ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } أي : طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان ، ولا ينفذ فيها ، فلا يعون ما ينفعهم ، ولا يسمعون ما يفيدهم .
{ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } أي : غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم ، وهذه طرق العلم والخير ، قد سدت عليهم ، فلا مطمع فيهم ، ولا خير يرجى عندهم ، وإنما منعوا ذلك ، وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وهذا عقاب عاجل .
ثم ذكر العقاب الآجل ، فقال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذاب النار ، وسخط الجبار المستمر الدائم .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الموانع التي حالت بينهم وبين الاهتداء إلى الحق في الماضي والمستقبل فقال تعالى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }
والختم : الوسم بطابع ونحوه ، مأخوذ من وضع الخاتم على الشيء وطبعه فيه للاستيثاق ، لكي لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخله ما هو خارج عنه . قال القرطبي : " والختم مصدر ختمت الشيء ختماً فهو مختوم مختم ، شدد للمبالغة ، ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه ، وقد يكون محسوساً كما في ختم الكتاب والباب ، وقد يكون معنوياً كالختم على القلوب . . . "
والقلوب : جمع قلب ، وهو المضغة التي توجد بالجانب الأيسر من صدر الإنسان ، ويستعمل في القوة العاقلة التي هي محل الفهم والعلم .
والسمع : مصدر سمع . ويطلق على الآلة التي يقع بها السمع . ولما كان الختم يمنع من أن يدخل في المختوم عليه شيء ، استعير لإحداث هيئة في القلب والسمع تمنع من خلوص الحق إليهما .
الأبصار : جمع بصر ، وهو في الأصل الإدراك بالعين ، ويطلق على القوة التي يقع بها الإبصار ، وعلى العين نفسها . وهذا المعنى أقرب ما تحمل عليه الأبصار في الآية .
وهو الأنسب لأن تجعل عليه غشاوة . ومفاد الآية أن تصير أبصارهم بحيث لا تهتدي إلى النظر في حكمة المخلوقات وعجائب المصنوعات . باعتبار وتدبر وحتى لكأنما جعلت عليها غشاوة .
والغشاوة : ما يغطي به الشيء ، من غشاه إذا غطاه . يقال : غشية غشاوة - مثلثة - وغشاية : أي : ستره وغطاه .
فهذه الآية الكريمة تفيد عن طريق الاستعارة أو التمثيل أن هناك حواجز حصينة ، وأقفالاً متينة قد ضربت على قلوبهم وعلى أسماعهم ، وغشاوات مطبقة على أبصارهم حتى أصبحوا لا يخيفهم نذير ولا يرغبهم بشير .
وعبر في جانب القلب والسمع بالختم ، وفي جانب البصر بالغشاوة ، لمعنى سام ، وحكمة رائعة ، ذلك أن آفة البصر معروفة ، إذ غشاوة العين معروفة لنا ، فالتعبير في جانب العين بالغشاوة مما يحدد لنا مدى عجزهم عن إدراك آيات الله بتلك الجارحة ، وأما القلب والسمع فإنهما لما كانا لا تدرك آفتهما إلا بصعوبة ، فقد صور لنا موانعهما عن الاستجابة للحق بصورة الختم .
وعبر في جانب القلب والسمع بجملة فعلية تفيد التجدد والحدوث ، وفي جانب البصر بجملة اسمية تفيد الثبات والاستقرار ، لأنهم قبل الرسالة ما كانوا يسمعون صوت نذير ، ولا يواجهون بحجة ، وإنما كان صوت النذير وصياغة البراهين بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم . وأما ما يدرك بالبصر من دلائل وجود الله وآيات قدرته ، فقد كان قائماً في السماوات وفي الأرض وفي الأنفس ، ويصح أن يدرك قبل الرسالة النبوية ، وأن يستدل به المتبصرون والمتدبرون على وجود ربهم وحكمته ، فلم يكن عماهم عن آيات الله القائمة حادثاً متجدداً ، بل هم قد صحبهم العمى من بدء وجودهم ، فلما دعوا إلى التبصر والتدبر صمموا على ما كانوا عليه من عمى .
وجمع القلوب والأبصار وأفرد السمع ، لأن القلوب تختلف باختلاف مقدار ما تفهمه مما يلقى إليها من إنذار أو تبشير ، ومن حجة أو دليل ، فكان عن ذلك تعدد القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم ، وكذلك شأن الناس فيما تنظره أبصارهم من آيات الله في كونه ، فإن أنظارهم تختلف في عمق تدبرها وضحولته ، فكان من ذلك تعدد المبصرين بتعدد مقادير ما يستطيعون تدبره من آيات الله في الآفاق . وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعاً شيء واحد هي الحجة يناديهم بها المرسلون ، والدليل يوضحه لهم النبيون .
لذلك كان الناس جميعاً كأنهم على سمع واحد ، فكان إفراد السمع إيذاناً من الله بأن حجته واحدة ، ودليله واحد لا يتعدد .
ونرى القرآن هنا قدم القلب في الذكر على السمع ، بينما في سورة الجاثية قدم السمع في الذكر على القلب فقال : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } وذلك لأنه - سبحانه - في سورة الجاثية قد ذكر الختم معطوفا على قوله " اتخذ إله هواه ، ومن اتخذ إله هواه يكون أولما يبدو منه للناس ويعرف هو إعراضه عن النصح ، ولي رأسه عن استماع الحجة ، فكان مظهر عدم السماع منه أول ما يبدو للناظرين ، فلذلك قدم السمع على القلب .
وأما آيتنا هذه وهي قوله - تعالى - { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ } فقد جاءت إثر الآية المختومة بقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ } . والإيمان تصديق يقوم على الحجة والبراهين ، وإدراك الحجة والبرهان إنما هو بالقلب فكان التعليل المتصل الواضح لنفي الإيمان أن قلوبهم مغلقة لا تنفذ إليها الحجة ، أولا يتسرب إليها نور البرهان لذلك قدم القلب على السمع .
هذا وقوله - تعالى - { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } . . إلخ . لا ينفى عنهم تبعة الكفر ، لأنهم هم الذين باشروا من فاسد الأعمال ، وذميم الخصال ، ومتابعة الهوى ، ما نسج على قلوبهم الأغلفة السميكة ، وأصم إلى جانب ذلك آذانهم وأعمى أبصارهم ، { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ولعلماء الكلام كلام طويل حول هذه المسألة فليرجع إليه من شاء .
ثم بين - سبحانه - ما يستحقونه من عذاب بسبب إغراقهم في الكفرٍ . واستحبابهم للمعاصي فقال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } . أي : ولهم بسبب سوء أعمالهم عذاب موجع مؤلم لأبدانهم وأجسامهم .
وأصل العذاب : المنع ، يقال : عذب الفرس - كضرب - امتنع عن العلف . وعذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم ، فهو عاذب وعذوب . ثم أطلق على الإيجاع الشديد لما فيه من المنع عن اقتراف الذنب . والعظيم : الكبير ، من عظم الشيء ، وأصله كبر عظمه ، ثم استعير لكل كبير محسوساً كان أو معقولا .
ووصف العذاب بالعظيم على معنى أن سائر ما يجانسه من العذاب يكون بالنسبة إليه حقيراً هنيئاً . قال أبو حيان في البحر : وقد ذكروا في هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعاً :
الأول : الخطاب العام اللفظ ، الخاص المعنى .
الثاني : الاستفهام الذي يراد به تقرير المعنى في النفس . أي : يتقرر أن الإنذار وعدمه سواء عندهم .
الثالث : المجاز ويسمى الاستعارة وهو في قوله - تعالى - { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ } وحقيقة الختم وضع محسوس يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم ، والختم هنا معنوى ؛ فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره استعير اسم المختوم عليه ، فبين أنه من مجاز الاستعارة .
الرابع : الحذف وهو في مواضع منها { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ . . } أي : القوم الذين كفروا بالله وبك وبما جئت به ، ومنها { لاَ يُؤْمِنُونَ } أي بالله وبما أخبرتهم به عنه .
وإلى هنا يكون القرآن قد حدثنا عن طائفتين من الناس : طائفة المتقين وما لها من جميل الصفات ، وجزيل الثواب ، وطائفة الكافرين وما لها من ذميم النعوت ، وشديد العقاب .
( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم )ختم عليها فلا تصل إليها حقيقة من الهدى ولا صدى .
( وعلى أبصارهم غشاوة ) . . فلا نور يوصوص لها ولا هدى . ! وقد طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وغشي على أبصارهم جزاء وفاقا على استهتارهم بالإنذار ، حتى تساوى لديهم الإنذار وعدم الإنذار .
إنها صورة صلدة ، مظلمة ، جامدة ، ترتسم من خلال الحركة الثابتة الجازمة . حركة الختم على القلوب والأسماع ، والتغشية على العيون والأبصار . .
( ولهم عذاب عظيم ) . . وهي النهاية الطبيعية للكفر العنيد ، الذي لا يستجيب للنذير ؛ والذي يستوي عنده الإنذار وعدم الإنذار ؛ كما علم الله من طبعهم المطموس العنيد .
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 7 )
وقوله تعالى : { ختم الله } مأخوذ من الختم وهو الطبع ، والخاتم الطابع ، وذهبت طائفة من المتأولين إلى أن ذلك على الحقيقة ، وأن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال والإعراض إصبعاً إصبعاً . ( {[196]} )
وقال آخرون : ذلك على المجاز ، وأن ما اخترع( {[197]} ) الله في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سماه ختماً .
وقال آخرون ممن حمله على المجاز( {[198]} ) : «الختم هنا أسند إلى الله تعالى لما كفر الكافرون به وأعرضوا عن عبادته وتوحيده ، كما يقال أهلك المال فلاناً وإنما أهلكه سوء تصرفه فيه( {[199]} ) » .
وقرأ الجمهور : { وعلى سمعهم } .
وقرأ ابن أبي عبلة : «وعلى أسماعهم » ، وهو في قراءة الجمهور مصدر يقع للقليل والكثير ، وأيضاً فلما أضيف إلى ضمير جماعة دل المضاف إليه على المراد ، ويحتمل أن يريد على مواضع سمعهم فحذف وأقام المضاف إليه مقامه .
والغشاوة الغطاء المغشي الساتر ، ومنه قول النابغة : [ البسيط ]
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي . . . إذا الدخان تغشى الأشمط البرما( {[200]} )
وقال الآخر( {[201]} ) : [ الحارث بن خالد المخزومي ] : [ الطويل ]
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة . . . فلما انجلتْ قطعت نفسي ألومها
ورفع غشاوة على الابتداء وما قبله خبره .
وقرأ عاصم فيما روى المفضل الضبي عنه «غشاوة » بالنصب على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة ، والختم على هذا التقدير في القلوب والأسماع ، والغشوة على الأبصار ، والوقوف على قوله { وعلى سمعهم } .
وقرأ الباقون «غشاوةٌ » بالرفع .
قال أبو علي : «وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن تحمله( {[202]} ) على ختم الظاهر فيعترض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به » وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر ، وإما أن تحمله على فعل يدل عليه { ختم } تقديره وجعل على أبصارهم ، فيجيء الكلام من باب :
. . . . . . . . . . . . . . . . . *** متقلداً سيفاً ورمحاً( {[203]} )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . علفتها تبناً وماءً بارداً( {[204]} )
ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار . فقراءة الرفع أحسن ، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة « .
قال : » ولم أسمع من الغشاوة فعلاً مصرفاً بالواو ، فإذا لم يوجد ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم الغشيان فالغشاوة من غشي كالجباوة( {[205]} ) من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء ، إذ لم يصرف منه فعل كما لم يصرف من الجباوة .
وقال بعض المفسرين : الغشاوة على الأسماع والأبصار ، والوقف في قوله { على قلوبهم } .
وقال آخرون : » الختم في الجميع ، والغشاوة هي الخاتم( {[206]} ) « .
قال القاضي أبو محمد : وقد ذكرنا( {[207]} ) اعتراض أبي عليّ هذا القول .
وقرأ أبو حيوة » غَشوة « ، بفتح الغين والرفع ، وهي قراءة الأعمش .
وقال الثوري : » كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «غَشيةٌ » بفتح الغين والياء والرفع « .
وقرأ الحسن : » غُشاوة «بضم الغين ، وقرئت » غَشاوة «بفتح الغين ، وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة الأشياء التي هي أبداً مشتملة ، فهكذا يجيء وزنها كالضمامة والعمامة والكنابة والعصابة والربابة وغير ذلك . ( {[208]} )
قوله تعالى : { ولهم عذاب عظيم } معناه بمخالفتك يا محمد وكفرهم بالله استوجبوا ذلك ، و { عظيم } معناه بالإضافة إلى عذاب دونه يتخلله فتور ، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر ، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد .