تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ} (253)

ثم قال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }

يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس ، ودعائهم الخلق إلى الله ، ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام ، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام ، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره ، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه { وأيدناه بروح القدس } أي : بالإيمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر به ، وقيل أيده بجبريل عليه السلام يلازمه في أحواله { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات } الموجبة للاجتماع على الإيمان { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر } فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة ، ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا ، فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للأسباب ، وإنما تنفع الأسباب مع عدم معارضة المشيئة ، فإذا وجدت اضمحل كل سبب ، وزال كل موجب ، فلهذا قال { ولكن الله يفعل ما يريد } فإرادته غالبة ومشيئته نافذة ، وفي هذا ونحوه دلالة على أن الله تعالى لم يزل يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته ، ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستواء والنزول والأقوال ، والأفعال التي يعبرون عنها بالأفعال الاختيارية .

فائدة : كما يجب على المكلف معرفته بربه ، فيجب عليه معرفته برسله ، ما يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم ، ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة ، منها : أنهم رجال لا نساء ، من أهل القرى لا من أهل البوادي ، وأنهم مصطفون مختارون ، جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار ، وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية ، وأنهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف ، وأن الله تعالى خصهم بوحيه ، فلهذا وجب الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر ، ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله ، ودلائل هذه الجمل كثيرة ، من تدبر القرآن تبين له الحق .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ} (253)

قوله تعالى : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا . . . . }

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( 253 )

الإشارة بتلك في قوله : { تِلْكَ الرسل } إلى جماعة الرسل الذين تقدم ذكرهم في السورة والذين أرسلهم الله - تعالى - لهداية البشر ، وأمرنا - سبحانه - بالإِيمان بهم .

أي أولئك الرسل الذين أرسلناهم لهداية الناس { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } أي جعلنا لبعضهم مناقب وخصائص ومزايا لم تتوافر للبعض الآخر .

و { تِلْكَ } مبتدأ و { الرسل } عطف بيان لتلك . وجملة { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } هي الخبر . وكانت الإِشارة باللفظ الدال على البعيد ، لبيان سمو مكانة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأنهم هم المصطفون الأخيار .

ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر التفضيل فقال : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } أي منهم من فضله الله بتكليمه إياه كموسى - عليه السلام - فقد وردت آيات صريحة في ذلك ، منها قوله - تعالى - : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } وقوله - تعالى - : { قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } وقوله - تعالى - { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ثم قال - سبحانه - : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } أي : ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل مراتب سامية ومنازل عالية .

قيل كإبراهيم الذي اتخذه الله خليلا ، وإدريس الذي رفعه الله مكاناً علياً ، وداود الذي آتاه الله النبوة والملك .

والذي عليه المحققون من العلماء والمفسرين أن المقصود بقوله - تعالى - { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه هو صاحب الدرجات الرفيعة والمعجزة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة والرسالة العامة الناسخة لكل الرسالات قبلها .

وقد صرح صاحب الكشاف بذلك فقال : قوله { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } أي ومنهم من رفعه الله على سائر الأنبياء ، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة . الظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم ، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقبة إلى ألف آية أو أكثر . لو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات . وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى ، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه ، والمتميز الذي لا يلتبس . ويقال للرجل : من فعل هذا ؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعلا فيكون أفخم من التصريح ، وسئل الخطيئة عن أشعر الناس ، فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي أو يفخم أمره .

ثم قال - تعالى - : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } .

{ وَآتَيْنَا } : هي المعجزات الظاهرة البينة ، وروح القدس : هو جبريل - عليه السلام - والروح هنا بمعنى الملك الخاص . القدس أصل معناه الطهارة ، وهو يطلق على الطهارة المعنوية وعلى الخلوص والنزاهة . فإضافة روح إلى القدس من إضافة المصوف إلى الصفة . قيل القدس اسم الله كالقدوس فإضافة روح إضافة للتشريف أي روح من ملائكة الله .

والمعنى : وأعطينا عيسى بن مريم الآيات الباهرات ، والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وإخبار قومه بما يأكلونه ويدخرونه في بيتهم ، وفضلا عن هذا فقد قويناه بجبريل - عليه السلام - لأن عيسى - عليه السلام - قد عاش حياته محاربا من أعدائه الرومان ومن قومه الذين أرسل إليهم وهم بنو إسرائيل ولم يؤذن له بالقتال ليدافع عن نفسه بل تولى الله - تعالى - الدفاع عنه بجنده الذين من بينهم جبريل - عليه السلام - .

قال الزمخشري : " فإن قلت لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر ؟ قلت : لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات . لما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل . هذا دليل بين على أن من زيد تفضيلا بالآيات منها فقد فضل على غيره . ولما كا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها كان هو المشهود له إحراز قصبات الفضل غير مدافع " .

وقال الإِمام القرطبي ما ملخصه : هذه الآية نثبت التفاضل بين الأنبياء وهناك أحاديث تقول : " لا تخيروني على موسى " و " لا تخيروا بين الأنبياء " و " لا تفضلوا بين الأنبياء " أي لا تقولوا فلان خير من فلان ، ولا فلان أفضل من فلان فكيف الجمع ؟ فالجواب أن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل وقبل أن يعلم أنه سيد ولم آدم ، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل أو أن قوله هذا من باب الهضم والتواضع . أو المراد النهي عن الخوض في ذلك لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال والجدال قد يؤدي إلى أن يذكر بضعهم بما لا ينبغي أن يذكر به ، وقد يؤدي إلى قلة احترامهم . ثم قال . وأحسن من هذا القول من قال : إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل واحدة لا تفاضل فيها ، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات ، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل ، وإنما تتفاضل بأمور أخرى زائدة عليها ، ولذلك فهم رسل ، وأولو عزم ، ومنهم من كلمة الله . . فالقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل ، وأعطى من الوسائل .

وبذلك نكون قد جمعنا بين الآية والأحاديث من غير النسخ .

ثم قال - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } .

أي : ولو شاء الله - تعالى - ألا يقتتل الذين جاؤا بعد كل رسول من الرسول وبعد أن جاءهم الرسل بالبينات الدالة على الحق ، لو شاء الله ذلك لفعل ، ولكن الله - تعالى - لم يشأ ذلك ، لأنه خلق الناس مختلفين في تقبلهم للحق ، فترتب على هذا الاختلاف أن آمن بالحق الذي جاءت به الرسل من فتح له قلبه ، واته إليه اختياره ، وأن كفر به من آثر الضلالة على الهداية واستحب العمى على الهدى ، وترتب عليه - أيضاً أن تقاتل الناس وتحاربوا .

ومفعول المشيئة محذوف دل عليه جواب الشرط أي لو شاء الله ألا يقتتل الذين جاءوا من بعد الرسل ما اقتتلوا .

وقدم - سبحانه - المسبب وهو الاقتتال على السبب وهو الاختلاف كما يشهد له قوله : { ولكن اختلفوا . . . } للتنبيه على سوء مغبة الاختلاف ، وللتحذير من الوقوع فيه ، لأن وقوعهم فيه سيؤدي إلى أن يقتل بعضهم بعضاً ، وللإِشارة إلى أنه - سبحانه - قادر على إزالة الاقتتال في ذاته حتى مع وجود أسبابه ، لأنه - تعالى - هو الخالق للأسباب والمسببات .

وفي قوله : { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } إشارة إلأى ما جبلت عليه بعض النفوس من العناد الذي يؤدي إلى التنازع والاختلاف والتقاتل حتى بعد ظهور الحق ، وانكشاف وجه الصواب ، لأن هذه النفوس قد آثرت الهوى على الرشاد ، واتخذت طريق الغي طريقا لها . وفي قوله : { ولكن اختلفوا . . . } إشارة إلى أنه - سبحانه - لم يشأ أن يزيل القتال الذي حدث بين المقاتلين ، لأن هذا القتال قد نشأ بينهم بسبب اختلافهم ، وسوء اختيارهم ، وعدم استجابتهم للهدايات والتوجيهات والبينات التي جاءتهم بها الرسل - عليهم السلام - .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيد } أي : لو شاء الله عدم اقتتالهم لأي سبب من الأسباب لما اقتتلوا ، ولكنه - سبحانه - يفعل ما يريد حسب ما تقتضيه حكمته ، وترتضيه مشيئته ، فهو الكبير المتعال الذي كل شيء عنده بمقدار فالآية الكريمة تبين أن الرسل - عليهم السلام - يتفاضلون فيما بينهم ، وتنهى الناس في كل زمان ومكان عن الاختلاف والتنازع لأنهما يؤديان إلى أوخم العواقب ، وأسوأ النتائج .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ} (253)

يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } [ الإسراء : 55 ] وقال هاهنا : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } يعني : موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم وكذلك آدم ، كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السموات{[4264]} بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل .

فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه : لا والذي اصطفى موسى

على العالمين . فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي فقال : أي خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وسلم ! فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى على المسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟ فلا تفضلوني على الأنبياء " {[4265]} وفي رواية : " لا تفضلوا بين الأنبياء " .

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر .

الثاني : أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع .

الثالث : أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر .

الرابع : لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية .

الخامس : ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به .

وقوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } أي : الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به ، من أنه عبد الله ورسوله إليهم { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } يعني : أن الله أيده بجبريل عليه السلام ثم قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } أي : بل كل ذلك عن قضاء الله وقدره ؛ ولهذا قال : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }


[4264]:في جـ: "في السماء".
[4265]:صحيح البخاري برقم (3408) وصحيح مسلم برقم (2373).