة عمله...
ولو قال: تامة، لم يفد هذا لأن التمام قد يكون في العدد مع خلل بعض الأوصاف...
ولما كثرت الأوامر في هذه الآيات وكان لا يحمل على امتثالها إلا التقوى أكثر تعالى فيها من الأمر بها. قال الحرالي: لما تجره النفوس من مداخل نقص في النيات والأعمال والتنقلات من الأحكام إلى أبدالها فما انبنى على التقوى خلص ولو قصر...
ولما كان من الأوامر ما هو معقول المعنى ومنها ما هو تعبدي وكان عقل المعنى يساعد على النفس في الحمل على امتثال الأمر ناسب اقتران الأمر به بالترغيب كما قال: {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} [البقرة: 196]
ولما كان امتثال ما ليس بمعقول المعنى من عند قوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] شديداً على النفس مع جماحها عن جميع الأوامر ناسب اقترانه بالتهديد فكان ختامه بقوله: {واتقوا} أي فافعلوا جميع ذلك واحملوا أنفسكم على التحري فيه والوقوف عند حدوده ظاهراً وباطناً واتقوا {الله} أي اجعلوا بينكم وبين غضب هذا الملك الأعظم وقاية،
وأكد تعظيم المقام بالأمر بالعلم وتكرير الاسم الأعظم ولئلا يفهم الإضمار تقييد شديد عقابه بخشية مما مضى فقال: {واعلموا} تنبيهاً على أن الباعث على المخافة إنما هو العلم، {أن الله} أي الذي لا يداني عظمته شيء {شديد العقاب} وهو الإيلام الذي يتعقب به جرم سابق؛ هذا مع مناسبة هذا الختام لما بعده من النهي عن الرفث وما في حيزه، ومن تدبر الابتداء عرف الختم ومن تأمل الختم لاح له الابتداء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} إشارة إلى الثلاثة والسبعة مبين لجملة العدد الواجب كما بين تفصيله ومزيل لوهم من عساه يتوهم أن الواو العاطفة للسبعة للتخيير كما عليه بعض العرب في مثل: جالس الحسن وابن سيرين.
وروي أن بعض العرب كانوا يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة فالفذلكة تزيل وهم هؤلاء أيضا ولذلك أكدها بقوله كاملة. قال الأستاذ الإمام إن الله تعالى إذا أراد أن يقرر حكما وكان في التعبير المألوف عنه ما يوهم خلاف المقصود ولو لبعض المخاطبين يأتي بما يؤكد الحكم وينفي أدنى وهم يعرض فيه ولذلك وصف كتابه بالمبين وبالتبيان. وإذا كان هذا شأنه فيستحيل أن يطلق في مقام بيان الأحكام القول في نفي شيء بصيغة الإثبات كما قدر بعضهم النفي في قوله: {وعلى الذين يطيقونه فدية} (البقرة: 184)...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يجيء الحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما. والتسلسل في السياق واضح بين الحديث عن الأهلة وإنها مواقيت للناس والحج؛ والحديث عن القتال في الأشهر الحرم وعن المسجد الحرام؛ والحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما في نهاية الدرس نفسه...
وأول ما يلاحظ في بناء الآية هو تلك الدقة التعبيرية في معرض التشريع، وتقسيم الفقرات في الآية لتستقل كل فقرة ببيان الحكم الذي تستهدفه. ومجيء الاستدراكات على كل حكم قبل الانتقال إلى الحكم التالي..
ثم ربط هذا كله في النهاية بالتقوى ومخافة الله... {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب}.. وهذه الأحكام ضمان القيام بها هو هذه التقوى، وهي مخافة الله، وخشية عقابه. والإحرام بصاحبه تحرج. فإذا أباح لهم الإحلال فترة أقام تقوى الله وخشيته في الضمير، تستجيش فيه هذا [الشعور]، وتقوم بالحراسة في انتباه
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هاتان الآيتان متصلتان بما قبلهما أوثق الاتصال، وذلك بأن الآيات الكريمات من قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر...} (البقرة 177) فيها تنظيم للجماعة الفاضلة، ببيان حق الفقير في مال الغني، وبيان المساواة العادلة في تطبيق القوانين الإسلامية، لا فرق بين قوي ولا ضعيف، ولا شريف ووضيع، وبيان أن العقوبة تكون على قدر الجريمة، وإن في ذلك حياة الجماعة حياة فاضلة عادلة [و لكم في القصاص حياة...] (البقرة 179) وفيها تنظيم للأسرة بالتعاون بين آحادها، بأن يمد الغني الفقير بالهبات في الحياة، والوصايا بعد الوفاة، وفيها بيان لما يهذب النفس، ويقوي الروح فذكر الصيام، ثم فيه إشارة إلى الحج الذي يجمع في ثناياه بين إصلاح الآحاد في ذات أنفسهم، وإصلاح الجماعة وتنظيمها، وفي أحكامه تتلاقى ذرائع التنظيم الاجتماعي، والإصلاح النفسي، فهو في ذاته رحلة روحية يشارف المؤمن فيها المقام القدسي، إذ يحل في المكان الذي شرفه الله سبحانه بنسبته إليه، ووضع قواعده النبيون الصد يقون، وفيه الصدقات وإمداد الفقراء، بل في بعض كفاراته الصوم، وفيه التنظيم الاجتماعي العام بالتعارف بين المسلمين في كل البقاع، فكان حقا أن يجئ الحج بعد الأحكام المنظمة، والعبادات المصلحة للنفس، المهذبة للروح، لأنه يجمعها في أحكامه.
و لكن الحج في إبان نزول القرآن كان متعذرا أو متعسرا، لأن المزار الأكبر وهو البيت الحرام، والمشعر الحرام، كان المشركون قد سيطروا عليه، والأصنام تحيط به من كل جانب، وهم يمنعون المسلمين منه، والعداوة بينهم وبين النبي وصحبه مستعرة، فكان لابد من القتال للوصول إليه، وأداء تلك الشعيرة الإسلامية، لذلك جاء القتال بين الإشارة إليه بقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها...189} (البقرة) وبين بيان بعض أحكامه في قوله تعالى: {و أتموا الحج والعمرة لله}.
ثم هناك ارتباط خاص بين أحكام القتال وأحكام الحج، لأن القتال جهاد لحماية الدولة في الخارج، والحج جهاد لتهذيب النفس وحماية الدولة الإسلامية في الداخل، بالجمع بين أقطارها، والتعارف العام بين شعوبها، ونشر المساواة العادلة بين آحادها، ولذلك لم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم عبادة تلي الجهاد في سبيل الله غير الحج لله...
و ما المراد بالمحل في الآية؟ أيراد به اسم زمان، أم يراد به اسم مكان؟ لاشك أن اللفظ يحتملهما، فيحتمل الزمان والمكان، وإن كان في المكان أظهر، وأقرب ورودا للخاطر، ولذلك كان لابد من السنة لمعرفة المراد يقينا، أو أن يستبين ذلك من آيات أخر، وقد قال الحنفية: إن المحل هو اسم مكان يراد به البيت الحرام، وقد تبين ذلك بالقرآن، فقد قال الله تعالى: [ثم محلها إلى البيت العتيق 33] (الحج)، والقرآن يفسر بعضه بعض، وعلى ذلك لا يصح للمحصر أن يحلق ويتحلل، حتى يصل الهدي الذي يرسله إلى البيت العتيق ويذبح، وقد تأيد ذلك بآية أخرى، وهي قوله تعالى: {هديا بالغ الكعبة...95} (المائدة)، ففيها التصريح بأن الهدي في الكعبة. وقد قال الجهور إن محل الهدي للمحصر هو المكان الذي كان فيه الإحصار، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإن المسور بن مخرمة يروي:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما منع من البيت الحرام في تلك السنة وعقد الصلح قال لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا»، فوالله ما قام رجل منهم، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك، ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا". فهذا يدل على أن محل الهدي للمحصر هو حيث الإحصار، وأنه إذا كان ممنوعا فإن الهدي قد يمنع أيضا. وقد أجاب الحنفية عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحرم لا في الحل، فهو كان في محله، لأنه أحصر في طرف الحديبية القريب من مكة وهو من الحرم. و لاشك أن رأي جمهور الفقهاء مع السنة النبوية، وفيه تسهيل على المحصرين، والمناسب لحالهم هو التيسير لا التصعيب. ولا شك أن ذبحهم في المكان الذي أحصروا فيه أشد كلفة، والصدقة لا يتعين مكانها في الضيق، ولكن النص الكريم {حتى يبلغ الهدي محله} لا ينطبق تمام الانطباق على رأي الجمهور، إذا فسرنا المحل بالمكان، لأن البلوغ يقتضي مسافة بين المكانين، ولا ينطبق ذلك على مكان الحصر، بل ينطبق على مكان يكون فيه بلوغ، وإذا فسرنا المحل بالزمان تأتى معنى البلوغ بأن ينتظر المحصر حتى يجئ وقت الهدي وهو يوم النحر، ويكون بالغا محله أي بالغا زمانه، وحينئذ لا يتقيد المحصر بالمكان، ولكن يتقيد في الذبح بالزمان، وإن زال الإحصار قبل زمانه، وأمكن الوصول إلى الحج في إبانه، فقد زال موجب الذبح، وتعين إتمام الحج.
و لقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: {و لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} خطاب عام لكل المكلفين في هذه الشعيرة، لا فرق بين محصر وطليق، وذي عذر وغيره، فهو بيان لوقت التحلل من الإحرام بشكل عام، وبيان لمكان الذبح بشكل عام وهو الكعبة. وإن لذلك الكلام وجاهته واستقامته، وهو تخريج يعاضد رأي الجمهور، لأن الكلام يكون في مكان الذبح العام، لا في الإحصار، ومكان الذبح في الإحصار علم من السنة الصحيحة في الحديبية... وعبر سبحانه وتعالى بالفدية ولم يعبر بكفارة، لأنه لا ذنب ولا اعتداء، حتى يكون التكفير من الإثم...
و التمتع أصل معناه الانتفاع الممتد المستمر، مأخوذ من المتوع بمعنى الامتداد والارتفاع، والمراد هنا معنى إسلامي وهو الجمع بين العمرة والحج في عام واحد على أن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج، فمعنى قوله تعالى: [فمن تمتع بالعمرة إلى الحج] أي فمن أحرم بالعمرة منتفعا بعبادته ونسكه إلى أن أحرم بالحج، فلكي يتحلل في إبان التحلل يذبح هديا..إلخ. وسمي ذلك الجمع تمتعا، لأن المحرم يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد، فيحرم بالعمرة ويستمر فيها، وتلك متعة روحية، ويجوز أن يتحلل منها ثم يحرم بالحج، وتلك متعة جسدية، ثم هو يعتمر ويحج في سفر واحد، وتلك متعة مادية، من أجل ذلك سمي هذا تمتعا...
و لقد قال سبحانه وتعالى: [تلك عشرة كاملة] ليتقرر الحكم نصا، وليتبين أن الذي يحل محل النسك هو العشرة الكاملة لا بعضها، ولكي لا ينسى الناس صوم السبعة الأيام إذا عادوا إلى أهلهم حاسبين أن حجهم قد تم، بل عليهم أن يفهموا أن الحج لم يتم حتى يصوموا...
{و اتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة التي كانت فيها الإشارة إلى أعمال الحج ونسكه وشعائره بالأمر بتقواه للإشارة إلى أن الاعتبار في أعمال الحج لا يكون لما تعمله الجوارح، وما تقوم به من أفعال، إنما العبرة في ذلك إلى أثرها في القلوب، فإن أوجدت رحمة بالعباد، ورهبة من الخلاق، وتقوى من الله، فقد أديت على وجهها إذ خلصت النية، واستقامت الإرادة، وإن لم تؤد إلى تقوى الله والرحمة بعباده فقد خالطها رياء ولم تخلص النية، وحق العقاب، ولذا قال سبحانه [واعلموا أن الله شديد العقاب] ليلقي في نفوس الناس الرهبة من عقابه حال رجاء ثوابه، والناس يصلحون بالثواب والعقاب، حتى إذا علت المدارك وقويت الروح كان الثواب رضا الرحمان، ولذا قال سبحانه بعد ثواب المؤمنين: [و رضوان من الله... 15] (آل عمران)...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
يمكن القول: إن الآيات [189-203] سلسلة واحدة نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وإذا صح هذا – والقرائن تؤيد صحته إن شاء الله – فتكون مناسك الحج والعمرة قد فرضت على المسلمين وبينت لهم قبل عام الحديبية ويكون بعض المسلمين كانوا يتمكنون من الوصول إلى مكة وأداء مناسك الحج والعمرة منفردين قبل فتح مكة. وفي آية الطواف بين الصفا والمروة التي مرّ تفسيرها ما يمكن أن يكون قرينة من قرائن صحة هذا الاحتمال. وفي الآية الثانية من سورة المائدة التي نزلت على الأرجح قبل فتح مكة قرينة أقوى أو دليل على ذلك وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} المائدة [2]
ولقد أراد بعض المسلمين أن يحج بعد منع المشركين النبي والمسلمين من زيارة الكعبة عام الحديبية فحاول بعض آخر منعهم من ذلك انتقاماً لمنع المشركين لهم. وهذا ما انطوى في جملة {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ...} المائدة: [2] الخ...
وما دامت العمرة هي زيارة الكعبة فتكون كلمة {الْحَجَّ} المطلقة التي جاءت مع كلمة العمرة قد عنت شيئا آخر، وهو ما فسّر في الأحاديث بأنه الوقوف في عرفة. الذي عرف يقيناً أنه يجب أن يكون في التاسع من شهر ذي الحجة. والراجح أن كلمة {يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ} في آية سورة التوبة الثالثة: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {3}} قد عنته.
وقد روى أصحاب السنن حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: « الحجّ يوم عرفة» وعلى ضوء هذا يمكن القول إن جملة: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} تعني أن فريضة الحج الإسلامية ركنان هما العمرة أي الطواف والسعي في أشهر الحج والوقوف في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة. وقد ذكرت فرضية حج البيت في القرآن ولم تذكر فرضية الوقوف في عرفة بصراحة قطعية فيه فاقتضت حكمة الله ورسوله إتمام ذلك بالحديث والله أعلم.
وليس من تعارض بين زيارة الكعبة في موسم الحج التي هي ركن من أركان الحج الإسلامي في موسم الحج وبين الزيارة التي تكون للكعبة في غير موسم الحج التي انطوى ذكرها في الآية [158] من سورة البقرة وشرحنا مداها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّ الأمر بالتقوى، انطلاقاً من العلم بأنه شديد العقاب، أسلوب قرآني درج عليه القرآن في ما يريد اللّه أن يثيره أمام الإنسان من قضايا الحياة والتشريع، ليقف الإنسان فيه عند حدود اللّه من موقع النفس التقية التي تراقب اللّه وتخاف عقابه. أمّا مناسبة ذلك، هنا، فهو الحديث عن تفصيلات تشريع الحج والعمرة من إتمامهما، والحديث عن الحكم في حالة الإحصار وفي حالة الأمن، وعن الحكم في حج التمتع في حالة التمكن من الهدي والعجز عنه؛ فإنَّ ذلك كلّه مما يوحي بالحاجة إلى الانضباط والالتزام والتقوى في حدود هذه الأمور ومواردها الشرعية، ويكفي ذلك مناسبة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يُعتبر الحجّ من أهم العبادات التي شُرعت في الإسلام ولها آثار وبركات كثيرة جدّاً، فهو مصدر عظمة الإسلام وقوّة الدّين واتّحاد المسلمين، والحجّ هو الشعيرة العباديّة التي ترعب الأعداء وتضخ في كلّ عام دماً جديداً في شرايين المسلمين...