وقوله : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } بيان لحكمته - سبحانه - في هزيمة الكافرين وحشرهم إلى جهنم .
وقوله : { فَيَرْكُمَهُ } أى : فيجمعه ويضم بعضه يقال : ركم الشئ يركمه ، إذا جمعه وألقى بعضه على بعضه . وارتكم الشئ وتراكم أى : اجتمع .
والمعنى : أنه - سبحانه - فعل ما فعل من خذلان الكافرين وحشرهم إلى جهنم ، ومن تأييد المؤمنين وفوزهم برضوانه ، ليتميز الفريق الخبيث وهو فريق الكافرين ، من الفريق الطيب وهو فريق المؤمنين ، فإذا ما تمايزوا جل - سبحانه - الفريق الخبيث منضما بعضه على بعض ، فيلقى به في جهنم جزاء خبثه وكفره . واللام في قوله { لِيَمِيزَ } متلعقة بقوله { يُغْلَبُونَ } أو بقوله { يُحْشَرُونَ } ويجوز أن يكون المراد بالخبيث ما أنفقه الكافرون من أموال للصد عن سبيل الله ، وبالطيب ما أنفقه المؤمنون من أموال لإِعلاء كلمة الله . وعليه تكون اللام في قوله { لِيَمِيزَ } متعلقة بقوله : { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } أى : أنه - سبحانه - يميز هذه الأموال بعضها من بعض ، ثم يضم الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض ، فيلقى بها بوأصحابها في جهنم .
والتعبير بقوله - سبحانه - { فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } تعبير مؤثر بليغ ، لأنه يصور الفريق الخبيث كأنه لشدة تزاحمه وانضمام بعضه إلى بعض شئ متراكم مهمل ، يقذف به في النار بدون اهتمام أو اعتبار .
واسم الإِشارة في قوله : { أولئك هُمُ الخاسرون } يعود إلى هذا الفريق الخبيث ، أى : أولئك الكافرون الذين أنفقوا أموالهم في الصد عن سبيل الله هم الخاسرون لدنياهم وآخرتهم .
( ليميز الله الخبيث من الطيب ، ويجعل الخبيث بعضه على بعض ، فيركمه جميعاً ؛ فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ) . .
إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان ؛ فيقابله الحق بالكفاح والجهاد ؛ وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة . . وفي هذا الاحتكاك المرير ، تنكشف الطباع ، ويتميز الحق من الباطل ، كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل - حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء ! - ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله ، لأنهم أهل لحمل أماناته ، والقيام عليها ، وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة . . عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث ، فيلقي به في جهنم . . وتلك غاية الخسران . .
والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم ، وكأنما هو كومة من الأقذار ، يقذف بها في النار ، دون اهتمام ولا اعتبار !
( فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم ) . .
وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعا أعمق في الحس . . وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير والتأثير . .
وقرأ ابن كثير ونافع عاصم وأبو عمرو وابن عامر «ليَمِيز » بفتح الياء وكسر الميم ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة بن نصاح وشبل وأبي عبد الرحمن والحسن وعكرمة ومالك بن دينار ، تقول مزت الشيء ، والعرب تقول مزته فلم يتميز لي ، حكاه يعقوب وفي شاذ القراءة وانمازوا{[5340]} اليوم ، وأنشد أبو زيد : [ البسيط ]
لما ثنى الله عني شرَّ عدوتِهِ*** وانمزت لا منشئاً ذعراً ولا وجلا{[5341]}
وهو مطاوع ماز ، وقرأ حمزة والكسائي «ليُمَيّز » بضم الياء وفتح الميم وشد الياء ، وهي قراءة الأعرج وطلحة بن مصرف والأعمش والحسن أيضاً عيسى البصري ، تقول ميزت أميز إذا فرقت بين شيئين فصاعداً ، وفي القرآن { تميز من الغيظ }{[5342]} فهو مطاوع ميز ومعناه تتفصل ، وقال ابن عباس رضي الله عنه والسدي ، المعنيّ ب { الخبيث } الكفار وب { الطيب } المؤمنون .
قال القاضي أبو محمد : واللام على هذا التأويل من قوله { ليميز } متعلقة ب { يحشرون } [ الأنفال : 36 ] والمعنى أن الله يحشر الكافرين إلى جهنم ليميز الكافرين من المؤمنين بأن يجمع الكافرين جميعاً فيلقيهم في جهنم ، ثم أخبر عنهم أنهم هم الخاسرون أي الذين خابت سعايتهم وتبت أيديهم وصاروا إلى النار ، وقال ابن سلام والزجّاج : المعنيّ ب { الخبيث } المال الذي أنفقه المشركون في الصد عن سبيل الله ، و { الطيب } هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله .
قال القاضي أبو محمد : واللام على هذا التأويل من قوله { ليميز } متعلقة ب { يغلبون } [ الأنفال : 36 ] ، والمعنى : الكفار ينفقون أموالهم فتكون عليهم حسرة ثم يغلبون مع نفقتها ، وذلك ليميز الله الفرق بين الخبيث والطيب فيخذل أهل الخبيث وينصر أهل الطيب ، وقوله تعالى على هذا التأويل { ويجعل الخبيث بعضه على بعض } إلى قوله { في جهنم } مترتب على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الله تعالى يخرج من الأموال ما كان صدقة أو قربة يوم القيامة ثم يأمر بسائر ذلك فيلقى في النار ، وحكى الزهراوي عن الحسن أن الكفار يعذبون بذلك المال ، فهي كقوله { فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم }{[5343]} وقاله الزجّاج : وعلى التأويلين فقوله { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً } إنما هي عبارة عن جمع ذلك وضمه وتأليف أشتاته وتكاثفه بالاجتماع ، و { يركمه } في كلام العرب يكثفه ، ومنه { سحاب مركوم }{[5344]} وركام ، ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** زْع بالزمام وجوز الليلِ مركومُ{[5345]}
وقوله { ويجعل الخبيث } بمعنى يلقي ، قاله أبو علي ، { أولئك هم الخاسرون } على هذه التأويل يراد المنافقون من الكفار ، ولفظة الخسارة تليق بهم من جهة المال وبغير ذلك من الجهات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.