تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

ثم أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض ، فكيف بطولها ، التي أعدها الله للمتقين ، فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها ،

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

ثم أمرهم - سبحانه - بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة التى توصلهم إلى مغفرة الله ورضوانه فقال : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } .

قال الآلوسى : وسبب نزول هذه الآية على ما أخرجه عبد بن حميد وغيره عن عطاء بن أبى رباح : أن المسلمين قالوا : يا رسول الله . بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا ، كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة فى عتبة داره أجدع أنفك ، أجدع أذنك ، افعل كذا وكذا فسكت صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآيات إلى قوله { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } الآية فقال النبى صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بخير من ذلكم ثم تلاها عليهم " .

وقوله : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } من السرعة بمعنى المبادرة إلى الشىء بدون تأخير أو تردد . والكلام على حذف مضاف : أى سارعوا وبادروا إلى ما يوصلكم إلى ما به تظفرون بمغفرة ربكم ورحمته ورضوانه وجنته ، بأن تقوموا بأداء ما كلفكم به من واجبات ، وتنتهوا عما نهاكم عنه من محظورات .

ولقد قرأ نافع وابن عامر بغير واو ، وهى قراءة أهل المدينة والشام . والباقون بالواو ، وهى قراءة أهل مكة والعراق .

فمن قرأ بالواو ، جعل قوله - تعالى - { وسارعوا } معطوفا على قوله { وَأَطِيعُواْ } أى : أطيعوا الله والرسول وسارعوا إلى مغفرة من ربكم .

ومن قرأ بغير واو جعل قوله " سارعوا " مستأنفا ، إذ هو بمنزلة البيان أو بدل الاشتمال .

و { مِّن } فى قوله { مِّن رَّبِّكُمْ } ابتدائية ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة للمغفرة أى مغفرة كائنة من ربكم . .

ولقد عظم - سبحانه - بذلك شأن هذه المغفرة التى ينبغى طلبها بإسراع ومبادرة ، بأن جاء بها منكرة ، وبأن وصفها بأنها كائنة منه - سبحانه - هو الذى خلق الخلق بقدرته ، ورباهم برعايته .

ووصف - سبحانه - الجنة بأن عرضها السموات والأرض على طريقة التشبيه البليغ ، بدليل التصريح بحرف التشبيه فى قوله - تعالى - { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض } قال الفخر الرازى ما ملخصه : وفى معنى أن عرض الجنة مثل عرض السموات والأرض وجوه منها : أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا ، بحيث تكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذا غاية فى السعة لا يعلمها إلا الله .

ومنها أن المقصود المبالغة فى وصف السعة للجنة ، وذلك لأنه لا شىء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله

{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } فإن أطول الأشياء بقاء عندنا هو السموات والأرض ، فخوطبنا على وفق ما عرفناه ، فكذا هنا " .

وخص - سبحانه - العرض بالذكر ، ليكون أبلغ فى الدلالة على عظمها واتساع طولها ، لأنه إذا كان عرضها كذا ، فإن العقل يذهب كل مذهب فى تصور طولها " لأن العرض فى العادة أقل من الطول . وذلك كقوله - تعالى - فى صفة فرش الجنة { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } لأنه إذا كانت بطانة الفرش من الحرير فكيف يكون ما فوق البطانة مما تراه الأعين ؟ .

قال القفال : ليس المراد بالعرض ها هنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب : بلاد عريضى ، ويقال هذه دعوى عريضة أي واسعة عظيمة . والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ، وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة " .

قال ابن كثير : وقد روينا فى مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " إنك دعوتنى إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم : سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار " .

وعن أبى هريرة أن رجلا جاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أرايت قوله - تعالى - : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض } فأين النار قال : أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شىء فأين النهار ؟ قال : حيث شاء الله قال صلى الله عليه وسلم : " وكذلك النار تكون حيث شاء الله " " .

وقوله - تعالى - { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أى هيئت للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن محارم الله ، وجعلوا بينهم وبينها وقاية وساترا ، وخافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

ثم نَدَبهم إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات والمسارعة إلى نَيْل القُرُبات ، فقال : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي : كما أعدّت النار للكافرين . وقد قيل : إن معنى قوله : { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } تنبيها{[5670]} على اتساع طولها ، كما قال في صفة فرش الجنة : { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] أي : فما ظنك بالظهائر ؟ وقيل : بل عرضها كطولها ؛ لأنها قبة تحت العرش ، والشيء المُقَبَّب والمستدير عَرْضُه كطوله . وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح : " إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الجنة فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ " {[5671]} .

وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } الآية [ رقم21 ] .

وقد روينا في مسند الإمام أحمد : أنّ هِرَقْل كَتَبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إنك دَعَوْتني إلى جنة عَرْضُها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال النبي{[5672]} صلى الله عليه وسلم : " سُبْحَانَ اللهِ ! فأين{[5673]} الليل إذَا جَاءَ النَّهَارُ ؟ " {[5674]} .

وقد رواه ابنُ جرير فقال : حدثني يونس ، أنبأنا ابنُ وَهْب ، أخبرني مسلم بن خالد ، عن أبي خُثَيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مُرَّة{[5675]} قال : لَقِيت التَّنوخي رَسُولَ هِرَقْل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحِمْص ، شيخا كبيرا فَسَدَ ، قال : قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هِرَقْل ، فنَاول الصحيفة رَجُلا عن يساره . قال : قلت : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية . فإذا كتاب صاحبي : " إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين ، فأين النار ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سُبْحَانَ الله ! فأيْنَ اللَّيْلُ إذَا جَاءَ النَّهَارُ ؟ " {[5676]} .

وقال الأعمش ، وسفيان الثوري ، وشُعْبَة ، عن قيس بن مسلم{[5677]} عن طارق بن شهاب ، أن ناسا من اليهود سألوا عُمَرَ بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال عمر [ رضي الله عنه ]{[5678]} أرأيتم إذا جاء الليل أين النهار ؟ وإذا جاء النهار أين الليل ؟ فقالوا : لقد نزعت مثْلَها من التوراة .

رواه ابن جرير من الثلاثة الطرق{[5679]} {[5680]} ثم قال : حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا جعفر بن بُرْقَان ، أنبأنا يزيد بن الأصم : أن رجلا من أهل الكتاب قال : يقولون : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } فأين النار ؟ فقال ابن عباس : أين يكون الليل إذا جاء النهار ، وأين يكون النهار إذا جاء الليل ؟{[5681]} .

وقد رُوي هذا مرفوعا ، فقال البَزّار : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم ، عن عَمّه يزيد بن الأصَم ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت قوله تعالى : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } فأين النار ؟ قال : " أرَأيْتَ اللَّيْلَ إذا جَاءَ لَبسَ كُلَّ شَيْءٍ ، فَأيْنَ النَّهَار ؟ " قال : حيث شاء الله . قال : " وَكَذِلَكَ{[5682]} النَّارُ تكون حيث شاء الله عز وجل " {[5683]} .

وهذا يحتمل معنيين :

أحدهما : أن يكون المعنى في ذلك : أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان ، وإن كنا لا نعلمه ، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل ، وهذا{[5684]} أظهر كما تقدم في{[5685]} حديث أبي هريرة ، عن{[5686]} البزار .

الثاني : أن يكون المعنى : أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب ، فإن الليل يكون من الجانب الآخر ، فكذلك الجنة في أعلى عليّين فوق السماوات تحت العرش ، وعرضها كما قال الله ، عز وجل : { كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [ الحديد : 21 ] والنار في أسفل سافلين . فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض ، وبين وجود النار ، والله أعلم .


[5670]:في ر: "تنبيه".
[5671]:صحيح البخاري برقم (2790) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5672]:في جـ، ر: "رسول الله".
[5673]:في و: "أين".
[5674]:المسند (3/442) من حديث التنوخي. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/15): "هذا حديث غريب تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به".
[5675]:في ق: "أبي مرة" وهو خطأ".
[5676]:تفسير الطبري (7/211، 212).
[5677]:في أ: "سلمة".
[5678]:زيادة من أ.
[5679]:في جـ، ر: "طرق".
[5680]:تفسير الطبري (7/211، 212).
[5681]:في جـ، ر، أ، و: "فقال ابن عباس: أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار، وإذا جاء النهار أين يكون الليل".
[5682]:في أ: "فلذلك"، وفي و: "فكذلك".
[5683]:ورواه الحاكم في المستدرك (1/36) من طريق محمد بن معمر عن المغيرة به. وقال: "على شرطهما ولم يخرجاه ولا أعلم له علة"ووافقه الذهبي.
[5684]:في أ: "فهذا".
[5685]:في أ: "من".
[5686]:في أ: "عند".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ }

يعني تعالى ذكره بقوله : { وَسَارِعُوا } وبادروا وسابقوا إلى مغفرة من ربكم ، يعني : إلى ما يستر عليكم ذنوبكم من رحمته ، وما يغطيها عليكم من عفوه عن عقوبتكم عليها { وَجنّةِ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ } يعنى سارعوا أيضا إلى جنة عرضها السموات والأرض ، ذكر أن معنى ذلك : وجنة عرضها كعرض السموات السبع ، والأرضين السبع ، إذا ضمّ بعضها إلى بعض . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ وَالأَرْضُ } قال : قال ابن عباس : تقرن السموات السبع والأرضون السبع ، كما تقرن الثياب بعضها إلى بعض ، فذاك عرض الجنة .

وإنما قيل : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ } فوصف عرضها بالسموات والأرضين ، والمعنى ما وصفنا من وصف عرضها بعرض السموات والأرض ، تشبيها به في السعة والعظم ، كما قيل : { مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني إلا كبعث نفس واحدة ، وكما قال الشاعر :

كأنّ عَذِيرَهُمْ بجَنُوبِ سِلّى *** نَعامٌ قَاقَ فَي بَلَدٍ قِفارِ

أي عذير نعام ، وكما قال الاَخر :

حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتي عَناقا *** وَما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بالْعَناقِ

يريد صوت عناق . وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : هذه الجنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار ؟ فقال : «هَذَا النّهارُ إذَا جَاءَ ، أيْنَ اللّيْلُ ؟ » .

ذكر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مرة ، قال : لقيت التنوخيّ رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخا كبيرا قد أقعد ، قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلاً عن يساره ، قال : قلت من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية ، فإذا هو : إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين ، فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سُبْحانَ اللّهِ ، فأيْنَ اللّيْلُ إذَا جاءَ النّهارُ ؟ » .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض ، أين النار ؟ قال : «أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ » فقالوا : اللهمّ نزعْتَ مثله من التوراة .

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن عمر أتاه ثلاثة نفر من أهل نجران ، فسألوه وعنده أصحابه ، فقالوا : أرأيت قوله : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتِ وَالأرْضُ } فأين النار ؟ فأحجم الناس ، فقال عمر : «أرأيتم إذا جاء الليل ، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟ » فقالوا : نزعت مثلها من التوراة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرنا شعبة ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر ، بنحوه في الثلاثة الرهط الذين أتوا عمر ، فسألوه عن جنة عرضها كعرض السموات والأرض ، بمثل حديث قيس بن مسلم .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، أخبرنا الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر ، فقال : تقولون : جنة عرضها السموات والأرض أين تكون النار ؟ فقال له عمر : أرأيت النهار إذا جاء ، أين يكون الليل ؟ أرأيت الليل إذا جاء ، أين يكون النهار ؟ فقال : إنه لمثلها في التوراة ، فقال له صاحبه : لم أخبرته ؟ فقال له صاحبه : دعه إنه بكلّ موقنٌ .

حدثني أحمد بن حازم ، قال : أخبرنا أبو نعيم ، قال : حدثنا جعفر بن برقان ، قال : حدثنا يزيد بن الأصم أن رجلاً من أهل الكتاب أتى ابن عباس ، فقال : تقولون جنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار ؟ فقال ابن عباس : أرأيت الليل إذا جاء ، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟

وأما قوله : { أُعِدّتْ للْمُتّقِينَ } فإنه يعني : إن الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرضين السبع أعدها الله للمتقين ، الذين اتقوا الله ، فأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم ، فلم يتعدّوا حدوده ، ولم يقصروا في واجب حقه عليهم فيضيعوه . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : { وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْضُ أُعِدّتْ للْمُتّقِينَ } : أي ذلك لمن أطاعني وأطاع رسولي .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

{ وسارعوا } بادروا وأقبلوا . { إلى مغفرة من ربكم } إلى ما يستحق به المغفرة ، كالإسلام والتوبة والإخلاص . وقرأ نافع وابن عامر سارعوا بلا واو . { وجنة عرضها السماوات والأرض } أي عرضها كعرضهما ، وذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على طريقة التمثيل ، لأنه دون الطول . وعن ابن عباس كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض ، { أعدت للمتقين } هيئت لهم ، وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة وإنها خارجة عن هذا العالم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

قرأ نافع وابن عامر : «سارعوا » بغير واو ، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام ، وقرأ باقي السبعة بالواو ، قال أبو علي : كلا الأمرين شائع مستقيم ، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة ، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو ، وأمال الكسائي الألف من قوله { سارعوا } ومن قوله { يسارعون في الخيرات } [ المؤمنون : 61 ] و { ونسارع لهم في الخيرات }{[3520]} في كل ذلك ، قال أبو علي : والإمالة هنا حسنة لوقوع الراء المكسورة بعدها ، والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة ، إذ الناس كأن كل واحد يسرع ليصل قبل غيره ، فبينهم في ذلك مفاعلة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { فاستبقوا الخيرات }{[3521]} وقوله { إلى مغفرة } معناه : سارعوا بالتقوى والطاعة والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر الله لكم فيها ، أي يستر ذنوبكم بعفوه عنها وإزالة حكمها ، ويدخلكم جنة ، قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير { سارعوا إلى مغفرة } ، معناه : إلى تكبيرة الإحرام مع الإمام .

قال الفقيه القاضي : هذا مثال حسن يحتذى عليه في كل طاعة ، وقوله تعالى : { عرضها السماوات والأرض } تقديره : كعرض السماوات والأرض ، وهذا كقوله تعالى : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة }{[3522]} أي كخلق نفس واحدة وبعثها ، فجاء هذا الاقتضاب المفهوم الفصيح ، ومنه قول الشاعر : [ ذو الخرق الطهوي ] : [ الوافر ] :

حسبتُ بغامَ راحلتي عنَاقا . . . وما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بِالعنَاقِ{[3523]}

ومنه قول الآخر :

كأنَّ غَدِيرَهُمْ بِجَنُوبِ سَلْيٍ . . . نعَامٌ فَاقَ فيَ بَلَدٍ قِفَارٍ{[3524]}

التقدير صوت عناق وغدير نعام .

وأما معنى قوله تعالى : { عرضها السماوات والأرض } فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب ، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تقرن السماوات والأرضون بعضها إلى بعض كما يبسط الثوب ، فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا الله ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أن بين المصراعين من أبواب الجنة مسيرة أربعين سنة ، وسيأتي عليها يوم يزدحم الناس فيها كما تزدحم الإبل إذا وردت خمصاً ظماء »{[3525]} وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : «أن في الجنة شجرة يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام لا يقطعها »{[3526]} فهذا كله يقوي قول ابن عباس وهو قول الجمهور ، إن الجنة أكبر من هذه المخلوقات المذكورة وهي ممتدة عن السماء حيث شاء الله تعالى ، وذلك لا ينكر ، فإن في حديث النبي عليه السلام : «ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة من الأرض » ){[3527]} .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

فهذه مخلوقات أعظم بكثير جداً من السماوات والأرض ، وقدرة الله تعالى أعظم من ذلك كله ،

«وروى يعلى بن أبي مرة{[3528]} قال : لقيت التنوخي{[3529]} رسول هرقل{[3530]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص ، شيخاً كبيراً قد فند{[3531]} فقال قدمت على النبي عليه السلام بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلاً عن يساره فقلت : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية ، فإذا كتاب هرقل : إنك كتبت إليَّ تدعوني إلى { جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } ، فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله ، فأين الليل إذا جاء النهار ؟ » {[3532]} وروى قيس بن مسلم{[3533]} عن طارق بن شهاب{[3534]} قال : جاء رجلان من اليهود من نجران إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال أحدهما : تقولون : { جنة عرضها السماوات والأرض } ، أين تكون النار ؟ فقال عمر رضي الله عنه أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل ؟ والليل إذا جاء أين يكون النهار ؟ فقال اليهودي : إنه لمثلها في التوراة فقال له صاحبه : لم أخبرته ؟ دعه إنه بكل موقن .

قال القاضي أبو محمد : فهذه الآثار كلها هي في طريق واحد ، من أن قدرة الله تتسع لهذا كله وخص العرض بالذكر لأنه يدل متى ذكر على الطول ، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض ، بل قد يكون الطويل يسير العرض كالخيط ونحوه ، ومن ذلك قول العرب بلاد عريضة ، وفلاة عريضة ، وقال قوم : قوله تعالى : { عرضها السماوات والأرض } معناه : كعرض السماوات والأرض ، كما هي طباقاً ، لا بأن تقرن كبسط الثياب ، فالجنة في السماء ، وعرضها كعرضها وعرض ما وراءها من الأرضين إلى السابعة ، وهذه الدلالة على العظم أغنت عن ذكر الطول ، وقال قوم : الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة ، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى ، حسنت العبارة عنها بعرضها السماوات والأرض ، كما تقول لرجل : هذا بحر ، ولشخص كبير من الحيوان : هذا جبل ، ولم تقصد الآية تحديد العرض .

قال القاضي أبو محمد : وجلب مكي هذا القول غير ملخص ، وأدخل حجة عليه قول العرب : أرض عريضة وليس قولهم ، أرض عريضة ، مثل قوله : { عرضها السماوات والأرض } إلا في دلالة ذكر العرض على الطول فقط ، وكذلك فعل النقاش وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفارين يوم أحد : لقد ذهبتم فيها عريضة{[3535]} ، وقال ابن فورك : الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال : إن الجنة لم تخلق بعد ، وكذلك النار ، وهو قول ضعيف ، وجمهور العلماء على أنهما قد خلقتا ، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله ، { أعدت للمتقين } و { أعدت للكافرين }{[3536]} وغير ذلك ، وهو نص في الأحاديث كحديث الإسراء{[3537]} وغيره ، مما يقتضي أن ثم جنة قد خلقت ، وأما من يقول : يزاد فيهما فلا ترد عليه الأحاديث ، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر ، و { أعدت } معناه : يسرت وانتظروا بها .


[3520]:- [ويسارعون في الخيرات] من الآية (114) من سورة آل عمران، ومن الآية (61) من سورة المؤمنون، [ونسارع لهم في الخيرات] من الآية (57) من سورة المؤمنون.
[3521]:- من الآية (148) من سورة البقرة، ومن الآية (48) من سورة المائدة.
[3522]:من الآية (28) من سورة لقمان.
[3523]:- البيت لذي الخرق الطهوي يخاطب ذئبا تبعه في طريقه. وبُغام الناقة بالضم: صوت لا تفصح به. والعناق: بالفتح الأنثى من المعز. وويب: بمعنى: ويل. "اللسان".
[3524]:- البيت نسبه في اللسان للنابغة، ونسبه ابن بري لشقيق بن جزء بن رباح الباهلي، والغدير: الحال. وسلي: اسم موضع بالأهواز كثير الثمر. والنعام: طائر من فصيلة النعاميات يقال فيه: إنه مركب من خلقة الطير وخلقة الجمل، ومؤنثة نعامة. قاق النعام: صوّت. والقفار: جمع القفر الخالي من البناء والشجر والساكن. يريد: كأن حالهم في الهزيمة حال نعام تغدو مذعورة.
[3525]:- أخرجه الطبراني-عن عبد الله بن سلام بلفظ: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ما بين المصراعين في الجنة أربعون عاما، وليأتين يوم يزاحم عليه كازدحام الإبل وردت لخمس ظماء). "مجمع الزوائد. (10/ 397) والحديث متعدد الروايات والطرق. والخمص: جمع خميص من خمص إذا جاع. والظماء: جمع ظمآن من ظمئ مثقل عطش وزنا ومعنى.
[3526]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم، والبخاري، والترمذي عن أنس. (الجامع الصغير1/311).
[3527]:- أخرجه ابن جرير، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي ذر. (فتح القدير للشوكاني 1/245).
[3528]:- هكذا ورد في جمع النسخ: وكذا في "تفسير القرطبي"، أما بقية كتب التفاسير الموجودة بأيدينا فقد ورد فيها: يعلى بن مرة بإسقاط (أبي)، ولعله الصواب، بدليل أن ابن جرير روى حديثا عن يعلى بن مرة عن التنوخي، وهو نفس السند الذي رواه به ابن عطية. وهو يعلى بن مرة الثقفي أبو المرازم من أفاضل الصحابة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وروى عنه ابناه، وراشد بن سعد، وآخرون. قال ابن سعد: أمره صلى الله عليه وسلم بأن يقطع أعناب ثقيف فقطعها (الإصابة 3/669).
[3529]:- التنوخي بفتح المثناة الفوقية وضم النون المخففة وخاء معجمة نسبة إلى تنوخ، وهو اسم لعدة قبائل اجتمعوا قديما بالبحرين، وتحالفوا على التناصر، وهي إحدى القبائل الثلاث التي هي مسكن نصارى العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب والتنوخي هذا لما حضر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليه الإسلام فأجاب بأنه رسول قوم، وعلى دين قوم لا يرجع عنه حتى يرجع، فقال صلى الله عليه وسلم: إنك تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. (مجمع الزوائد 8/235).
[3530]:- هرقل: هو إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية بالقسطنطينية، حكم من سنة: 610 إلى سنة 641، في مدته افتتح أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد كثيرا من بلاد سوريا، وهزموا جيوشا رومية عديدة، وفتحوا مصر ودمشق. (دائرة المعارف لوجدي 10/492).
[3531]:- فند، الفند: الخرف وإنكار العقل من الهرم أو المرض، وقد يستعمل في غير الكبر. (اللسان).
[3532]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن التنوخي وهو حديث صحيح، (الجامع الصغير. 2/14). كما أخرجه ابن جرير في تفسيره: 4/92 عن يعلى بن مرة عن التنوخي).
[3533]:- هو قيس بن مسلم الجدلي العدواني أبو عمر الكوفي، من قيس علان، روى عن طارق بن شهاب، والحسن بن محمد بن الحنفية، ومجاهد وعبد الرحمان بن أبي ليلى، وغيرهم، وروى عنه الأعمش، وشعبة، والثوري، ومسعر، ومالك بن مغول، وآخرون، ثقة، وكان مرجئا (تهذيب التهذيب 8/403).
[3534]:- هو طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي، أبو عبد الله، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنه مرسلا، وعن الخلفاء الأربعة وغيرهم، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وقيس بن مسلم وجماعة، توفي سنة 82هـ. "تهذيب التهذيب. 5/3" و"الإصابة".
[3535]:- أخرجه ابن جرير في التفسير والتاريخ، وابن إسحاق في السيرة، وذكره ابن الأثير في النهاية في مادة: عرض.
[3536]:- [أعدت للكافرين] تكررت في الآيتين (131) من سورة (آل عمران) و(24) من سورة (البقرة).
[3537]:- أخرجه مسلم في باب الإيمان 1/102 كما أخرجه غيره من المحدثين.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

{ سارعوا إلى مغرفة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض } .

قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { سارعوا } دون واو عطف .

تتنزل جملة { سارعوا . . } منزلة البيان ، أو بدل الاشتمال ، لجملة { وأطيعوا الله والرسول } لأن طاعة الله والرسول مسارعة إلى المغفرة والجنة فلذلك فصلت . ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنة يؤول إلى الأمر بالأعمال الصالحة ، جاز عطف الجملة على جملة الأمر بالطاعة ، فلذلك قرأ بقية العشرة وسارعوا بالعطف . وفي هذه الآية ما ينبأنا بأنه يجوز الفصل في بعض الجمل باعتبارين .

والسرعة المشتق منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والقبور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة ، ويجوز أن تكون السرعة حقيقة ، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند التنفير كقوله في الحديث وإذا استنفرتم فانفروا .

والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة ، وأسباب دخول الجنة ، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات .

وجيء بصيغة المفاعلة ، مجرد عن المعنى حصول الفعل من جانبين ، قصد المبالغة في طلب الإسراع ، والعرب تأتي بما يدل على الوضع على تكرر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير ، ونظيره التثنية في قولهم : لبيك وسعديك ، وقوله تعالى { ثم ارجع البصر كرتين } .

وتنكير { مغفرة } ووصلها بقوله { من ربكم } مع تأتي الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربكم ، لقصد الدلالة على التعظيم ، ووصف الجنة بان عرضها السماوات والأرض على طريقة التشبيه البليغ ، بدليل التصريح بحرف التشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد . والعرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول ، وليس هو المراد هنا ، ويطلق على الاتساع لأن الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق ، وهذا كقول العديل :

ودون يد الحجاج من أن تنالني *** بساط بأيدي الناعجات عريض

وذكر السماوات والأرض على طريقة العرب في تمثيل شدة الاتساع . وليس المراد حقيقة عرض السماوات والأرض ليوافق قول الجمهور من علمائنا بأن الجنة مخلوق الآن ، وأنها في السماء ، وقيل : هو عرضها حقيقة ، وهي مخلوقة الآن لكنها أكبر من السماوات وهي فوق السماوات تحت العرش ، وقد روي : العرش سقف الجنة . وأما من قال : إن الجنة لن تخلق الآن وستخلق يوم القيامة ، وهو قول المعتزلة وبعض أهل السنة منهم منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي الظاهري ، فيجوز عندهم أن تكون كعرض السماوات والأرض بأن تخلق في سعة الفضاء الذي كان يملؤه السماوات والأرض أو في سعة فضاء أعظم من ذلك . وأدلة الكتاب والسنة ظاهرة في أن الجنة مخلوقة ، وفي حديث رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله إن جبريل وميكال قالا له : ارفع رأسك ، فرفع فإذا فوقه مثل السحاب ، قالا : هذا منزلك ، قال : فقلت : وعامي أدخل منزلي ، قالا : إنه بقي لك لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك .

{ أعدت للمتقين }

وأعقب وصف الجنَّة بذكر أهلها لأنّ ذلك ممَّا يزيد التَّنويه به ، ولم يزل العقلاء يتخيّرون حسن الجوار كما قال أبو تمام :

مَنْ مُبْلِغُ أفْنَاءَ يعرُب كلّها *** أني بَنيت الجارَ قبل المنزلِ

وجملةُ { أعدّت للمتّقين } استئناف بياني لأنّ ذكر الجنَّة عقب ذكر النَّار الموصوفة بأنَّها أعدّت للكافرين يثير في نفوس السامعين أن يتعرّفوا مَن الذين أعدّت لهم : فإن أريد بالمتَّقين أكمل ما يتحقّق فيه التَّقوى ، فإعدادها لهم لأنَّهم أهلها فضلاً من الله تعالى الّذين لا يلجون النار أصلاً عدلاً من الله تعالى فيكون مقابلَ قوله : { واتقوا النار التي أُعدت للكافرين } [ آل عمران : 131 ] ، ويكون عصاة المؤمنين غير التَّائبين قد أخذوا بحظّ من الدارين ، لمشابهة حالهم حالَ الفريقين عدلاً من الله وفضلاً ، وبمقدار الاقتراب من أحدهما يكون الأخذ بنصيب منه ، وأريد المتّقون في الجملة فالإعداد لهم باعتبار أنَّهم مقدّرون من أهلها في العاقبة .

وقد أجرى على المتَّقين صفات ثناءٍ وتنويه ، هي ليست جماع التَّقوى ، ولكن اجتماعها في محلّها مؤذن بأنّ ذلك المحلّ الموصوف بها قد استكمل ما به التقوى ، وتلك هي مقاومة الشحّ المُطاع ، والهوَى المتَّبع .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم رغبهم، فقال سبحانه: {وسارعوا} بالأعمال الصالحة {إلى مغفرة} لذنوبكم {من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض}، يقول: عرض الجنة كعرض سبع سماوات وسبع أرضين جميعا لو ألصق بعضها إلى بعض، {أعدت للمتقين}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله: {وَسَارِعُوا} وبادروا وسابقوا إلى مغفرة من ربكم، يعني: إلى ما يستر عليكم ذنوبكم من رحمته، وما يغطيها عليكم من عفوه عن عقوبتكم عليها {وَجنّةِ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ} يعنى سارعوا أيضا إلى جنة عرضها السموات والأرض، ذكر أن معنى ذلك: وجنة عرضها كعرض السموات السبع، والأرضين السبع، إذا ضمّ بعضها إلى بعض... وإنما قيل: {وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ} فوصف عرضها بالسموات والأرضين، والمعنى ما وصفنا من وصف عرضها بعرض السموات والأرض، تشبيها به في السعة والعظم، كما قيل: {مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني إلا كبعث نفس واحدة...

وأما قوله: {أُعِدّتْ للْمُتّقِينَ} فإنه يعني: إن الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرضين السبع أعدها الله للمتقين، الذين اتقوا الله، فأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم، فلم يتعدّوا حدوده، ولم يقصروا في واجب حقه عليهم فيضيعوه...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

يقال: إنما خصّ العرض بالذكر دونِ الطول لأنه يدل على أن الطول أعظم، ولو ذكر الطول لم يقم مقامه في الدلالة على العِظَمِ...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

في هذه الآية، الأمر بالمبادرة إلى مغفرة الله باجتناب معصيته وإلى الجنة التي عرضها السماوات والأرض بفعل طاعته... وفيمن تكلم في أصول الفقه من استدل بقوله:"وسارعوا إلى مغفرة" على أن الامر يقتضي الفور دون التراخي، لأنه تعالى أمر بالمسارعة والمبادرة إلى مغفرة وذلك يقتضي التعجيل. ومن خالف في تلك، قال: المسارعة إلى ما يقتضي الغفران واجبة وهي التوبة، ووجوبها على الفور. فمن أين أن جميع المأمورات كذلك.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

معنى المسارعة إلى المغفرة والجنة: الإقبال على ما يستحقان به {عَرْضُهَا السماوات والأرض} [الحديد: 1] أي عرضها عرض السموات والأرض، كقوله: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} والمراد وصفها بالسعة والبسطة، فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

المسارعة: المبادرة، وهي مفاعلة، إذ الناس كأن كل واحد يسرع ليصل قبل غيره، فبينهم في ذلك مفاعلة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} وقوله {إلى مغفرة} معناه: سارعوا بالتقوى والطاعة والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر الله لكم فيها، أي يستر ذنوبكم بعفوه عنها وإزالة حكمها، ويدخلكم جنة...

وأما معنى قوله تعالى: {عرضها السماوات والأرض}... قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذه مخلوقات أعظم بكثير جداً من السماوات والأرض، وقدرة الله تعالى أعظم من ذلك كله... وخص العرض بالذكر لأنه يدل متى ذكر على الطول، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض، بل قد يكون الطويل يسير العرض كالخيط ونحوه... وقال قوم: قوله تعالى: {عرضها السماوات والأرض} معناه: كعرض السماوات والأرض، كما هي طباقاً، لا بأن تقرن كبسط الثياب، فالجنة في السماء، وعرضها كعرضها وعرض ما وراءها من الأرضين إلى السابعة، وهذه الدلالة على العظم أغنت عن ذكر الطول...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

في الصحيح: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنى ويتمنى حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى: لك ذلك وعشرة أمثاله) رواه أبو سعيد الخدري، خرجه مسلم وغيره...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

ثم نَدَبهم إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات والمسارعة إلى نَيْل القُرُبات، فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} أي: كما أعدّت النار للكافرين. وقد قيل: إن معنى قوله: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} تنبيها على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] أي: فما ظنك بالظهائر؟ وقيل: بل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، والشيء المُقَبَّب والمستدير عَرْضُه كطوله. وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح: "إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الجنة فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ".

وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} الآية [رقم21].

وقد روينا في مسند الإمام أحمد: أنّ هِرَقْل كَتَبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك دَعَوْتني إلى جنة عَرْضُها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللهِ! فأين الليل إذَا جَاءَ النَّهَارُ؟".

وقد رواه ابنُ جرير فقال: حدثني يونس، أنبأنا ابنُ وَهْب، أخبرني مسلم بن خالد، عن أبي خُثَيم، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى بن مُرَّة قال: لَقِيت التَّنوخي رَسُولَ هِرَقْل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحِمْص، شيخا كبيرا فَسَدَ، قال: قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هِرَقْل، فنَاول الصحيفة رَجُلا عن يساره. قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية. فإذا كتاب صاحبي: "إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين، فأين النار؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سُبْحَانَ الله! فأيْنَ اللَّيْلُ إذَا جَاءَ النَّهَارُ؟"...

وهذا يحتمل معنيين:

أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك: أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل، وهذا أظهر...

الثاني: أن يكون المعنى: أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليّين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله، عز وجل: {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} [الحديد: 21] والنار في أسفل سافلين. فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض، وبين وجود النار، والله أعلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما نهى عما منع النصر بالنهي عن الربا، المراد بالنهي عنه الصرف عن مطلق الإقبال على الدنيا، المشار إلى ذمها في قوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران: 14]، وأمر بما تضمن الفوز والنجاة والقرب، وكان ذلك قد يكون مع التواني أمر بالمسارعة فيه توصلاً إلى ما أعد للذين اتقوا الموعودين بالنصر المشروط بتقواهم وصبرهم في قوله: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم} [آل عمران: 125]، {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} [آل عمران: 120] الموصوفين بما تقدم في قوله تعالى في المقصد الثالث من دعائم هذه السورة {قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا} [آل عمران: 15]، على وجه أبلغ من ذلك بالمسارعة إلى ما يوجب المغفرة من الرب اللطيف بعباده، وإلى ما يبيح الجنة الموصوفة بالاجتهاد في الجهاد على يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقوى، فإن هذه الجنة أعدت للمتقين الذين تقدمت الإشارة إليهم في قوله تعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: 130] الذين يتخلون عن الأموال وجميع مصانع الدنيا فلا تمتد أعينهم إلى الازدياد من شيء منها ويتحلون بالزهد فيها والإنفاق لها في سبيل الله في مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهاد وغيره في السراء والضراء، لا بالإقبال على الدنيا من غنيمة أو غيرها إقبالاً يخلّ ببعض الأوامر، وبالصبر بكظم الغيظ عمن أصيب منهم بقتل او جراحة، والعفو عمن يحسن العفو عنه في التمثيل بالقتل في أحد أو غير ذلك إرشاداً إلى أن لا يكون جهادهم إلا غضباً لله تعالى، لا مدخل فيه لحظ من حظوظ النفس أصلاً، وبالصبر أيضاً على حمل النفس على الإحسان إلى من أساء بذلك أو غيره كما فعل صلى الله عليه وسلم في فتح مكة بعد أن كان حلف ليمثلن بسبعين منهم مكان تمثيلهم بسيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله عمه حمزة ابن ساقي الحجيج عبد المطلب، فإنه وقف صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الذي كان أعظم أيام الدنيا الذي أثبت فيه نور الإسلام عل مشرق الأرض ومغربها، فهزم ظلام الكفر وضرب أوتاده في كل قطر على درج الكعبة وهم في قبضته فقال:"ما تظنون إني فاعل بكم يا معشر قريش؟ قالوا: خيراً! أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وبالاستغفار عن عمل الفاحشة من خذلان المؤمنين أو أكل الربا أو التولي عن قتال الأعداء، وعن ظلم النفس من محبة الدنيا الموجب للإقبال على الغنائم التي كانت سبب الانهزام أو غير ذلك مما أراد الله تعالى فقال تعالى: {وسارعوا} أي بأن تفعلوا في الطاعات فعل من يسابق خصماً {إلى مغفرة من ربكم} أي المحسن إليكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب بعمل ما يوجبها من التوبة والإخلاص وكل ما يزيل العقاب {وجنة} أي عظيمة جداً بعمل كل ما يحصل الثواب، ثم بين عظمها بقوله: {عرضها السماوات والأرض} أي كعرضهما، فكيف بطولها، ويحتمل أن يكون كطولهما، فهي أبلغ من آية الحديد -كما يأتي لما يأتي، وعلى قراءة {سارعوا} بحذف الواو يكون التقدير: سارعوا بفعل ما تقدم، فهو في معناه، لا مغائر له. ولما وصف الجنة بين أهلها بقوله: {أعدت} أي الآن وفرغ منها {للمتقين} وهم الذين صارت التقوى شعارهم، فاستقاموا واستمروا على الاستقامة...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

تقديمُ المغفرةِ على الجنة لما أن التخليةَ متقدِّمةٌ على التحلية ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لمغفرة أي كائنةٍ من ربكم. والتعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين لإظهار مزيدِ اللطفِ بهم...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} أي هيئت للمطيعين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإنما أضيفت إليهم للإيذان بأنهم المقصودون بالذات وإن دخول غيرهم كعصاة المؤمنين والأطفال والمجانين بطريق التبع وإذا حملت التقوى في غير هذا الموضع، وأما فيه فبعيد على التقوى عن الشرك لا ما يعمه وسائر المحرمات لم نستغن عن هذا القول أيضاً لأن المجانين مثلاً لا يتصفون بالتقوى حقيقة ولو كانت عن الشرك كما لا يخفى. وجوز أن يكون هناك جنات متفاوتة، وأن هذه الجنة للمتقين الموصوفين بهذه الصفات لا يشاركهم فيها غيرهم لا بالذات ولا بالتبع...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ثم ذكر جزاء المتقين بعد الأمر المؤكد باتقاء النار اتباعا للوعيد بالوعد وقرنا للترهيب بالترغيب كما هي سنته فقال: {وسارعوا إلى مغفرة ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} المسارعة إلى المغفرة والجنة هي المبادرة إلى أسبابها وما يعد الإنسان لنيلها من التوبة عن الإثم كالربا والإقبال على البر كالصدقة. وقرأ نافع وابن عامر "سارعوا "بغير واو. والمراد بكون عرض الجنة كعرض السماوات والأرض المبالغة في وصفها بالسعة والبسطة تشبيها لا بأوسع ما علمه الناس وخص العرض بالذكر لأنه يكون عادة أقل من الطول.

وقال البيضاوي: إن هذا الوصف على طريقة التمثيل. وقال في قوله "أعدت للمتقين ": هيئت لهم. وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة وأنها خارجة عن هذا العالم. ا ه وهو ما احتج به الأشاعرة على من قال من المعتزلة إنها ليست بمخلوقة الآن كما في كتب العقائد. قال الأستاذ الإمام: وقد اختلفوا في الجنة هل هي موجودة بالفعل أم توجد بعد في الآخرة، ولا معنى لهذا الخلاف ولا هو مما يصح التفرق واختلاف المذاهب فيه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين: الذين ينفقون في السراء والضراء. والكاظمين الغيظ. والعافين عن الناس. والله يحب المحسنين. والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله، فاستغفروا لذنوبهم -ومن يغفر الذنوب إلا الله؟- ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون..)

والتعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية حركية.. يصوره سباقا إلى هدف أو جائزة تنال: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم).. (وجنة عرضها السماوات والأرض).. سارعوا فهي هناك: المغفرة والجنة.. (أعدت للمتقين)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

السرعة المشتق منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والقبور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة، ويجوز أن تكون السرعة حقيقة، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند التنفير كقوله في الحديث وإذا استنفرتم فانفروا. والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة، وأسباب دخول الجنة، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات. وجيء بصيغة المفاعلة، مجرد عن المعنى حصول الفعل من جانبين، قصد المبالغة في طلب الإسراع، والعرب تأتي بما يدل على الوضع على تكرر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير، ونظيره التثنية في قولهم: لبيك وسعديك، وقوله تعالى {ثم ارجع البصر كرتين}. وتنكير {مغفرة} ووصلها بقوله {من ربكم} مع تأتي الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربكم، لقصد الدلالة على التعظيم، ووصف الجنة بان عرضها السماوات والأرض على طريقة التشبيه البليغ، بدليل التصريح بحرف التشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد. والعرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول، وليس هو المراد هنا، ويطلق على الاتساع لأن الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق...

{أعدت للمتقين} وأعقب وصف الجنَّة بذكر أهلها لأنّ ذلك ممَّا يزيد التَّنويه به، ولم يزل العقلاء يتخيّرون حسن الجوار... وجملةُ {أعدّت للمتّقين} استئناف بياني لأنّ ذكر الجنَّة عقب ذكر النَّار الموصوفة بأنَّها أعدّت للكافرين يثير في نفوس السامعين أن يتعرّفوا مَن الذين أعدّت لهم: فإن أريد بالمتَّقين أكمل ما يتحقّق فيه التَّقوى، فإعدادها لهم لأنَّهم أهلها فضلاً من الله تعالى الّذين لا يلجون النار أصلاً عدلاً من الله تعالى فيكون مقابلَ قوله: {واتقوا النار التي أُعدت للكافرين} [آل عمران: 131]، ويكون عصاة المؤمنين غير التَّائبين قد أخذوا بحظّ من الدارين، لمشابهة حالهم حالَ الفريقين عدلاً من الله وفضلاً، وبمقدار الاقتراب من أحدهما يكون الأخذ بنصيب منه، وأريد المتّقون في الجملة فالإعداد لهم باعتبار أنَّهم مقدّرون من أهلها في العاقبة. وقد أجرى على المتَّقين صفات ثناءٍ وتنويه، هي ليست جماع التَّقوى، ولكن اجتماعها في محلّها مؤذن بأنّ ذلك المحلّ الموصوف بها قد استكمل ما به التقوى، وتلك هي مقاومة الشحّ المُطاع، والهوَى المتَّبع.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

لقد عظم سبحانه وتعالى شأن المغفرة التي ينبغي طلبها والاتجاه إليها؛ فذكر بأنها تجيئ من ربكم الذي خلقكم ونماكم ورعاكم، فهي مغفرة تعلو بعلو مصدرها، وهي الأمان والاعتصام. ويلاحظ أن القرآن يعدي المسارعة في الخير ب"إلى"، والمسارعة في الشر ب "في"، فيقول سبحانه: {يسارعون في الكفر}، ويقول هنا: {وسارعوا إلى مغفرة}؛ لأن المسارعة في الكفر تنقل في براثنه فهم في قبته المظلمة التي تحيط بهم يتنقلون بالضلال في أرجائها، وهم في مرتبة واحدة، أما المسارعة إلى الخير، فإنها انتقال من رتبة إلى رتبة، ومن مقام صالح إلى مقام أصلح منه. {وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} هذا عطف على مغفرة، وفيها إشارة إلى أن مغفرة الله سبحانه تطلب وحدها؛ لأن فيها طلب رضا الله تعالى، ورضا الله تعالى أكبر غايات المتقين، ولذا قال تعالى في جزاء المتقين: {ورضوان من الله اكبر.72} [التوبة]. فأكابر المتقين يطلبون رضا الله لذاته لا خوفا من ناره ولا طمعا في جناته. فالمطلوب الأكبر هو المغفرة، والمطلب الذي يليه هو "جنة عرضها السموات والأرض "وهو ما يطلبه الذين دون الصديقين والشهداء...

[قوله]: {أعدت للمتقين} أي هيئت ووضعت للمتقين، وهم الذين جعلوا بينهم وبين الشر وقاية، أي جعلوا أنفسهم في حصن، فلا مدخل للشيطان إليها، ولا سارب له في قلوبهم، وصار ذلك شانا من شئونهم حتى كان وصفا وحالا دائمة مستمرة لهم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

إن الحق يقول: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: خذوا المغفرة وخذوا الجنة بسرعة، لأنك لا تعرف كم ستبقى في الدنيا، إياك أن تؤجل عملاً من أعمال الدين أو عملا من أعمال الخير؛ لأنك لا تعرف أتبقى له أم لا. فانتهز فرصة حياتك وخذ المغفرة وخذ الجنة...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(وسارعوا) تعني تسابق اثنين أو أكثر للوصول إلى هدف معين فيحاول كلّ واحد باستخدام المزيد من السرعة أن يسبق صاحبه ومنافسه وهو أمر مندوب في الأعمال والأخلاق الصالحة، ومقبوح مذموم في الأفعال السيئة والأخلاق القبيحة. إن القرآن الكريم يستفيد هنا في الحقيقة من نقطة نفسية هي أن الإنسان لا يؤدي عمله بسرعة فائقة إذا كان بمفرده، وكان العمل من النوع الروتيني، أما إذا اتخذ العمل طابع المسابقة والتنافس الذي يستعقب جائزة قيمة ومكافأة ثمينة نجده يستخدم كلّ طاقاته، ويزيد من سرعته لبلوغ ذلك الهدف، ونيل تلك الجائزة. ثمّ إذا كان الهدف المجعول في هذه الآية هو «المغفرة» في الدرجة الأُولى فلأن الوصول إلى أي مقام معنوي لا يتأتى بدون المغفرة والتطهر من أدران الذنوب، فلابدّ إذن من تطهير النفس من الذنوب أولاً، ثمّ الدخول في رحاب القرب الإلهي، ونيل الزلفى لديه. هذا هو الهدف الأول. وأما الهدف الثاني لهذا السباق المعنوي العظيم فهو «الجنة» التي يصرح القرآن الكريم أن سعتها سعة السماوات والأرض (وجنة عرضها السماوات والأرض)...