{ 112 } { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
كأنه قيل : من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات ونيل الكرامات ؟ فقال : هم { التَّائِبُونَ ْ } أي : الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات .
{ الْعَابِدُونَ ْ } أي : المتصفون بالعبودية للّه ، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت ، فبذلك يكون العبد من العابدين .
{ الْحَامِدُونَ ْ } للّه في السراء والضراء ، واليسر والعسر ، المعترفون بما للّه عليهم من النعم الظاهرة والباطنة ، المثنون على اللّه بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار .
{ السَّائِحُونَ ْ } فسرت السياحة بالصيام ، أو السياحة في طلب العلم ، وفسرت بسياحة القلب في معرفة اللّه ومحبته ، والإنابة إليه على الدوام ، والصحيح أن المراد بالسياحة : السفر في القربات ، كالحج ، والعمرة ، والجهاد ، وطلب العلم ، وصلة الأقارب ، ونحو ذلك .
{ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ ْ } أي : المكثرون من الصلاة ، المشتملة على الركوع والسجود .
{ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ْ } ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات .
{ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ْ } وهي جميع ما نهى اللّه ورسوله عنه .
{ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ْ } بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله ، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام ، وما لا يدخل ، الملازمون لها فعلا وتركا .
{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ْ } لم يذكر ما يبشرهم به ، ليعم جميع ما رتب على الإيمان من ثواب الدنيا والدين والآخرة ، فالبشارة متناولة لكل مؤمن .
وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين ، وإيمانهم ، قوة ، وضعفا ، وعملا بمقتضاه .
ثم وصف الله - تعالى - هؤلاء المؤمنين الصادقين بجملة من الأوصاف الكريمة فقال : { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون . . . } .
قال الجمل ما ملخصه : ذكر الله - تعالى - في هذه الآية تسعة أوصاف للمؤمنين ، الستة الأولى منها تتعلق بمعاملة الخالق ، والوصفان السابع والثامن يتعلقان بمعاملة المخلوق ، والوصف التاسع يعم القبيلتين .
وقوله : { التائبون } فيه وجوه من الأعراب منها : أنه مرفوع على المدح . فهو خبر لمبتدأ محذوف وجوباً للمبالغة في المدح أى : المؤمنون المذكورون التائبون ، ومنها أن الخبر هنا محذوف ، أى : التائبون المصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة . .
والمعنى : " التائبون " عن المعاصى وعن كل ما نهت عنه شريعة الله ، " العابِدون " لخالقهم عبادة خالصة ولجهه ، " الحامدون " له - سبحانه - في السراء والضراء ، وفى المنشط والمكره ، وفى العسر واليسر ، " السائحون " في الأرض للتدبر والاعتبار وطاعة الله . والعمل على مرضاته { الراكعون الساجدون } لله - تعالى - عن طريق الصلاة التي هي عماد الدين وركنه الركين " الآمرون " غيرهم " بالمعروف " أى : بكل ما حسنه الشرع " والناهون " له " عن المنكر " الذي تأباه الشرائع والعقول السليمة ، { والحافظون لِحُدُودِ الله } أى : لشرائعهم وفرائضه وأحكامه وآدابه . . هؤلاء المتصفون بتلك الصفات الحميدة ، بشرهم . يا محمد . بكل ما يسعدهم ويشرح صدورهم ، فهم المؤمنون حقاً ، وهم الذين أعد الله - تعالى - لهم الأجر الجزيل ، والرزق الكريم .
ولم يذكر - سبحانه - المبشر به في قوله : { وَبَشِّرِ المؤمنين } ، للاشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به الوصف ، ولا تحده العيارة .
ولم يذكر - سبحانه - في الآية لهذه الأوصاف متعلقاً ، فلم يقل " التائبون " من كذا ، لفهم ذلك من المقام ، لأن المقام في مدح المؤمنين الصادقين الذين أخلصوا نفوسهم لله ، تعالى . فصاروا ملتزمين طاعته في كل أقوالهم وأعمالهم .
وعبر عن كثرة صلاتهم وخشوعهم فيها بقوله . { الراكعون الساجدون } للاشارة إلى أن الصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ، وكأن الركوع والسجود طابع مميز لهم بين الناس . وإنما عطف النهى عن المنكر على الأمر بالمعروف للإِيذان بأنهما فريضة واحدة لتلازمهما في الغالب ، أو لما بينهما من تباين إذ الأمر بالمعروف طلب فعل ، والنهى عن المنكر طلب ترك أو كف .
وكذلك جاء قوله . { والحافظون لِحُدُودِ الله } بحرف العطف ومما قالوه في تعليل ذلك . أن سر العطف هنا التنبيه على أن ما قبله مفصل للفضائل وهذا مجمل لها ، لأنه شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفاً ، نحو زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء ، فلمغايرته لما قبله بالإِجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه .
هذا ، وما ذركناه من أن المراد بقوله : " السائحون " أى : السائرون في الأرض للتدير والاعتبار والتفكر في خلق الله ، والعمل على مرضاته .
. هذا الذي ذكرناه رأى لبعض العلماء . ومنهم من يرى أن المراد بهم الصائمون ومنهم من يرى أن المراد بهم : المجاهدون .
قال الآلوسى : وقوله : " السائحون " أى الصائمون . فقد أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين . وجاء عن عائشة : " سياحة هذه الأمة الصيام " .
وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون ، وليس في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - سياحة إلا الهجرة .
وعن عكرمة أنهم طلبة العمل ، لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه .
وقيل : هم المجاهدون في سبيل الله ، لما أخرج الحاكم وصححه والطبرانى وغيرهما ، " عن أبى أمامة أن رجلا استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السياحة فقال : إن سياحة أمتى الجهاد في سبيل الله " . والذى نراه أقرب إلى الصواب أن المراد بالسائحين هنا : السائرون في الأرض لمقصد شريف ، وغرض كريم . كتحصيل العلم ، والجهادفى سبيل الله ، والتدبر في ملكوته - سبحانه - والتفكر في سنته في كونه ، والاعتبار بما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب .
ولعل ما يؤيد ذلك أن لفظ " السائحون " معناه السائرون ، لأنه مأخذو من السيح وهو الجرى على وجه الأرض ، والذهاب فيها . وهذه المادة تشعر بالانتشار ، يقال : ساح الماء أى جرى وانتشر .
وما دام الأمر كذلك فمن الأولى حملا للفظ على ظاهره ، ما دام لم يمنع مانع من ذلك ، وهنا لا مانع من حمل اللفظ على حقيته وظاهره .
أما الأحاديث والآثار التي اشتشهد بها من قال بأن المراد بالسائحين الصائمون فقد ضعفها علماء الحديث .
قال صاحب المنار : وأقول : وروى ابن جرير من حديث أبى هريرة مروفوعاً وموقوفاً حديث : " السائحون هم الصائمون " لا يصح رفعه . .
وفضلا عن كل هذا ، فإن تفسير السائحين بأنهم السائرون في الأرض لكل مقصد شريف ، وغرض كريم . . . يتناول الجهاد في سبيل ، كما يتناول الرحلة في طلب العلم ، وغير ذلك من وجوه الخير .
وما أكثر الآيات القرآنية التي حضت على السير في الأرض ، وعلى التكفر في خلق الله ، ومن ذلك قوله تعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } وقوله تعالى { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } قال الإِمام الرازى : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأن الإِنسان يلقى الأكابر من الناس ، يفتخر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتقع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله . تعالى . في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته . وبالجلمة فالسياحة لها آثار قوية في الدين .
ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال ؛ إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال . والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة ، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة :
( التائبون . العابدون . الحامدون . السائحون . الراكعون الساجدون . الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . والحافظون لحدود الله ) . .
( التائبون ) . . مما أسلفوا ، العائدون إلى اللّه مستغفرين . والتوبة شعور بالندم على ما مضى ، وتوجه إلى اللّه فيما بقي ، وكف عن الذنب ، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك . فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح .
( العابدون ) . . المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية ، إقراراً بالربوبية . . صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر ، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع . فهي إقرار بالألوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية .
( الحامدون ) . . الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة ؛ وتلهج ألسنتهم بحمد اللّه في السراء والضراء . في السراء للشكر على ظاهر النعمة ، وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة . وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها ، ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن اللّه الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه ، مهما خفي على العباد إدراكه .
( السائحون ) . . وتختلف الروايات فيهم . فمنها ما يقول : إنهم المهاجرون . ومنها ما يقول : إنهم المجاهدون . ومنها ما يقول : إنهم المتنقلون في طلب العلم . ومنهم من يقول : إنهم الصائمون . . ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق اللّه وسننه ، ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر : ( إن في خلق السماوات والأرض . واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض : ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ! . . . ) . . فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد . فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت اللّه على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى اللّه ، وإدراك حكمته في خلقه ، وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق . لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار . ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك
( الراكعون الساجدون ) . . الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ؛ وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم .
( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) . . وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة اللّه ، فيدين للّه وحده ولا يدين لسواه ، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع ؛ ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه . . ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم ؛ وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه للّه وحده ، وشريعة اللّه وحدها هي الحاكمة فيه ، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر ، وهو تقرير ألوهية اللّه وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم . والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكر الأكبر . وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير اللّه عن طريق حكمهم بغير شريعة اللّه . . والذين آمنوا بمحمد - [ ص ] - هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة اللّه ، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة . فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي . ولم ينفقوا قط جهدهم ، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل ! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع . فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر ، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !
( والحافظون لحدود اللّه ) . . وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس . ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها . . ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم . ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله ؛ وإلا الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ؛ ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه . . والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع . ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود اللّه فيه . . كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !
هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد اللّه معها بيعته . وهذه هي صفاتها ومميزاتها : توبة ترد العبد إلى اللّه ، وتكفه عن الذنب ، وتدفعه إلى العمل الصالح . وعبادة تصله باللّه وتجعل اللّه معبوده وغايته ووجهته . وحمد للّه على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل للّه والثقة المطلقة برحمته وعدله . وسياحة في ملكوت اللّه مع آيات اللّه الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق . وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة . وحفظ لحدود اللّه يرد عنها العادين والمضيعين ، ويصونها من التهجم والانتهاك
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة ، واشترى منها الأنفس والأموال ، لتمضي مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه ورسله ورسالاته . قتال في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه ؛ وقتل لأعداء اللّه الذين يحادون الله ؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل ، وبين الإسلام والجاهلية ، وبين الشريعة والطاغوت ، وبين الهدى والضلال .
وليست الحياة لهواً ولعباً . وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً . وليست الحياة سلامة ذليلة ، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة . . إنما الحياة هي هذه : كفاح في سبيل الحق ، وجهاد في سبيل الخير ، وانتصار لإعلاء كلمة اللّه ، أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه . . ثم الجنة والرضوان . .
هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) . . . وصدق اللّه . وصدق رسول اللّه . .
{ التائبون } رفع على المدح أي هم التائبون ، والمراد بهم المؤمنون المذكورون ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله : { وكلا وعد الله الحسنى } أو خبره ما بعده أي التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال . وقرئ بالياء نصبا على المدح أو جرا صفة للمؤمنين . { العابدون } الذين عبدوا الله مخلصين له الدين . { الحامدون } لنعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء . { السّائحون } الصائمون لقوله صلى الله عليه وسلم " سياحة أمتي الصوم " شبه بها لأنه يعوق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على حفايا الملك والملكوت ، أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم . { الراكعون الساجدون } في الصلاة . { الآمرون بالمعروف } بالإيمان والطاعة . { والناهون عن المنكر } عن الشرك والمعاصي ، والعاطف فيه للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة كأنه قال : الجامعون بين الوصفين ، وفي قوله تعالى : { والحافظون لحدود الله } أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها . وقيل إنه للإيذان بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك سمي واو الثمانية . { وبشر المؤمنين } يعني به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل ، ووضع { المؤمنين } موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك ، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن إحاطة الإفهام وتعبير الكلام .
اسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قوله : { إن الله اشترى من المؤمنين } [ التوبة : 111 ] فكان أصلها الجر ، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخباراً لمبتدأ محذوف هو ضمير الجمع اهتماماً بهذه النعوت اهتماماً أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية ، ويسمى هذا الاستعمال نعتاً مقطوعاً ، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى .
ف { التائبون } مراد منه أنهم مفارقون للذنوب سواء كان ذلك من غير اقترافِ ذنب يقتضي التوبة كما قال تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه } [ التوبة : 117 ] الآية أم كان بعد اقترافه كقوله تعالى : { فإن يتوبوا يك خيراً لهم } [ التوبة : 74 ] بعد قوله : { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } [ التوبة : 74 ] الآية المتقدمة آنفاً . وأول التوْبة الإيمان لأنه إقلاع عن الشرك ، ثم يدخل منهم من كان له ذنب مع الإيمان وتاب منه . وبذلك فارق النعت المنعوت وهو { المؤمنين } [ التوبة : 111 ] .
و{ العابدون } : المؤدّون لما أوجب الله عليهم .
و{ الحامدون } : المعترفون لله تعالى بنعمه عليهم الشاكرون له .
و{ السائحون } : مشتق من السياحة . وهي السير في الأرض . والمراد به سير خاص محمود شرعاً . وهو السفر الذي فيه قربة لله وامتثال لأمره ، مثل سفر الهجرة من دار الكفر أو السفر للحج أو السفر للجهاد . وحمله هنا على السفر للجهاد أنسب بالمقام وأشمل للمؤمنين المأمورين بالجهاد بخلاف الهجرة والحج .
و{ الراكعون الساجدون } : هم الجامعون بينهما ، أي المصلون ، إذ الصلاة المفروضة لا تخلو من الركوع والسجود .
و{ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } : الذين يَدْعون الناس إلى الهدى والرشاد وينهونهم عما ينكره الشرع ويأباه . وإنما ذكر الناهون عن المنكر بحرف العطف دون بقية الصفات ، وإن كان العطف وتركه في الأخبار ونحوها جائزين ، إلا أن المناسبة في عطف هذين دون غيرهما من الأوصاف أن الصفات المذكورة قبلها في قوله : { الراكعون الساجدون } ظاهرة في استقلال بعضها عن بعض . ثم لما ذكر { الراكعون الساجدون } علم أن المراد الجامعون بينهما ، أي المصلون بالنسبة إلى المسلمين . ولأن الموصوفين بالركوع والسجود ممن وعدهم الله في التوارة والإنجيل كانت صلاة بعضهم ركوعاً فقط ، قال تعالى في شأن داود عليه السلام : { وخر راكعاً وأناب } [ ص : 24 ] ، وبعض الصلوات سجوداً فقط كبعض صلاة النصارى ، قال تعالى : { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } [ آل عمران : 43 ] . ولما جاء بعده { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } وكانا صفتين مستقلتين عطفتا بالواو لئلا يتوهم اعتبار الجمع بينهما كالوصفين اللذين قبلهما وهما { الراكعون الساجدون } فالواو هنا كالتي في قوله تعالى : { ثيبات وأبكاراً } [ التوبة : 112 ] .
و{ الحافظون لحدود الله } : صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها . وحقيقة الحفظ توخي بقاء الشيء في المكان الذي يراد كونه فيه رغبة صاحبه في بقائه ورعايته عن أن يضيع . ويطلق مجازاً شائعاً على ملازمة العمل بما يؤمر به على نحو ما أمر به وهو المراد هنا ، أي والحافظون لما عين الله لهم ، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله .
وأطلقت الحدود مجازاً على الوصايا والأوامر . فالحدود تشمل العبادات والمعاملات لما تقدم في قوله تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } في سورة البقرة ( 229 ) . ولذلك ختمت بها هذه الأوصاف . وعطفت بالواو لئلا يوهم ترك العطف أنها مع التي قبلها صفتان متلازمتان معدودتان بعد صفة الأمر بالمعروف .
وقال جمع من العلماء : إن الواو في قوله : { والناهون عن المنكر } واو يكثر وقوعها في كلام العرب عند ذكر معدود ثامن ، وسمَّوها واوَ الثَّمانية . قال ابن عطية : ذكرها ابن خَالويه في مناظرتِه لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى : { حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] . وأنكرها أبو علي الفارسي . وقال ابن هشام في « مغني اللبيب » « وذكرها جماعة من الأدباء كالحريري ، ومن المفسرين كالثعلبي ، وزعموا أن العرب إذا عَدّوا قالوا : ستة سبعة وثمانية ، إيذاناً بأن السبعة عدد تام وأن ما بعدها عدد مستأنف ، واستدلُّوا بآيات إحداها : { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم إلى قوله سبحانه { سبعة وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] . ثم قال : الثانية آيةُ الزمر ( 71 ) إذ قيل : { فُتحت } في آية النار لأن أبواب جهنم سبعة ، { وفتحت } [ الزمر : 73 ] في آية الجنة إذ أبوابها ثمانية . ثم قال : الثالثة : { والناهون عن المنكر } فإنه الوصف الثامن . ثم قال : والرابعة : { وأبكاراً } في آية التحريم ( 5 ) ذكرها القاضي الفاضل وتبجح باستخراجها وقد سبقه إلى ذكرها الثعلبي . . . وأما قول الثعلبي : أن منها الواو في قوله تعالى : { سبعَ ليال وثمانيةَ أيام حسوماً } [ الحاقة : 7 ] فسهو بيّن وإنما هذه واو العطف اه . وأطَال في خلال كلامه بردود ونقوض .
وقال ابن عطية « وحدثني أبي عن الأستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقي وأنه قال : هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدّوا : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، تسعة ، عشرة ، فهكذا هي لغتهم . ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو » اه .
وأقول : كثر الخوض في هذا المعنى للواو إثباتاً ونفياً ، وتوجيهاً ونقضاً . والوجه عندي أنه استعمال ثابت ، فأما في المعدود الثامن فقد اطرد في الآيات القرآنية المستدَل بها . ولا يريبك أن بعض المقترن بالواو فيها ليس بثامن في العدة لأن العبرة بكونه ثامناً في الذكر لا في الرتبة .
وأما اقتران الواو بالأمر الذي فيه معنى الثامن كما قالوا في قوله تعالى : { وفُتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] . فإن مجيء الواو لِكون أبواب الجنة ثمانية ، فلا أحسبه إلا نكتة لطيفة جاءت اتفاقية . وسيجيء هذا عند قوله تعالى في سورة الزمر { حتى إذا جاءها وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] .
وجملة : { وبشر المؤمنين } عطف على جملة { إن الله اشترى من المؤمنين } [ التوبة : 111 ] عطفَ إنشاء على خبر . ومما حسَّنه أن المقصود من الخبر المعطوفِ عليه العمل به فأشبه الأمر . والمقصود من الأمر بتبشيرهم إبلاغُهم فكان كلتا الجملتين مراداً منها معنيان خبريّ وإنشائي . فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون المعهودون من قوله : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الله اشترى من المؤمنين التائبين العابدين أنفسهم وأموالهم... ومعنى التائبون: الراجعون مما كرهه الله وسخطه إلى ما يحبه ويرضاه...
وأما قوله:"العَابِدُونَ" فهم الذين ذلوا خشية لله وتواضعا له، فجدّوا في خدمته... عن قتادة: "العَابِدُونَ": قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم...
قال الحسن في قول الله العَابِدُونَ قال: عبدوا الله على أحايينهم كلها في السرّاء والضرّاء...
وأما قوله: "الحَامِدُونَ "فإنهم الذين يحمدون الله على كلّ ما امتحنهم به من خير وشرّ...
وأما قوله: "السّائِحُونَ" فإنهم الصائمون... عن أبي عمرو العبدي، قال: "السّائِحُونَ": الذي يديمون الصيام من المؤمنين...
وقوله: "الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ" يعني: المصلين الراكعين في صلاتهم الساجدين فيها...
وأما قوله: "الآمِرُونَ بالمَعْرُوفِ والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ" فإنه يعني أنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم، واتباع الرشد والهدى والعمل، وينهونهم عن المنكر، وذلك نهيهم الناس عن كلّ فعل وقول نهى الله عباده عنه... قال الحسن، في قوله: "الآمِرُونَ بالمَعْرُوفِ" قال: أما إنهم لم يأمروا الناس حتى كانوا من أهلها. "والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ" قال: أما إنهم لم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه... عن أبي العالية، قال: كلّ ما ذكر في القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالأمر بالمعروف: دعاء من الشرك إلى الإسلام، والنهي عن المنكر: نهي عن عبادة الأوثان والشياطين.
وقد دللنا فيما مضى قبل على صحة ما قلنا من أن الأمر بالمعروف هو كلّ ما أمر الله به عباده أو رسوله صلى الله عليه وسلم، والنهي عن المنكر هو كلّ ما نهى الله عنه عباده أو رسوله، وإذ كان ذلك كذلك ولم يكن في الآية دلالة على أنها عُنِي بها خصوص دون عموم ولا خبر عن الرسول ولا في فطرة عقل، فالعموم بها أولى لما قد بينا في غير موضع من كتبنا.
وأما قوله: "والحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ" فإنه يعني: المؤدّونَ فَرَائِضَ الله، المنتهون إلى أمره ونهيه، الذين لا يضيعون شيئا ألزمهم العمل به ولا يركبون شيئا نهاهم عن ارتكابه... عن ابن عباس: "والحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ" قال: القائمون على طاعة الله.
وأما قوله: "وَبَشّرِ المُؤمِنِينَ" فإنه يعني: وبشر المصدقين بما وعدهم الله إذا هم وفوا الله بعهده أنه موف لهم بما وعدهم من إدخالهم الجنة... عن الحسن: "إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أنْفُسَهُمْ..." حتى ختم الآية، قال: الذين وفوا ببيعتهم: "التّائِبُونَ العَابِدُونَ الحامدُونَ..." حتى ختم الآية، فقال: هذا عملهم وسيرهم في الرخاء، ثم لقوا العدّو فصدّقوا ما عاهدوا الله عليه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(السَّائِحُونَ) قيل: الصائمون... وقَالَ الْقُتَبِيُّ: وأصل السائح: الذاهب في الأرض، ومنه يقال: ساح إذا جرى وذهب، والسائح في الأرض ممتنع من الشهوات، فشبه الصيام به؛ لإمساكه في صومه عن المطعم والمشرب وجميع اللذات...
... وقوله تعالى: {وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله} هو أتم ما يكون من المبالغة في الوصف بطاعة الله والقيام بأوامره والانتهاء عن زواجره، وذلك لأن الله تعالى حدوداً في أوامره وزواجره وما نَدَبَ إليه ورغّب فيه أو أباحه وما خيّر فيه وما هو الأوْلى في تحرّي موافقة أمر الله، وكل هذه حدود الله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وأمَّا قوله {العَابِدُونَ}: فهم الخاضعون بكلِّ وجه، الذين لا تَسْتَرِقُّهم كرائمُ الدنيا، ولا تستعبدهم عظائمُ العُقْبَى. ولا يكون العبدُ عبداً لله -على الحقيقة- إلا بعد تجرُّدِه عن كل شيءٍ حادثٍ. وكلُّ أحدٍ فهو له عَبْدٌ من حيث الخِلْقة؛ قال تعالى: {إن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَنَ عَبْدًا} [مريم: 93]. ولكنَّ صاحبَ العبودية خاصٌّ.
قوله جلّ ذكره: {السَّائِحُونَ}. الصائمون ولكن عن شهود غير الله، الممتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله...
والحافظون لحدود الله، هم الواقفون حيث وقفهم الله، الذين لا يتحركون إلا إذا حَرَّكَهم ولا يَسْكنُون إلا إذا سكنهم، ويحفظون مع الله أنْفَاسَهُمْ.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
وانطوت الآية على سائر العبادات من توبة وعبادة، وقيام بشكر، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر. ثم أجمل ما يأتي على كل مكلف به، وهو الحفظ لحدود الله تعالى، فيدخل تحت ذلك اجتناب الكبائر كلها، والقيام بالطاعات كلها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى رتبة، والآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات التي هي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها. وقالت فرقة: بل هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط، والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنين الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله... وأسند الطبري في ذلك عن الضحاك بن مزاحم أن رجلاً سأله عن قول الله عز وجل: {إن الله اشترى} [التوبة: 11] وقال الرجل ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل، فقال الضحاك: ويلك أين الشرط {التائبون العابدون} الآية، وهذا القول تحريج وتضييق والله أعلم، والأول أصوب، والشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد، وقد روي أن الله تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه، ختم الله لنا بالحسنى..
و {العابدون} لفظ يعم القيام بعبادة الله والتزام شرعه وملازمة ذلك والمثابرة عليه والدوام، والعابد هو المحسن الذي فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله، «أن تعبد الله كأنك تراه» الحديث، وبأدنى عبادة يؤديها المرء المسلم يقع عليه اسم عابد ويحصل في أدنى رتبته وعلى قدر زيادته في العبادة يحصل الوصف...
و {الحامدون} معناه: الذاكرون لله بأوصافه الحسنى في كل حال وعلى السراء والضراء وحمده لأنه أهل لذلك، وهو أعم من الشكر إذ الشكر إنما هو على النعم الخاصة بالشاكر..
و {السائحون} والسياحة في الأرض مأخوذ من السيح وهو الماء الجاري على الأرض إلى غير غاية، وقال بعض الناس وهو في كتاب النقاش: {السائحون} هم الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته، وهذا قول حسن وهي من أفضل العبادات، ومن ذلك قول معاذ بن جبل: اقعد بنا نؤمن ساعة..
{الراكعون الساجدون} هم المصلون الصلوات الخمس كذا قال أهل العلم، ولكن لا يختلف في أن من يكثر النوافل هو أدخل في الاسم وأغرق في الاتصاف..
وقوله: {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} هو أمر فرض على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجملة ثم يفترق الناس فيه مع التعيين، فأما ولاة الأمر والرؤساء فهو فرض عليهم في كل حال، وأما سائر الناس فهو فرض عليهم بشروط: منها أن لا تلحقه مضرة وأن يعلم أن قوله يسمع ويعمل به ونحو هذا، ثم من تحمل بعد في ذات الله مشقة فهو أعظم أجراً..
{والناهون} ولم يتقدم في واحدة من الصفات قبل فقيل معناها الربط بين هاتين الصفتين وهي «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» إذ هما من غير قبيل الصفات الأول. قال القاضي أبو محمد: لأن الأول فيما يخص المرء، وهاتان بينه وبين غيره،، وقيل هي واو الثمانية لأن هذه الصفة جاءت ثامنة في الرتبة ومن هذا قوله في أبواب الجنة {وفتحت أبوابها} وقوله {وثامنهم كلبهم} ومن هذا قوله {ثيبات وأبكاراً}. وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ أبي عبد الله الكفيف المالقي وكان ممن استوطن غرناطة وقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال: هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة، فهكذا هي لغتهم، ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْلُهُ: {التَّائِبُونَ}: الرَّاجِعُونَ عَنْ الْحَالَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَى [الْحَالَةِ] الْمَحْمُودَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ.
وَالْعَابِدُونَ: هُمْ الَّذِينَ قَصَدُوا بِطَاعَتِهِمْ وَجْهَهُ.
وَالْحَامِدُونَ: هُمْ الرَّاضُونَ بِقَضَائِهِ، وَالْمُصَرِّفُونَ نِعْمَتَهُ فِي طَاعَتِهِ. وَالسَّائِحُونَ: هُمْ الصَّائِمُونَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ، حَتَّى فَسَدَ الزَّمَانُ فَصَارَتْ السِّيَاحَةُ الْخُرُوجَ مِنَ الْأَرْضِ عَن الْخَلْقِ، لِعُمُومِ الْفَسَادِ وَغَلَبَةِ الْحَرَامِ، وَظُهُورِ الْمُنْكَرِ، وَلَوْ وَسِعَتْنِي الْأَرْضُ لَخَرَجْت فِيهَا، لَكِنَّ الْفَسَادَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا، فَفِي كُلِّ وَادٍ بَنُو نَحْسٍ...
الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ: خَاتِمَةُ الْبَيَانِ وَعُمُومُ الِاشْتِمَالِ لِكُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} بِثَوَابِي إذَا كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي طَاعَتِي لِلْقَتْلِ؛ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ سِلْعَةً مَرْغُوبًا فِيهَا تَمْتَدُّ إلَيْهَا الْأَطْمَاعُ، وَتَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ التِّجَارَاتِ وَالْمَتَاعِ، فَأَمَّا نَفْسٌ لَا تَكُونُ هَكَذَا، وَلَا تَتَحَلَّى بِهَذِهِ الْحِلَى فَلَا يُبْذَلُ فِيهَا فَلْسٌ، فَكَيْفَ الْجَنَّةُ؟ لَكِنَّ مَنْ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ فَهُوَ مُبَشَّرٌ عَلَى قَدْرِهِ بِعَدَمِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَمَنْ اسْتَوْفَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَهُ الْفَوْزُ قَطْعًا، وَمَنْ خَلَطَ فَلَا يَقْنَطْ وَلَا يَأْمَنْ، وَلْيُمْسِ تَائِبًا، وَيُصْبِحْ تَائِبًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَسَائِلًا لِلتَّوْبَةِ، فَإِنَّ سُؤَالَهَا دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ، حَتَّى يَمُنَّ اللَّهُ بِحُصُولِهَا...
{التائبون}... واعلم أن التوبة إنما تحصل عند حصول أمور أربعة:
أولها: احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه.
وثالثها: عزمه على الترك في المستقبل.
ورابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته، فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو سائر الأغراض، فهو ليس من التائبين...
قوله: {الراكعون الساجدون}... ويمكن أن يقال: القيام أول مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها، فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.
الصفة السابعة والثامنة: قوله: {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} وفيه إشارة إلى إيجاب الجهاد، لأن رأس المعروف الإيمان بالله، ورأس المنكر الكفر بالله، والجهاد يوجب الترغيب في الإيمان، والزجر عن الكفر، والجهاد داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما دخول الواو في قوله: {والناهون عن المنكر} ففيه وجوه:
الوجه الأول: أن التسوية قد تجيء بالواو تارة وبغير الواو أخرى. قال تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول} فجاء بعض بالواو، وبعض بغير الواو.
الوجه الثاني: أن المقصود من هذه الآيات الترغيب في الجهاد فالله سبحانه ذكر الصفات الستة، ثم قال: {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} والتقدير: أن الموصوفين بالصفات الستة، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وقد ذكرنا أن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورئيسه؛ هو الجهاد، فالمقصود من إدخال الواو عليه التنبيه على ما ذكرنا.
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
"السائحون"...وقيل إن السياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس وتحسين أخلاقها لأن السائح لا بد أن يلقى أنواعاً من الضر والبؤس ولا بد له من الصبر عليها ويلقى العلماء والصالحين في سياحته فيستفيد منهم ويعود عليه من بركتهم ويرى العجائب وأثار قدرة الله تعالى فيتفكر في ذلك فيدله على وحدانية الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
"السائحون"...وقال أيضا: حدثني يونس، عن ابن وهب، عن عمر بن الحارث، عن عمرو بن دينار، عن عُبَيد بن عُمَير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال: "هم الصائمون". وهذا مرسل جيد.
وجاء ما يدل على أن السياحة: الجهاد، وهو ما روى أبو داود في سننه، من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله، ائذن لي في السياحة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله"... وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتَن والزلازل في الدين، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يكون خير مال الرجل غَنَم يَتْبَع بها شَعفَ الجبال، ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ثبتت المعاقدة وأحكامها، وصف المعاقدين على طريق المدح للحث على أوصافهم فقال: {التآئبون} مبتدئاً أوصافهم بالتوبة التي هي أساس العمل الصالح، ثم ابتدأ المؤسس بمطلق العبادة الشاملة لجميع أنواع الدين من العلم وغيره فقال: {العابدون} أي الذين أقبلوا على العبادة فأخلصوها لله؛ ولما كان التزام الدين لا يعرف إلا بالإقرار باللسان، أتبع ذلك الحمد الذي تدور مادته على بلوغ الغاية الذي من جملته الثناء اللساني بالجميل الشامل للتوحيد وغيره فقال: {الحامدون} أي المثنون عليه سبحانه ثناء عظيماً، تطابقت عليه ألسنتهم وقلوبهم فتبعته آثاره؛ ولما كان الإقرار باللسان لا يقبل إلا عند مطابقة القلب، تلاه بالسياحة التي تدور بكل ترتيب على الاتساع الذي منه إصلاح القلب ليتسع للتجرد عن ضيق المألوفات إلى فضاء الحضرات الإلهيات فقال: {السائحون} ولما كانت الصلاة نتيجة ذلك لكونها جامعة لعمل القلب واللسان وغيرهما من الأركان، وهي أعظم موصل إلى بساط الأنس في حضرات القدس وأعلى مجرد عن الوقوف مع المألوف. وكان أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود، وكان جميع أشكال الصلاة موافقاً للعادة إلا الركوع والسجود، أشار إليها بقوله مخصصاً لها بالذكر تنبيهاً على أن المراد من الصلاة نهاية الخضوع: {الراكعون} فبين أن تمام هذه البشرى لهذه الأمة أن صلاة غيرهم لا ركوع فيها، وأتمها بقوله: {الساجدون} ولما كان الناصح لنفسه بتهذيب لسانه وقلبه وجميع جوارحه لا يقبل إلا إذا بذل الجهد في نصيحة غيره كما صرح به مثال السفر في السفينة ليحصل المقصود من الدين وهو جمع الكل على الله المقتضي للتعاضد والتناصر الموجب لدوام العبادة والنصرة وبذلك يتحقق التجرد عن كل مألوف مجانس وغير مجانس، أتبع ذلك قوله: {الآمرون بالمعروف} أي السنة.
ولما كان الدين متيناً فلن يشاده أحد إلا غلبه، كان المراد من المأمورات مسماها دون تمامها ومنتهاها "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "والمراد من المنهيات تركها كلها، ومن الحدود الوقوف عندها من غير مجاوزة "وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" رواه البخاري في الاعتصام من صحيحه ومسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكانت العرب -كما تقدم في البقرة عند قوله تعالى {والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] وفي آل عمران عند قوله {الصابرين والصادقين} [آل عمران: 17] عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي- إذا أتبعت بعض الصفات بعضاً من غير عطف علم أنها غير تامة، فإذا عطفتها أردت التمكن فيها والعراقة والتمام، فأعلم سبحانه أن المراد فيما تقدم من الأوصاف الإتيان بما أمكن منها، فأتى بها اتباعاً دون عطف لذلك، وأشار إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف عند الحدود لا يقنع منه إلا بالتمام لأن المقصر في شيء من ذلك إما راض بهدم الدين وإما هادم بنفسه، فيجب التجرد التام فيه لأن النهي أصعب أقسام العبادة لأنه متعلق بالغير وهو مثير للغضب موجب للحمية وظهور الخصومة، فربما كان عنه ضرب وقتل، فلذلك عطفها ولم يتبعها فقال: {والناهون} أي بغاية الجد {عن المنكر} أي البدعة.
ولما كان فاعل الخير لا ينفعه فعله إلا باستمراره عليه إلى الموت أتبعه قوله: {والحافظون} أي بغاية العزم والقوة {لحدود الله} أي الملك الأعظم التي حدها في هذا الشرع القيم فلم يتجاوزوا شيئاً منها، فختم بما به بدأ مع قيد الدوام بالرعي والقوة، والحاصل أن الوصف الأول للتجرد عن ربقة مألوف خاص وهو شرك المعصية بشركه أو غيره، والثاني للتجرد عن قيود العادات إلى قضاء العبادات، والثالث لبلوغ الغاية في تهذيب الظاهر. والرابع للتوسع إلى التجرد عن قيود الباطن، والخامس والسادس للجمع بين كمال الباطن والظاهر، والسابع للسير إلى إفاضة ذلك على الغير، والثامن للدوام على تلك الحدود بترك جميع القيود. فمقصود الآية العروج من الحضيض الجسماني إلى الشرف الروحاني؛ ثم أمره صلى الله عليه وسلم بتبشير المتخلق بهذه الأوصاف عاطفاً لأمره به على محذوف تقديره -والله أعلم: فأنذر من تخلى منها بكل ما يسوءه بعد سجنه في دار الشقاوة فإنه كافر وبشرهم، أي هؤلاء الموصوفين، هكذا كان الأصل الإضمار، ولكنه أظهر ختاماً بما به بدأ وتعليقاً بالوصف وتعميماً فقال: {وبشر المؤمنين} أي المتخلقين بها بكل ما يسرهم بعد تخصيصهم بدار السعادة، وفي ختم الآيتين بالبشارة تارة من الخالق وتارة من أكمل الخلائق أعظم مزية للمؤمنين، وفي جعل الأولى من الله أعظم ترغيب في الجهاد وأعلى حث على خوض غمرات الجلاد، وفي ابتداء الآيتين بالوصف المشعر بالرسوخ في الإيمان الذي هو الوصف المتمم للعشر وختمهما بمثله إشارة إلى أن هذه مائدة لا يجلس عليها طفيلي، وأن من عدا الراسخين في درجة الإهمال لا كلام معهم ولا التفات بوجه إليهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين البائعين أنفسهم وأموالهم لله تعالى بجنته ودار كرامته، فقال: {التَّائِبُونَ} أي التائبون الكاملون في توبتهم وهي الرجوع إلى الله تعالى عن كل ما يبعد عن مرضاته، وتختلف باختلاف أحوال أهلها، فتوبة الكفار الذين يدخلون في الإسلام هي الرجوع عن الكفر الذي كانوا عليه من شرك وغيره كما تقدم في قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وتوبة المنافق من النفاق وتقدم ذكرها في هذه السورة أيضا، وتوبة العاصي من المعصية، ومنه توبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين، وتقدم قريبا ذكر من تاب منهم ومن أرجئ أمره، وتوبة المقصر في شيء من البر وعمل الخير إنما تكون في التشمير فيه والاستزادة منه، وتوبة من يغفل عن ربه إنما تكون في الإكثار من ذكره وشكره، وسيأتي ذكر توبة الله تعالى على الجميع في الآيتين (117 و 118).
{الْعَابِدُونَ} لله ربهم وحده، مخلصين له الدين في جميع عباداتهم في عامة أوقاتهم، لا يتوجهون إلى غيره بدعاء ولا استعانة، ولا يترقبون إلى سواه بعمل مما يقصد به القربة ومثوبة الآخرة.
{الْحَامِدُونَ} لله ربهم في السراء والضراء، بالثناء عليه بلفظ الحمد وغيره من الذكر المشروع الدال على الرضا منه تعالى، ومهما يصب الإنسان من مصائب الدنيا فإنه يبقى له منه النعم فيها وفي الدين؛ بل يبقى له من اللطف الإلهي في نفس المصائب ما يجب عليه أن يحمد الله ويشكره عليه.
(وتقدم بيان الحمد والعبادة في تفسير سورة الفاتحة وغيرها).
{السَّائِحُونَ} في الأرض، يجوبون الأقطار لغرض صحيح، من علم أو عمل كالجهاد في سبيل الله، وروي عن عطاء، أو للهجرة حيث تشرع الهجرة، وروي عن عبد الرحمن بن زيد قال: السائحون هم المهاجرون ليس في أمة محمد سياحة إلا الهجرة، أو لطلب العلم النافع للسائح في دينه أو دنياه، أو النافع لقومه وأمته، وروي عن عكرمة، وخصه بعضهم بطلب الحديث: (لأنهم كانوا يسافرون من مصر إلى أخرى للرواية)، أو للنظر في خلق الله وأحوال الشعوب والأمم للاعتبار والاستبصار، ومعرفة سنن الله تعالى وحكمه وآياته، وهذا ما تدل عليه الآيات المتعددة في الحث على السير في الأرض كما بيناه في الأصلين (13 و14) من الأصول العلمية التي استنبطناها من سورة الأنعام (ج 8).
وروي عن عبد الله بن مسعود أن المراد بالسائحين الصائمون، وقاله في تفسير (سائحات) من سورة التحريم، وتعلق به مصنفو التفاسير لاستبعادهم مدح الله تعالى النساء بالسياحة في الأرض، وإنما يحظر في الإسلام سفر المرأة منفردة دون زوجها أو أحد محارمها، وأما إذا كانت تسيح مع زوجها والمحرم حيث يسيح لغرض صحيح من علم نافع أو عمل صالح أو طلب الصحة أو الرزق فلا إشكال في مدحها بالسياحة؛ بل ينبغي اشتراك الرجال والنساء في جميع أعمال الحياة النافعة.
وأزيد على ذلك السياحة والسفر لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها، وإذا صح أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصحبون نساءهم في غزواتهم عند الإمكان، وهن غير مكلفات بالقتال، بل يساعدن عليه بتهيئة الطعام والشراب، وتضميد الجراح وغير ذلك كما تقدم في تفسير الآية 71، {والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} (ج 10) فلأن يصحبنهم في سائر الأسفار أولى. وفي سفر المرأة مع زوجها إحصان له ولها، فهو مانع للمسلم من التطلع في السفر إلى غيرها.
وعلل سفيان بن عيينة تفسير السائحين بالصائمين بأن الصائم يترك اللذات كلها كالسائح للتعبد، ومثله أو منه قول الأزهري: يسمى الصائم سائحا لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا يحمل زادا، فكان ممسكا عن الأكل. ولهذا التعليل خص بعضهم إطلاق وصف السائحين على الصائمين بالذين يديمون الصيام، وأخذ بعضهم بظاهر اللفظ، فقال: يكفي في صحة الوصف صيام الفرض، وكل ذلك ضعيف.
والصوفية يخصون السائحين الممدوحين باللذين يهيمون في الأرض لتربية إرادتهم، وتهذيب أنفسهم باحتمال المشاق، والبعد عن مظان السمعة والرياء، لجمع القلب على الرب عزّ وجلّ بالإخلاص في عبادته، والتكمل في منازل معرفته، كالسياحين من الأمم قبلهم، وقد كان إطلاق السياحة بهذا المعنى ذائعا من قبل الإسلام، حتى قال صاحب القاموس: السياحة الذهاب في الأرض للعبادة، ومنه سمي المسيح الخ، واعترضوه فيه، فإنما هو عرف ليس من أصل اللغة، وتقدم معنى السياحة اللغوي في تفسير قوله تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}، وهو أول آية من هذه السورة (ج 10).
وقد حدث للمتصوفة بدع في السياحة، كقصد مشاهد القبور المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين للتبرك بها، والاستمداد من أرواح من دفنوا فيها، وكثير منهم يكون له هوى في التنقل من بلد إلى آخر، فيظل هائما في الأسفار، وينقطع بذلك عن الأعمال التي تنفع الناس وعن الزواج، ويرتكب بعضهم فيها كثيرا من المنكرات، ويكون لهم طمع في استجداء الناس، والسؤال حرام إلا لضرورة، والفقهاء ينكرون عليهم سياحتهم هذه.
قال ابن الجوزي: السياحة في الأرض لا لمقصود ولا إلى مكان معروف منهي عنها. وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا رهبانية في الإسلام، ولا تبتل، ولا سياحة في الإسلام". وقال الإمام أحمد: ما السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين والصالحين،؛ لأن السفر يشتت القلب، فلا ينبغي للمريد أن يسافر إلا في طلب علم أو مشاهدة شيخ يقتدي به اه.
وأقول: روى ابن جرير من حديث أبي هريرة مرفوعا وموقوفا حديث "السائحون هم الصائمون"، ولا يصح رفعه، وروي عن عائشة وابن عباس ومجاهد وغيرهم من أقوالهم، ومن مرسل عمرو بن دينار عن عبيد بن عميرة، وروى أبو داود من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي بالسياحة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله عزّوجلّ"، قال الحافظ المنذري: القاسم هذا تكلم فيه غير واحد. اه. أقول: منهم الإمام أحمد، كان يقول فيما يروى عنه من المناكير: إنها من قبله، ويقول بعضهم: إنها ممن روى عنه من الضعفاء، لا منه، وقال ابن حبان: كان يروي عن الصحابة المعضلات.
وللإمام الغزالي في كتاب السفر من الإحياء كلام نفيس في فوائد السياحة والاعتبار بآيات الله تعالى فيها، لا يوجد في غيره مثله.
{الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ} لله تعالى في صلواتهم. والصلاة تذكر تارة بلفظها وتارة ببعض أركانها كالقيام والركوع والسجود. وهذا الوصف يفيد التذكير بهذه الهيئة وتمثليها للقارئ والسامع.
{الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} تقدم معنى هذا الأمر والنهي ومكانته من صفات المؤمنين في تفسير الآية (71) من هذه السورة (ج 10)، وهذه الصفة وما بعدها من الصفات المتعلقة بجماعة المؤمنين فيما يجب على بعضهم لبعض، وكل ما قبلها من صفات الأفراد.
{والْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ} أي شرائعه وأحكامه التي حدد فيها ما يجب وما يحظر على المؤمنين من العمل بها، وما يجب على أئمة المسلمين وأولي الأمر وأهل الحل والعقد منهم إقامتها وتنفيذها بالعمل في أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلوا بما يجب عليهم من الحفظ لها.
{بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي وبشر أيها الرسول المؤمنين الموصوفين بهذه البضع الصفات، ولم يذكر ما يبشرهم به لتعظيم شأنه وشموله لخير الدنيا وسعادة الآخرة.
ومن مباحث اللغة أن المعدودات تسرد بغير عطف، وإنما عطف النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف للإيذان بأنهما فريضة واحدة لتلازمهما في الغالب. وأما عطف "الحافظون لحدود الله "على جملة ما تقدم فقيل: لأن التعداد قد تم بالوصف السابع من حيث إن السبعة هو العدد التام، والثامن ابتداء عدد آخر معطوف عليه، وإن هذه الواو تسمى واو الثمانية. وأنكر هذه الواو النحاة المحققون، وقيل: لأنه إجمال لما تقدم من التفصيل قبله، فلا يصح أن يجعل فردا من أفراده فيسرد معه، وأقوى منه عندي أنه وصف جامع للتكاليف عامة، والمنهيات خاصة، والسبعة المسرودة قبله من المأمورات، ولا يحصل الكمال للمؤمن بها إلا مع اجتناب المنهيات، وهو أول ما يلاحظ في حفظ حدود الله قال تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة:187] {وتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] {وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، وعلى هذا يكون معنى نظم الآية أن المؤمنين الكاملين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى هم المتصفون بالصفات السبع، والحافظون مع ذلك لجميع حدود الله في كل أمر ونهي، ويعبر عن هذا في عرف هذا العصر بقولهم:"المثل الأعلى "ويطلقونه على الأفراد النابغين في بعض الفضائل العامة، وعلى الجماعات والأمم الراقية، ويكفي أن يقال فيه:"المثل "في كذا. كما قال تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا} [الزخرف:57] وقال: {وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} [الإسراء: 2]، أو يقال: مثل عال، أو مثل شريف. وأما الأعلى فهو الله عزّ وجلّ كما قال عن نفسه {ولله المثل الأعلى} [النحل:60]، وقال: {ولَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاواتِ والْأَرْضِ وهُو الْعزيز الْحَكِيمُ} [الروم: 27].
وجملة القول فيهم أنهم الحافظون لجميع حدود الله تعالى، وخصت تلك الخلال السبع بالذكر لأنها هي التي تمثل في نفس القارئ أكمل ما يكون المؤمن به محافظا على حدود الله تعالى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال؛ إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال. والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة: (التائبون. العابدون. الحامدون. السائحون. الراكعون الساجدون. الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. والحافظون لحدود الله)...
. (التائبون).. مما أسلفوا، العائدون إلى اللّه مستغفرين. والتوبة شعور بالندم على ما مضى، وتوجه إلى اللّه فيما بقي، وكف عن الذنب، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك. فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح. (العابدون).. المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية، إقراراً بالربوبية.. صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع. فهي إقرار بالألوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية...
(السائحون)... ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق اللّه وسننه، ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر: (إن في خلق السماوات والأرض. واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض: ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك!...).. فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد. فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت اللّه على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى اللّه، وإدراك حكمته في خلقه، وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق. لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار. ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك
(الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر).. وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة اللّه، فيدين للّه وحده ولا يدين لسواه، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع؛ ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه.. ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم؛ وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه للّه وحده، وشريعة اللّه وحدها هي الحاكمة فيه، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر، وهو تقرير ألوهية اللّه وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم. والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكر الأكبر. وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير اللّه عن طريق حكمهم بغير شريعة اللّه.. والذين آمنوا بمحمد -[ص]- هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة اللّه، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة. فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي.ولم ينفقوا قط جهدهم، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع. فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم!
(والحافظون لحدود اللّه).. وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس. ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها.. ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم. ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله؛ وإلا الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع؛ ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه.. والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع. ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود اللّه فيه.. كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم!
... وليست الحياة لهواً ولعباً. وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً. وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة.. إنما الحياة هي هذه: كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة اللّه، أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه.. ثم الجنة والرضوان.. هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)... وصدق اللّه. وصدق رسول اللّه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين} [التوبة: 111] فكان أصلها الجر، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخباراً لمبتدأ محذوف هو ضمير الجمع اهتماماً بهذه النعوت اهتماماً أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية، ويسمى هذا الاستعمال نعتاً مقطوعاً، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى.
ف {التائبون} مراد منه أنهم مفارقون للذنوب سواء كان ذلك من غير اقترافِ ذنب يقتضي التوبة كما قال تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه} [التوبة: 117] الآية أم كان بعد اقترافه كقوله تعالى: {فإن يتوبوا يك خيراً لهم} [التوبة: 74] بعد قوله: {ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74] الآية المتقدمة آنفاً. وأول التوْبة الإيمان لأنه إقلاع عن الشرك، ثم يدخل منهم من كان له ذنب مع الإيمان وتاب منه. وبذلك فارق النعت المنعوت وهو {المؤمنين} [التوبة: 111].
و {العابدون}: المؤدّون لما أوجب الله عليهم.
و {الحامدون}: المعترفون لله تعالى بنعمه عليهم الشاكرون له.
و {السائحون}: مشتق من السياحة. وهي السير في الأرض. والمراد به سير خاص محمود شرعاً. وهو السفر الذي فيه قربة لله وامتثال لأمره، مثل سفر الهجرة من دار الكفر أو السفر للحج أو السفر للجهاد. وحمله هنا على السفر للجهاد أنسب بالمقام وأشمل للمؤمنين المأمورين بالجهاد بخلاف الهجرة والحج.
و {الراكعون الساجدون}: هم الجامعون بينهما، أي المصلون، إذ الصلاة المفروضة لا تخلو من الركوع والسجود.
و {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر}: الذين يَدْعون الناس إلى الهدى والرشاد وينهونهم عما ينكره الشرع ويأباه. وإنما ذكر الناهون عن المنكر بحرف العطف دون بقية الصفات، وإن كان العطف وتركه في الأخبار ونحوها جائزين، إلا أن المناسبة في عطف هذين دون غيرهما من الأوصاف أن الصفات المذكورة قبلها في قوله: {الراكعون الساجدون} ظاهرة في استقلال بعضها عن بعض. ثم لما ذكر {الراكعون الساجدون} علم أن المراد الجامعون بينهما، أي المصلون بالنسبة إلى المسلمين. ولأن الموصوفين بالركوع والسجود ممن وعدهم الله في التوارة والإنجيل كانت صلاة بعضهم ركوعاً فقط، قال تعالى في شأن داود عليه السلام: {وخر راكعاً وأناب} [ص: 24]، وبعض الصلوات سجوداً فقط كبعض صلاة النصارى، قال تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43]. ولما جاء بعده {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} وكانا صفتين مستقلتين عطفتا بالواو لئلا يتوهم اعتبار الجمع بينهما كالوصفين اللذين قبلهما وهما {الراكعون الساجدون} فالواو هنا كالتي في قوله تعالى: {ثيبات وأبكاراً} [التوبة: 112].
و {الحافظون لحدود الله}: صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها. وحقيقة الحفظ توخي بقاء الشيء في المكان الذي يراد كونه فيه رغبة صاحبه في بقائه ورعايته عن أن يضيع. ويطلق مجازاً شائعاً على ملازمة العمل بما يؤمر به على نحو ما أمر به وهو المراد هنا، أي والحافظون لما عين الله لهم، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله.
وأطلقت الحدود مجازاً على الوصايا والأوامر. فالحدود تشمل العبادات والمعاملات لما تقدم في قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} في سورة البقرة (229). ولذلك ختمت بها هذه الأوصاف. وعطفت بالواو لئلا يوهم ترك العطف أنها مع التي قبلها صفتان متلازمتان معدودتان بعد صفة الأمر بالمعروف...
وجملة: {وبشر المؤمنين} عطف على جملة {إن الله اشترى من المؤمنين} [التوبة: 111] عطفَ إنشاء على خبر. ومما حسَّنه أن المقصود من الخبر المعطوفِ عليه العمل به فأشبه الأمر. والمقصود من الأمر بتبشيرهم إبلاغُهم فكان كلتا الجملتين مراداً منها معنيان خبريّ وإنشائي. فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون المعهودون من قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} [التوبة: 111].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يعمد إِلى التفصيل في الآية التي تليها، فقد بيّن سبحانه في الآية الثّانية حال البائعين للروح والمال لربّهم عزَّ وجلّ، فذكر تسع صفات مميزة لهم:
فهم يغسلون قلوبهم وأرواحهم من رين الذنوب بماء التوبة: (التائبون).
وهم يطهرون أنفسهم في نفحات الدعاء والمناجاة مع ربّهم: (العابدون).
وهم يحمدون ويشكرون كل نعم الله المادية والمعنوية: (الحامدون).
وهم يتنقلون من مكان عبادة إِلى آخر: (السائحون).
وبهذا الترتيب فإنّ برامج تربية النفس عند هؤلاء لا تنحصر في العبادة، أو في إطار محدود، بل إن كان مكان هو محل عبادة لله وجهاد للنفس وتربية لها بالنسبة لهؤلاء، وكل مكان يوجد فيه درس وعبرة لهؤلاء فإنّهم سيقصدونه.
(سائح) في الأصل مأخوذ من (سيح)، و (سياحة) والتي تعني الجريان والاستمرار.
وهناك بحث بين المفسّرين فيما هو المقصود من السائح في الآية، وأي نوع من الجريان والاستمرار والسياحة هو؟ فالبعض يرى كما قلنا أعلاه إن السير في تربية النفس وجهادها إِنّما يكون في أماكن العبادة...
والبعض الآخر يقول: إِنّ السائح يعني الصائم، لأنّ الصوم عمل مستمر طوال اليوم...
والبعض الآخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التنقل والتجوال في الأرض لمشاهدة آثار عظمة الله، ومعرفة المجتمعات البشرية، والتعرف على عادات وتقاليد وعلوم الأقوام التي تحيي فكر الإِنسان وتنميه وتطوره.
وفريق آخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التوجه إِلى ميدان الجهاد ومحاربة الأعداء...
وأخيراً فإنّ البعض يرى أنّها سير العقل والفكر في المسائل العلمية المختلفة المرتبطة بعالم الوجود والتفكر فيها، ومعرفة عوامل السعادة والانتصار، وأسباب الهزيمة والفشل.
إِلاّ أنّ أخذ الأوصاف التي ذكرت قبل السياحة وبعدها بنظر الاعتبار يرجح المعنى الأوّل، ويجعله الأنسب من بين المعاني الأُخرى، وإن كانت كل هذه المعاني ممكنة في هذه الكلمة، لأنّها جمعت في مفهوم السير والسياحة.
وهم يركعون مقابل عظمة الله: (الراكعون).
ويضعون جباههم على التراب أمام خالقهم ويسجدون له: (الساجدون).
وهم يدعون الناس لعمل الخير: (الآمرون بالمعروف).
ولم يقتنعوا بهذه الدّعوة للخير، بل حاربوا كل منكر وفساد: (والناهون عن المنكر).
وبعد أدائهم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقومون بأداء آخر وأهم واجب اجتماعي، أي حفظ الحدود الإلهية وإجراء قوانين الله، وإقامة الحق والعدالة: (والحافظون لحدود الله).
وبعد ذكر هذه الصفات التسع فإنّ الله يرغّب مرّة أُخرى أمثال هؤلاء المؤمنين المخلصين الذين هم ثمرة منهج الإيمان والعمل، ويقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (وبشر المؤمنين).
ولما لم يذكر متعلق البشارة، وبتعبير آخر: إنّ البشارة لما جاءت مطلقة فإنّها تعطي مفهوماً أوسع يدخل ضمنه كل خير وسعادة، أي بشر هؤلاء بكل خير وسعادة وفخر.
وينبغي الالتفات إلى أن الصفات الست الأُولى ترتبط بجانب جهاد النفس وتربيتها، والصفة السّابعة والثّامنة ترتبطان بالواجبات الاجتماعية الحساسة، وتشيران إلى تطهير محيط المجتمع من السلبيات، والصفة الأخيرة تتحدث عن المسؤوليات المختلفة المتعددة المرتبطة بتشكيل الحكومة الصالحة، والمشاركة الجدية في المسائل السياسية الإيجابية.