وقوله - عز وجل - { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } تنزيه له - تعالى - عن الشبيه والنظير والمماثل .
والكفؤ : هو المكافئ والمماثل والمشابه لغيره في العمل أو في القدرة .
أى : ولم يكن أحد من خلقه مكافئاً ولا مشاكلا ولا مناظرا له - تعالى - في ذاته ، أو صفاته ، أو أفعاله ، فهو كما قال - تعالى - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } ، وبذلك نرى أن هذه السورة الكريمة قد تضمنت نفي الشرك بجميع ألوانه .
فقد نفى - سبحانه - عن ذاته التعددد بقوله : { الله أَحَدٌ } ، ونفى عن ذاته النقص والاحتياج بقوله : { الله الصمد } ، ونفى عن ذاته أن يكون والدا أو مولودا بقوله : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } ، ونفى عن نفسه الأنداد والأشباه بقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } .
كما نراها قد تضمنت الرد على المشركين وأهل الكتاب ، وغيرهم من أصحاب الفرق الضالة ، الذين يقولون بالتثليث ، وبأن هناك آلهة أخرى تشارك الله - تعالى - فى ملكه ، وبغير ذلك من الأقاويل الفاسدة والعقائد الزائفة . . - سبحانه وتعالى - عما يقولون علوا كبيرا .
وقوله : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } أي : ليس له ولد ، ولا والد ، ولا صاحبة .
قال مجاهد : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } يعني : لا صاحبة له .
وهذا كما قال تعالى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 101 ] أي : هو مالك كل شيء وخالقه ، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه ، أو قريب يدانيه ، تعالى وتقدس وتنزه . قال الله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 -95 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 26 ، 27 ] ، وقال تعالى : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 158 ، 159 ] ، وفي الصحيح -صحيح البخاري- : " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم " {[30794]} .
وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله ، عز وجل : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يُعيدَني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته . وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدًا . وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد " .
ورواه أيضا من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبِّه ، عن أبي هريرة ، مرفوعًا بمثله . تفرد بهما من هذين الوجهين{[30795]}
وقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ } اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولم يكن له شبيه ولا مِثْل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قوله : { ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أحَدٌ } : لم يكن له شبيه ، ولا عِدْل ، وليس كمثله شيء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عمرو بن غَيلانَ الثقفيّ ، وكان أميرَ البصرة ، عن كعب ، قال : إن الله تعالى ذكره أسّس السموات السبع ، والأرضين السبع ، على هذه السورة { لَمْ يَلِدْ وَلمْ يُولَدْ ولمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أحَدٌ } وإن الله لم يكافئه أحد من خلقه .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس { ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أحَدٌ } قال : ليس كمثله شيء ، فسبحان الله الواحد القهّار .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن جُرَيج { ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا } : مثل .
وقال آخرون : معنى ذلك ، أنه لم يكن له صاحبة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن أبجر ، عن طلحة ، عن مجاهد ، قوله : { ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ } قال : صاحبة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن ابن أبجر ، عن طلحة ، عن مجاهد ، مثلَه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن عبد الملك ، عن طلحة ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبجر ، عن رجل عن مجاهد { ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أحَدٌ } قال : صاحبة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عبد الملك بن أبجر ، عن طلحة بن مصرّف ، عن مجاهد { ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ } قال : صاحبة .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن عبد الملك ، عن طلحة ، عن مجاهد ، مثله .
والكُفُؤْ والكفىء والكِفاء في كلام العرب واحد ، وهو المِثْل والشّبْه ، ومنه قول نابغة بني ذُبيان :
لا تَقْذِفَنّي برُكْنٍ لا كِفاءَ لَهُ *** وَلَوْ تأَثّفَكَ الأعْدَاءُ بالرّفَدِ
يعني : لا كفاء له : لا مثل له .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : كُفُوًا . فقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة : كُفُوًا بضم الكاف والفاء . وقرأه بعض قرّاء الكوفة بتسكين الفاء وهمزها «كُفْئا » .
والصواب من القول في ذلك : أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
{ ولم يكن له كفوا أحد } أي ولم يكن أحد يكافئه أو يماثله من صاحبة أو غيرها ، وكان أصله أن يؤخر الظرف ؛ لأنه صلة كفوا ، لكن لما كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدم تقديما للأهم ، ويجوز أن يكون حالا من المستكن في كفوا ، أو خبرا ، ويكون كفوا حالا من أحد ، ولعل ربط الجمل الثلاث بالعطف ؛ لأن المراد منها نفي أقسام المكافأة ، فهي كجملة واحدة منبهة عليها بالجمل ، وقرأ حمزة ويعقوب ونافع في رواية ( كفوا ) بالتخفيف ، وحفص ( كفوا ) بالحركة وقلب الهمزة واوا .
ولاشتمال هذه السورة مع قصرها على جميع المعارف الإلهية والرد على من ألحد فيها جاء في الحديث أنها تعدل ثلث القرآن ، فإن مقاصده محصورة في بيان العقائد والأحكام والقصص ، ومن عدلها بكله اعتبر المقصود بالذات من ذلك ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يقرؤها فقال : " وجبت " . قيل : يا رسول الله ، وما وجبت ؟ قال : " وجبت له الجنة " .
قوله تعالى : { ولم يكن له كفؤاً أحد } معناه : ليس له ضد ولا ند ولا شبيه ، والكفأ والكفؤ والكفاء النظير ، وقرأ «كُفؤاً » بضم الكاف وهمز مسهل نافع والأعرج وأبو جعفر وشيبة ، وقرأ بالهمز عاصم{[12027]} وأبو عمرو بخلاف عنه ، وقرأ حمزة : «كفْواً » بالهمز وإسكان الفاء ، وروي عن نافع «كفاً » بفتح الفاء ، وبغير همز . وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس : ( ولم يكن له كفاء ) بكسر الكاف وفتح الفاء والمد . و [ كفوا ] خبر [ كان ] ، واسمها [ أحد ] ، والظرف ملغى ، وسيبويه رحمه الله تعالى يستحسن أن يكون الظرف -إذا تقدم- خبرا ، ولكن قد يجيء ملغى في أماكن يقتضيها المعنى كهذه الآية ، وكما قال الشاعر –أنشده سيبويه- :
ما دام فيهن فصيل حيا{[12028]}
ويحتمل أن يكون [ كفوا ] حال لما تقدم من كونه وصفا للنكرة ، كما قال :
لعزة موحشا طلل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[12029]}
قال سيبويه : وهذا يقل في الكلام ، وبابه الشعر ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن " {[12030]} .