ثم أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن لا يزال داعيا لهم إلى الله وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم صبرهم ، وتم يقينهم ، فهم أحق الخلق بالأسوة بهم والقفو لآثارهم والاهتداء بمنارهم .
فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله حتى رماه المعادون له عن قوس واحدة ، وقاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى الله وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يزل صادعا بأمر الله مقيما على جهاد أعداء الله صابرا على ما يناله من الأذى ، حتى مكن الله له في الأرض وأظهر دينه على سائر الأديان وأمته على الأمم ، فصلى الله عليه وسلم تسليما .
وقوله : { وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } أي : لهؤلاء المكذبين المستعجلين للعذاب فإن هذا من جهلهم وحمقهم فلا يستخفنك بجهلهم ولا يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو الله عليهم بذلك فإن كل ما هو آت قريب ، و { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا } في الدنيا { إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } فلا يحزنك تمتعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل .
{ بَلَاغٌ } أي : هذه الدنيا متاعها وشهوتها ولذاتها بلغة منغصة ودفع وقت حاضر قليل .
أو هذا القرآن العظيم الذي بينا لكم فيه البيان التام بلاغ لكم ، وزاد إلى الدار الآخرة ، ونعم الزاد والبلغة زاد يوصل إلى دار النعيم ويعصم من العذاب الأليم ، فهو أفضل زاد يتزوده الخلائق وأجل نعمة أنعم الله بها عليهم .
{ فَهَلْ يُهْلَكُ } بالعقوبات { إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الذين لا خير فيهم وقد خرجوا عن طاعة ربهم ولم يقبلوا الحق الذي جاءتهم به الرسل .
وأعذر الله لهم وأنذرهم فبعد ذلك إذ يستمرون على تكذيبهم وكفرهم نسأل الله العصمة .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على مكرهم فقال : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } . أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فاصبر على أذى قومك ، كما صبر إخوانك أولو العزم من الرسل ، أى : أصحاب الجد والثبات والصبر على الشدائد والبلاء . . وهم - على أشهر الأقوال - : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلوات الله عليهم جميعا - .
وقوله : { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } نهى منه - تعالى - لنبيه عن استعجال العذاب لهم . أى : ولا تستعجل لهم العذاب . فالمفعول محذوف للعلم به . . ثم بين - سبحانه ما يدعو إلى عدم الاستعجال فقال : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ . . } . أى : اصبر - ايها الرسول - على أذى قومك كما صبر إخوانك أولو العزم من الرسل . ولا تستعجل العذاب لهؤلاء الكافرين فإنه آتيهم لا ريب فيه ، وكأنهم عندما يرون هذا العذاب ويحل بهم ، لم يلبثوا فى الدنيا إلا وقتا قليلا وزمنا يسيرا ، لأن شدة هذا العذاب تنسيهم كل متع الدنيا وشهواتها .
وقوله - تعالى - : { بَلاَغٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى : هذا الذى أنذرتكم به ، أو هذا القرآن بلاغ كاف فى وعظكم وإنذاركم إذا تدبرتم فيه ، وتبليغ من الرسول - صلى الله عليه وسلم إليكم .
{ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } كلا ، إنه لا يهلك بعذاب الله - تعالى - إلا القوم الخارجون عن طاعته ، الواقعون فى معصيته فالاستفهام للنفى . .
وبعد فهذا تفسير لسورة " الأحقاف نسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده . والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات .
ثم قال تعالى آمرا رسوله{[26599]} صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه ، { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } أي : على تكذيب قومهم لهم . وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال ، وأشهرها أنهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وخاتم الأنبياء كلهم محمد صلى الله عليه وسلم ، قد نص الله على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من {[26600]} سُورَتَي " الأحزاب " و " الشورى " ، وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرّسُل ، وتكون { مِنَ } في قوله : { مِنَ الرُّسُلِ } لبيان الجنس ، والله أعلم . وقد قال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي ، حدثنا السري بن حَيَّان ، حدثنا عباد بن عباد ، حدثنا مجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت لي عائشة [ رضي الله عنها ] {[26601]} : ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ، ثم ظل صائما ثم طواه ، ثم ظل صائما ، [ ثم ] {[26602]} قال : " يا عائشة ، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد . يا عائشة ، إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم ، فقال : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وإني - والله - لأصبرن كما صبروا جَهدي ، ولا قوة إلا بالله " {[26603]}
{ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } أي : لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم ، كقوله : { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا } [ المزمل : 11 ] ، وكقوله { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [ الطارق : 17 ] .
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } ، كقوله { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] ، وكقوله { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [ يونس : 45 ] ، [ وحاصل ذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي البرزخ حين عاينوا يوم القيامة وشدائدها وطولها ]{[26604]} .
وقوله : { بَلاغٌ } قال ابن جرير : يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون تقديره : وذلك لَبثَ بلاغ . والآخر : أن يكون تقديره : هذا القرآن بلاغ .
وقوله : { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي : لا يهلك على الله إلا هالك ، وهذا من عدله تعالى أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.