ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد ، يدخل به بنو إسرائيل وغيرهم ، وهو الحكم الذي لا حكم غيره ، لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين ، فقال : { بَلَى } أي : ليس الأمر كما ذكرتم ، فإنه قول لا حقيقة له ، ولكن { مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً } وهو نكرة في سياق الشرط ، فيعم الشرك فما دونه ، والمراد به هنا الشرك ، بدليل قوله : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } أي : أحاطت بعاملها ، فلم تدع له منفذا ، وهذا لا يكون إلا الشرك ، فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته .
{ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية ، وهي حجة عليهم كما ترى ، فإنها ظاهرة في الشرك ، وهكذا كل مبطل يحتج بآية ، أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه .
ثم ساق - سبحانه - آية أبطلت مدعاهم عن طريق إثبات ما نفوه فقال تعالى : { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
بلى حرف جواب يجيء لإِثبات فعل ورد قبلها منفياً ، والفعل المنفى هنا هو قول اليهود { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } فجاءت { بلى } لإثبات أن النار تمسهم أكثر مما زعموا فهم فيها خالدون جزاء كفرهم وكذبهم .
ومعنى الآية الكريمة : ليس الأمر كما تدعون أيها اليهود ، من أن النار لن تمسكم إلا أياماً معدودة ، بل الحق أنكم ستخلدون فيها . فكل من كسب شركاً مثلكم ، واستولت عليه خطاياه ، وأحاطت به كما يحيط السرادق بمن في داخله ، ومات على ذلك دون أن يدخل الإِيمان قلبه ويتوب إلى ربه فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
فالآية الكريمة فيها إبطال لمدعاهم ، وإثبات لما نفوه ، على وجه يشملهم ويشمل جميع من يقول قولهم ، ويكفر كفرهم .
هذا والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله كما قال جمهور المفسرين لورود الآثار عن السلف بذلك ، وفائدة الإِنيان بقوله تعالى { وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته } بعد ذلك ، الإِشعار بأن الخطيئة إذا أحاطت بصاحبها أخذت بمجامع قلبه فحرمته الإِيمان ، وأخذت بلسانه فمنعته عن أن ينطق به .
وقوله تعالى { فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بيان لما أعد لهم من عقوبات جزاء كفرهم وكذبهم على الله ، فهم يوم القيامة سيكونون أصحاباً للنار ملازمين لها على التأييد لإيثارهم في الحياة الدنيا ما يوردهم سعيرها ، وهو الكفر وسوء الأفعال على ما يدخلهم الجنة وهو الإِيمان وصالح الأعمال .
هنا يأتيهم الجواب القاطع والقول الفصل في هذه الدعوى ، في صورة كلية من كليات التصور الإسلامي ، تنبع من فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان : إن الجزاء من جنس العمل ، ووفق هذا العمل .
( بلى ! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) . .
ولا بد أن نقف قليلا أمام ذلك التصوير الفني المعجز لحالة معنوية خاصة ، وأمام هذا الحكم الإلهي الجازم نكشف عن شيء من أسبابه وأسراره :
( بلى ! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته . . ) . .
الخطيئة كسب ؟ إن المعنى الذهني المقصود هو اجتراح الخطيئة . ولكن التعبير يوميء إلى حالة نفسية معروفة . . إن الذي يجترح الخطيئة إنما يجترحها عادة وهو يلتذها ويستسيغها ؛ ويحسبها كسبا له - على معنى من المعاني - ولو أنها كانت كريهة في حسه ما اجترحها ، ولو كان يحس أنها خسارة ما أقدم عليها متحمسا ، وما تركها تملأ عليه نفسه ، وتحيط بعالمه ؛ لأنه خليق لو كرهها وأحس ما فيها من خسارة أن يهرب من ظلها - حتى لو اندفع لارتكابها - وأن يستغفر منها ، ويلوذ إلى كنف غير كنفها . وفي هذه الحالة لا تحيط به ، ولا تملأ عليه عالمه ، ولا تغلق عليه منافذ التوبة والتكفير . . وفي التعبير : ( وأحاطت به خطيئته ) . . تجسيم لهذا المعنى . وهذه خاصية من خواص التعبير القرآني ، وسمة واضحة من سماته ؛ تجعل له وقعا في الحس يختلف عن وقع المعاني الذهنية المجردة ، والتعبيرات الذهنية التي لا ظل لها ولا حركة . وأي تعبير ذهني عن اللجاجة في الخطيئة ما كان ليشع مثل هذا الظل الذي يصور المجترح الآثم حبيس خطيئته : يعيش في إطارها ، ويتنفس في جوها ، ويحيا معها ولها .
عندئذ . . عندما تغلق منافذ التوبة على النفس في سجن الخطيئة . . عندئذ يحق ذلك الجزاء العادل الحاسم :
{ بلى } إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زمانا مديدا ودهرا طويلا على وجه أعم ، ليكون كالبرهان على بطلان قولهم ، وتختص بجواب النفي { من كسب سيئة } قبيحة ، والفرق بينها وبين الخطيئة أنها قد تقال فيما يقصد بالذات ، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنه من الخطأ ، والكسب : استجلاب النفع . وتعليقه بالسيئة على طريق قوله : { فبشرهم بعذاب أليم } .
{ وأحاطت به خطيئته } أي استولت عليه ، وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه ، وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأن غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط الخطيئة به ، ولذلك فسرها السلف بالكفر . وتحقيق ذلك : أن من أذنب ذنبا ولم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه ، حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلا إلى المعاصي ، مستحسنا إياها معتقدا أن لا لذة سواها ، مبغضا لمن يمنعه عنها مكذبا لمن ينصحه فيها ، كما قال الله تعالى : { ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله } وقرأ نافع { خطيئاته } . وقرئ " خطيته " و " خطياته " على القلب والإدغام فيهما . { فأولئك أصحاب النار } ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمون أسبابها في الدنيا { هم فيها خالدون } دائمون ، أو لابثون لبثا طويلا . والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة وكذا التي قبلها .
{ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }( 81 )
و { بلى } رد بعد النفي بمنزلة نعم بعد الإيجاب ، وقال الكوفيون : أصلها بل التي هل للإضراب عن الأول وزيدت عليها الياء ليحسن الوقف عليها وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام بما يأتي بعدها ، وقال سيبويه : هي حرف مثل بل وغيره ، وهي في هذه الآية رد لقول بني إسرائيل { لن تمسنا النار } فرد الله عليهم وبين الخلود في النار والجنة بحسب الكفر والإيمان ، و { من } شرط في موضع رفع بالابتداء ، و «أولئك » ابتداء ثان ، و
{ أصحاب } خبره ، والجملة خبر الأول ، والفاء موطئة أن تكون الجملة جواب الشرط .
وقالت طائفة : السيئة الشرك كقوله تعالى { ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار }( {[866]} ) [ النمل : 90 ] ، والخطيئات كبائر الذنوب ، وقال قوم : «خطيئته » بالإفراد ، وقال قوم : السيئةُ هنا الكبائر ، وأفردها وهي بمعنى الجمع لما كانت تدل على الجنس ، كقوله تعالى { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }( {[867]} ) [ إبراهيم : 34 ] ، والخطيئة الكفر ، ولفظة الإحاطة تقوي هذا القول وهي مأخوذة من الحائط المحدق بالشيء ، وقال الربيع بن خيثم والأعمش والسدي وغيرهم : معنى الآية مات بذنوب لم يتب منها ، وقال الربيع أيضاً : المعنى مات على كفره ، وقال الحسن بن أبي الحسن والسدي : المعنى كل ما توعد الله عليه بالنار فهي الخطيئة المحيطة ، والخلود في هذه الآية على الإطلاق والتأبيد في المشركين ، ومستعار بمعنى الطول والدوام في العصاة وإن علم انقطاعه ، كما يقال ملك خالد ويدعى للملك بالخلد .
وقوله : { بلى } إبطال لقولهم : { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } ، وكلمات الجواب تدخل على الكلام السابق لا على ما بعدها فمعنى بلى بل أنتم تمسكم النار مدة طويلة .
وقوله : { من كسب سيئة } سند لما تضمنته { بلى } من إبطال قولهم ، أي ما أنتم إلا ممن كسب سيئة إلخ ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار فأنتم منهم لا محالة على حد قول لبيد :
تمنَّى ابنتاي أن يعيش أبوهما . . . وهل أَنا إلا من ربيعةَ أو مُضَرْ
أي فلا أخلد كما لم يخلد بنو ربيعة ومضر ، فمَنْ في قوله : { من كسب سيئة } شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها وهي في الشرط من صيغ العموم فلذلك كانت مؤذنة بجملة محذوفة دل عليها تعقيب { بلى } بهذا العموم لأنه لو لم يرد به أن المخاطبين من زمر هذا العموم لكان ذِكر العموم بعدها كلاماً متناثراً ففي الكلام إيجاز الحذف ليكون المذكور كالقضية الكبرى لبرهان قوله : { بلى } .
والمراد بالسيئة هنا السيئة العظيمة وهي الكفر بدليل العطف عليها بقوله : { وأحاطبت به خطيئاته } .
وقوله : { وأحاطت به خطيئاته } الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء ، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء لأن ما يحيط بالمرء لا يترك له منفذاً للإقبال على غير ذلك قال تعالى : { وظنوا أنهم أحيط بهم } [ يونس : 22 ] وإحاطة الخطيئات هي حالة الكفر لأنها تجريء على جميع الخطايا ولا يعتبر مع الكفر عمل صالح كما دل عليه قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] . فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات بل هو لا يخلو من عمل صالح وحسبك من ذلك سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة .
والقصر المستفاد من التعريف في قوله : { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } قصر إضافي لقلب اعتقادهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فلما قالوا {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة}، أكذبهم الله عز وجل، فقال:
{بلى} يخلد فيها {من كسب سيئة}، يعني الشرك.
{وأحاطت به خطيئته} حتى مات على الشرك.
{فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} يعني: لا يموتون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله: {بَلى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً} تكذيب من الله القائلين من اليهود: {لنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً} وإخبار منه لهم أنه يعذّب من أشرك وكفر به وبرسله وأحاطت به ذنوبه فمخلّد في النار، فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به وبرسوله، وأهل الطاعة له، والقائمون بحدوده... عن ابن عباس: {بَلى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة، "فأولئك أصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خَالِدُونَ".
وأما بَلى فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد، كما «نعم» إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه...
قال: وأما السيئة التي ذكر الله في هذا المكان فإنها الشرك بالله... [و] عن السدي: أما السيئة فهي الذنوب التي وعد عليها النار...
وإنما قلنا: إن السيئة التي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته فهو من أهل النار المخلدين فيها في هذا الموضع، إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض، وإن كان ظاهرها في التلاوة عاما، لأن الله قضى على أهلها بالخلود في النار، والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها، وأن الخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: {بَلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فأولئك أصحَابُ النارِ هُم فِيها خالِدُونَ} قولَهُ: {والّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولَئِكَ أصحَابُ الجَنّةِ هُمْ فِيها خَالِدُونَ} فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الخلود في النار من أهل السيئات، غير الذي لهم الخلود في الجنة من أهل الإيمان...
{وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}: اجتمعت عليه فمات عليها قبل الإنابة والتوبة منها. وأصل الإحاطة بالشيء: الإحداق به، بمنزلة الحائط الذي تحاط به الدار فتحدق به، ومنه قول الله جل ثناؤه: {نارا أحاطَ بِهِمْ سُرَادِقُها}.
فتأويل الآية إذا: من أشرك بالله واقترف ذنوبا جمة، فمات عليها قبل الإنابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبدا...
{فأولئك أصحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خَالِدُونَ}: فأولئك الذين كسبوا السّيئات وأحاطتْ بهم خطيئاتهم أصحاب النار هم فيها خالدون.
{أصحَابُ النّارِ} أهل النار، وإنما جعلهم لها أصحابا لإيثارهم في حياتهم الدنيا ما يوردهموها، ويوردهم سعيرها على الأعمال التي توردهم الجنة، فجعلهم جل ذكره بإيثارهم أسبابها على أسباب الجنة لها أصحابا، كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته على صحبة غيره حتى يعرف به. {هُمْ فِيها} يعني في النار خالدون، ويعني بقوله: {خالِدُونَ} مقيمون... لا يخرجون منها أبدا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}... والإحاطة: الإحفاف بالشيء من جميع نواحيه.
[قال] مجاهد: هي الذّنوب تحيط بالقلب كلّما عمل ذنباً ارتفعت حتّى تغشى القلب وهو الرّين.
وعن سلام بن مسكين أنّه سأل رجل الحسن عن هذه الآية؟ فقال للسّائل: يا سبحان الله ألا أراك ذا لحية وما تدري ما محاطة الخطيئة! انظر في المصحف فكل آية نهى الله عزّ وجلّ عنها وأخبرك أنّه من عمل بها أدخله النّار فهي الخطيئة المحيطة.
[وعن] الكلبي: أوبقته ذنوبه دليله قوله تعالى {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]: أي تهلكوا جميعاً.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
الخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنه من الخطأ، والكسب: استجلاب النفع. وتعليقه بالسيئة على طريق قوله: {فبشرهم بعذاب أليم}.
{وأحاطت به خطيئته} أي استولت عليه، وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه، وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأن غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط الخطيئة به، ولذلك فسرها السلف بالكفر. وتحقيق ذلك: أن من أذنب ذنبا ولم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه، حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلا إلى المعاصي، مستحسنا إياها معتقدا أن لا لذة سواها، مبغضا لمن يمنعه عنها مكذبا لمن ينصحه فيها، كما قال الله تعالى: {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله}...
{فأولئك أصحاب النار} ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمون أسبابها في الدنيا {هم فيها خالدون} دائمون، أو لابثون لبثا طويلا. والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة وكذا التي قبلها.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{أصحاب النار هم فيها خالدون}: إشارة إلى أن المراد: الكفار، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: « أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون» وقد رتب كونهم أصحاب النار على وجود أمرين: أحدهما، كسب السيئة، والآخر: إحاطة الخطيئة. وما رتب على وجود شرطين لا يترتب على وجود أحدهما، فدل ذلك على أن من لم يكسب سيئة، وهي الشرك وإن أحاطت به خطيئته، وهي الكبائر، لا يكون من أصحاب النار، ولا ممن يخلد فيها. ويعني بأصحاب النار: الذين هم أهلها حقيقة، لا من دخلها ثم خرج منها.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم، ولا كما تشتهون، بل الأمر: أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة، بل جميع عمله سيئات، فهذا من أهل النار، والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات -من العمل الموافق للشريعة- فهم من أهل الجنة. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 123، 124]...
[روى] الإمام أحمد... عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه". وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهُنَّ مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا، وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وتعليق الكسب بالسيئة على طريقة التهكم، وقيل: إنهم بتحصيل السيئة استجلبوا نفعاً قليلاً فانياً، فبهذا الاعتبار أوقع عليه الكسب... قال بعض المحققين: ولذلك أضاف الإحاطة إليها إشارة إلى أن السيئات باعتبار وصف الإحاطة داخلة تحت القصد بالعرض لأنها بسبب نسيان التوبة، ولكونها راسخة فيه متمكنة حال الإحاطة أضافها إليه بخلاف حال الكسب فإنها متعلق القصد بالذات وغير حاصلة فيه فضلاً عن الرسوخ، فلذا أضاف الكسب إلى سيئة ونكرها،
وإضافة الأصحاب إلى النار على معنى الملازمة لأن الصحبة وإن شملت القليل والكثير لكنها في العرف تخص بالكثرة والملازمة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ومعنى إحاطة الخطيئة هو حصرها لصاحبها وأخذها بجوانب إحساسه ووجدانه كأنه محبوس فيها لا يجد لنفسه مخرجا منها. يرى نفسه حرا مطلقا وهو أسير الشهوات، وسجين الموبقات، ورهين الظلمات؟ وإنما تكون الإحاطة بالاسترسال في الذنوب، والتمادي على الإصرار، قال تعالى {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} أي من الخطايا والسيئات ففي كلمة "يكسبون "معنى الاسترسال والاستمرار، وران عليه غطاه وستره أي أن قلوبهم قد أصبحت في غلف من ظلمات المعاصي حتى لم يبق منفذ للنور يدخل إليها منه. ومن أحدث لكل سيئة يقع فيها توبة نصوحا وإقلاعا صحيحا لا تحيط به الخطايا ولا ترين على قلبه السيئات.
روى أحمد والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} لمثل هذا كان السلف يقولون: المعاصي يريد الكفر...
قال الأستاذ الإمام: ومن المفسرين من ترك السيئة في الآية على إطلاقها فلم يؤولها بالشرك، ولكنهم أولوا جزاءها فقالوا إن المراد بالخلود طول مدة المكث لأن المؤمن لا يخلد في النار وإن استغرقت المعاصي عمره وأحاطت الخطايا بنفسه فانهمك فيها طول حياته... والقرآن فوق المذاهب يرشد إلى أن من تحيط به خطيئته لا يكون أو لا يبقى مؤمنا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لا بد أن نقف قليلا أمام ذلك التصوير الفني المعجز لحالة معنوية خاصة، وأمام هذا الحكم الإلهي الجازم نكشف عن شيء من أسبابه وأسراره:
(بلى! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته..).. الخطيئة كسب؟ إن المعنى الذهني المقصود هو اجتراح الخطيئة. ولكن التعبير يومئ إلى حالة نفسية معروفة.. إن الذي يجترح الخطيئة إنما يجترحها عادة وهو يلتذها ويستسيغها؛ ويحسبها كسبا له -على معنى من المعاني- ولو أنها كانت كريهة في حسه ما اجترحها، ولو كان يحس أنها خسارة ما أقدم عليها متحمسا، وما تركها تملأ عليه نفسه، وتحيط بعالمه؛ لأنه خليق لو كرهها وأحس ما فيها من خسارة أن يهرب من ظلها -حتى لو اندفع لارتكابها- وأن يستغفر منها، ويلوذ إلى كنف غير كنفها. وفي هذه الحالة لا تحيط به، ولا تملأ عليه عالمه، ولا تغلق عليه منافذ التوبة والتكفير.. وفي التعبير: (وأحاطت به خطيئته).. تجسيم لهذا المعنى. وهذه خاصية من خواص التعبير القرآني، وسمة واضحة من سماته؛ تجعل له وقعا في الحس يختلف عن وقع المعاني الذهنية المجردة، والتعبيرات الذهنية التي لا ظل لها ولا حركة. وأي تعبير ذهني عن اللجاجة في الخطيئة ما كان ليشع مثل هذا الظل الذي يصور المجترح الآثم حبيس خطيئته: يعيش في إطارها، ويتنفس في جوها، ويحيا معها ولها. عندئذ.. عندما تغلق منافذ التوبة على النفس في سجن الخطيئة.. عندئذ يحق ذلك الجزاء العادل الحاسم: (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
يؤكد القرآن في هاتين الآيتين القاعدة للخلود في الجنّة أو في النّار، بعيداً عن كلّ الامتيازات، أو الاستثناءات المتوهمة للأشخاص أو للأمم، فليس في الآخرة طبقات على المستوى المعروف لدى النّاس في الدنيا، لأنَّ الطبقية هنا تنشأ من حصول الإنسان على امتياز ماديّ أو معنويّ، يتميّز به عن غيره، فيجعل له قيمةً متميّزة لدى سائر النّاس؛ أمّا في الآخرة، فالجميع متساوون أمام اللّه؛ فلا علاقة لأحد باللّه أكثر من غيره، من ناحية ذاتية، لأنهم مخلوقون له، ومن ناحية الصفات، لأنها هبةٌ من اللّه، فلا مجال هناك إلاَّ للعمل وحده، فهو القيمة الأولى والأخيرة التي ترفع مستوى الإنسان عند اللّه، ولهذا كانت قضية الجنّة والنّار خاضعةً للعمل لجهة خلود الإنسان في الثواب والعقاب؛ فأمّا الخالدون في النّار فهم الذين واقعوا الخطيئة من قاعدة روحية وفكرية وعملية، فهي محيطة بهم من كلّ جانب وليست شيئاً طارئاً مما يحدث للإنسان، كنتيجةٍ لنزوة سريعة. إنهم يعتقدونها ثُمَّ يعيشونها فكراً وشعوراً وعملاً، وهؤلاء هم المجرمون المتمرّدون الذين يواجهون الحقّ من موقع الوضوح في الرؤية، ولكنّهم يصرّون على الابتعاد عنه والتمرّد عليه، والمتاجرة بكلماته بعيداً عن روحه، والتحريف لآياته؛ وهؤلاء هم الذين لا يتطلعون إلى الإيمان باللّه بروحية منفتحةٍ تخشع أمام ذكره وتخضع لآياته، وتستسلم لأوامره ونواهيه، بل يمرون مروراً سريعاً، تماماً كأية فكرة طارئة، أو وهم زائل، وهؤلاء هم الظالمون الذين يفسدون في الأرض ويبغون فيها بغير الحقّ، وينازعون اللّه سلطانه وكبرياءه، عندما يخيَّل إليهم أنهم آلهة صغار، من خلال نوازع الكبرياء والعظمة الذاتية، التي توحي بها السلطة في مظاهر القوّة والسلطان، أو الذين يشركون بعبادة اللّه غيره، مما يصنعونه بأيديهم من الخشب والحجر وغيرهما ممّا يصنع منه الأصنام، أو ممّا يصنعونه بطاعتهم وخضوعهم من أصنام اللحم والدم من الطغاة والمستكبرين الذين يصنع منهم الأتباع آلهة وسادة، ولولاهم ما كانوا شيئاً مذكوراً.
هذه هي النماذج التي تكسب الخطيئة من موقع القاعدة، هم أصحاب الخلود في النّار، وهم الذين تنطبق صفاتهم على هؤلاء اليهود الذين لم يتركوا خطيئة إلاَّ ومارسوها بكلّ قوّة وعزم وتصميم، من التمرّد على الأنبياء، وقتلهم الأنبياء بغير حقّ، وتحريف كلام اللّه، والمتاجرة بالأكاذيب والبدع... وغير ذلك، ما يدل على وجود أساس روحي أو فكري للتمرّد والطغيان، أو يوحي بأنَّ علاقتهم باللّه لا تمثّل شيئاً كثيراً في حياتهم ليندفعوا من خلاله في طريق الطاعة والتوبة؛ فكيف يرون لأنفسهم هذا الامتياز الإلهي الذي يؤمنهم من الدخول في النّار؟ وأمّا الخالدون في الجنّة، فهم الذين عاشوا الإيمان في نفوسهم فكراً وشعوراً وروحانية، فهم يقفون أمام اللّه موقف المؤمن الذي يحسّ وجوده بمشاعره، كما يتعقله بفكره، وهم الذين يعيشون الإحساس بالعبودية المطلقة التي تدفعهم إلى الخضوع والخشوع والاستسلام للّه في أعمالهم، ولكنَّهم قد يخطئون ويتمرّدون نتيجة نزوة سريعة أو هفوة طارئة مما يدخل في حساب الغفلة والنسيان ووسوسة الشيطان، من دون أن يكون هناك أساس نفسي أو فكري يشجع على ذلك ويدفع إليه، ولهذا نجدهم يتراجعون عند أوّل حالة انتباه أو تذكر أو يقظة ضمير، كما حدّثنا اللّه عنهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] فهؤلاء هم أصحاب الجنّة المتقون، الذين عاشوا روحيتها في روحيتهم، وأخلاق أهلها في أخلاقهم في الأرض قبل أن ينتقلوا إليها. ولعلّ الشرك الذي لا يغفره اللّه هو التجسيد الحيّ لهذه السيئة التي يكسبها الإنسان فتبعده عن اللّه في توحيد العقيدة والعبادة، ويستغرق في الصنمية التي تحوّل حياته إلى جدارٍ مسدود لا مجال فيه للأفق الواسع، وإلى كهف مظلم لا ينفذ إليه النور من أية جهة، فيكون هذا الإنسان خطيئة متجسدة في حركة الباطل والشرّ والفساد في واقعه الداخلي والخارجي، {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لأنَّ مثل هؤلاء لا يرتبطون باللّه بأية رابطة تنفذ منها رحمته وينفتح عليهم رضوانه، ما يجعل الخلود في النّار هو النهاية الطبيعية التي ينتهون إليها.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -التنبيه على خَطَرِ الذنوب صغيرها وكبيرها، وإلى العمل على تكفيرها بالتوبة والعمل الصالح قبل أن تحوط بالنفس فتحجبها عن التوبة والعياذ بالله...