ثم قال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس ، ودعائهم الخلق إلى الله ، ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام ، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام ، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره ، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه { وأيدناه بروح القدس } أي : بالإيمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر به ، وقيل أيده بجبريل عليه السلام يلازمه في أحواله { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات } الموجبة للاجتماع على الإيمان { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر } فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة ، ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا ، فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للأسباب ، وإنما تنفع الأسباب مع عدم معارضة المشيئة ، فإذا وجدت اضمحل كل سبب ، وزال كل موجب ، فلهذا قال { ولكن الله يفعل ما يريد } فإرادته غالبة ومشيئته نافذة ، وفي هذا ونحوه دلالة على أن الله تعالى لم يزل يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته ، ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستواء والنزول والأقوال ، والأفعال التي يعبرون عنها بالأفعال الاختيارية .
فائدة : كما يجب على المكلف معرفته بربه ، فيجب عليه معرفته برسله ، ما يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم ، ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة ، منها : أنهم رجال لا نساء ، من أهل القرى لا من أهل البوادي ، وأنهم مصطفون مختارون ، جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار ، وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية ، وأنهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف ، وأن الله تعالى خصهم بوحيه ، فلهذا وجب الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر ، ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله ، ودلائل هذه الجمل كثيرة ، من تدبر القرآن تبين له الحق .
قوله تعالى : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا . . . . }
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( 253 )
الإشارة بتلك في قوله : { تِلْكَ الرسل } إلى جماعة الرسل الذين تقدم ذكرهم في السورة والذين أرسلهم الله - تعالى - لهداية البشر ، وأمرنا - سبحانه - بالإِيمان بهم .
أي أولئك الرسل الذين أرسلناهم لهداية الناس { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } أي جعلنا لبعضهم مناقب وخصائص ومزايا لم تتوافر للبعض الآخر .
و { تِلْكَ } مبتدأ و { الرسل } عطف بيان لتلك . وجملة { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } هي الخبر . وكانت الإِشارة باللفظ الدال على البعيد ، لبيان سمو مكانة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأنهم هم المصطفون الأخيار .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر التفضيل فقال : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } أي منهم من فضله الله بتكليمه إياه كموسى - عليه السلام - فقد وردت آيات صريحة في ذلك ، منها قوله - تعالى - : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } وقوله - تعالى - : { قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } وقوله - تعالى - { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ثم قال - سبحانه - : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } أي : ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل مراتب سامية ومنازل عالية .
قيل كإبراهيم الذي اتخذه الله خليلا ، وإدريس الذي رفعه الله مكاناً علياً ، وداود الذي آتاه الله النبوة والملك .
والذي عليه المحققون من العلماء والمفسرين أن المقصود بقوله - تعالى - { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه هو صاحب الدرجات الرفيعة والمعجزة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة والرسالة العامة الناسخة لكل الرسالات قبلها .
وقد صرح صاحب الكشاف بذلك فقال : قوله { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } أي ومنهم من رفعه الله على سائر الأنبياء ، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة . الظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم ، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقبة إلى ألف آية أو أكثر . لو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات . وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى ، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه ، والمتميز الذي لا يلتبس . ويقال للرجل : من فعل هذا ؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعلا فيكون أفخم من التصريح ، وسئل الخطيئة عن أشعر الناس ، فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي أو يفخم أمره .
ثم قال - تعالى - : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } .
{ وَآتَيْنَا } : هي المعجزات الظاهرة البينة ، وروح القدس : هو جبريل - عليه السلام - والروح هنا بمعنى الملك الخاص . القدس أصل معناه الطهارة ، وهو يطلق على الطهارة المعنوية وعلى الخلوص والنزاهة . فإضافة روح إلى القدس من إضافة المصوف إلى الصفة . قيل القدس اسم الله كالقدوس فإضافة روح إضافة للتشريف أي روح من ملائكة الله .
والمعنى : وأعطينا عيسى بن مريم الآيات الباهرات ، والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وإخبار قومه بما يأكلونه ويدخرونه في بيتهم ، وفضلا عن هذا فقد قويناه بجبريل - عليه السلام - لأن عيسى - عليه السلام - قد عاش حياته محاربا من أعدائه الرومان ومن قومه الذين أرسل إليهم وهم بنو إسرائيل ولم يؤذن له بالقتال ليدافع عن نفسه بل تولى الله - تعالى - الدفاع عنه بجنده الذين من بينهم جبريل - عليه السلام - .
قال الزمخشري : " فإن قلت لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر ؟ قلت : لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات . لما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل . هذا دليل بين على أن من زيد تفضيلا بالآيات منها فقد فضل على غيره . ولما كا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها كان هو المشهود له إحراز قصبات الفضل غير مدافع " .
وقال الإِمام القرطبي ما ملخصه : هذه الآية نثبت التفاضل بين الأنبياء وهناك أحاديث تقول : " لا تخيروني على موسى " و " لا تخيروا بين الأنبياء " و " لا تفضلوا بين الأنبياء " أي لا تقولوا فلان خير من فلان ، ولا فلان أفضل من فلان فكيف الجمع ؟ فالجواب أن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل وقبل أن يعلم أنه سيد ولم آدم ، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل أو أن قوله هذا من باب الهضم والتواضع . أو المراد النهي عن الخوض في ذلك لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال والجدال قد يؤدي إلى أن يذكر بضعهم بما لا ينبغي أن يذكر به ، وقد يؤدي إلى قلة احترامهم . ثم قال . وأحسن من هذا القول من قال : إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل واحدة لا تفاضل فيها ، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات ، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل ، وإنما تتفاضل بأمور أخرى زائدة عليها ، ولذلك فهم رسل ، وأولو عزم ، ومنهم من كلمة الله . . فالقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل ، وأعطى من الوسائل .
وبذلك نكون قد جمعنا بين الآية والأحاديث من غير النسخ .
ثم قال - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } .
أي : ولو شاء الله - تعالى - ألا يقتتل الذين جاؤا بعد كل رسول من الرسول وبعد أن جاءهم الرسل بالبينات الدالة على الحق ، لو شاء الله ذلك لفعل ، ولكن الله - تعالى - لم يشأ ذلك ، لأنه خلق الناس مختلفين في تقبلهم للحق ، فترتب على هذا الاختلاف أن آمن بالحق الذي جاءت به الرسل من فتح له قلبه ، واته إليه اختياره ، وأن كفر به من آثر الضلالة على الهداية واستحب العمى على الهدى ، وترتب عليه - أيضاً أن تقاتل الناس وتحاربوا .
ومفعول المشيئة محذوف دل عليه جواب الشرط أي لو شاء الله ألا يقتتل الذين جاءوا من بعد الرسل ما اقتتلوا .
وقدم - سبحانه - المسبب وهو الاقتتال على السبب وهو الاختلاف كما يشهد له قوله : { ولكن اختلفوا . . . } للتنبيه على سوء مغبة الاختلاف ، وللتحذير من الوقوع فيه ، لأن وقوعهم فيه سيؤدي إلى أن يقتل بعضهم بعضاً ، وللإِشارة إلى أنه - سبحانه - قادر على إزالة الاقتتال في ذاته حتى مع وجود أسبابه ، لأنه - تعالى - هو الخالق للأسباب والمسببات .
وفي قوله : { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } إشارة إلأى ما جبلت عليه بعض النفوس من العناد الذي يؤدي إلى التنازع والاختلاف والتقاتل حتى بعد ظهور الحق ، وانكشاف وجه الصواب ، لأن هذه النفوس قد آثرت الهوى على الرشاد ، واتخذت طريق الغي طريقا لها . وفي قوله : { ولكن اختلفوا . . . } إشارة إلى أنه - سبحانه - لم يشأ أن يزيل القتال الذي حدث بين المقاتلين ، لأن هذا القتال قد نشأ بينهم بسبب اختلافهم ، وسوء اختيارهم ، وعدم استجابتهم للهدايات والتوجيهات والبينات التي جاءتهم بها الرسل - عليهم السلام - .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيد } أي : لو شاء الله عدم اقتتالهم لأي سبب من الأسباب لما اقتتلوا ، ولكنه - سبحانه - يفعل ما يريد حسب ما تقتضيه حكمته ، وترتضيه مشيئته ، فهو الكبير المتعال الذي كل شيء عنده بمقدار فالآية الكريمة تبين أن الرسل - عليهم السلام - يتفاضلون فيما بينهم ، وتنهى الناس في كل زمان ومكان عن الاختلاف والتنازع لأنهما يؤديان إلى أوخم العواقب ، وأسوأ النتائج .
أول ما يواجهنا في هذا الدرس هو ذلك التعبير الخاص عن الرسل :
لم يقل : هؤلاء الرسل . إنما استهل الحديث عنهم بهذا التعبير الخاص ، الذي يشتمل على إيحاء قوي واضح . يحسن أن نقول عنه كلمة قبل المضي في مواجهة نصوص الدرس كله .
إنهم جماعة خاصة . ذات طبيعة خاصة . وإن كانوا بشرا من البشر . . فمن هم ؟ ما الرسالة ؟ ما طبيعتها ؟ كيف تتم ؟ لماذا كان هؤلاء وحدهم رسلا ؟ وبماذا ؟
أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب ! إن حسي ليفعم بمشاعر ومعان لا أجد لها كفاء من العبارات ! ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعاني بالعبارات !
إن لهذا الوجود الذي نعيش فيه ، والذي نحن قطعة منه ؛ سننا أصيلة يقوم عليها . هذه السنن هي القوانين الكونية التي أودعها الله هذا الكون ليسير عل وفقها ، ويتحرك بموجبها ، ويعمل بمقتضاها .
والإنسان يكشف عن أطراف من هذه القوانين كلما ارتقى في سلم المعرفة . يكشف عنها - أو يكشف له عنها - بمقدار يناسب إدراكه المحدود ، المعطى له بالقدر الذي يلزم لنهوضه بمهمة الخلافة في الأرض ، في أمد محدود .
ويعتمد الإنسان في معرفة هذه الأطراف من القوانين الكونية على وسيلتين أساسيتين - بالقياس إليه - هما الملاحظة والتجربة . وهما وسيلتان جزئيتان في طبيعتهما ، وغير نهائيتين ولا مطلقتين في نتائجهما . ولكنهما تقودان أحيانا إلى أطراف من القوانين الكلية في آماد متطاولة من الزمان . . ثم يظل هذا الكشف جزئيا غير نهائي ولا مطلق ؛ لأن سر التناسق بين تلك القوانين كلها . سر الناموس الذي ينسق بين القوانين جميعها . هذا السر يظل خافيا ، لا تهتدي إليه الملاحظة الجزئية النسبية ، مهما طالت الآماد . . إن الزمن ليس هو العنصر النهائي في هذا المجال . إنما هو الحد المقدور للإنسان ذاته ، بحكم تكوينه ، وبحكم دوره في الوجود . وهو دور جزئي ونسبي . ثم تجيء كذلك نسبية الزمن الممنوح للجنس البشري كله على وجه الأرض وهو بدوره جزئي ومحدود . . ومن ثم تبقى جميع وسائل المعرفة ، وجميع النتائج التي يصل إليها البشر عن طريق هذه الوسائل ، محصورة في تلك الدائرة الجزئية النسبية .
هنا يجيء دور الرسالة . دور الطبيعة الخاصة التي آتاها الله الاستعداد اللدني لتتجاوب في اعماقها - بطريقة ما نزال نجهل طبيعتها وإن كنا ندرك آثارها - مع ذلك الناموس الكلي ، الذي يقوم عليه الوجود . .
هذه الطبيعة الخاصة هي التي تتلقى الوحي ؛ فتطيق تلقيه ، لأنها مهيأة لاستقباله . . إنها تتلقى الإشارة الإلهية التي يتلقاها هذا الوجود ؛ لأنها متصلة اتصالا مباشرا بالناموس الكوني الذي يصرف هذا الوجود . . كيف تتلقى هذه الإشارة ؟ وبأي جهاز تستقبلها ؟ نحن في حاجة - لكي نجيب - أن تكون لنا نحن هذه الطبيعة التي يهبها الله للمختارين من عباده ! و ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) . . وهي أمر عظيم أعظم من كل ما يخطر على البال من عظائم الأسرار في هذا الوجود .
كل الرسل قد أدركوا حقيقة " التوحيد " وكلهم بعثوا بها . ذلك أن إيقاع الناموس الواحد في كيانهم كله ، هداهم إلى مصدره الواحد الذي لا يتعدد - لا يتعدد وإلا لتعددت النواميس وتعدد إيقاعها الذي يتلقونه - وكان هذا الإدراك في فجر البشرية ، قبل أن تنمو المعرفة الخارجية ، المبنية على الملاحظة والتجربة ، وقبل أن تتكشف بعض القوانين الكونية ، التي تشير إلى تلك الوحدة .
وكلهم دعا إلى عبادة الله الواحد . . دعا إلى هذه الحقيقة التي تلقاها وأمر أن يبلغها . . وكان إدراكهم لها هو المنطق الفطري الناشيء من إيقاع الناموس الواحد في الفطرة الواصلة . كما كان نهوضهم لتبليغها هو النتيجة الطبيعية لإيمانهم المطلق بكونها الحقيقة ؛ وبكونها صادرة إليهم من الله الواحد ، الذي لا يمكن - وفق الإيقاع القوي الصادق الملزم الذي تلقته فطرتهم - أن يتعدد !
وهذا الإلزام الملح الذي تستشعره فطرة الرسل يبدو أحيانا في كلمات الرسل التي يحكيها عنهم هذا القرآن ، أو التي يصفهم بها في بعض الأحيان .
نجده مثلا في حكاية قول نوح - عليه السلام - لقومه : قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله . وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ، ولكني أراكم قوما تجهلون . ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ؟ أفلا تذكرون ؟ . .
ونجده في حكاية قول صالح - عليه السلام - ( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير ) . .
ونجده في سيرة إبراهيم - عليه السلام - : ( وحاجه قومه . قال : أتحاجوني في الله وقد هدان ؟ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا . وسع ربي كل شيء علما . أفلا تتذكرون ؟ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ؟ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ؟ ) . . .
ونجده في قصة شعيب - عليه السلام - : ( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت . وما توفيقي إلا بالله . عليه توكلت وإليه أنيب ) . .
نجدها في قول يعقوب - عليه السلام - لبنيه : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) . .
وهكذا وهكذا نجد في أقوال الرسل وأوصافهم أثر ذلك الإيقاع العميق الملح على فطرتهم ، والذي تشيكلماتهم بما يجدونه منه في أعماق الضمير !
ويوما بعد يوم تكشفت للمعرفة الإنسانية الخارجية ظواهر تشير من بعيد إلى قانون الوحدة في هذا الوجود . واطلع العلماء من البشر على ظاهرة وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون العريض . وتكشف - في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم - أن الذرة هي أساس البناء الكوني كله ، وأن الذرة طاقة . . فالتقت المادة بالقوة في هذا الكون ممثلة في الذرة . وانتفت الثنائية التي تراءت طويلا . وإذا المادة - وهي مجموعة من الذرات - هي طاقة حين تتحطم هذه الذرات ، فتتحول إلى طاقة من الطاقات ! . . وتكشف كذلك - في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم - أن الذرة في حركة مستمرة من داخلها . وإنها مؤلفة من الكترونات - أو كهارب - تدور في فلك حول النواة أو النويات وهي قلب الذرة . وأن هذه الحركة مستمرة ومطردة في كل ذرة . وأن كل ذرة - كما قال فريد الدين العطار - شمس تدور حولها كواكب كشمسنا هذه وكواكبها التي ما تني تدور حولها باستمرار !
وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون هما الظاهرتان اللتان اهتدى اليهما الإنسان . . وهما إشارتان من بعيد إلى قانون الوحدة الشامل الكبير . وقد بلغت اليهما المعرفة البشرية بمقدار ما تطيق الملاحظة والتجربة البشرية أن تبلغ . . أما الطبائع الخاصة الموهوبة ، فقد أدركت القانون الشامل الكبير كله في لمحة ؛ لأنها تتلقى إيقاعه المباشر ، وتطيق وحدها تلقيه .
إنهم لم يجمعوا الشواهد والظواهر على تلك الوحدة عن طريق التجارب العلمية . ولكن لأنهم وهبوا جهاز استقبال كاملا مباشرا ، استقبلوا إيقاع الناموس الواحد استقبالا داخليا مباشرا ؛ فأدركوا إدراكا مباشرا أن الإيقاع الواحد لا بد منبعث عن ناموس واحد ، صادر من مصدر واحد . وكان هذا الجهاز اللدني في تلك الطبائع الخاصة الموهوبة أدق وأشمل وأكمل ، لأنه أدرك في لمسة واحدة ما وراء وحدة الإيقاع من وحدة المصدر ، ووحدة الإرادة والفاعلية في هذا الوجود . فقرر - في إيمان - وحدة الذات الإلهية المصرفة لهذا الوجود .
وما أسوق هذا الكلام لأن العلم الحديث يرى أنه قد أدرك ظاهرة أو ظاهرتين من ظواهر الوحدة الكونية . فالعلم يثبت أو ينفي في ميدانه . وكل ما يصل إليه من " الحقائق " نسبي جزئي مقيد ؛ فهو لا يملك أن يصل أبدا إلى حقيقة واحدة نهائية مطلقة . فضلا على أن نظريات العلم قلب ، يكذب بعضها بعضا ، ويعدل بعضها بعضا .
وما ذكرت شيئا عن وحدة التكوين ووحدة الحركة لأقرن اليهما صدق الاستقبال لوحدة الناموس في حس الرسل . . كلا . . إنما قصدت إلى أمر آخر . قصدت إلى تحديد مصدر التلقي المعتمد لتكوين التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود .
إن الكشف العلمي ربما يكون قد اهتدى إلى بعض الظواهر الكونية المتعلقة بحقيقة الوحدة الكبرى . . هذه الوحدة التي لمست حس الرسل من قبل في محيطها الواسع الشامل المباشر . والتي أدركتها الفطرة اللدنية إدراكا كاملا شاملا مباشرا . وهذه الفطرة صادقة بذاتها - سواء اهتدت نظريات العلم الحديث إلى بعض الظواهر أو لم تهتد - فنظريات العلم موضع بحث ومراجعة من العلم ذاته . وهي ليست ثابتة أولا . ثم أنها ليست نهائية ولا مطلقة أخيرا . فلا تصلح إذن أن تقاس بها صحة الرسالة . فالمقياس لا بد أن يكون ثابتا وأن يكون مطلقا . ومن هنا تكون الرسالة هي المقياس الثابت المطلق الوحيد .
وينشأ عن هذه الحقيقة حقيقة أخرى ذات أهمية قصوى . .
إن هذه الطبائع الخاصة الموصولة بناموس الوجود صلة مباشرة ، هي التي تملك أن ترسم للبشرية اتجاهها الشامل . اتجاهها الذي يتسق مع فطرة الكون وقوانينه الثابتة وناموسه المطرد . هي التي تتلقى مباشرة وحي الله . فلا تخطىء ولا تضل ، ولا تكذب ولا تكتم . ولا تحجبها عوامل الزمان والمكان عن الحقيقة ؛ لأنها تتلقى هذه الحقيقة عن الله ، الذي لا زمان عنده ولا مكان .
ولقد شاءت الإرادة العليا أن تبعث بالرسل بين الحين والحين ، لتصل البشرية بالحقيقة المطلقة ، التي ما كانت ملاحظتهم وتجربتهم لتبلغ إلى طرف منها إلا بعد مئات القرون . وما كانت لتبلغ إليها كلها أبدا على مدار القرون . وقيمة هذا الاتصال هي استقامة خطاهم مع خطى الكون ؛ واستقامة حركاتهم مع حركة الكون ؛ واستقامة فطرتهم مع فطرة الكون .
ومن ثم كان هنالك مصدر واحد يتلقى منه البشر التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني . ولغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني . ومن هذا التصور يمكن أن ينبثق المنهج الوحيد الصحيح القويم ، الذي يتطابق مع حقيقة تصميم الكون وحقيقة حركته ، وحقيقة اتجاهه . ويدخل به الناس في السلم كافة . السلم مع هذا الكون ، والسلم مع فطرتهم وهي من فطرة هذا الكون ، والسلم مع بعضهم البعض في سعيهم ونشاطهم ونموهم ورقيهم المهيأ لهم في هذه الحياة الدنيا .
مصدر واحد هو مصدر الرسالات ، وما عداه ضلال وباطل ، لأنه لا يتلقى عن ذلك المصدر الوحيد الواصل الموصول .
إن وسائل المعرفة الأخرى المتاحة للإنسان ، معطاة له بقدر . ليكشف بها بعض ظواهر الكون وبعض قوانينه وبعض طاقاته . بالقدر اللازم له في النهوض بعبء الخلافة في الأرض ، وتنمية الحياة وتطويرها . وقد يصل في هذا المجال إلى آماد بعيدة جدا . ولكن هذه الآماد لا تبلغ به أبدا إلى محيط الحقيقة المطلقة التي هو في حاجة إليها ليكيف حياته - لا وفق الأحوال والظروف الطارئة المتجددة فحسب ، ولكن وفق القوانين الكونية الثابتة المطردة التي قام عليها الوجود ، ووفق الغاية الكبرى للوجود الإنساني كله . هذه الغاية التي يراها خالق الإنسان المتعالي عن ملابسات الزمان والمكان . ولا يراها الإنسان المحدود المتأثر بملابسات الزمان والمكان .
إن الذي يضع خطة الرحلة للطريق كله ، هو الذي يدرك الطريق كله . والإنسان محجوب عن رؤية هذا الطريق . بل هو محجوب عن اللحظة التالية . ودونه ودونها ستر مسبل لا يباح لبشر أن يطلع وراءه ! فأنى للإنسان أن يضع الخطة لقطع الطريق المجهول ؟ !
إنه إما الخبط والضلال والشرود . وإما العودة إلى المنهج المستمد من خالق الوجود . منهج الرسالات . ومنهج الرسل . ومنهج الفطر الموصولة بالوجود وخالق الوجود .
ولقد مضت الرسالات واحدة إثر واحدة ، تأخذ بيد البشرية وتمضي بها صعدا في الطريق على هدى وعلى نور . والبشرية تشرد من هنا وتشرد من هناك ؛ وتحيد عن النهج ، وتغفل حداء الرائد ؛ وتنحرف فترة ريثما يبعث إليها رائد جديد .
وفي كل مرة تتكشف لها الحقيقة الواحدة في صور مترقية ؛ تناسب تجاربها المتجددة حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة كان عهد الرشد العقلي قد أشرق . فجاءت الرسالة الأخيرة تخاطب العقل البشري بكليات الحقيقةكلها ؛ لتتابع البشرية خطواتها في ظل تلك الخطوط النهائية العريضة . وكانت خطوط الحقيقة الكبرى من الوضوح بحيث لا تحتاج بعد إلى رسالة جديدة . ويحسبها المفسرون المجددون على مدار القرون .
وبعد فإما أن تسير البشرية داخل هذا النطاق الشامل الذي يسعها دائما ، ويسع نشاطها المتجدد المترقي ، ويصلها بالحقيقة المطلقة التي لا تصل إليها عن أي طريق آخر . وإما أن تشرد وتضل وتذهب بددا في التيه ! بعيدا عن معالم الطريق !
( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض . منهم من كلم الله . ورفع بعضهم درجات . وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس . ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات . ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر . ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) . .
هذه الآية تلخص قصة الرسل والرسالات - كما أنها أفردت جماعة الرسل وميزتها من بين الناس - فهي تقرر أن الله فضل بعض الرسل على بعض ؛ وتذكر بعض أمارات التفضيل ومظاهره . ثم تشير إلى اختلاف الذين جاءوا من بعدهم من الأجيال المتعاقبة - من بعد ما جاءتهم البينات - وإلى اقتتالهم بسبب هذا الاختلاف . كما تقرر أن بعضهم آمن وبعضهم كفر . وأن الله قد قدر أن يقع بينهم القتال لدفع الكفر بالإيمان ، ودفع الشر بالخير . . وهذه الحقائق الكثيرة التي تشير إليها هذه الآية تمثل قصة الرسالة وتاريخها الطويل .
( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) . .
والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول . والذي تشمله دعوته ونشاطه . كأن يكون رسول قبيلة ، أو رسول أمة ، أو رسول جيل . أو رسول الأمم كافة في جميع الأجيال . . كذلك يتعلق بالمزايا التي يوهبها لشخصه أو لأمته . كما يتعلق بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الإنسانية والكونية . .
وقد ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى - عليهما السلام - وأشار إشارة عامة إلى من سواهما :
( منهم من كلم الله - ورفع بعضهم درجات - وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ) . .
وحين يذكر تكليم الله لأحد من الرسل ينصرف الذهن إلى موسى - عليه السلام - ومن ثم لم يذكره باسمه . وذكر عيسى بن مريم - عليه السلام - وهكذا يرد اسمه منسوبا إلى أمه في أغلب المواضع القرآنية . والحكمة في هذا واضحة . فقد نزل القرآن وهناك حشد من الأساطير الشائعة حول عيسى - عليه السلام - وبنوته لله - سبحانه وتعالى - أو عن ازدواج طبيعته من اللاهوت والناسوت . أو عن تفرده بطبيعة إلهية ذابت فيها الطبيعة الناسوتية كالقطرة في الكأس ! إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي غرقت الكنائس والمجامع في الجدل حولها ؛ وجرت حولها الدماء أنهارا في الدولة الرومانية ! ومن ثم كان هذا التوكيد الدائم على بشرية عيسى - عليه السلام - وذكره في معظم المواضع منسوبا إلى أمه مريم . . أما روح القدس فالقرآن يعني به جبريل - عليه السلام - فهو حامل الوحي إلى الرسل . وهذا أعظم تأييد وأكبره . وهو الذي ينقل الإشارة الإلهية إلى الرسل بانتدابهم لهذا الدور الفذ العظيم ، وهو الذي يثبتهم على المضي في الطريق الشاق الطويل ؛ وهو الذي يتنزل عليهم بالسكينة والتثبيت والنصر في مواقع الهول والشدة في ثنايا الطريق . . وهذا كله التأييد أما البينات التي آتاها الله عيسى - عليه السلام - فتشمل الإنجيل الذي نزله عليه ، كما تشمل الخوارق التي أجراها على يديه ، والتي وردذكرها مفصلة في مواضعها المناسبة من القرآن . تصديقا لرسالته في مواجهة بني إسرائيل المعاندين !
ولم يذكر النص هنا محمدا [ ص ] لأن الخطاب موجه إليه . كما جاء في الآية السابقة في السياق : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين . . تلك الرسل . . إلخ . فالسياق سياق إخبار له عن غيره من الرسل .
وحين ننظر إلى مقامات الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - من أية ناحية نجد محمدا [ ص ] في القمة العليا . وسواء نظرنا إلى الأمر من ناحية شمول الرسالة وكليتها ، أو من ناحية محيطها وامتدادها ، فإن النتيجة لا تتغير . .
إن الإسلام هو أكمل تصور لحقيقة الوحدة - وهي أضخم الحقائق على الإطلاق - وحدة الخالق الذي ليس كمثله شيء . ووحدة الإرادة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة : ( كن ) . ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإرادة . ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود . ووحدة الحياة من الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق . ووحدة البشرية من آدم - عليه السلام - إلى آخر أبنائه في الأرض . ووحدة الدين الصادر من الله الواحد إلى البشرية الواحدة . ووحدة جماعة الرسل المبلغة لهذه الدعوة . ووحدة الأمة المؤمنة التي لبت هذه الدعوة . ووحدة النشاط البشري المتجه إلى الله وإعطائه كله اسم " العبادة " . ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء . ووحدة المنهج الذي شرعه الله للناس فلا يقبل منهم سواه . ووحدة المصدر الذي يتلقون عنه تصوراتهم كلها ومنهجهم في الحياة . . .
ومحمد [ ص ] هو الذي أطاقت روحه التجاوب المطلق مع حقيقة الوحدة الكبرى ؛ كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها ؛ كما أطاق كيانه تمثيل هذه الوحدة في حياته الواقعة المعروضة للناس .
كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة ، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ؛ والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة ، ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني .
ومن ثم كان هو خاتم الرسل . وكانت رسالته خاتمة الرسالات . ومن ثم انقطع الوحي بعده ؛ وارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى ؛ وأعلن المنهج الواسع الشامل الذي يسع نشاط البشرية المقبل في إطاره ؛ ولم تعد إلا التفصيلات والتفسيرات التي يستقل بها العقل البشري - في حدود المنهج الرباني - ولا تستدعي رسالة إلهية جديدة .
وقد علم الله - سبحانه - وهو الذي خلق البشر ؛ وهو الذي يعلم ما هم ومن هم ؛ ويعلم ما كان من أمرهم وما هو كائن . . قد علم الله - سبحانه - أن هذه الرسالة الأخيرة ، وما ينبثق عنها من منهج للحياة شامل ، هي خير ما يكفل للحياة النمو والتجدد والانطلاق . فأيما إنسان زعم لنفسه أنه أعلم من الله بمصلحة عباده ؛ أو زعم أن هذا المنهج الرباني لم يعد يصلح للحياة المتجددة النامية في الأرض ؛ أو زعم أنه يملك ابتداع منهج أمثل من المنهج الذي أراده الله . . أيما إنسان زعم واحدة من هذه الدعاوى أو زعمها جميعا فقد كفر كفرا صراحا لا مراء فيه ؛ وأراد لنفسه وللبشرية شر ما يريده إنسان بنفسه وبالبشرية ؛ واختار لنفسه موقف العداء الصريح لله ، والعداء الصريح للبشرية التي رحمها الله بهذه الرسالة ، وأراد لها الخير بالمنهج الرباني المنبثق منهاليحكم الحياة البشرية إلى آخر الزمان .
وبعد فقد اقتتل اتباع ( تلك الرسل ) . ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم ، ووحدة الرسالة التي جاءوا بها كلهم . . لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف اتباع الرسل حتى ليقتتلون من خلاف :
( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم - من بعد ما جاءتهم البينات - ولكن اختلفوا : فمنهم من آمن ومنهم من كفر . ولو شاء الله ما اقتتلوا . ولكن الله يفعل ما يريد )
إن هذا الاقتتال لم يقع مخالفا لمشيئة الله . فما يمكن أن يقع في هذا الكون ما يخالف مشيئته - سبحانه - فمن مشيئته أن يكون هذا الكائن البشري كما هو . بتكوينه هذا واستعداداته للهدى وللضلال . وأن يكون موكولا إلى نفسه في اختيار طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال . ومن ثم فكل ما ينشأ عن هذا التكوين وإفرازاته واتجاهاته داخل في إطار المشيئة ؛ وواقع وفق هذه المشيئة .
كذلك فإن اختلاف الاستعدادات بين فرد وفرد من هذا الجنس سنة من سنن الخالق ، لتنويع الخلق - مع وحدة الأصل والنشأة - لتقابل هذه الاستعدادات المختلفة وظائف الخلافة المختلفة المتعددة المتنوعة . وما كان الله ليجعل الناس جميعا نسخا مكررة كأنما طبعت على ورق " الكربون " . . على حين أن الوظائف اللازمة للخلافة في الأرض وتنمية الحياة وتطويرها منوعة متباينة متعددة . . أما وقد مضت مشيئة الله بتنويع الوظائف فقد مضت كذلك بتنويع الاستعدادات . ليكون الاختلاف فيها وسيلة للتكامل . وكلف كل إنسان أن يتحرى لنفسه الهدى والرشاد والإيمان . وفيه الاستعداد الكامن لهذا ، وأمامه دلائل الهدى في الكون ، وعنده هدى الرسالات والرسل على مدار الزمان . وفي نطاق الهدى والإيمان يمكن أن يظل التنوع الخير الذي لا يحشر نماذج الناس كلهم في قالب جامد !
( ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) . .
وحين يصل الاختلاف إلى هذا المدى ، فيكون اختلاف كفر وإيمان ، يتعين القتال . يتعين لدفع الناس بعضهم ببعض . دفع الكفر بالإيمان . والضلال بالهدى ، والشر بالخير . فالأرض لا تصلح بالكفر والضلال والشر . ولا يكفي أن يقول قوم : إنهم اتباع أنبياء إذا وصل الاختلاف بينهم إلى حد الكفر والإيمان . وهذه هي الحالة التي كانت تواجهها الجماعة المسلمة في المدينة يوم نزل هذا النص . . كان المشركون في مكة يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ! وكان اليهود في المدينة يزعمون أنهم على دين موسى . كما كان النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى . . ولكن كل فرقة من هؤء كانت قد بعدت بعدا كبيرا عن أصل دينها ، وعن رسالة نبيها . وانحرفت إلى المدى الذي ينطبق عليه وصف الكفر . وكان المسلمون عند نزول هذا النص يقاتلون المشركين من العرب . كما كانوا على وشك أن يوجهوا إلى قتال الكفار من أهل الكتاب . ومن ثم جاء هذا النص يقرر أن الاقتتال بين المختلفين على العقيدة إلى هذا الحد ، هو من مشيئة الله وبإذنه :
( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) . .
ولكنه شاء . شاء ليدفع الكفر بالإيمان ؛ وليقر في الأرض حقيقة العقيدة الصحيحة الواحدة التي جاء بها الرسل جميعا ، فانحرف عنها المنحرفون . وقد علم الله أن الضلال لا يقف سلبيا جامدا ، إنما هو ذو طبيعة شريرة . فلا بد أن يعتدي ، ولا بد أن يحاول إضلال المهتدين ، ولا بد أن يريد العوج ويحارب الاستقامة . فلا بد من قتاله لتستقيم الأمور .
مشيئة مطلقة . ومعها القدرة الفاعلة . وقد قدر أن يكون الناس مختلفين في تكوينهم . وقدر أن يكونوا موكولين إلى أنفسهم في اختيار طريقهم . وقدر أن من لا يهتدي منهم يضل . وقدر أن الشر لا بد أن يعتدي ويريد العوج . وقدر أن يقع القتال بين الهدى والضلال . وقدر أن يجاهد أصحاب الإيمان لإقرار حقيقته الواحدة الواضحة المستقيمة ؛ وأنه لا عبرة بالانتساب إلى الرسل من اتباعهم ، إنما العبرة بحقيقة ما يعتقدون وحقيقة ما يعملون . وأنه لا يعصمهم من مجاهدة المؤمنين لهم أن يكونوا ورثة عقيدة وهم عنها منحرفون . .
وهذه الحقيقة التي قررها الله للجماعة المسلمة في المدينة حقيقة مطلقة لا تتقيد بزمان . إنما هي طريقة القرآن في اتخاذ الحادثة المفردة المقيدة مناسبة لتقرير الحقيقة المطردة المطلقة .
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ }
{ تلك } رفع بالابتداء ، و { الرسل } خبره ، ويجوز أن يكون { الرسل } عطف بيان و { فضلنا } الخبر ، و { تلك } إشارة إلى جماعة مؤنثة اللفظ ، ونص الله في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض( {[2410]} ) وذلك في الجملة دون تعيين مفضول . وهكذا هي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . فإنه قال : «أنا سيد ولد آدم »( {[2411]} ) ، وقال : «لا تفضلوني على موسى »( {[2412]} ) ، وقال : «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى »( {[2413]} ) ، وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول ، لأن يونس عليه السلام كان شاباً( {[2414]} ) وتفسخ( {[2415]} ) تحت أعباء النبوءة ، فإذا كان هذا التوقف فيه لمحمد وإبراهيم ونوح فغيره أحرى ، فربط الباب أن التفضيل فيهم على غير تعيين المفضول ، وقد قال أبو هريرة : خير ولد آدم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وهم أولو العزم( {[2416]} ) والمكلم موسى صلى الله عليه وسلم .
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال نعم نبي مكلّم( {[2417]} ) ، وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة ، فعلى هذا تبقى خاصة موسى ، وقول تعالى : { ورفع بعضهم درجات } قال مجاهد وغيره : هي إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه بعث إلى الناس كافة وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد قبله( {[2418]} ) ، وهو أعظم الناس أمة ، وختم الله به النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله ، ومن معجزاته وباهر آياته ، ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره( {[2419]} ) ممن عظمت آياته ويكون الكلام تأكيداً للأول ، ويحتمل أن يريد رفع إدريس المكان العليّ( {[2420]} ) ومراتب الأنبياء في السماء( {[2421]} ) فتكون الدرجات في المسافة ويبقى التفضيل مذكوراً في صدر الآية فقط ، وبينات عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وخلق الطير من الطين ، و «روح القدس » جبريل عليه السلام ، وقد تقدم ما قال العلماء فيه( {[2422]} ) .
{ ولَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
ظاهر اللفظ في قولهم : من بعدهم يعطي أنه أراد القوم الذين جاؤوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك المعنى ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي فلف الكلام لفاً يفهمه السامع ، وهذا كما تقول : اشتريت خيلاً ، ثم بعتها ، فجائزة لك هذه العبارة وأنت اشتريت فرساً ثم بعته ، ثم آخر وبعته ، ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغياً وحسداً ، وعلى حطام الدنيا ، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى ، ولو شاء خلاف ذلك لكان . ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك . الفعال لما يريد ، فاقتتلوا بأن قتل المؤمنون الكافرين على مر الدهر ، وذلك هو دفع الله الناس بعضهم ببعض .
موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها . فأما الأول فإنّ الله تعالى لما أنبأ باختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله : { تلك ءايت اللَّه نتلوها عليك بالحق } [ البقرة : 252 ] . جمع ذلك كلّه في قوله : { تلك الرسل } لَفْتاً إلى العبر التي في خلال ذلك كلّه . ولما أنهى ذلك كلّه عَقَّبه بقوله : { وإنّك لمن المرسلين } [ البقرة : 252 ] تذكيراً بأنّ إعلامه بأخبار الأمم والرسل آية على صدق رسالته . إذ ما كان لمثله قِبَلٌ بعلم ذلك لولا وحي الله إليه . وفي هذا كلّه حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فموقع اسم الإشارة مثل موقعه في قول النابغة :
بني عمه دنيا وعمِرو بن عامر *** أولئك قومٌ بأسهم غير كاذب
والإشارة إلى جماعة المرسلين في قوله : { وإنّك لمن المرسلين } . وجيء بالإشارة لما فيها من الدلالة على الاستحضار حتى كأنّ جماعة الرسل حاضرة للسامع بعد ما مرّ من ذكر عجيب أحوال بعضهم وما أعقبه من ذكرهم على سبيل الإجمال .
وأما الثاني فلأنّه لما أفيض القول في القتال وفي الحثّ على الجهاد والاعتبار بقتال الأمم الماضية عقب ذلك بأنّه لو شاء الله ما اختلف الناس في أمر الدين من بعد ما جاءتهم البيّنات ولكنّهم أساؤوا الفهم فجحدوا البيّنات فأفضى بهم سوء فهمهم إلى اشتطاط الخلاف بينهم حتى أفضى إلى الاقتتال . فموقع اسم الإشارة على هذا الاعتبار كموقع ضمير الشأن ، أي هي قصة الرسل وأممهم ، فضّلنا بعض الرسل على بعض فحسدت بعض الأمم أتباع بعض الرسل فكذّب اليهود عيسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام وكذب النصارى محمداً صلى الله عليه وسلم .
وقرن اسم الإشارة بكاف البعد تنويهاً بمراتبهم كقوله : { ذلك الكتاب } [ البقرة : 2 ] .
واسم الإشارة مبتدأ والرسل خبر ، وليس الرسل بدلاً لأنّ الإخبار عن الجماعة بأنّها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب شأنهم الباهر خبرهم ، وجملة « فضّلنا » حال .
والمقصود من هذه الآية تمجيد سمعة الرسل عليهم السلام ، وتعليم المسلمين أنّ هاته الفئة الطيّبة مع عظيم شأنها قد فضّل الله بعضها على بعض ، وأسباب التفضيل لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، غير أنّها ترجع إلى ما جرى على أيديهم من الخيرات المُصلِحة للبشر ومن نصر الحق ، وما لقوه من الأذى في سبيل ذلك ، وما أيَّدُوا به من الشرائع العظيمة المتفاوتة في هدى البشر ، وفي عموم ذلك الهديِ ودوامهِ ، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لأنْ يهدي الله بك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس " ، فما بالك بمن هدى الله بهم أمماً في أزمان متعاقبة ، ومن أجل ذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل . ويتضمن الكلام ثناء عليهم وتسلية للرسول عليه السلام فيما لقي من قومه .
وقد خصّ الله من جملة الرسل بعضاً بصفات يتعيّن بها المقصود منهم ، أو بذكر اسمه ، فذكر ثلاثةً إذ قال : منهم من كلَّم اللَّهُ ، وهذا موسى عليه السلام لاشتهاره بهذه الخصلة العظيمة في القرآن ، وذَكَر عيسى عليه السلام ، ووسط بينهما الإيماءَ إلى محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه ، بقوله : { ورفع بعضهم درجات } .
وقوله : { ورفع بعضهم درجات } يتعيّن أن يكون المراد من البعض هنا واحداً من الرسل معيّناً لا طائفة ، وتكون الدرجات مراتبَ من الفضيلة ثابتة لذلك الواحد : لأنّه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مُجملاً ، ومن الدرجات درجات بينهم لصار الكلام تكراراً مع قوله فضّلنا بعضهم على بعض ، ولأنّه لو أريد بعضٌ فُضِّل على بعض لقال ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } [ الأنعام : 165 ] .
وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلِّغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد صلى الله عليه وسلم والعرب تعبّر بالبعض عن النفس كما في قول لبيد :
تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أرْضَها *** أوْ يعْتَلِقْ بعضَ النّفوسِ حِمَامُها
أراد نفسه ، وعن المخاطب كقولي أبي الطيّب :
إذا كان بعضُ النّاس سيفاً لِدَوْلَةٍ *** ففي النّاسِ بُوقات لها وطُبُول
والذي يعيِّن المراد في هذا كلّه هو القرينة كانطباق الخبر أو الوصف على واحد كقول طرفة :
إذا القَوْم قالوا مَنْ فتًى خِلْتُ أنّني *** عُنِيْتُ فلم أكسل ولم أتَبَلَّدِ
وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى : { وما أرسلناك عليهم وكيلاً وربّك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض } [ الإسراء : 54 ، 55 ] عَقب قوله : { وإذا قرآتَ القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا } إلى أن قال { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } إلى قوله { ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض } [ الإسراء : 45 ، 55 ] .
وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدمِ تعيين الفاضل من المفضول : ذلك أنّ كل فريق اشتركوا في صفةِ خيرٍ لا يخلُونَ من أن يكون بعضهم أفضل من بعض بما للبعض من صفات كمال زائدة على الصفة المشتركة بينهم ، وفي تمييز صفات التفاضل غموض ، وتطرق لتوقّع الخطإ وعروض ، وليس ذلك بسهلٍ على العقول المعرّضة للغفلة والخطإ . فإذا كان التفضيل قد أنبأ به ربّ الجميع ، ومَنْ إليه التفضيل ، فليس من قدْر النّاس أن يتصدّوا لوضع الرسل في مراتبهم ، وحسبهم الوقوف عندما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله .
وهذا مورد الحديث الصحيح « لا تُفضّلوا بين الأنبياء » يعني به النهى عن التفضيل التفصيلي ، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال ، كما نقول : الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلاً . وقد ثبت أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل لما تظاهر من آيات تفضيله وتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه . وهي متقارنة الدلالة تنصيصاً وظهوراً . إلاّ أنّ كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملاً بقاعدة كثرة الظواهر تفيد القطع . وأعظمها آية { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيناكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنُنّ به ولتنصُرنَّه } [ آل عمران : 81 ] الآية .
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم « لا يقولَنّ أحَدُكُم أنا خير من يونس بن مَتَّى » يعني بقوله : « أنا » نفسه على أرجح الاحتمالين ، وقوله : « لا تُفَضِّلوني على مُوسَى » فذلك صدر قبل أن يُنبئَه اللَّهُ بأنّه أفضل الخلق عنده .
وهذه الدرجات كثيرة عرَفْنَا منها : عمومَ الرسالة لكافة الناس ، ودوامَها طُولَ الدهر ، وختمها للرسالات ، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعْوذة ، وبدوام تلك المعجزة ، وإمكان أن يشاهدها كل من يؤهّل نفسه لإدراك الإعجاز ، وبابتناء شريعته على رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال ، وبتيسير إدانة معانديه له ، وتمليكه أرضهم وديارَهم وأموالَهم في زمن قصير ، وبجعل نقل معجزته متواتراً لا يجهلها إلاّ مُكابر ، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف ، وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به صلى الله عليه وسلم .
وقد عطف ما دل على نبيئنا على ما دل على موسى عليهما السلام لشدة الشبه بين شريعَتَيْهما ، لأنّ شريعة موسى عليه السلام أوسع الشرائع ، ممّا قبلها ، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام .
وتكليمُ الله موسى هو ما أوحاه إليه بدون واسطةِ جبريل ، بأن أسمعه كلاماً أيقن أنّه صادر بتكوين الله ، بأن خلق الله أصواتاً من لغة موسى تضمنت أصول الشريعة ، وسيجيء بيان ذلك عند قوله تعالى : { وكلَّم الله موسى تكليماً } [ النساء : 164 ] في سورة النساء .
وقوله : { وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } البينات هي المعجزات الظاهرة البيّنة ، وروح القدس هو جبريل ، فإنّ الروح هنا بمعنى المَلَك الخاص كقوله : { تنزل الملائكة والروح فيها } [ القدر : 4 ] .
والقُدُس بضم القاف وبضم الدال عند أهل الحجاز وسكونها عند بني تميمَ بمعنى الخلوص والنزاهة ، فإضافة روح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ولذلك يقال الروحُ القدس ، وقيل القُدُس اسم الله كالقدّوس فإضافة روح إليه إضافة أصلية ، أي روح من ملائكةِ الله .
وروح القدس هو جبريل قال تعالى : { قل نزله روح القدس من ربك بالحق } [ النحل : 102 ] ، وفي الحديث : « إنّ رُوح القدس نفث في رُوعي أنّ نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها » وفي الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان : " اهجُهُم ومَعَك روحُ القدس " .
وإنّما وصف عيسى بهذين مع أنّ سائر الرسل أيّدوا بالبيّنات وبروح القدس ، للرد على اليهود الذين أنكروا رسالته ومعجزاته ، وللرد على النصارى الذين غلَوْا فزعموا ألوهيته ، ولأجل هذا ذكر معه اسم أمه مهما ذكر للتنبيه على أنّ ابن الإنسان لا يكون إلهاً ، وعلى أنّ مريم أمة الله تعالى لا صاحبة لأنّ العرب لا تذكر أسماء نسائِها وإنّما تكنى ، فيقولون ربّة البيت ، والأهل ، ونحو ذلك ولا يذكرون أسماء النساء إلا في الغزل ، أو أسماء الإماء .
{ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .
اعتراض بين الفذلكة المستفادة من جملة تلك الرسل إلى آخرها وبين الجملة { يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } [ البقرة : 254 ] ، فالواو اعتراضية : فإنّ ما جرى من الأمر بالقتال ومن الأمثال التي بَيّنَتْ خصال الشجاعة والجبن وآثارهما ، المقصود منه تشريعاً وتمثيلاً قتالُ أهلِ الإيمان لأهللِ الكفر لإعلاءِ كلمة الله ونصر الحق على الباطل وبث الهُدى وإزهاق الضلال . بيّن اللَّه بهذا الاعتراض حجة الذين يقاتلون في سبيل الله على الذين كفروا : بأن الكافرين هم الظالمون إذ اختلفوا على ما جاءتهم به الرسل ، ولو اتّبعوا الحق لسلموا وسالموا .
ثم يجوز أن يكون الضمير المضاف إليه في قوله : { من بعدهم } مراداً به جملة الرسّل أي ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعد أولئك الرسل من الأمم المختلفة في العقائد مثل اقتتال اليهود والنصارى في اليمن في قصة أصحاب الأخدود ، ومقاتلة الفلسطينيِّين لبني إسرائيل انتصاراً لأصنامهم ، ومقاتلة الحبشة لمشركي العرب انتصاراً لبيعة القليس التي بناها الحبشة في اليَمن ، والأمم الذين كانوا في زمن الإسلام وناوَوْه وقاتلوا المسلمين أهلَه ، وهم المشركون الذين يزعمون أنّهم على ملة إبراهيم واليهودُ والنصارى ، ويكون المراد بالبيّنات دلائلِ صدق محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الآية بإنحاء على الذين عاندوا النبي وناووا المسلمين وقاتلوهم ، وتكون الآية على هذا ظاهرة التفرّع على قوله : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا } [ البقرة : 244 ] إلخ .
ويجوز أن يكون ضمير « مِنْ بعدهم » ضميرَ الرسل على إرادة التوزيع ، أي الذين من بعد كل رسول من الرسل ، فيكون مفيداً أنّ أمة كل رسول من الرسل اختلفوا واقتتلوا اختلافاً واقتتالاً نشَآ من تكفير بعضهم بعضاً كما وقع لبني إسرائيل في عصور كثيرة بلغت فيها طوائف منهم في الخروج من الدِّين إلى حد عبادة الأوثان ، وكما وقع للنصارى في عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفَّر بعضهم بعضاً ، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالاً جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل ، وتقاتلت النصارى كذلك من جرّاء الخلاف بين اليعاقبة والمَلَكية قبل الإسلام ، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفّاراً لادّعائهم ألوهية المسيح ، فعظمت بذلك حروب بين فرَانسا وإسبانيا وجرمانيا وإنكلترا وغيرها من دول أوروبا .
والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك ، وقد حَذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحذيراً متواتراً بقوله في خطبة حجة الوداع : " فَلاَ ترجعوا بعدي كُفّاراً يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعض " يحذّرهم ما يقع من حروب الردَّة وحروب الخوارج بدعوى التكفير ، وهذه الوصية من دلائللِ النبوءة العظيمة .
وورد في « الصحيح » قوله : " إذا التقَى المسلمان بسيْفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النار " قيل يا رسول الله هذا القاتلُ ، فما بالُ المقتول ، قال : " أمَا إنَّه كان حريصاً على قتل أخيه " وذلك يفسّر بعضه بعضاً أنّه القتالَ على اختلاف العقيدة .
والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقْبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عَرض الدنيا ، والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا ، وشاء اختلافهم فاختلفوا ، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقديرِ لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلَوْ كقول طرفة :
فلو شاء ربي كنتُ قيس بن خالد *** ولو شاء ربي كنتُ عَمْرو بن مرثد
وقوله : { ولمن اختلفوا } استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله : وهو ما اقتتل ، لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لِجواب لوْ وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لَمَا اقتتلوا . وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تَرْكَهم الاقتتال ، هو أنه خلَق داعية الاختلاف فيهم ، فبتلك الداعية اختلفوا ، فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع ، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطإ أهل الدين فيه إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفر به ، وإن كان المراد اختلاف أممِ الرسل كلٍ للأخرى كما في قوله : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } [ البقرة : 113 ] ، فالإيمان والكفر في الآية ظاهر ، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتّبعه ومنهم من كفر به فعاداه ، فاقتتل الفريقان .
وأياما كان المراد من الوجهين فإن قوله : { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل ، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى أو لم يُعْمِهم سوء الفهم وقلة الهدى .
لا جرم أن الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام ، وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسباباً لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب ، فأسباب الاختلاف إذَنْ مركوزة في الطباع ، ولهذَا قال تعالى : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } ثم قال : { ولكن اختلفوا } فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا ، لكنّ الخلاف مركوز في الجبلة . بيد أن الله تَعالى قد جعل أيضاً في العقول أصُولاً ضرورية قطعية أو ظنّية ظناً قريباً من القطع به تستطيع العقول أن تعيِّن الحق من مختلف الآراء ، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلاتُ البعيدة التي تحمِل عليها المكابرةُ أو كراهيةُ ظهور المغلوبيّة ، أو حُب المدحة من الأشياع وأهلِ الأغراض ، أو السعي إلى عَرَض عاجل من الدنيا ، ولو شاء الله ما غَرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافاً يدوم ، ولكن اختلفوا هذا الخلافَ فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر ، فلا عذر في القتال إلا لفريقين : مؤمن ، وكافر بما آمن به الآخر ، لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم ، أما الخلاف الناشيء بين أهل دين واحد لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب قتال .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " من قال لأخيه يا كافر فقد باء هو بها " لأنّه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل ، فرجع هو بإثم الكفر لأنّه المتسبب فيما يتسبب على الكفر ، ولأنّه إذا كان يرى بعضَ أحوال الإيمان كفراً ، فقد صار هو كافراً لأنّه جعل الإيمان كفراً . وقال عليه الصلاة والسلام : « فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض » ، فجعل القتال شعار التكفير . وقد صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة فاختلفوا خلافاً بلغ بهم إلى التكفير والقتال ، وأوّله خلاف الردة في زمن أبي بكر ، ثم خلاف الحرورية في زمن عليّ وقد كفَّروا علياً في قبوله تحكيم الحكمي ، ثم خلاف أتباع المقنَّع بخراسان الذي ادعى الإلاهية واتخذ وجهاً من ذهب ، وظهر سنة 159 وهلك سنة 163 ، ثم خلاف القرامطة مع بقية المسلمين وفيه شائِبة مِن الخلاف المذهبي لأنّهم في الأصل من الشيعة ثم تطرفوا فكفَروا وادّعوا الحلول أي حلول الرب في المخلوقات واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وذهبوا به إلى بلدهم في البحرين ، وذلك من سنة 293 . واختلف المسلمون أيضاً خلافاً كثيراً في المذاهب جَرّ بهم تارات إلى مقاتلات عظيمة ، وأكثرها حروب الخوارج غير المكفِّرين لبقية الأمة في المشرق ، ومقاتلات أبي يزيد النكارى الخارجي بالقيروان وغيرها سنة 333 ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بالقيروان سنة 407 ، ومقاتلة الشافعية والحنابلة ببغداد سنة 475 ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بها سنة 445 ، وأعقبتها حوادث شر بينهم متكررة إلى أن اصطلحوا في سنة 502 وزال الشر بينهم ، وقتال الباطنية المعروفين بالإسْمَاعِيلية لأهل السنة في سَاوَة وغيرها من سنة 494 إلى سنة 523 .
ثم انقلبت إلى مقاتلات سياسية . ثم انقلبوا أنصاراً للإسلام في الحروب الصليبية ، وغير ذلك من المقاتلات الناشئة عن التكفير والتضليل . لا نذكر غيرها من مقاتلات الدول والأحزاب التي نخرت عظم الإسلام . وتطرّقت كل جهة منه حتى البلدِ الحرام .
فالآية تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصاله العقول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائللِ التي يتفادون بها عن التقاتل ، فهم ملومون من هذه الجهة ، ومشيرة إلى أنّ الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدّوا بها إلى الاهتداء إلى الحق وإلى التبصّر في العواقب قبل ذلك الإبّان ، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة ، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة ، ولذلك قال : { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } فأعاد { ولو شاء الله ما اقتتلوا } تأكيداً للأول وتمهيداً لقوله : { ولكن الله يفعل ما يريد } ليعلَمَ الواقف على كلام الله تعالى أنّ في هدى الله تعالى مقنعاً لهم لو أرادوا الاهتداء ، وأنّ في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكملَ من هذا الخَلق كما خلق الملائكةِ . فالله يخلق ما يشاء ولكنّه يكمل حال الخلق بالإرشاد والهدى ، وهم يفرّطون في ذلك .