{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وهذا أيضا دليل آخر على توحد الله بالخلق والتدبير والإماتة والإحياء ، فقال : { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } أي : قد باد أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها ، فلم يبق بها أنيس بل بقيت موحشة من أهلها مقفرة ، فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا و { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } استبعادا لذلك وجهلا بقدرة الله تعالى ، فلما أراد الله به خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره ، وكان معه طعام وشراب ، { فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم } استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت معرفته وحواسه وكان عهد حاله قبل موته ، فقيل له { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } أي : لم يتغير بل بقي على حاله على تطاول السنين واختلاف الأوقات عليه ، ففيه أكبر دليل على قدرته حيث أبقاه وحفظه عن التغير والفساد ، مع أن الطعام والشراب من أسرع الأشياء فسادا { وانظر إلى حمارك } وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده وانتثرت عظامه ، وتفرقت أوصاله { ولنجعلك آية للناس } على قدرة الله وبعثه الأموات من قبورهم ، لتكون أنموذجا محسوسا مشاهدا بالأبصار ، فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } أي : ندخل بعضها في بعض ، ونركب بعضها ببعض { ثم نكسوها لحما } فنظر إليها عيانا كما وصفها الله تعالى ، { فلما تبين له } ذلك وعلم قدرة الله تعالى { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } والظاهر من سياق الآية أن هذا رجل منكر للبعث أراد الله به خيرا ، وأن يجعله آية ودليلا للناس لثلاثة أوجه أحدها قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } ولو كان نبيا أو عبدا صالحا لم يقل ذلك ، والثاني : أن الله أراه آية في طعامه وشرابه وحماره ونفسه ليراه بعينه فيقر بما أنكره ، ولم يذكر في الآية أن القرية المذكورة عمرت وعادت إلى حالتها ، ولا في السياق ما يدل على ذلك ، ولا في ذلك كثير فائدة ، ما الفائدة الدالة على إحياء الله للموتى في قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم فعمروها ؟ ! وإنما الدليل الحقيقي في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه بحاله ، والثالث في قوله : { فلما تبين له } أي : تبين له أمر كان يجهله ويخفى عليه ، فعلم بذلك صحة ما ذكرناه ، والله أعلم .
ثم ساقت السورة الكريمة قصتين تدلان أبلغ دلالة على قدرة الله - تعالى - وعلى صحة البعث والنشور ، استمع إلى القرآن وهو يحكي هاتين القصتين بأسلوبه البليغ فيقول :
{ أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ . . . }
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 259 ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 260 )
قال الآلوسي ما ملخصه : قوله : { أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ } معطوف على سابقه - وهو قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ } والكاف اسمية بمعنى مثل معمولة لا رأيت محذوفاً . أي أو أرأيت مثل الذي مر على قرية . . وحذف لدلالة ( أَلَمْ تَرَ ) عليه . وقيل : إن الكاف زائدة والتقدير : ألأم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية . . وقيل : إن العطف هنا محمول على المعنى كأنه قيل : أرأيت شيئاً عجيباً - كالذي حاج إبراهيم في ربه ، أو كالذي مر على قرية " .
والذي { مَرَّ على قَرْيَةٍ } قيل هو عزير بن شرخيا ، وقيل حزقيال بن بوزي وقيل غير ذلك ، والقرية قيل المراد بها بيت المقدس وكان قد خربها " بختنصر " البابلي . . والقرآن الكريم لم يهتم بتحديد الأشخاص والأماكن لأنه يقصد العبرة وبيان الحال والشأن . وجملة { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } في موضع الحال من الضمير المستتر في { مَرَّ } والواو رابطة بين الجملة الحالية وبين صاحبها والإِتيان بها واجب لخلو الجملة من ضمير يعود على صاحبها وقيل هي حال من قرية ، وسوغ إتيان الحال منها مع كونها نكرة وقوعها بعد الاستفهام المقدر وهو أرأيت ومعنى { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } أن جدرانها ساطقة على سقوفها ، أي أن الخراب قد عمها والدمار قد نزل بها ، فأصبحت خالية من أهلها وفارغة ممن كان يعمرها وأصل الخواء الخلو . يقال خوت الدار وخربت تخوى خواء إذا سقطت وخلت .
والعروش جمع عرش وهو سقف البيت ويسمى العريش ، وكل شيء يهيأ ليظل أو يكنّ فهو عريش وعرش .
وقوله - تعالى - : { قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } حكاية لما قاله ذلك الذي مر على تلك القرية ورأى فيها ما رأى من مظاهر الخراب والدمار والمعنى : أو أرأيت مثل الذي مر على قرية وهي ساقطة حياطانها على سقوفها ، وفارغة ممن كان يسكنها ، فهاله أمرها ، وراعه شأنها ، وقال على سبيل التعجب كيف يحيى الله هذه القرية بعد موتها ، بأن يعيد إليها العمران بعد الخراب ، ويجعلها عامرة بسكانها الذي خلت منهم . فقوله : { قَالَ أنى يُحْيِي هذه } بمعنى كيف فتكون منصوبة على الحالية من اسم الإِشارة ويجوز أن تكون { أنى } هنا بمعنى متى أي : متى يحيى الله هذه القرية بعد موتها فتكون منصوبة على الظرفية .
وقال القرطبي : قوله { قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } معناه من أي طريق وبأي سبب ، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان ، كما يقال الآن في المدن الخربة يبعد أن تعمر وتسكن أي : أنى تعمر هذه بعد خرابها . فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته " .
وقوله هذا إنما هو تساؤل عن كيفية الإِعادة لا عن أصل الإِعادة لأنه كان مؤمنا بالبعث والنشور ، إلا أنه لما رأى حال القرية على تلك الصورة من الخراب تعجب من قدرة الله على إحيائها ، وتشوق إلى عمارتها واعترف بالعجو عن معرفة طريق الإِحياء . فماذا كانت نتيجة هذا التساؤل ؟ كانت نتيجته كما حكاها القرآن : { فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
أي : بعد أن قال هذا الذي مر على تلك القرية الخاوية على عروشها ما قال ، ألبثه الله - تعالى - في الموت مائة عام { ثُمَّ بَعَثَهُ } أي أحياه ببعث روحه إلى بدنه { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ } أي كم مدة من الزمان لبتثها على هذه الحال ؟ { قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
وقال - سبحانه - : { فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } ولم يقل ثم أحياه ، للدلالة على أنه عاد كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية وللإِشهار بسرعته وسهولة تأتيه على الباري - سبحانه - .
قال ابن كثير : كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيى بدنه فلما استقل سوياً قال الله له بواسطة الملك { كَمْ لَبِثْتَ } ؟ { قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
وقوله : { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ } استئناف مبنى على سؤال كأنه قيل : فماذا قال له بعد بعثه ؟
فقيل : قال كم لبثت ليظهر له العجز عن الإِحاطة بشئون الله - تعالى - على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة .
وكم منصوبة على الظرفية ومميزها محذوف والتقدير كم يوما أو وقتا والناصب لها قوله : { لَبِثْتُ } .
وفي هذه الجملة الكريمة بيان للناس بأن الموت يشبه النوم ، وأن البعث يشبه اليقظة بعده وأنه لا شيء محال على الله - تعالى - فهو القائل : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وفي الحديث الشريف : " والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ، ولتجزون بالإِحسان إحسانا وبالسوء سوءا ، وإنها لجنة أبدا ، أو لنار أبدا " .
وقوله - تعالى - : { قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ } معطوف على مقدر ، أي : ليس الأمر كما قلت إنك لبثت يوما أو بعض يوم بل إنك لبثت مائة عام ثم أرشده - سبحانه - إلى التأمل في أمور فبها أبلغ دلالة على قدرة الله تعالى وعلى صحة البعث فقال - سبحانه - : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } .
قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } أي لم يتغير بمرور السنين الطويلة ولم تذهب طراوته فكأنه لم تمر عليه السنون ولفظ يتسنه : مشتق من السنة ، والهاء فيه أصلية إذا قدر لام سنة هام ، وأصلها سنهة لتصغيرها على سنيهة وجمعها على سنهات كسجدة وسجدات ، ولقولهم : سانهته إذا عاملته سنة فسنة ، وتسنه عند القوم إذا أقام فيهم سنة . أو الهاء للوقف نحو كتابيه وجزمه بحذف حرف العلة إذا قدر لام سنة واوا ، وأصلها سنوه لتصغيرها على سنية وجمعها على سنوات .
وقوله : { نُنْشِزُهَا } أي نرفعها . يقال : أنشز الشيء إذا رفعه من مكانه . وأصله من النشز - بفتحتين وبالسكون - وهو الكان المرتفع . وقرئ { نُنْشِزُهَا } - بضم النون والراء - أي نحييها من أنشر الله الموتى أي أحياهم . والمعنى : قال الله - تعالى - لهذا الذي مر على قرية وهي خاوية على غروشها إنك لم تلبث يوما أو بعض يوم في الموت كما تظن بل لبثت مائة عام فإن كنت في شك من ذلك فانظر إلى طعامك وشرابك لتشاهد أمرا آخر من دلائل قدرتنا فإن هذا الطعام والشراب كما ترى لم يتغير بمرور السنين وكر الأعوام بل بقي على حالته . وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه ، وتفرقت أوصاله مما يشهد بأنه قد مرت عليه السنوات الطويلة .
وقوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } معطوف على محذوف متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق ، والتقدير : فعلنا ما فعلنا لترى وتشاهد بنفسك مظاهر قدرة الله ، ولنجعلك آية معجزة ودليلا على صحة البعث وقوله : { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } أي انظر وتأمل في هذا العظام كيف نركب بعضها في بعض بعد أن نوجدها .
وقيل المعنى : وانظر إلى العظام أي عظام حمارك التي تفرقت وتناثرت لتشاهد كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها في جسده .
قال ابن كثير : قال السدي وغيره : " تفرقت عظام حماره يمينا وشمالا حوله فنظر إليها وهي تلوح من بياضها ، فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع ، ثم ربك كل عظم في موضعه ، وذلك كله بمرأى من العزير " .
وجاء الضمير في قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } بالإِفراد مع أن المتقدم طعام وشراب ، لأنهما متلازمان بمعننى أن أحدهما لا يكتفى به عن الآخر فصارا بمنزلة شيء واحد ، فكأنه قال : انظر إلى غذائك .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي فلما تبين له بالأدلة الناصعة ، وبالمشاهدة الحسية قدرة الله - تعالى - على الإِحياء والإِماتة ، وعلى البعث والنشور قال أعلم أي أستيقن وأومن وأعتقد أن الله - تعالى - على كل شيء قدير ، وأنه - سبحانه - لا يعجزه شيء .
والفاء في قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ . . . } عاطفة على مقدر يستدعيه المقام فكأنه قيل : رفع الله العظام من أماكنها وأكساها لحما فلما تبين له ذلك ، وتيقنه قال أعلم أن الله على كل شيء قدير . وفاعل { تَبَيَّنَ } مضمر يفسره سياق الكلام والتقدير : فلما تبين له كيفية الإِحياء أو فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر إحياء الموتى قال أعلم أن الله على كل شيء قدير .
وفي سياق الحديث عن سر الموت والحياة تجيء القصة الأخرى :
( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، قال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ فأماته الله مائة عام ، ثم بعثه . قال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ! قال : بل لبثت مائة عام . فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ؛ وانظر إلى حمارك - ولنجعلك آية للناس - وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما . فلما تبين له قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ) . .
من هو ( الذي مر على قرية ) ؟ ما هذه القرية التي مر عليها وهي خاوية على عروشها ؟ إن القرآن لم يفصح عنهما شيئا ، ولو شاء الله لأفصح ، ولو كانت حكمة النص لا تتحقق إلا بهذا الإفصاح ما أهمله في القرآن . فلنقف نحن - على طريقتنا في هذه الظلال - عند تلك الظلال . إن المشهد ليرتسم للحس قويا واضحا موحيا . مشهد الموت والبلى والخواء . . يرتسم بالوصف : ( وهي خاوية على عروشها ) . . محطمة على قواعدها . ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية . هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ) . .
إن القائل ليعرف أن الله هناك . ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار : كيف يحيي هذه الله بعد موتها ؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء . . وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته ، فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر .
( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ) . .
كيف تدب الحياة في هذا الموات ؟
( فأماته الله مائة عام . ثم بعثه ) . .
لم يقل له كيف . إنما أراه في عالم الواقع كيف ! فالمشاعر والتأثرات تكون أحيانا من العنف والعمق بحيث لا تعالج بالبرهان العقلي ، ولا حتى بالمنطق الوجداني ؛ ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان . . إنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة ، التي يمتلىء بها الحس ، ويطمئن بها القلب ، دون كلام !
( قال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ! ) . .
وما يدريه كم لبث والإحساس بالزمن لا يكون إلا مع الحياة والوعي ؟ على أن الحس الإنساني ليس هو المقياس الدقيق للحقيقة ؛ فهو يخدع ويضل ؛ فيرى الزمن الطويل المديد قصيرا لملابسة طارئة ؛ كما يرى اللحظة الصغيرة دهرا طويلا لملابسة طارئة كذلك !
( قال : بل لبثت مائة عام ) . .
وتبعا لطبيعة التجربة ، وكونها تجربة حسية واقعية ، نتصور أنه لا بد كانت هنالك آثار محسوسة تصور فعل مائة عام . . هذه الآثار المحسوسة لم تكن في طعام الرجل ولا شرابه ، فلم يكونا آسنين متعفنين :
( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) . .
وإذن فلا بد أن هذه الآثار المحسوسة كانت متمثلة في شخصه أو في حماره :
( وانظر إلى حمارك - ولنجعلك آية للناس - وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ) أية عظام ؟ عظامه هو ؟ لو كان الأمر كذلك - كما يقول بعض المفسرين إن عظامه هي التي تعرت من اللحم - للفت هذا نظره عندما استيقظ ، ووخز حسه كذلك ، ولما كانت إجابته : ( لبثت يوما أو بعض يوم ) .
لذلك نرجح أن الحمار هو الذي تعرت عظامه وتفسخت . ثم كانت الآية هي ضم هذه العظام بعضها إلى بعض وكسوتها باللحم وردها إلى الحياة ، على مرأى من صاحبه الذي لم يمسه البلى ، ولم يصب طعامه ولا شرابه التعفن . ليكون هذا التباين في المصائر والجميع في مكان واحد ، معرضون لمؤثرات جوية وبيئية واحدة ، آية أخرى على القدرة التي لا يعجزها شيء ، والتي تتصرف مطلقة من كل قيد ؛ وليدرك الرجل كيف يحيي هذه الله بعد موتها !
أما كيف وقعت الخارقة ؟ فكما تقع كل خارقة ! كما وقعت خارقة الحياة الأولى . الخارقة التي ننسى كثيرا أنها وقعت ، وأننا لا ندري كيف وقعت ! ولا ندري كذلك كيف جاءت إلا أنها جاءت من عند الله بالطريق التي أرادها الله . . وهذا " دارون " أكبر علماء الحياة يظل ينزل في نظريته بالحياة درجة درجة ، ويتعمق أغوارها قاعا قاعا ، حتى يردها إلى الخلية الأولى . . ثم يقف بها هناك . إنه يجهل مصدر الحياة في هذه الخلية الأولى . ولكنه لا يريد أن يسلم بما ينبغي أن يسلم به الإدراك البشري ، والذي يلح على المنطق الفطري إلحاحا شديدا . وهو أنه لا بد من واهب وهب الحياة لهذه الخلية الأولى . لا يريد أن يسلم لأسباب ليست علمية وإنما هي تاريخية في صراعه مع الكنيسة ! فإذا به يقول : " أن تفسير شؤون الحياة بوجود خالق يكون بمثابة ادخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت ! " . .
أي وضع ميكانيكي ! إن الميكانيكية هي أبعد شيء عن هذا الأمر الذي يفرض على الإدراك فرضا أن يبحث عن مصدر لهذا السر القائم تجاه الأبصار والبصائر !
وإنه - هو نفسه - ليجفل من ضغط المنطق الفطري ، الذي يلجيء الإدراك البشري إلجاء إلى الاعتراف بما وراء الخلية الأولى ، فيرجع كل شيء إلى " السبب الأول " ! ولا يقول : ما هو هذا السبب الأول ؟ ما هو هذا السبب الذي يملك إيجاد الحياة أول مرة ، ثم يملك - حسب نظريته هو وهي محل نظر طويل - توجيه الخلية الأولى في طريقها الذي افترض هو أنها سارت فيه صعدا ، دون أي طريق آخر غير الذي كان ! إنه الهروب والمراء والمحال ! ! !
ونعود إلى خارقة القرية لنسأل : وما الذي يفسر أن ينال البلى شيئا ويترك شيئا في مكان واحد وفي ظروف واحدة ؟ إن خارقة خلق الحياة أول مرة أو خارقة رجعها كذلك لا تفسر هذا الاختلاف في مصائر أشياء ذات ظروف واحدة .
إن الذي يفسر هذه الظاهرة هو طلاقة المشيئة . . طلاقتها من التقيد بما نحسبه نحن قانونا كليا لازما ملزما لا سبيل إلى مخالفته أو الاستثناء منه ! وحسباننا هذا خطأ بالقياس إلى المشيئة المطلقة : خطأ منشؤه أننا نفرض تقديراتنا نحن ومقرراتنا العقلية أو " العلمية ! " على الله سبحانه ! وهو خطأ يتمثل في أخطاء كثيرة :
فأولا : ما لنا نحن نحاكم القدرة المطلقة إلى قانون نحن قائلوه ؟ قانون مستمد من تجاربنا المحدودة الوسائل ، ومن تفسيرنا لهذه التجارب ونحن محدودو الإدراك ؟
وثانيا : فهبه قانونا من قوانين الكون أدركناه . فمن ذا الذي قال لنا : إنه قانون نهائي كلي مطلق ، وأن ليس وراءه قانون سواه ؟
وثالثا : هبه كان قانونا نهائيا مطلقا . فالمشيئة الطليقة تنشىء القانون ولكنها ليست مقيدة به . . إنما هو الاختيار في كل حال .
وكذلك تمضي هذه التجربة ، فتضاف إلى رصيد أصحاب الدعوة الجدد ، وإلى رصيد التصور الإيماني الصحيح . وتقرر - إلى جانب حقيقة الموت والحياة وردهما إلى الله - حقيقة أخرى هي التي أشرنا إليها قريبا . حقيقة طلاقة المشيئة ، التي يعنى القرآن عناية فائقة بتقريرها في ضمائر المؤمنين به ، لتتعلق بالله مباشرة ، من وراء الأسباب الظاهرة ، والمقدمات المنظورة . فالله فعال لما يريد . وهكذا قال الرجل الذي مرت به التجربة :
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِى هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ }
عطفت { أو } في هذه الآية على المعنى( {[2494]} ) ، لأن مقصد التعجيب في قوله : { ألم تر إلى الذي حاج } [ الآية : 258 ] يقتضي أن المعنى أرأيت كالذي حاج ، ثم جاء قوله { أو كالذي } ، عطفاً على ذلك المعنى( {[2495]} ) ، وقرأ أبو سفيان بن حسين «أوَ كالذي مر » بفتح الواو ، وهي واو عطف دخل عليها ألف التقرير( {[2496]} ) ، قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب( {[2497]} ) وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك : الذي مر على القرية هو عزير ، وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وبكر بن مضر : هو أرمياء ، وقال ابن إسحاق : أرمياء هو الخضر وحكاه النقاش عن وهب بن منبه ، قال الفقيه أبو محمد : وهذا كما تراه ، إلا أن يكون اسماً وافق اسماً ؛ لأن الخضر معاصر لموسى ، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه( {[2498]} ) ، وحكى مكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى ، قال النقاش : ويقال هو غلام لوط عليه السلام . قال أبو محمد : واختلف في القرية أيما هي ؟ فحكى النقاش أن قوماً قالوا هي المؤتفكة . وقال ابن زيد : إن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله : { موتوا } [ البقرة : 243 ] مرّ عليهم رجل وهم عظام تلوح ، فوقف ينظر فقال : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام } ، وترجم الطبري على هذا القصص بأنه قول بأن القرية التي مرّ عليها هي التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم .
قال القاضي أبو محمد : وقول ابن زيد لا يلائم الترجمة ، لأن الإشارة بهذه على مقتضى الترجمة هي إلى المكان ، وعلى نفس القول( {[2499]} ) هي إلى العظام والأجساد . وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية ، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها . والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية ، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان . وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك وعكرمة الربيع : القرية بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي في الحديث الطويل( {[2500]} ) . حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف أرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل ، ورأى أرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها ، والعريش سقف البيت وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش ومنه عريش الدالية والثمار ، ومنه قوله تعالى :
{ ومما يعرشون }( {[2501]} ) [ النحل : 68 ] قال السدي( {[2502]} ) : يقول هي ساقطة على سقفها أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها ، وقال غير السدي : معناه خاوية من الناس على العروش أي على البيوت ، وسقفها عليها لكنها خوت من الناس والبيوت قائمة ، قال أبو محمد : وانظر استعمل العريش مع على ، في الحديث في قوله ، وكان المسجد يومئذ على عريش في أمر ليلة القدر( {[2503]} ) ، و { خاوية } معناه خالية ، يقال خوت الدار تخوي خواء وخوياً ويقال خويت قال الطبري : والأول أفصح وقوله : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } معناه من أي طريق وبأي سبب ؟ وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته ، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه( {[2504]} ) ، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله ، إنما كان عن إحياء الموتى من بنى آدم ، أي أنى يحيي الله موتاها ، وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال كان هذا القول( {[2505]} ) شكاً في قدرة الله على الإحياء ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وليس يدخل شك في قدرة الله على إحياء قرية بجلب العمرة إليها ، وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر( {[2506]} ) ، والصواب أن لا يتأول في الآية شك ، وروي في قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث بعث الله عليهم بخت نصر البابلي فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس فخربه ، فلما ذهب عنه جاء أرمياء فوقف على المدينة معتبراً فقال ، { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } ؟ قال : { فأماته الله } تعالى وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد وكان معه سلة فيها تبن وهو طعامه ، وقيل تبن وعنب ، وكان معه ركوة من خمر ، وقيل من عصير وقيل ، قلة ماء هي شرابه ، وبقي ميتاً مائة عام ، فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو وحماره ، وروي أنه بلي دون الحمار ، وأن الحمار بقي حياً مربوطاً لم يمت ولا أكل شيئاً ولا بليت رمته ، وروي أن الحمار بلي وتفرقت أوصاله دون عزير( {[2507]} ) ، وروي أن الله بعث إلى تلك القرية من عمرها ورد إليها جماعة بني إسرائيل حيث كملت على رأس مائة سنة ، وحينئذ حيي عزير ، وروي أن الله رد عليه عينيه وخلق له حياة يرى بها كيف تعمر القرية ويحيى مدة من ثلاثين سنة تكملة المائة ، لأنه بقي سبعين ميتاً كله ، وهذا ضعيف ترد عليه ألفاظ الآية ، وقوله تعالى : { ثم بعثه } ، معناه : أحياه وجعل له الحركة والانتقال ، فسأله الله تعالى بواسطة الملك { كم لبثت } ؟ على جهة التقرير ، و { كم } في موضع نصب على الظرف ، فقال : { لبثت يوماً أو بعض يوم } ، قال ابن جريج وقتادة والربيع : أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب ، فظن هذا اليوم واحداً فقال { لبثت يوماً } ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذباً فقال : { أو بعض يوم } فقيل له { بل لبثت مائة عام } ، ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك قال النقاش : العام مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك ، والعوم كالسبح ، وقال تعالى :
{ وكل في فلك يسبحون } [ الأنبياء : 33 ] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه هذا معنى كلام النقاش . والعام على هذا كالقول والقال( {[2508]} ) . وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد ، وروي في قصص هذه الآية : أن الله بعث لها ملكاً من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع : { لبثت } في كل القرآن بإظهارالثاء وذلك لتباين الثاء من مخرج التاء ، وذلك أن الطاء والتاء والدال من حيز ، والظاء والذال والثاء المثلثة من حيز ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي ، بالإدغام في كل القرآن ، أجروهما مجرى المثلى من حيث اتقف الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان( {[2509]} ) ، قال أبو علي : ويقوي ذلك وقوع هذين الحرفين في «روي قصيدة واحدة » .
{ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير ، وعلى بقاء حماره حيّاً على مربطه . هذا على أحد التأويلين( {[2510]} ) . وعلى التأويل الثاني : وقف على الحمار كيف يحيى وتجتمع عظامه . وقرأ ابن مسعود : «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه » ، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره : «وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة »( {[2511]} ) ، قال أبو علي : واختلفوا في إثبات الهاء في الفعل من قوله عز وجل : { لم يتسنه } و { اقتده } [ الأنعام : 90 ] ، و { ما أغنى عني ماليه } [ الحاقة : 28 ] و { سلطانيه } [ الحاقة : 29 ] { وما أدراك ماهية } [ القارعة : 10 ] وإسقاطها في الوصل ، ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف . فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل ، وكان حمزة يحذفهن في الوصل ، وكان الكسائي يحذفها في { يتسنّه } ، و { اقتده } ، ويثبتها في الباقي . ولم يخلتفوا في { حسابيه } [ الحاقة : 20-26 ] و { كتابيه } [ الحاقة : 19-25 ] أنهما بالهاء في الوقف والوصل( {[2512]} ) ، و { يتسنّه }( {[2513]} ) يحتمل أن يكون من تسنن الشيء إذا تغير وفسد ، ومنه الحمأ المسنون في قول بعضهم .
وقال الزجّاج : ليس منه وإنما المسنون المصبوب على سنة الأرض ، فإذا كان من تسنن فهو لم يتسنن . قلبت النون ياء كما فعل في تظننت ، حتى قلت لم أتظنن ، فيجيء تسنن تسنى . ثم تحذف الياء للجزم فيجيء المضارع لم يتسن( {[2514]} ) . ومن قرأها بالهاء على هذا القول فهي هاء السكت . وعلى هذا يحسن حذفها في الوصل . ويحتمل { يتسنه } أن يكون من السنة وهو الجدب . والقحط ، وما أشبهه ، يسمونه بذلك . وقد اشتق منه فعل فقيل : استنّوا( {[2515]} ) ، وإذا كان هذا( {[2516]} ) أو من السنة التي هي العام على قول من يجمعها سنوات فعلى هذا أيضاً الهاء هاء السكت ، والمعنى لم تغير طعامك القحوط والجدوب ونحوه ، أو لم تغيره السنون والأعوام . وأما من قال في تصغير السنة سنيهة وفي الجمع سنهات ، وقال أسنهت عند بني فلان( {[2517]} ) وهي لغة الحجاز ومنها قول الشاعر :
وليست بسنهاء ولا رجبية . . . ولكن عرايا في السنين الجوائح( {[2518]} )
فإن( {[2519]} ) القراءة على هذه اللغة هي بإثبات الهاء ولا بد ، وهي لام الفعل ، وفيها ظهر الجزم ب { لم } ، وعلى هذا هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو ، وقد ذكر( {[2520]} ) . وقرأ طلحة بن مصرف «لم يسنّه » على الإدغام .
وقال النقاش : { لم يتسنه } معناه : لم يتغير من قوله تعالى : { ماء غير آسن } [ محمد : 15 ] ، قال أبو محمد : ورد النحاة على هذا القول ، لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن ، وأما قوله تعالى : { وانظر إلى حمارك } ، فقال وهب بن منبه وغيره : المعنى وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءاً جزءاً ، ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاماً ملتئمة ، ثم كساه لحماً حتى كمل حماراً ، ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح ، فقام الحمار ينهق ، وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضاً أنهما قالا : بل قيل له وانظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة ، قالا : وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه( {[2521]} ) ، قالا : وأعمى الله العيون عن أرمياء وحماره طول هذه المدة .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيراً اختصرته لعدم صحته ، وقوله تعالى : { ولنجعلك آية للناس } معناه لهذا المقصد من أن تكون آية فعلنا بك هذا( {[2522]} ) ، وقال الأعمش موضع كونه آية هو أنه جاء شاباً على حاله يوم مات ، فوجد الحفدة والأبناء شيوخاً ، وقال عكرمة : جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات ، ووجد بنيه قد نيفوا على مائة سنة ، وقال غير الأعمش : بل موضع كونه آية أنه جاء وقد هلك كل من يعرف ، فكان آية لمن كان حياً من قومه ، إذ كانوا موقنين بحاله سماعاً .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفي إماتته هذه المدة ، ثم إحيائه أعظم آية ، وأمره كله آية للناس غابر الدهر ، لا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض .
وأما العظام التي أمر بالنظر إليها فقد ذكرنا من قال : هي عظام نفسه ، ومن قال : هي عظام الحمار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «نَنْشُرُها » بضم النون الأولى وبالراء ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي . «ننشزها » بالزاي ، وروى أبان عن عاصم «نَنشرُها » بفتح النون الأولى وضم الشين وبالراء ، وقرأها كذلك ابن عباس والحسن وأبو حيوة . فمن قرأها «نُنشرها »( {[2523]} ) بضم النون الأولى وبالراء فمعناه نحييها . يقال أنشر الله الموتى فنشروا ، قال الله تعالى : { ثم إذا شاء أنشره }( {[2524]} ) [ عبس : 22 ] .
يَا عَجَبا للميِّت النَّاشِرِ . . . ( {[2525]} )
وقراءة عاصم : «نَنشرها » بفتح النون الأولى يحتمل أن تكون لغة في الإحياء ، يقال : نشرت الميت وأنشرته فيجيء نشر الميت ونشرته ، كما يقال حسرت الدابة وحسرتها ، وغاض الماء وغضته ، ورجع زيد ورجعته . ويحتمل أن يراد بها ضد الطيّ ، كأن الموت طيّ للعظام والأعضاء ، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر . وأما من قرأ : «ننشزها » بالزاي بمعناه : نرفعها ، والنشز المرتفع من الأرض ، ومنه قول الشاعر :
ترى الثَّعْلَبَ الْحَوليَّ فيها كأنَّهُ . . . إذا مَا علا نَشْزاً حِصَانٌ مُجَلَّلُ( {[2526]} )
قال أبو علي وغيره : فتقديره ننشزها برفع بعضها إلى بعض للإحياء ، ومنه نشوز المرأة وقال الأعشى : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** قُضَاعِيَّةٌ تَأْتي الْكَواهِنَ ناشِزا( {[2527]} )
يقال نشز وأنشزته( {[2528]} ) .
قال القاضي أبو محمد : ويقلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض ، وإنما النشوز الارتفاع قليلاً قليلاً ، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد منها عند الاختراع ، وقال النقاش : ننشزها معناه ننبتها ، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت ، من ذلك نشز ناب البعير ، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك( {[2529]} ) ، ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها ، وقوله تعالى : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا }( {[2530]} ) [ المجادلة : 11 ] أي فارتفعوا شيئاً شيئاً كنشوز الناب . فبذلك تكون التوسعة ، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع . ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة : نشز . وقرأ النخعي «نَنشُزُها » بفتح النون وضم الشين والزاي ، وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة . وقرأ أبي بن كعب : «كيف ننشيها » بالياء . والكسوة : ما وارى من الثياب ، وشبه اللحم بها ، وقد استعاره النابغة للإسلام فقال :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي . . . حتى اكتسيتُ من الإسلامِ سربالا( {[2531]} )
وروي أنه كان يرى اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل وقال الطبري : المعنى في قوله { فلما تبين له } أي لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه ، { قال أعلم } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر : «أعلمُ أن » مقطوعة الألف مضمومة الميم . وقرأ حمزة والكسائي : «قال اعلم أن الله » موصولة الألف ساكنة الميم . وقرأها أبو رجاء ، وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش ، «قيل أعلم » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فأما هذه فبينة المعنى أي قال الملك له . والأولى( {[2532]} ) بينة المعنى أي قال هو أنا أعلم أن الله على كل شيء قدير . وهذ عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري . بل هو قول بعثه الاعتبار كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله : الله لا إله إلا هو ونحو هذا . وقال أبو علي : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يعني علم المعاينة ، وأما قراءة حمزة والكسائي فتحتمل وجهين أحدهما ، قال الملك له «اعلم » ، والآخر أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل ، فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه : «اعلم »( {[2533]} ) وأنشد أبو علي في مثل هذا قول الأعشى : [ البسيط ]
ودّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[2534]} )
ألمْ تَغْتَمِضْ عَيْناكَ لَيْلَةَ أَرْمَدَا ؟ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[2535]} ) [ الطويل ]
وأمثلة هذا كثيرة وتأنس( {[2536]} ) أبو علي في هذا المعنى بقول الشاعر : [ الطويل ]
تَذّكَّرَ مِنْ أَنّى ومِنْ أَيْنَ شُرْبُه . . . يؤامِرُ نَفْسيْهِ كَذِي الْهَجْمَةِ الآبل( {[2537]} )