{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا { فِي السِّلْمِ كَافَّةً } أي : في جميع شرائع الدين ، ولا يتركوا منها شيئا ، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه ، إن وافق الأمر المشروع هواه فعله ، وإن خالفه ، تركه ، بل الواجب أن يكون الهوى ، تبعا للدين ، وأن يفعل كل ما يقدر عليه ، من أفعال الخير ، وما يعجز عنه ، يلتزمه وينويه ، فيدركه بنيته .
ولما كان الدخول في السلم كافة ، لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال : { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : في العمل بمعاصي الله { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } والعدو المبين ، لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء ، وما به الضرر عليكم .
وبعد أن عرض القرآن هذين النوعين اللذين نجدهما في كل زمان ومكان ، وجه نداء إلى المؤمنين دعاهم فيه إلى الاستجابة التامة لخالقهم فقال - تعالى - :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا . . . }
{ السلم } - بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام - بمعنى واحد ، ويطلقان على الإِسلام وعلى المسالمة - وبعضهم فرق بين اللفظين فجعل { السلم } بكسر السين - للإِسلام ، و { السلم } - بفتحها - للمسالمة ، وأنكر المبرد هذه التفرقة .
قال الفخر الرازي : وأصل هذه الكلمة من الانقياد . قال - تعالى - : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } والإِسلام إنما سمى إسلامها لهذا المعنى . وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب ، وهذا أيضاً راجع إلى هذا المعنى . لأن عند الصلح ينقاد كل واحد إلى صاحبه " .
و { كَآفَّةً } أي جميعاً ، وهي في الأصل صفة من كف بمعنى منع ، واستعملت بمعنى الجملة والجميع بعلاقة أنها مانعة من التفرق وهي حال من قوله : { السلم } أي : يأيها المؤمنون ادخلوا في الإِسلام والتزاموا بكل تعاليمه ، ونفذوا جميع أحكامه وآدابه ، واعملوا بكل أوامره ونواهيه ، ولا تكونوا ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض . فالمقصود التزام جميع شرائع الإِسلام وأحكامه وآدابه .
وبعضهم يرى أن قوله : { كَآفَّةً } حال من فاعل ادخلوا وهو ضمير الجماعة والمعنى عليه : ادخلوا في الإِسلام جميعاً ، وانقادوا لأحكامه مجتمعين غير متفرقين ، لأنه الدين الذي ألف الله به بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً .
وسواء أكان لفظ { كَآفَّةً } حالا من { السلم } أو من فاعل { ادخلوا } فالمقصود من الآية دعوة المؤمنون إلى التمسك بجميع شعب الإِسلام وشرائعه مع التزامهم برباط الإِخاء الذي ربط الله به بين قلوبهم بسبب اتباعهم لهذا الدين الحنيف .
وإذا كان المراد بكلمة { السلم } المسالمة والمصالحة كان المعنى : يأيها الذين آمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم فيما بينكم أن تكونوا متصالحين غير متعادين ، متحابين غير متباغضين ، متجمعين غير متفرقين ، كما أنه يوجب عليكم بالنسبة لغيركم ممن هو ليس على دينكم أن تسالموه متى سالمكم ، وأن تحابوه متى اعتدى عليكم ، فإن دينكم ما جاء للحرب والخصام وإنما جاء للهداية وللسلام العزيز القوي الذي يرد الاعتداء بمثله .
هذا هو المعنى الذي نراه ظاهراً في الآية ، وهو ما سار عليه المحققون من المفسرين .
وبعضهم ذكر أن الخطاب في الآية لمؤمني أهل الكتاب ، لما روى عن ابن عباس أنه قال : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام - فعظموا السبت وكرهوا لحم الإِبل وألبانها بعد أن أسلموا ، فأنكر عليهم المسلمون فقالوا ، إنا نقوى على هذا وهذا ؛ وقالوا النبي صلى الله عليه وسلم إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنعمل بها فأنزل الله هذه الآية . فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب .
وبعضهم ذكر أن المراد بالآية المنافقون والتقدير : يأيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإِسلام ولا تتبعوا خطوات الشيطان .
وهذان القولان ضعفهما ظاهر ، إذ لا سند لهما يعتمد عليه ، ولا يؤيدها سياق الآية الكريمة ، لأن الآية الكريمة صريحة في دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع تعاليم الإِسلام ، وإلى الإِخاء الجامع ونبذ التفرق والاختلاف والاعتداء .
وقوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تحذير لهم مما يصدهم عن الدخول في السلم .
أي : ادخلوا في السلم واحذورا أن تتبعوا مدارج الشيطان وطرقه إنه لكم عدو ظاهر العداوة بحيث لا تخفى عداوته على عاقل .
والخطوات . جمع خطوة - بفت الخاء وضمها - وهي ما بين قدمي من يخطو .
وفي قوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } إشعار بأن الشيطان كثيراً ما يجر الإِنسان إلى الشر خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردد ، وبذلك يكون ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله . والعاقل من الناس هو الذي يبتعد عن كل ما هو من نزغات الشيطان ووساوسه ، فإن صغير الذنوب قد يوصل إلى كبيرها ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } جملة تعليلية ، مؤكدة للنهي ومبينة لحكمته .
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدّقين برسوله : أنْ يأخذوا بجميع عُرَى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك .
قال العوفي ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، والضحاك ، وعكرمة ، وقتادة ، والسُّدّي ، وابن زيد ، في قوله : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني : الإسلام .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، وأبو العالية ، والربيعُ بن أنس : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني : الطاعة . وقال قتادة أيضًا : الموادعة .
وقوله : { كَافَّةً } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والربيع ، والسّدي ، ومقاتل بن حَيَّان ، وقتادة والضحاك : جميعًا ، وقال مجاهد : أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر .
وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم ، كعبد الله بن سلام ، وثعلبة وأسَد بن عُبَيد وطائفة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يُسْبتوا ، وأن يقوموا بالتوراة ليلا . فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها . وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر ، إذْ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت ، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه ، والتعويض عنه بأعياد الإسلام .
ومن المفسرين من يجعل قوله : { كَافَّةً } حالا من الداخلين ، أي : ادخلوا في الإسلام كلكم . والصحيح الأول ، وهو أنَّهم أمروا [ كلهم ]{[3718]} أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام ، وهي كثيرة جدًا ما استطاعوا منها . وقال{[3719]} ابن أبي حاتم : أخبرنا علي بن الحسين ، أخبرنا أحمد بن الصباح ، أخبرني الهيثم بن يمان ، حدثنا إسماعيل بن زكريا ، حدثني محمد بن عون ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } - كذا قرأها بالنصب - يعني مؤمني أهل الكتاب ، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمْر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم ، فقال الله : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا تَدَعَوا منها شيئًا وحسبكم بالإيمان بالتوراة وما فيها .
وقوله : { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : اعملوا الطاعات{[3720]} ، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان ف { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 169 ] ، و { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } قال مُطَرِّف : أغش عباد الله لعَبِيد الله الشيطان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.