{ 89 } { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }
لما ذكر فيما تقدم أنه يبعث { فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } ، ذكر ذلك أيضا هنا ، وخص منهم هذا الرسول الكريم فقال : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ } ، أي : على أمتك تشهد عليهم بالخير والشر ، وهذا من كمال عدل الله تعالى ، أن كل رسول يشهد على أمته ؛ لأنه أعظم اطلاعا من غيره على أعمال أمته ، وأعدل وأشفق من أن يشهد عليهم إلا بما يستحقون . وهذا كقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } . وقال تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ } . وقوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } ، في أصول الدين وفروعه ، وفي أحكام الدارين وكل ما يحتاج إليه العباد ، فهو مبين فيه أتم تبيين بألفاظ واضحة ومعان جلية ، حتى إنه تعالى يثني فيه الأمور الكبار التي يحتاج القلب لمرورها عليه كل وقت ، وإعادتها في كل ساعة ، ويعيدها ويبديها بألفاظ مختلفة وأدلة متنوعة لتستقر في القلوب فتثمر من الخير والبر بحسب ثبوتها في القلب ، وحتى إنه تعالى يجمع في اللفظ القليل الواضح معاني كثيرة يكون اللفظ لها كالقاعدة والأساس ، واعتبر هذا بالآية التي بعد هذه الآية وما فيها من أنواع الأوامر والنواهي التي لا تحصى ، فلما كان هذا القرآن تبيانا لكل شيء صار حجة الله على العباد كلهم . فانقطعت به حجة الظالمين وانتفع به المسلمون ، فصار هدى لهم يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم ، ورحمة ينالون به كل خير في الدنيا والآخرة . فالهدى ما نالوه به من علم نافع وعمل صالح .
والرحمة ما ترتب على ذلك من ثواب الدنيا والآخرة ، كصلاح القلب وبره وطمأنينته ، وتمام العقل الذي لا يتم إلا بتربيته على معانيه التي هي أجل المعاني وأعلاها ، والأعمال الكريمة والأخلاق الفاضلة ، والرزق الواسع والنصر على الأعداء بالقول والفعل ، ونيل رضا الله تعالى وكرامته العظيمة التي لا يعلم ما فيها من النعيم المقيم إلا الرب الرحيم .
ثم أكد - سبحانه - أمر البعث ، وأنه آت لا ريب فيه ، فقال - تعالى - : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } .
والمراد بالشهيد هنا : كل نبي بعثه الله - تعالى - لأمة من الأمم السابقة كنوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وغيرهم من الأنبياء السابقين - عليهم الصلاة والسلام - .
والظرف { يوم } متعلق بمحذوف تقديره : اذكر .
والمعنى : واذكر - أيها العاقل لتتعظ وتعتبر - يوم القيامة - يوم نبعث في كل أمة من الأمم السابقة ، نبيها الذي أرسل إليها في الدنيا ، ليشهد عليها الشهادة الحق ، بأن يشهد لمؤمنها بالإِيمان ، ولكافرها بالكفر .
وقوله - سبحانه - : { من أنفسهم } ، أي : من جنسهم وبيئتهم ، ليكون أتم للحجة ، وأقطع للمعذرة ، وأدعى إلى العدالة والإنصاف .
قال الألوسي : ولا يرد لوط - عليه السلام - فإنه لما تأهل فيهم وسكن معهم عد منهم - أيضا - .
وقال ابن عطية : يجوز أن يبعث الله شهداء من الصالحين مع الأنبياء - عليهم السلام - .
وقد قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة .
وقوله - سبحانه - : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاء } ، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التشريف والتكريم . أي : وجئنا بك - أيها الرسول الكريم - يوم القيامة شهيدا على هؤلاء الذين أرسلك الله - تعالى - لإِخراجهم من الظلمات إلى النور .
وإيثار لفظ المجيء على البعث ، لكمال العناية بشأنه صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير قوله : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاء } ، يعني : أمتك . أي : اذكر ذلك اليوم وهوله ، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم ، والمقام الرفيع . " وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة النساء ، فلما وصل إلى قوله - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حسبك " . فقال ابن مسعود : فالتفت فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان . أي : بالدموع . . . " .
والمراد بشهادته على أمته صلى الله عليه وسلم : تصريحه بأنه قد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح لأمته ، وتزكيته لأعمال الصالحين منها ، ورجاؤه من الله - تعالى - في هذا اليوم العصيب أن يغفر للعصاة من هذه الأمة .
ويرى بعضهم أن المراد بهؤلاء في قوله : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاء } ، أي : على الأنبياء السابقين وأممهم .
ويبدو لنا أن الرأي الأول أقرب إلى الصواب ؛ لأنه هو الظاهر من معنى الجملة الكريمة ، ولأن آية سورة النساء : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } تؤيده .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان ما أنزله عليه من وحي فيه الشفاء للصدور ، والموعظة للنفوس فقال - تعالى - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } .
والتبيان : مصدر يدل على التكثير . قالوا : ولم يجئ من المصادر على هذه الزنة إلا لفظان : لفظ التبيان ، ولفظ التلقاء . أي : { ونزلنا عليك } - أيها الرسول الكريم - { الكتاب } الكامل الجامع ، وهو القرآن الكريم ، { تبيانا } ، أي : بيانا بليغا شاملا ، { لكل شيء } ، على سبيل الإِجمال تارة ، وعلى سبيل التفصيل تارة أخرى .
وقوله : { وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ، صفات أخرى للكتاب .
أي : أنزلنا عليك القرآن ليكون تبيانا لكل شيء ، وليكون هداية للناس إلى طريق الحق والخير ، ورحمة لهم من العذاب ، وبشارة لمن أسلموا وجوههم لله - تعالى - وأحسنوا القول والعمل ، لا لغيرهم ممن آثروا الكفر على الإِيمان ، والغيّ على الرشد .
قال الجمل ما ملخصه : وقوله : { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ، أي : بيانا بليغا ، فالتبيان أخص من مطلق البيان ، على القاعدة : أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى .
وهذا التبيان إما في نفس الكتاب ، أو بإحالته على السنة لقوله - تعالى - : { . . . وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ . . . }
أو بإحالته على الإجماع كما قال - تعالى - : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى . . . }
أو على القياس كما قال : { فَاعْتَبِرُواْ يأُوْلِي الأَبْصَارِ } ، والاعتبار : النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس .
فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها ، وكلها مذكورة في القرآن ، فكان تبيانا لكل شيء ، فاندفع ما قيل : كيف قال الله - تعالى - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ، ونحن نجد كثيرا من أحكام الشريعة لم يعلم من القرآن نصا ، كعدد ركعات الصلاة ، ومقدار حد الشرب ، ونصاب السرقة وغير ذلك . . . .
وبعد أن مدح - سبحانه - القرآن الكريم ، بأن فيه تبيان كل شيء ، وأنه هداية ورحمة وبشرى للمسلمين ، أتبع ذلك بآيات كريمة أمرت المسلمين بأمهات الفضائل ، وبجماع مكارم الأخلاق ، ونهتهم عن الفواحش والرذائل لتكون كالدليل على ما في هذا الكتاب من تبيان وهدى ورحمة ، فقال - تعالى - : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . . . } .
ثم يخصص السياق موقفا خاصا للرسول [ ص ] مع قومه :
( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ، وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) . .
وفي ظل المشهد المعروض للمشركين ، والموقف العصيب الذي يكذب الشركاء فيه شركاءهم ، ويستسلمون لله متبرئين من دعوى عبادهم الضالين ، يبرز السياق شأن الرسول مع مشركي قريش يوم يبعث من كل أمة شهيد . فتجيء هذه اللمسة في وقتها وفوتها : ( وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ) . . ثم يذكر أن في الكتاب الذي نزل على الرسول ( تبيانا لكل شيء )فلا حجة بعده لمحتج ، ولا عذر معه لمعتذر . ( وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) . . فمن شاء الهدى والرحمة فليسلم قبل أن يأتي اليوم المرهوب ، فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون . .
وهكذا تجيء مشاهد القيامة في القرآن لأداء غرض في السياق ، تتناسق مع جوه وتؤديه .
وقوله تعالى : { ويوم نبعث } الآية ، هذه الآية في ضمنها وعيد ، والمعنى واذكر يوم نبعث في كل أمة شهيداً عليها ، وهو رسولها الذي شاهد في الدنيا تكذيبها وكفرها ، وإيمانها وهداها ، ويجوز أن يبعث الله شهيداً من الصالحين مع الرسل ، وقد قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحداً على معصية فانهه ، فإن أطاعك وإلا كنت شهيداً عليه يوم القيامة ، { من أنفسهم } ، بحسب أن بعثة الرسل كذلك في الدنيا ، وذلك أن الرسول الذي من نفس الأمة في اللسان والسير ، وفهم الأغراض والإشارات ، يتمكن له إفهامهم ، والرد على معانديهم ، ولا يتمكن ذلك من غير من هو من الأمة ، فلذلك لم يبعث الله قط نبياً إلا من الأمة المبعوث إليهم ، وقوله : { هؤلاء } ، إشارة إلى هذه الأمة . و { الكتاب }ن القرآن ، وقوله : { تبياناً } ، اسم وليس بالمصدر ، وهو كالنقصان ، والمصادر في مثل هذا ، التاء فيها مفتوحة كالترداد والتكرار{[7399]} ، ونصب { تبياناً } على الحال{[7400]} .
وقوله : { لكل شيء } ، أي : مما يحتاج في الشرع ، ولا بد منه في الملة ، كالحلال والحرام ، والدعاء إلى الله ، والتخويف من عذابه ، وهذا حصر ما اقتضته عبارات المفسرين ، وقال ابن مسعود : أنزل في هذا القرآن كل علم ، وكل شيء قد بين لنا في القرآن ، ثم تلا هذه الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم}، يعني: نبيهم، وهو شاهد على أمته أنه بلغهم الرسالة،
{شهيدا على هؤلاء}، يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه بلغهم الرسالة،
{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}، من أمره، ونهيه، ووعده، ووعيده، وخبر الأمم الخالية، وهذا القرآن،
{ورحمة}، من العذاب لمن عمل به،
{وبشرى}، يعني: ما فيه من الثواب،
قال الشافعي: فجماع ما أبان الله عز وجل لخلقه في كتابه مما تعبدهم به لما مضى في حكمه جل ثناؤه، من وجوه:... فمنها: ما أبانه لخلقه نصا... ومنه: ما أحكم فرضه بكتابه... ومنه: ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما ليس لله فيه نصُّ حُكْم. وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَأَطِيعُوا اَلرَّسُولَ} وقال: {مَّنْ يُّطِعِ اِلرَّسُولَ فَقَدَ اَطَاعَ اَللَّهَ}. وقال: {اِنَّ اَلذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اَللَّهَ يَدُ اَللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فأعلمهم أن بيعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعتُه، وكذلك أعلمهم أن طاعته طاعتُه، وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُومِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} مع سائر ما ورد في معنى هذه الآيات. قال الشافعي: فمن قَبِلَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبفرض الله قَبِلَ...
ومنه ما فرض على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد... فليس لأحد أبدا أن يقول في شيء حلَّ أو حَرُمَ إلا من جهة العلم، وجهة العلم في الخبر: في الكتاب، والسنة، أو الإجماع، أو القياس.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيدا عَلَيْهِمْ مِنْ أنْفُسِهِمْ} يقول: نسأل نبيهم الذي بعثناه إليهم للدعاء إلى طاعتنا. وقال: {مِنْ أنُفُسِهِمْ}؛ لأنه تعالى ذكره كان يبعث إلى أمم أنبياءها منها، ماذا أجابوكم، وما ردّوا عليكم؟ {وَجِئْنا بِكَ شَهِيدا عَلى هُؤلاءِ}، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وجئنا بك يا محمد شاهدا على قومك وأمتك الذين أرسلتك إليهم، بما أجابوك وماذا عملوا فيما أرسلتك به إليهم؟.
وقوله: {وَنَزّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانا لِكُلّ شَيْءٍ}، يقول: نزل عليك يا محمد هذا القرآن بيانا لكلّ ما بالناس إليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب. {وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً} لمن صدّق به، وعمل بما فيه من حدود الله وأمره ونهيه، فأحل حلاله وحرّم حرامه.
{وبُشْرَى للمسْلمِينَ} يقول: وبشارة لمن أطاع الله، وخضع له بالتوحيد، وأذعن له بالطاعة، يبشره بجزيل ثوابه في الآخرة، وعظيم كرامته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ}، يعني: نبيهم؛ لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم، {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {شَهِيدًا على هَؤُلآء}، على أمتك، {تِبْيَانًا}...
فإن قلت: كيف كان القرآن تبياناً {لّكُلّ شَيء}؟ قلت: المعنى: أنه بين كل شيء من أمور الدين، حيث كان نصاً على بعضها، وإحالة على السنة، حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته. وقيل: وما ينطق عن الهوى. وحثاً على الإجماع في قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} [النساء: 115]، وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم... وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤا طرق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد، مستندة إلى تبيان الكتاب، فمن ثمّ كان تبياناً لكل شيء.
اعلم أن هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلفين عن المعاصي. واعلم أن الأمة عبارة عن القرن والجماعة...
إذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان:
الأول: أن المراد أن كل نبي شاهد على أمته.
والثاني: أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا فلا بد وأن يحصل فيهم واحد يكون شهيدا عليهم. أما الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الرسول بدليل قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} وثبت أيضا أنه لا بد في كل زمان بعد زمان الرسول من الشهيد. فحصل من هذا أن عصرا من الإعصار لا يخلو من شهيد على الناس وذلك الشهيد لا بد وأن يكون غير جائز الخطأ، وإلا لافتقر إلى شهيد آخر ويمتد ذلك إلى غير النهاية وذلك باطل، فثبت أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم كرر التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السالفة، وهو أن الشهادة تقع على الأمم لا لهم، وتكون بحضرتهم، فقال تعالى: {ويوم}، أي: وخوفهم يوم: {نبعث}، أي: بما لنا من العظمة، {في كل أمة} من الأمم {شهيداً}، أي: هو في أعلى رتب الشهادة {عليهم}...
ولما كانت بعثة الأنبياء السابقين عليهم السلام خاصة بقومهم، إلا قليلاً، قال: {من أنفسهم}، وهو نبيهم...
ولما كان لذلك اليوم من التحقق ما لا شبهة فيه بوجه، وكذا شهادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عبر بالماضي إشارة إلى ذلك، وإلى أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يزل من حين بعثه متصفاً بهذه الصفة العلية، فقال تعالى: {وجئنا}، أي: بما لنا من العظمة، {بك شهيداً}، أي: شهادة هي مناسبة لعظمتنا، {على هؤلاء}، أي: الذين بعثناك إليهم، وهم أهل الأرض، وأكثرهم ليس من قومه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك لم يقيد بعثته بشيء...؛ ثم بين أنه لا إعذار في شهدائه؛ فإنه لا حجة في ذلك اليوم لمن خالف أمره اليوم؛ لأنه سبحانه أزاح العلل، وترك الأمر على بيضاء نقية ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك... {ونزلنا}، أي: بعظمتنا، بحسب التدريج والتنجيم، {عليك الكتاب} الجامع للهدى... {لكل شيء} ورد عليك من أسئلتهم ووقائعهم، وغير ذلك، وهو في أعلى طبقات البيان، كما أنه في أعلى طبقات البلاغة؛ لأن المعنى به أسرع إلى الأفهام وأظهر في الإدراك، والنفس أشد تقبلاً له لما هو عليه من حسن النظام، والقرب إلى الأفهام، وإنما احتيج إلى تفسيره مع أنه في نهاية البيان لتقصير الإنسان في العلم بمذاهب العرب، الذين هم الأصل في هذا اللسان، وتقصير العرب عن جميع مقاصده، كما قصروا عن درجته في البلاغة، فرجعت الحاجة إلى تقصير الفهم، لا إلى تقصير الكلام في البيان، ولهذا تفاوت الناس في فهمه؛ لتفاوتهم في درجات البلاغة، ومعرفة طرق العرب في جميع أساليبها... قال تعالى: {وهدى}، أي: موصلاً إلى المقصود...
ولما كان ذلك قد لا يكون على سبيل الإكرام، قال تعالى: {ورحمة}، ولما كان الإكرام قد لا يكون بما هو في أعلى طبقات السرور، قال سبحانه: {وبشرى}، أي: بشارة عظيمة جداً {للمسلمين}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فلما كان هذا القرآن تبيانا لكل شيء صار حجة الله على العباد كلهم. فانقطعت به حجة الظالمين وانتفع به المسلمون، فصار هدى لهم يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم، ورحمة ينالون به كل خير في الدنيا والآخرة. فالهدى ما نالوه به من علم نافع وعمل صالح.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تكرير لجملة {ويوم نبعث من كل أمةٍ شهيداً ثم لا يؤذن للذين كفروا} [سورة النحل: 84]... ومن دواعي تكرير مضمون الجملة السابقة أنه لبعد ما بين الجملتين بما اعترض بينهما من قوله تعالى: {ثم لا يؤذن للذين كفروا} إلى قوله: {بما كانوا يفسدون} [سورة النحل: 84، 88]، فهو كالإعادة... وقد حصل من هذه الإعادة تأكيد التهديد والتسجيل...
وعُدّي فعل {نبعث} هنا بحرف {في}، وعُدّي نظيره في الجملة السابقة بحرف (مِن) ليحصل التفنّن بين المكرّرين تجديداً لنشاط السامعين...
وزيد في هذه الجملة أن الشهيد يكون من أنفسهم زيادة في التذكير بأن شهادة الرسل على الأمم شهادة لا مطعن لهم فيها لأنها شهود من قومهم لا يجد المشهود عليهم فيها مساغاً للطعن...
ولم تخل أيضاً بعد التعريض بالتحذير من صدّ الكافرين عن سبيل الله من حسن موقع تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم إذ بعث فيهم شهيداً يشهد لهم بما ينفعهم وبما يضرّ أعداءهم...
ولما كان بعث الشهداء للأمم الماضية مراداً به بعثهم يوم القيامة عبّر عنه بالمضارع...
ولم يوصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه من أنفسهم لأنه مبعوث إلى جميع الأمم، وشهيد عليهم جميعاً، وأما وصفه بذلك في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفُسكم} في سورة التوبة (128) فذلك وصف كاشف اقتضاه مقام التّذكير للمخاطبين من المنافقين الذين ضَمّوا إلى الكفر بالله كفران نعمة بعث رسول إليهم من قومهم...
و {هؤلاء} إشارة إلى حاضر في الذّهن وهم المشركون الذين أكثر الحديث عليهم. وقد تتبّعتُ مواقع أمثال اسم الإشارة هذا في القرآن فرأيته يُعنى به المشركون من أهل مكّة...
{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} عطف على جملة {وجئنا بك شهيداً} أي أرسلناك شهيداً على المشركين وأنزلنا عليك القرآن لينتفع به المسلمون، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شهيد على المكذّبين ومرشد للمؤمنين. وهذا تخلّص للشروع في تعداد النّعم على المؤمنين من نعم الإرشاد ونعم الجزاء على الامتثال وبيان بركات هذا الكتاب المنزّل لهم...
وتعريف الكتاب للعهد، وهو القرآن...
و« كلّ شيء» يفيد العموم؛ إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشّرائع: من إصلاح النفوس، وإكمال الأخلاق، وتقويم المجتمع المدنيّ، وتبيّن الحقوق، وما تتوقّف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وما يأتي في خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية، ووصف أحوال الأمم، وأسباب فلاحها وخسارها، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ، وما يتخلّل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم. وفي خلال ذلك كلّه أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بياناً لكل شيء على وجه العموم الحقيقي إن سلك في بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شرح الرسول صلى الله عليه وسلم وما قفّاه به أصحابه وعلماء أمّته، ثم ما يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعدّ للطائعين وما أعدّ للمعرضين، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة. ففي كل ذلك بيان لكل شيء يقصد بيانه للتبصّر في هذا الغرض الجليل، فيؤول ذلك العموم العرفي بصريحه إلى عموم حقيقي بضمنه ولوازمه. وهذا من أبدع الإعجاز...
وخصّ بالذّكر الهدى والرحمة والبُشرى لأهميتها؛ فالهدى ما يرجع من التّبيان إلى تقويم العقائد والأفهام والإنقاذ من الضلال. والرحمة ما يرجع منه إلى سعادة الحياتين الدنيا والأخرى، والبُشرى ما فيه من الوعد بالحسنيين الدنيوية والأخروية. وكل ذلك للمسلمين دون غيرهم لأن غيرهم لما أعرضوا عنه حَرموا أنفسهم الانتفاع بخواصّه كلها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وصفه الله تعالى بأربعة أوصاف كاملة:
الوصف الأول – أنه تبيان كل شيء أي فيه بيان كامل لكل شيء من شئون الرسالات الإلهية للبشر، ففيه خير رسالات النبيين السابقين، وفيه بين الأحكام المحكمة التي لم يعرها نسخ من الشرائع الإلهية كلها، وفي المعجزات التي جاءت بها الرسل معجزة معجزة، ولولا القرآن الكريم ما علمت على درجة اليقين معجزة لنبي أو رسول، لأنه الكتاب المحفوظ المتواتر حقا وصدقا. والوصف الثاني – أنه هدى، فهو يشتمل على الهداية، كما قال قائل الجن: {يهدي إلى الرشد (2)} [الجن] ويبين السبيل الأقوم والطريق المستقيم. والوصف الثالث – أنه الرحمة؛ لأن شريعته رحمة للعالمين فهي بنظامها واقتصادها وحدوها، وكل عقوباتها رحمة للكافة من الأمة، وإن كانت فيها قسوة أحيانا على الآحاد، ففيها رحمة للعباد.
والوصف الرابع – {وبشرى للمسلمين} فيه التبشير للمؤمنين بالجنة، والإنذار للكافرين بالنار، وذكرت البشرى دون النذر لأنها التي تتناسب مع الرحمة، والله ولي المؤمنين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلَّ شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين)...
يتّضح لنا أنّ المقصود من «كل شيء» هو كل الأُمور اللازمة للوصول إلى طريق التكامل، والقرآن ليس بدائرة معارف كبيرة وحاوية لكل جزئيات العلوم الرياضية والجغرافية والكيميائية والفيزيائية... الخ، وإِنّما القرآن دعوة حق لبناء الإِنسان، وصحيح أنّه وجه دعوته للناس لتحصيل كل ما يحتاجونه من العلوم، وصحيح أيضاً أنّه قد كشف الستار عن الكثير من الأجزاء الحساسة في جوانب علمية مختلفة ضمن بحوثه التوحيدية والتربية، ولكنْ ليس ذلك الكشف هو المراد، وإِنّما توجيه الناس نحو التوحيد والتربية الربانية التي توصل الإِنسان إلى شاطئ السعادة الحقة من خلال الوصول لرضوانه سبحانه...
والإِنسان كلما سبح في بحر القرآن الكريم وتوغّل في أعماقه، واستخرج برامجاً وتوجيهات توصله إلى السعادة، اتّضحت له عظمة هذا الكتاب السماوي وشموله...
ولهذا، فَمَنْ استجدى القوانين من ذا وذاك وترك القرآن، فهو لم يعرف القرآن، وطلب من الغير ما هو موجود عنده. وإِضافةً لتشخيص الآية المباركة مسألة أصالة واستقلال تعاليم الإِسلام في كل الأُمور، فقد حَمَّلَتْ المسلمين مسؤولية البحث والدراسة في القرآن الكريم باستمرار ليتوصلوا لاستخراج كل ما يحتاجونه...
إِن عدم إِدراك العامة لهذا القسم من العلوم القرآنية الذي يمكننا تشبيهه بـ (عالم اللاشعور) لا يمنع من التحرك في ضوء (عالم الشعور) وعلى ضوء ظاهره والاستفادة منه...
ـ مراحل الهداية الأربع:إِنّ الآية أعلاه ذكرت أربعة تعابير متلازمة حسب تسلسلها لتوضيح الهدف من نزول القرآن:
ـ بشرى للمسلمين. ولو أمعنا النظر لوجدنا ثمّة ارتباطاً منطقياً واضحاً بين هذه التعابير، فكلُّ منها يرمز إلى مرحلة معينة، المرحلة الأُولى في مسير الهداية تستلزم البيان والتعليم، وبعدها تأتي مرحلة الهداية، ومن ثمّ تأتي العمل الموجب للرحمة، وأخيراً البشرى بثواب اللّه لمن آمن وعمل صالحاً وسرور جميع السائرين على طريق الحق...