تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (46)

ثم بين كيفية ضلالهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أي : اليهود وهم علماء الضلال منهم .

{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } إما بتغيير اللفظ أو المعنى ، أو هما جميعا . فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي لا تنطبق ولا تصدق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم على أنه غير مراد بها ، ولا مقصود بها بل أريد بها غيره ، وكتمانهم ذلك .

فهذا حالهم في العلم أشر حال ، قلبوا فيه الحقائق ، ونزلوا الحق على الباطل ، وجحدوا لذلك الحق ، وأما حالهم في العمل والانقياد فإنهم { يَقُولون سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي : سمعنا قولك وعصينا أمرك ، وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن الانقياد ، وكذلك يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب فيقولون : { اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قصدهم : اسمع منا غير مسمع ما تحب ، بل مسمع ما تكره ، { وَرَاعِنَا } قصدهم بذلك الرعونة ، بالعيب القبيح ، ويظنون أن اللفظ -لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على الله وعلى رسوله ، فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب للرسول ، ويصرحون بذلك فيما بينهم ، فلهذا قال : { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ }

ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ } وذلك لما تضمنه هذا الكلام من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول ، والدخول تحت طاعة الله والانقياد لأمره ، وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع سؤالهم ، والاعتناء بأمرهم ، فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه . ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية ، أعرضوا عن ذلك ، وطردهم الله بكفرهم وعنادهم ، ولهذا قال : { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (46)

ثم ذكر - سبحانه - ألوانا من الأقوال والأعمال القبيحة التى كان اليهود يقولونها ويفعلونها للإِساءة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فقال : { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } . وتحريف الشئ إمالته وتغييره . ومنه قولهم : طاعون يحرف القلوب ، أى يميلها ويجعلها على حرف ، أى جانب وطرف . وأصله من الحرف يقال : حرف الشئ عن وجهه ، صرفه عنه .

والجملة الكريمة بيان للوصول وهو قوله - تعالى - { الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب } .

ويجوز أن يكون قوله { مِّنَ الذين هَادُواْ } خبر لمبتدأ محذوف . وقوله { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } صفة له .

أى من الذين هادوا قوم أو فريق من صفاتهم أنهم يحرفون الكلم من مواضعه أى يميلونه عن مواضعه ، ويجعلون مكانه غيره ، ويفسرونه تفسيرا سقيما بعيدا عن الحق والصواب .

قال الفخر الرازى : فى كيفية التحريف وجوه :

أحدها : أهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر . مثل تحريفهم اسم " ربعة " عن موضعه فى التوراة بوضعهم " آدم طويل " ، وكتحريفهم الرجم بوضعهم الجلد بدله .

الثانى : أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة ، والتأويلات الفاسدة ، وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه من الحيل اللفظية ، كما يفعله أهل البدعة فى زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم . وهذا هو الأصح .

الثالث : أنهم كانوا يدخلون على النبى صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه .

والذى نراه أولى أن تحريف هؤلاء اليهود لكلم عن مواضعه يتناول كل ذلك ، لأنهم لم يترككوا وسيلة من وسائل التحريف الباطل إلا فعلوها ، أملا منهم فى صرف الناس عن الدعوة الإِسلامية ، ولكن الله - تعالى - خيب آمالهم .

قال الزمخشرى : فإن قلت : كيف قيل ههنا { عَن مَّوَاضِعِهِ } وفى المائدة { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } قلت : " أما عن مواضعه " فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التى أوجبت حكمة الله وضعه فيها ، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه .

وأما { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فالمعنى أنه كان له مواضع فمن بأن يكون فيها . فحين حرفوه تركوه كالغريب الذى لا موضع له بعد مواضعه ومقاره . والمعنيان متقاربان .

ثم حكى - سبحانه - لونا ثانياً من ضلالتهم فقال : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أى . ويقولون للنبى صلى الله عليه وسلم إذا ما أمرهم بشئ : سمعنا قولك وعصينا أمرك فنحن مع فهمنا لما تقول لا نطيعك لأننا متمسكون باليهودية .

ثم حكى - سبحانه - لونا ثالثا من مكرهم فقال : { واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وداخلة تحت القول السابق .

أى : ويقولون ذلك فى أثناء مخاطبتهم للنبى صلى الله عليه وسلم وهو كلام ذو وجهين وجه محتمل للشر . بأن يحمل على معنى " اسمع " حال كونك غير مسمع كلاما ترضاه . ووجه محتمل للخير . بأن يحمل على معنى اسمع منا غير مسمع كلاما تكرهه .

فأنت تراهم - لعنهم الله - أنهم كانوا يخاطبون النبى صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام المحتمل للشر والخير موهمين غيرهم أنهم يريدون الخير ، مع أنهم لا يريدون إلى الشر ، بسبب ما طفحت به نفوسهم من حسد للنبى صلى الله عليه وسلم وللمسلمين .

ثم حكى - سبحانه - لونا رابعا من خبثهم فقال : { وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين } وهو كلام معطوف على ما قبله وداخل تحت القول السابق .

وكلمة { وَرَاعِنَا } كلمة ذات وجهين - أيضاً - فهى للخير بحملها على معنى ارقبنا وأمهلنا أو انتظرنا نكلمك . ومحتملة للشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها . أو على السب بالرعونة أى الحمق .

قال الراغب : قوله : - تعالى - { وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين } كان ذلك قولا يقولونه للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم يقصدون به رميه بالرعونة ، ويوهمون أنهم يقولون : راعنا أى : أحفظنا . من قولهم : رعن الرجل يرعن رعنا فهو رعن . أى أحمق .

وأصل كلمة { لَيّاً } لوياً لأنه من لويت ، فأدغمت الواو فى الياء لسبقها بالسكون . واللى : الانحراف والالتفات والانعطاف .

والمراد أنهم كانوا يلوون ألسنتهم بالكلمة أو بالكلام ليكون اللفظ فى السمع مشبها لفظا آخر هم يردونه لأنه يدل على معنى ذميم .

أى أنهم كانوا يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء { وَرَاعِنَا } ويقصدون بهذا القول الإِساءة إليه صلى الله عليه وسلم وينطقون بهذه الكلمة وما يشابهها نطقاً ملتويا منحرفا ليصرفوها عن جانب احتمالها للخير إلى جانب للشر . ولذا فقد نهى الله - تعالى - المؤمنين عن مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الألفاظ .

قال ابن كثير : عند تفسيره لقوله - تعالى - { يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا } نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتشبهوا بالكافرين فى مقالهم وفعالهم . وذلك أن اليهود كانوا يعلنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنفيص - عليهم لعائن الله - : فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا : يقولون راعنا ، ويورون بالرعونة : وكذلك جاءت الأحاديث بالإِخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون . السام عليكم . والسام هو الموت . ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بوعليكم . وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا . والغرض أن الله - تعالى - نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا .

وقوله { وَطَعْناً فِي الدين } أى يقولون ذلك من أجل القدح فى الدين ؛ والاستهزاء بتعاليمه ، وبنبيه صلى الله عليه وسلم . ثم بين - سبحانه - ما كان بحب عليهم أن يقولوه لو كانوا يعقلون فقال : تعالى - { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ } .

أى : ولو أنهم قالوا عند سماعهم لما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من حق وخير ، { سَمِعْنَا } قولك سماع قبول وإستجابة ، وأطعنا أمرك بدل قولهم سمعنا وعصينا .

ولو أنهم قالوا عند مخاطبتهم له صلى الله عليه وسلم { واسمع } إجابتنا لدعوه الحق { وانظرنا } حتى نفهم عنك ما تريده منا بدل قولهم { وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } لو أنهم فعلوا ذلك لكان قولهم هذا خيراً لهم وأعدل من اقوالهم السابقة الباطلة التى حكاها القرآن عنهم .

ولكنهم لسوء طباعهم لم يفعلوا ذلك فحقت عليهم اللعنة فى الدنيا والآخرة وقد صرح القرآن بذلك فقال : { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } . أى : ولكنهم لم يقولوا ما هو خير لهم وأقوم بل قالوا ما هو شر وباطل ، فاستحقوا اللعنة من الله بسبب كفرهم وسوء أفعالهم :

ولفظ { قَلِيلاً } فى قوله { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } منصوب على الاستثناء من قوله { لَّعَنَهُمُ } أى : ولكن لعنهم الله إلا فريقا منهم آمنوا فلم يعلنوا : أو منصوب على الوصفية لمصدر محذوف أى : ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا أى ضعيفا ركيكا لا يعبأ به ، ولا يغنى عنهم من عذاب الله شيئا ؛ لأنه إيمان غير صحيح بسبب تفريقهم بين رسل الله فى التصديق والطاعة . قال - تعالى - { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (46)

44

وقد كان التعجيب من أهل الكتاب عامة - وكان المفهوم أن المعنيين هم يهود المدينة - ولكن السياق لا يكتفي بهذا المفهوم . بل يمضي فيعين اليهود . ثم يصف حالهم وتصرفاتهم وسوء أدبهم مع الرسول [ ص ] في هذه الفترة التي يبدو أنها كانت في أوائل سنوات الهجرة ، قبل أن تخضد شوكتهم في المدينة :

( من الذين هادوا ، يحرفون الكلم عن مواضعه ؛ ويقولون : سمعنا وعصينا . واسمع - غير مسمع - وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين . ) . .

لقد بلغ من التوائهم ، وسوء أدبهم مع الله عز وجل : أن يحرفوا الكلام عن المقصود به . والأرجح أن ذلك يعني تأويلهم لعبارات التوراة بغير المقصود منها . وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرسالة الأخيرة ؛ ومن أحكام كذلك وتشريعات يصدقها الكتاب الأخير ؛ وتدل وحدتها في الكتابين على المصدر الواحد ؛ وتبعا لهذا على صحة رسالة النبى [ ص ] . وتحريف الكلم عن المقصود به ، ليوافق الأهواء ، ظاهرة ملحوظة في كل رجال دين ينحرفون عن دينهم ، ويتخذونه حرفة وصناعة ، يوافقون بها أهواء ذوي السلطان في كل زمان ؛ وأهواء الجماهير التي تريد التفلت من الدين . . واليهود أبرع من يصنع ذلك . وإن كان في زماننا هذا من محترفي دين المسلمين من ينافسون - في هذه الخصلة - اليهود !

ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله [ ص ] أن يقولوا له : سمعنا يا محمد ما تقول . ولكننا عصينا ! فلا نؤمن ولا نتبع ولا نطيع ! - مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في وقت مبكر ، حيث كانت لليهود هذه الجرأة على مواجهة النبي [ ص ] ثم يضيفون إلى التبجح سوء الأدب والخلق والالتواء أيضا . إذ يقولون للرسول [ ص ] :

( واسمع - غير مسمع - وراعنا ) . .

ففي ظاهر اللفظ أنهم يقولون : اسمع - غير مأمور بالسمع [ وهي صيغة تأدب ] - وراعنا : أى : انظر إلينا نظرة رعاية لحالنا أو نظرة اهتمام لوضعنا . بما أنهم أهل كتاب ، فلا ينبغي أن يدعوا إلى إلاسلام كالمشركين !

أما في اللي الذي يلوونه ، فهم يقصدون : اسمع - لا سمعت ، ولا كنت سامعا ! - [ أخزاهم الله ] . وراعنا يميلونها إلى وصف " الرعونة " !

وهكذا . . تبجح وسوء أدب ، والتواء ومداهنة ، وتحريف للكلم عن مواضعه وعن معانيه . .

إنها يهود ! ! !

وبعد أن يحكي القرآن هذا عنهم ؛ يقرر المنهج اللائق بأهل الكتاب ؛ والأدب الجدير بمن أوتوا نصيبا منه . ويطمعهم - بعد ذلك كله - في الهداية والجزاء الحسن والفضل والخير من الله . لو ثابوا إلى الطريق القويم . وذلك مع بيان حقيقة طبيعتهم . وأنها هكذا كانت وهكذا تكون :

( ولو أنهم قالوا : سمعنا وأطعنا ، واسمع وانظرنا ، لكان خيرا لهم وأقوم ، ولكن لعنهم الله بكفرهم ، فلا يؤمنون إلا قليلاً ) . .

فهم لا يواجهون الحق بهذه الصراحة وهذه النصاعة وهذه الاستقامة . ولو أنهم واجهوه هكذا بالألفاظ الصريحة التي لا التواء فيها :

( سمعنا وأطعنا ، واسمع وانظرنا ) .

لكان هذا خيرا لهم ، وأقوم لطبيعتهم وأنفسهم وحالهم . ولكن واقع الأمر أنهم - بسبب كفرهم - مطرودون من هداية الله . فلا يؤمن منهم إلا القليل .

وصدق قول الله . . فلم يدخل في الإسلام - في تاريخه الطويل - إلا القليل من اليهود . ممن قسم الله لهم الخير ، وأراد لهم الهدى ؛ باجتهادهم للخير وسعيهم للهدى . أما كتلة اليهود ، فقد ظلت طوال أربعة عشر قرنا ، حربا على الإسلام والمسلمين . منذ أن جاورهم الإسلام في المدينة إلى اللحظة الحاضرة . وكيدهم للإسلام كان هو الكيد الواصب الذي لا ينقطع ، العنيد الذي لا يكف ، المنوع الأشكال والألوان والفنون ، منذ ذلك الحين ! وما من كيد كاده أحد للإسلام في تاريخه كله - بما في ذلك كيد الصليبية العالمية والاستعمار بشتى أشكاله - إلا كان من ورائه اليهود . أو كان لليهود فيه نصيب !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (46)

وقوله تعالى : { من الذين هادوا } قال بعض المتأولين { من } راجعة على { الذين } الأولى ، فهي على هذا متعلقة ب { تر } ، وقالت طائفة ، هي متعلقة ب { نصيراً } والمعنى ينصركم من الذين هادوا ، فعلى هذين التاويلين لا يوقف في قوله : { نصيراً } وقالت فرقة : هي لابتداء الكلام ، وفيه إضمار تقديره قوم يحرفون ، هذا مذهب أبي علي ، ونظيره قول الشاعر [ النابغة الذبياني ] : [ الوافر ]

كأنك مِنْ جِمَالِ أَبي أَقَيْشٍْ *** يُقَعْقِعُ خَلْفَ رِجْليهِ بِشَنِّ{[4087]}

وقال الفراء وغيره : تقديره من ، ومثله قول ذي الرمة : [ الطويل ]

فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعَهُ سَابِقٌ لَهُ *** وَآخَرُ يَثْني دَمْعَةَ الْعَيْنِ بِالْيَدِ{[4088]}

فعلى هذا التأويل يوقف في قوله : { نصيراً } وقول سيبويه أصوب لأن إضمار الموصول ثقيل ، وإضمار الموصوف أسهل ، و { هادوا } مأخوذ من هاد إذا تاب أو من يهود بن يعقوب وغيره التعريب ، أو من التهود وهو الرويد من المشي واللين في القول ، ذكر هذه كلها الخليل ، وقد تقدم شرحها وبيانها في سورة البقرة ، و «تحريف الكلم » على وجهين ، إما بتغيير اللفظ ، وقد فعلوا ذلك في الأقل ، وإما بتغيير التأويل ، وقد فعلوا ذلك في الأكثر ، وإليه ذهب الطبري ، وهذا كله في التوراة على قول الجمهور ، وقالت طائفة : هو كلم القرآن ، وقال مكي : كلام النبي محمد عليه السلام ، فلا يكون التحريف على هذا إلا في التأويل ، وقرأ النخعي وأبو رجاء : يحرفون الكلام بالألف ، ومن جعل «من » متعلقة «بنصيراً » جعل «يحرفون » في موضع الحال ، ومن جعلها منقطعة جعل «يحرفون » صفة ، وقوله تعالى عنهم { سمعنا وعصينا } عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه ، و { مسمع } لا يتصرف إلا من أسمع ، و { غير مسمع } يتخرج فيه معنيان : أحدهما غير مأموروغير صاغر ، كأنه قال : غير أن تسمع مأموراً بذلك ، والآخر على جهة الدعاء ، أي لا سمعت ، كما تقول : امض غير مصيب ، وغير ذلك ، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي بغير مسمع ، أرادت في الباطن الدعاء عليه ، وأرت ظاهراً أنها تريد تعظيمه ، قال نحوه ابن عباس وغيره ، وكذلك { راعنا } كانوا يريدون منه في نفوسهم معنى الرعونة ، وحكى مكي معنى رعاية الماشية ، ويظهرون منه معنى المراعاة ، فهذا معنى «ليّ اللسان » فقال الزجّاج : كانوا يريدون : اجعل سمعك لكلامنا مرعى .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا جفاء لا يخاطب به نبي ، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا » ومن قال : { غير مسمع } غير مقبول منك فإنه لا يساعده التصريف{[4089]} ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد ، و { ليّاً } أصله لوياً ، قلبت الواو ياء وأدغمت { وطعناً في الدين } أي توهينا له وإظهاراً للاستخفاف به .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل ، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة ، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب ، وقوله تعالى : { ولو أنهم } الآية : المعنى : لو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا ، واختلف المتأولون في قوله ، { وانظرنا } فقال مجاهد وعكرمة وغيرهما : معناه انتظرنا ، بمعنى : افهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك ، وهذا كما قال الحطيئة :

وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ إيناءَ صادِرَةٍ . . . لِلْخَمْسِ طَالَ بِهَا مَسْحي وَتَنَّاسي{[4090]}

وقالت فرقة : انظر - معناه : انظر إلينا ، فكأنه استدعاء اهتبال وتحف{[4091]} ، ومنه قول ابن الرقيات [ الخفيف ] :

ظاهراتُ الجمالِ والْحُسْنِ يَنْظُرْ . . . نَ كَمَا تَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّباءُ{[4092]}

{ وأقوم } معناه : أعدل وأصوب ، «واللعنة » : الإبعاد ، فمعناه ، أبعدهم من الهدى ، و { قليلاً } : نعت ، إما لإيمان وإما لنفر أو قوم ، والمعنى مختلف ، فمن عبر بالقلة عن الإيمان قال : إما هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قل ما تنب كذا وهي لا تنبته جملة ، وإما قلل الإيمان لما قلت الأشياء التي آمنوا بها فلم ينفعهم ذلك ، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بالتوحيد ويكفرون بمحمد وبجميع أوامر شريعته ونواهيها ، ومن عبر بالقلة عن النفر قال : لا يؤمن منهم إلا قليل ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، وغيرهما ، وإذا قدرت الكلام نفراً قليلاً ، فهو نصب في موضع الحال وفي هذا نظر .


[4087]:- البيت للنابغة الذبياني، وروي: "من جمال بني أقيش" –وهم حي من (عكل)، وكانت جمالهن صعبة القياد، وتنفر من كل شيء تراه، وقال ابن الكلبي: هم حي من الجن، والشنُّ، القربة القديمة تكون صغيرة، ويكون الماء فيها أبرد منه في غيرها، والجمع: شنان. قال في اللسان: وفي المثل: "لا يقعقع لي بالشنان" ثم روى البيت، وفي الحديث: أنه أمر بالماء فقرس في الشنان، أي: بردّ تبريدا شديدا، هذا والحذف هو مذهب سيبويه، وعليه أنشد النحويون: لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب ومبسم أي: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها، ثم حذف.
[4088]:- الرواية في الديوان: "ومنهم دمعه غالب له"- ولكن القرطبي رواه: "وآخر يذري عبرة العين الهمل" وهي التي تناسب القصيدة التي مطلعها: خليلي عوجا عوجة ناقتيكما على طلل بين القرينة والحبل. والشاهد عند الفراء أن المحذوف (من) والمعنى: "ومنهم من دمعه" فحذف الموصول، وأنكر المبرد والزجاج ذلك لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة.
[4089]:- قال أبو حيان في "البحر المحيط": "وجه أن التصريف لا يساعد عليه، هو أن العرب لا تقول: أسمعتك بمعنى: قبلت منك، وإنما تقول: سمعت منك، بمعنى: قبلت، فيعبرون عن القبول بالسماع على جهة المجاز، لا بالإسماع، ولو أريد ما قاله الحسن ومجاهد لكان اللفظ: واسمع غير مسموع منك".
[4090]:- هذا البيت من القصيدة المشهورة التي قالها الحطيئة لمدح (بغيض) وهجاء الزبرقان ابن بدر، وقد شكا الزبرقان الحطيئة إلى عمر بن الخطاب فحبسه، وفي البيت روايات كثيرة منها: "أثناء صادرة" و"أعشاء صادرة" و"حوزي وتنساسي" و"مسحي وإبساسي"- والإيناء: الانتظار، والصادرة: الراجعة عن الماء- يريد الإبل- والخِمس بالكسر: من إظماء الإبل ثلاثة أيام، وترد اليوم الرابع، ويُحسب يوم الصدور وهو الخامس، قال الأزهري: الخِمس أن تشرب يوم وردها، وتصدر يومها ذلك، وتظل بعد ذلك اليوم في المرعى ثلاث أيام سوى يوم الصدر، وترد اليوم الرابع، وذلك الخمس- والمسح: إمرار اليد على الإبل- والتنساس: السير الشديد. يقول: انتظرتكم كما تنتظر الإبل الصادرة التي ترد الخمس ثم تسقى لتصدر (عن اللسان)- وبعد هذا البيت يقول الحطيئة: لما بدا لي منكم عيب أنفسكم ولم يكن لجراحي عندكم آسي. أزمعت أمرا مريحا من نوالكم ولن ترى طاردا للحر كالياس
[4091]:- اهتبل الشيء: اغتنمه إذا كان كلمة حكمة، واهتبل: كذب كثيرا، واهتبل الصيد: بغاه. وتحفى بالشيء: اعتنى به، وبالغ في العناية.
[4092]:- الأراك: شجر معروف، يُستاك بفروعه، قال ابن شميل: هي شجرة طويلة خضراء ناعمة كثيرة الورق والأغصان.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (46)

يجوز أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً .

و { مِنْ } تبعيضية ، وهي خبر لمبتدإ محذوف دلّت عليه صفته وهي جملة { يحرّفون } والتقدير : قوم يحرّفون الكلَم .

وحَذْفُ المبتدإ في مثل هذا شائع في كلام العرب اجتزاء بالصفة عن الموصوف وذلك إذا كان المبتدأ موصوفاً بجملة أوْ ظرف ، وكان بعضَ اسم مجرور بحرف { من } ، وذلك الاسم مقدّم على المبتدإ . ومن كلمات العرب المأثورة قولهم : « مِنَّا ظعنَ ومنّا أقام » أي منّا فريق ظعن ومنّا فريق أقام . ومنه قول ذي الرمّة :

فظَلّوا ومنهم دَمْعُهُ غالبٌ له *** وآخرُ يذري دمْعة العين بالهَمْل

أي ومنهم فريق ، بدليل قوله في العطف وآخر . وقولُ تميم بن مُقْبِل :

ومَا الدَّهْر إلاّ تَارتان فمنهمَا *** أمُوتُ وأخْرى أبتغي العَيشَ أكْدَح

وقد دلّ ضمير الجمع في قوله { يحرّفون } أنّ هذا صنيع فريق منهم ، وقد قيل : إنّ المراد به رفاعة بن زيد بن التَّابوت من اليهود ، ولعلّ قائل هذا يعني أنّه من جملة هؤلاء الفريق ، إذ لا يجوز أن يكون المراد واحداً ويؤتى بضمير الجماعة ، وليس المقام مقام إخفاء حتّى يكون على حدّ قوله عليه السلام : " ما بال أقوام يشترطون " الخ .

ويجوز أن يكون { من الذين هادوا } صفة للذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، وتكون { مِن } بيانيّة أي هم الذين هادوا ، فَتكون جملة { يحرّفون } حالاً من قوله : { الذين هادوا } . وعلى الوجهين فقد أثبتت لهم أوصاف التحريف والضلالة ومحبّة ضلال المسلمين . والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف وهو جانب الشيء وحافته ، وسيأتي عند قوله تعالى : { يحرفون الكلم عن مواضعه } في سورة المائدة ( 13 ) ، وهو هنا مستعمل في الميل عن سواء المعنى وصريحه إلى التأويل الباطل ، كما يقال : تنكَّب عن الصراط ، وعن الطريق ، إذا أخطأ الصواب وصار إلى سوء الفهم أو التضليل ، فهو على هذا تحريفُ مراد الله في التوراة إلى تأويلات باطلة ، كما يفعل أهل الأهواء في تحريف معاني القرآن بالتأويلات الفاسدة . ويجوز أن يكون التحريف مشتقّاً من الحرف وهو الكلمة والكتابة ، فيكون مراداً به تغيير كلمات التوراة وتبديلها بكلمات أخرى لتُوافِق أهواء أهل الشهوات في تأييد ما هم عليه من فاسد الأعمال . والظاهر أنّ كلا الأمرين قد ارتكبه اليهود في كتابهم . وما ينقل عن ابن عبّاس أنّ التحريف فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم ، ناظرٌ إلى غالب أحوالهم ، فعلى الاحتمال الأول يَكون استعمال { عن } في قوله : { عن مواضعه } مجازاً ، ولا مجاوزة ولا مواضِعَ ، وعلى الثاني يكون حقيقة إذ التحريف حينئذٍ نقل وإزالة .

وقوله : { ويقولون } عطف على { يحرّفون } ذُكر سوء أفعالهم وسوء أقوالهم ، وهي أقوالهم التي يواجهون بها الرسول عليه الصلاة والسلام : يقولون سمِعْنا دعوتَك وعصيناك ، وذلك إظهار لتمسّكهم بدينهم ليزول طمع الرسول في إيمانهم ، ولذلك لم يَرَوا في قولهم هذا أذى للرسول فأعقبوه بقولهم له : { واسمع غير مسمع } إظهار للتأدب معه .

ومعنى { اسمع غير مُسمع } أنّهم يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم عند مراجعته في أمر الإسلام : اسمع منّا ، ويعقّبون ذلك بقولهم : { غير مسمع } يوهمون أنّهم قصدوا الظاهر المتبادر من قولهم : غير مُسمع ، أي غير مأمور بأن تسمع ، في معنى قول العرب : ( افعَلْ غيرَ مَأمُور ) . وقيل معناه : غير مُسْمَع مَكروهاً ، فلعلّ العرب كانوا يقولون : أسْمَعَه بمعنى سَبَّه . والحاصل أنّ هذه الكلمة كانت معروفة الإطلاق بين العرب في معنى الكرامة والتلطّف . إطلاقاً متعارفاً ، ولكنّهم لمّا قالوها للرسول أرادوا بها معنى آخر انتحلوه لها من شيء يسمَح به تركيبها الوضعي ، أي أن لا يسمع صوتاً من متكلّم . لأن يصير أصمّ ، أو أن لا يُستجاب دعاؤه . والذي دلّ على أنّهم أرادوا ذلك قوله بعد : { ولو أنهم قالوا } إلى قوله : { اسمع وانظرنا } فأزال لهم كلمة ( غير مسمع ) . وقصدُهم من إيراد كلام ذي وجهين أن يُرضوا الرسول والمؤمنين ويُرضوا أنفسهم بسوء نيتهم مع الرسول عليه السلام ويرضوا قومهم ، فلا يجدوا عليهم حجّة .

وقولهم : { وراعنا } أتوا بلفظ ظاهره طلب المُراعاة ، أي الرفق ، والمراعاة مفاعلة مستعملة في المبالغة في الرعي على وجه الكناية الشائعة التي ساوت الأصل ، ذلك لأنّ الرعي من لوازمه الرفقُ بالمرعِيّ ، وطلب الخصب له ، ودفع العادية عنه . وهم يريدون ب { راعنا } كلمة في العبرانية تدلّ على ما تدلّ عليه كلمة الرعونة في العَربية ، وقد روي أنّها كلمة { رَاعُونا } وأنّ معناها الرعونة فلعلّهم كانوا يأتون بها ، يوهمون أنّهم يعظّمون النبي صلى الله عليه وسلم بضمير الجماعة ، ويدلّ لذلك أنّ الله نهى المسلمين عن متابعتهم إيّاهم في ذلك اغتراراً فقال في سورة البقرة ( 104 ) : { يأيها الذين آمنوا لا تَقولوا رَاعنا وقولوا انظُرْنا } واللَّيُّ أصله الانعطاف والانثناء ، ومنه { ولا تَلْوُون على أحد } ، وهو يحتمل الحقيقة في كلتا الكلمتين : اللّي ، والألسنة ، أي أنّهم يثنون ألسنتهم ليكون الكلام مشبهاً لغتين بأن يشبعوا حركات ، أو يقصروا مُشْبَعات ، أو يفخّموا مرقّقا ، أو يرقّقوا مفخما ، ليعطي اللفظ في السمع صورة تشبِه صورة كلمة أخرى ، فإنّه قد تخرج كلمة من زنة إلى زنة ، ومن لغة إلى لغة بمثل هذا . ويحتمل أن يراد بلفظ ( الليّ ) مجازُه ، وب ( الألسنة ) مجازه : فالليّ بمعنى تغيير الكلمة ، والألسنة مجاز على الكلام ، أي يأتون في كلامهم بما هو غير متمحّض لمعنى الخير .

وانتصب « ليّاً » على المفعول المطلق ل { يقولون } ، لأنّ الليّ كيفية من كيفيات القَول .

وانتصب { طعناً في الدين } على المفعول لأجله ، فهو من عطف بعض المفاعيل على بعض آخر ، ولا ضير فيه ، ولك أن تجعلهما معاً مفعولين مطلقين أو مفعولين لأجلهما ، وإنما كان قولهم ( طعناً في الدين ) ، لأنّهم أضمروا في كلامهم قصداً خبيثاً فكانوا يقولون لإخوانهم ، ومن يليهم من حديثي العهد بالإيمان : لو كان محمّد رسولاً لعلم ما أردنا بقولنا ، فلذلك فضحهم الله بهذه الآية ونظائرها .

وقوله : { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا } أي لو قالوا ما هو قبول للإسلام لكان خيراً . وقوله : { سمعنا وأطعنا } يشبه أنّه ممّا جرى مجرى المثل بقول من أمر بشيء وامتثله « سَمّعٌ وطاعة » ، أي شأني سمع وطاعة ، وهو ممّا التزم فيه حذف المبتدإ لأنّه جرى مجرى المثل ، وسيجيء في سورة النور ( 51 ) قولُه تعالى : { إنّما كان قولَ المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } وقوله : وأقوم تفضيل مشتقّ من القيام الذي هو بمعنى الوضوح والظهور ، كقولهم : قام الدليلُ على كذا ، وقامت حجّة فلان . وإنّما كان أقومَ لأنّه دالّ على معنى لا احتمال فيه ، بخلاف قولهم .

والاستدراك في قوله : { ولكن لعنهم الله بكفرهم } ناشىء عن قوله : { لكان خيراً لهم } ، أي ولكن أثر اللَّعْنَة حاق بهم فحرموا ما هو خير فلا ترشَحُ نفوسهم إلاّ بآثار ما هو كمين فيها من فعل سيّىءٍ وقول بَذَاءٍ لا يستطيعون صرف أنفسهم عن ذلك .

ومعنى { فلا يؤمنون إلا قليلاً } أنهم لا يؤمنون أبداً فهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه ، وأطلق القلّة على العدم . وفسّر به قول تَأبّط شرّاً :

قليلُ التشكّي للمُهِمّ يصيبُه *** كثيرُ الهَوى شَتَّى النَّوَى والمَسالك

قال الجاحظ في « كتاب البيان » عند قول عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يصف أرض نصيبين « كثيرة العقارب قليلة الأقارب » ، يضعون ( قليلاً ) في موضع ( ليس ) ، كقولهم : فلان قليل الحياء . ليس مرادهم أن هناك حياء وإن قَلَّ » . قلت : ومنه قول العرب : قَلَّ رجل يقولُ ذلك ، يريدون أنّه غير موجود . وقال صاحب « الكشاف » عند قوله تعالى : { أإله مع الله قليلاً ما تذكّرون } « والمعنى نفي التذكير . والقلّة مستعمل في معنى النفي » . وإنّما استعملت العرب القلّة عوضاً عن النفي لضرب من الاحتراز والاقتصاد ، فكأنَّ المتكلّم يخشى أن يُتلقّى عموم نفيه بالإنكار فيتنازل عنه إلى إثبات قليل وهو يريد النفي .