ولهذا قال : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ } أي : وقوع ما أخبر به كما قال يوسف عليه السلام حين وقعت رؤياه : { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ }
{ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ } متندمين متأسفين على ما مضى منهم ، متشفعين في مغفرة ذنوبهم . مقرين بما أخبرت به الرسل : { قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ } إلى الدنيا { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } وقد فات الوقت عن الرجوع إلى الدنيا . { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }
وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ، ليعملوا غير عملهم كذب منهم ، مقصودهم به ، دفع ما حل بهم ، قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
{ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } حين فوتوها الأرباح ، وسلكوا بها سبيل الهلاك ، وليس ذلك كخسران الأموال والأثاث أو الأولاد ، إنما هذا خسران لا جبران لمصابه ، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } في الدنيا مما تمنيهم أنفسهم به ، ويعدهم به الشيطان ، قدموا على ما لم يكن لهم في حساب ، وتبين لهم باطلهم وضلالهم ، وصدق ما جاءتهم به الرسل
ثم بين - سبحانه - عاقبة هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن الذي أنزله الله هداية ورحمة فقال : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } .
النظر هنا بمعنى الانتظار والتوقع لا بمعنى الرؤية . فالمراد بينظرون : ينتظرون ويتوقعون ، وتأويل الشىء : مرجعه ومصيره الذي يئول إليه ذلك الشىء والاستفهام بمعنى النفى .
والمعنى : إن هؤلاء المشركين ليس أمامهم شىء ينتظرونه بعد أن أصروا على شركهم إلا ما يئول إليه أمر هذا الكتاب وما تتجلى عنه عاقبته ، من تبين صدقه ، وظهور صحة ما أخبر به من الوعد والوعيد والبعث والحساب ، وانتصار المؤمنين به واندحار المعرضين عنه .
فإن قيل : كيف ينتظرون ذلك مع كفرهم به ؟
فالجواب : أنهم قبل وقوع ما هو محقق الوقوع ، صاروا كالمنتظرين له ، لأن كل آت قريب ، فهم على شرف ملاقاة ما وعدوا به ، وسينزل بهم لا محالة .
ثم بين - سبحانه - حالهم يوم الحساب فقال : { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } .
أى : يوم يأتى يوم القيامة الذي أخبر عنه القرآن ، والذى يقف الناس فيه أمام خالقهم للحساب ، يقول هؤلاء الكافرون الذين جحدوا هذا اليوم عندما تكشف لهم الحقائق ، { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق } وتبين صدقهم ولكننا نحن الذين كذبناهم وسرنا في طريق الضلال ، { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } في هذه الساعة العصبية ويدفعوا عنا ما نحن فيه من كرب وبلاء ، أو نرد إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا غير الذي كنا نعمله من الجحود واللهو واللعب .
أى : أنه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين ، وهو أن يشفع لنا شفيع فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب ، أو يردنا الله إلى الدنيا حتى نعمل غير ما كنا نعمل .
فالجملة الكريمة تصور حسرتهم يوم القيامة تصويرا يهز المشاعر ، ويحمل العقلاء على الإيمان والعمل الصالح .
والاستفهام في قوله : { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ } للتمنى والتحسر ، ومن مزيدة للاستغراق والتأكيد وشفعاء مبتدأ مؤخر ولنا خبر مقدم .
ثم بين - سبحانه - نهايتهم فقال : { قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .
أى : قد خسر هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا أنفسهم ، بسبب إشراكهم بالله ، وذهب عنهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من أن أصنامهم ستشفع لهم يوم الجزاء ، وأيقنوا أنهم كانوا كاذبين في دعواهم .
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم رجع في التقديم إلى الذين جحدوا بالقرآن، فقال: {هل ينظرون}، يخوفهم، {إلا تأويله يوم يأتي تأويله}، يعني العاقبة، ما وعد الله في القرآن من الوعد والوعيد، والخير والشر، على ألسنة الرسل، {يقول الذين نسوه من قبل}، يعني يقول في الآخرة الذين تركوا الإيمان في الدنيا بالبعث، فإذا ذكروه وعاينوا قول الرسل، قالوا: {قد جاءت رسل ربنا بالحق}، بأن هذا اليوم كائن، وهو حق، {فهل لنا من شفعاء} من الملائكة والنبيين وغيرها، {فيشفعوا لنا أو نرد} إلى الدنيا، {فنعمل} من الخير {غير الذي كنا نعمل} من الشر، يعني الشرك والتكذيب، يقول الله: {قد خسروا أنفسهم}، يقول: قد غبنوا أنفسهم، فساروا إلى النار، {وضل عنهم} في الآخرة {ما كانوا يفترون} في الدنيا من التكذيب.
قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: تأويله: ثوابه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ": هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذّبون بآيات الله ويجحدون لقاءه، إلاّ تأويله؟ يقول: إلاّ ما يؤول إليه أمرهم من ورودهم على عذاب الله، وصليّهم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به. تَأْوِيلُهُ أي: ثوابه. تأويله: عاقبته.
وأما قوله: "يَوْمَ يَأْتي تَأْويلُهُ يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ "فإن معناه: يوم يجيء ما يؤول إليه أمرهم من عقاب الله، "يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ": أي يقول الذين ضيعوا وتركوا ما أمروا به من العمل المنجيهم مما آل إليه أمرهم يومئذٍ من العذاب من قبل ذلك في الدنيا: "لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ "أقسم المساكين حين عاينوا البلاء وحلّ بهم العقاب أنّ رسل الله التي أتتهم بالنذارة وبلغتهم عن الله الرسالة، قد كانت نصحت لهم وصَدَقتهم عن الله، وذلك حين لا ينفعهم التصديق ولا ينجيهم من سخط الله وأليم عقابه كثرة القيل والقال.
"فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أوْ نُرَدّ فَنَعْمَلَ غيرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ". وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم أنهم يقولون عند حلول سخط الله بهم وورودهم أليم عذابه ومعاينتهم تأويل ما كانت رسل الله تعدهم: هل لنا من أصدقاء وأولياء اليوم، فيشفعوا لنا عند ربنا، فتنجينا شفاعتهم عنده مما قد حلّ بنا من سوء فعالنا في الدنيا، أو نردّ إلى الدنيا مرّة أخرى، فنعمل فيها بما يرضيه ويعتبه من أنفسنا؟ قال: هذا القول المساكين هنالك، لأنهم كانوا عهدوا في الدنيا أنفسهم لها شفعاء تشفع لهم في حاجاتهم، فيذكروا ذلك في وقت لا خلة فيه لهم ولا شفاعة. يقول الله جلّ ثناؤه: "قَدْ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ" يقول: غبنوا أنفسهم حظوظها ببيعهم ما لا خطر له من نعيم الآخرة الدائم بالخسيس من عرض الدنيا الزائل، "وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ" يقول: وأسلمهم لعذاب الله، وحاد عنهم أولياؤهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، ويزعمون كذبا وافتراء أنهم أربابهم من دون الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي بطل {عنهم ما كانوا يفترون} أن {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] ويقولون: {ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] وغير ذلك من الافتراء، ذلك كله قد بطل عنهم، فبقوا حيارى، وانقطع رجاؤهم وأملهم الذي طمعوا. وقيل: {قد خسروا أنفسهم} من رحمة الله، وقيل: مما وعدوا لو أطاعوا، وقيل: أهلكوا...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" هل ينظرون "معناه: هل ينتظرون. لان النظر قد يكون بمعنى الانتظار، قال أبو علي: معناه هل ينتظر بهم أو هل ينتظر المؤمنون بهم إلا ذلك. وإنما أضافه إليهم مجازا، لأنهم كانوا جاحدين لذلك غير متوقعين، وإنما كان ينتظر بهم المؤمنون، لإيمانهم بذلك واعترافهم به. والانتظار هو الاقبال على ما يأتي بالتوقع له. وإنما قيل لهم: ينتظرون وإن كانوا جاحدين، لأنهم في منزلة المنتظر، أي كأنهم ينتظرون ذلك، لأنه يأتيهم لا محالة إتيان المنتظر...
"فهل لنا من شفعاء فيشفعوا" والشفيع هو السائل لصاحبه إسقاط العقاب عن المشفع فيه والعفو عن خطيئته، فيتمنون ذلك مع يأسهم منه. ومعناه فيشفعوا لنا إلا أن نرد،... "قد خسروا أنفسهم" أي أهلكوها بالكفر والمعاصي... ومعنى "خسروا أنفسهم" أي منعوا من الانتفاع بها، ومن منع الانتفاع بنفسه فقد خسرها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... قال ابن عباس: {تأويله} مآله يوم القيامة... والمراد هل ينتظر هؤلاء الكفار إلا مآل الحال في هذا الدين وما دعوا إليه وما صدروهم عنه وهم يعتقدون مآله جميلاً لهم؟ فأخبر الله عز وجل أن مآله يوم يأتي يقع معه ندمهم، ويقولون تأسفاً على ما فاتهم من الإيمان لقد صدقت الرسل وجاءوا بالحق فالتأويل على هذا مأخوذ من آل يؤول، وقال الخطابي: أولت الشيء رددته إلى أوله فاللفظة مأخوذة من الأول، حكاه النقاش... وقد قيل أولت معناه: طلبت أول الوجوه والمعاني...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما وصف الكتاب وذكر المنتفع به، تشوفت النفس إلى السؤال عن حال من لا يؤمن به وهم الجاحدون، فقال مشيراً إلى أن حالهم في وقوفهم عن المتابعة بعد العلم بصدقه بعجزهم عنه كحال من ينتظر أن يأتي مضمون وعيده: {هل ينظرون} أي ينتظرون، ولكنه لما لم يكن لهم قصد في ذلك بغير ما يفهمه الحال، جرد الفعل ولإفادة أنه بتحقيق إتيانه في غاية القرب حتى كأنه مشاهد لهم {إلا تأويله} أي تصيير ما فيه من وعد ووعيد إلى مقاره وعواقب أمره التي أخبر أنه يصير إليها...
ولما كان كأنه قيل: ما يكون حالهم حينئذ؟ قال: التحسر والإذعان حيث لا ينفع، والتصديق والإيمان حين لا يقبل، وعبر عن ذلك بقوله: {يوم يأتي تأويله} أي بلوغ وعيده إلى مبلغه في الدنيا أو في الآخرة؛ ولما قدم اليوم اهتماماً به، أتبعه العامل فيه فقال: {يقول الذين نسوه} أي تركوه ترك المنسي. "قد جاءت} أي فيما سبق من الدنيا {رسل ربنا} أي المحسن إلينا {بالحق} أي المطابق لهذا الواقع الذي نراه مما كانوا يتوعدوننا به، فما صدقوا حتى رأوا، فلم يؤمنوا بالغيب ولا أوقعوا الإيمان في دار العمل فلذا لم ينفعهم. ولما وصفوه سبحانه بالإحسان لما كشف الحال عنه من حلمه وطول أناته، سببوا عن ذلك قولهم: {فهل لنا من شفعاء} أي في هذا اليوم، وكأنهم جمعوا الشفعاء لدخولهم في جملة الناس في الشفاعة العظمى لفصل القضاء؛ ثم سببوا عن ذلك تحقيق كونهم لهم أي بالخصوص فقالوا {فيشفعوا لنا} أي سواء كانوا من شركائنا الذين كنا نتوهم فيهم النفع أو من غيرهم ليغفر لنا ما قدمنا من الجرائم {أو نرد} أي إن لم يغفر لنا إلى الدنيا التي هي دار العمل، والمعنى أنه لا سبيل لنا إلى الخلاص إلا أحد هذين السببين.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُه} أي ليس أمامهم شيء ينتظرونه في أمره إلا وقوع تأويله. وهو ما يؤول إليه ما أخبر به من أمر الغيب الذي يقع في المستقبل في الدنيا ثم في الآخرة. فالنظر هنا بمعنى الانتظار. وتأويل الكلام كتأويل الرؤيا هو عاقبتهما، والمآل الذي يتحقق به المراد منهما، وتقدم في أول تفسير آل عمران تفصيل الكلام فيه. روي عن قتادة في تفسير {هل ينظرون إلا تأويله} قال عاقبته، وعن السدي قال عواقبه مثل وقعة بدر ويوم القيامة وما وعد فيه من موعد، وعن الربيع بن أنس قال: لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ... فجمع كلامه كل ما له مآل يُنتَظَر من أخبار القرآن الصادقة التي وعد وأوعد بها كلا من المؤمنين من نصر وثواب، والكافرين من خذلان وعقاب، وغير ذلك من أنباء الغيب.
{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْل} أي يوم يأتي كل تأويله ونهايته في يوم القيامة وتزول كل شبهة يقول الذين نسوه في الدنيا أي تركوه كالمنسي فلم يهتدوا به {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ} أي بالأمر الثابت المتحقق فتمارينا به وأعرضنا عنه حتى جاء وقت الجزاء عليه {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَل غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أي يتمنون أحد هذين الأمرين، فالاستفهام هنا للتمني ويحتمل أن يكون على أصله فيقع قبل دخول النار وبعد اليأس فيها من الشفعاء، حيث يقولون فيها كما في سورة الشعراء: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين} (الشعراء 100- 102) وقد تقدم في سورة الأنعام أنه يقال لهم: {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} (الأنعام 94) الآية وإنما يتمنون الشفعاء أي يتساءلون عنهم أولا لأن قاعدة الشرك الأساسية أن النجاة عند الله وكل ما يطلب منه إنما يكون بواسطة الشفعاء عنده. وعندما يتبين لهم الحق الذي جاءت به الرسل وهو أن النجاة والسعادة إنما تكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، ويعلمون هنالك أن الشفاعة لله وحده، فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} (الأنبياء 28) يتمنون لو يردون إلى الدنيا، فيعملوا فيها غير ما كانوا يعملون في حياتهم الأولى، لأجل أن يكونوا أهلا لمرضاته تعالى بأن يعملوا بما أمرتهم به رسله عليهم السلام. وقد تقدم في آيتي 27 و28 من سورة الأنعام تمنيهم لو يردون إلى الدنيا فيكونوا من المؤمنين، وأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
{قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون} هذا بيان ومن الله تعالى لحالهم وغاية تمنيهم يقول: قد خسروا أنفسهم في الدنيا بتدسيسها وتدنيسها بالشرك والمعاصي، وعدم تزكيتها بالتوحيد والفضائل والأعمال الصالحات، فلم يكن لها حظ في الآخرة، ويومئذ يضل ويغيب عنهم ما كانوا يفترون من خبر الشفعاء كقولهم في معبوداتهم {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (يونس 18) فلم يكن لهم من عوض عن أنفسهم. وقد تقدم تفسير خسران النفس في (س 6: 12 و20) وتفسير {وضل عنهم ما كانوا يفترون} في (6: 24) ونحوها: {وما نرى معكم شفعاءكم إلى قوله وضل عنكم ما كنتم تزعمون} (الأنعام 94).
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم كذب منهم، مقصودهم به دفع ما حل بهم، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} حين فوتوها الأرباح، وسلكوا بها سبيل الهلاك، وليس ذلك كخسران الأموال والأثاث أو الأولاد، إنما هذا خسران لا جبران لمصابه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. ومعنى {ينظرون} ينتظرون من النّظرة بمعنى الانتظار، والاستثناء من عموم الأشياء المنتظرات، والمراد المنتَظرات من هذا النّوع وهو الآيات، أي ما ينتظرون آية أعظم إلاّ تأويل الكتاب، أي إلاّ ظهور ما تَوَعدَّهم به، وإطلاق الانتظار هنا استعارة تهكميّة: شبه حال تمهّلهم إلى الوقت الذي سيحلّ عليهم فيه ما أوعدهم به القرآن بحال المنتظرين، وهم ليسوا بمنتظرين ذلك إذ هم جاحدون وقوعه...
... والخسارة مستعارة لعدم الانتفاع بما يرجى منه النّفع، وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} في سورة الأنعام، (12) وقوله: {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} في أوّل هذه السّورة (9). والمعنى: أنّ ما أقحموا فيه نفوسهم من الشّرك والتّكذيب قد تبيّن أنّه مفض بهم إلى تحقّق الوعيد فيهم، يوم يأتي تأويل ما توعّدهم به القرآن، فبذلك تحقّق أنّهم خسروا أنفسهم من الآن، وإن كانوا لا يشعرون.
وأما قوله: وضل عنهم ما كانوا يفترون} فالضّلال مستعار للعدم طريقة التّهكّم شبه عدم شفعائهم المزعومين بضلال الإبل عن أربابها تهكّماً عليهم، وهذا التّهكّم منظور فيه إلى محاكاة ظنّهم يوم القيامة المحكي عنهم في قوله قبل {قالوا ضلوا عنا} [الأعراف: 37].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
التأويل هو الحقيقة الواضحة... {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} وهو يوم القيامة الذي تظهر فيه القضايا على حقيقتها بشكل لا يسمح بأي التباسٍ أو اختلاف، {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ} وأهملوه، ولم يتعمقوا في معانيه، ولم يتحركوا في اتجاه تحويلها إلى برنامج عملي لحياتهم وحياة الناس من حولهم... وحاولوا بدلاً من ذلك أن يثيروا الغبار من حوله، ويشكّكوا فيه، وينسبوا آياته إلى البشر، ويعطوه صفة الأسطورة والخرافة، ويتهجّموا على الرسل الذين حملوه كرسالةٍ إلهيةٍ إلى الحياة من أجل تنظيمها، جهلاً منهم أو تجاهلاً واستكباراً...
أما قصة العودة إلى الدنيا، فقد عالجها القرآن أكثر من مرّةٍ، وأكَّد أنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه، لأن مثل هذا التمنّي يخضع لمشاعر اللحظة، فإذا انفصلوا عنها رجعوا إلى أوضاعهم السابقة...