ثم قال عن أهل الجنة : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ } بتوحيده والعمل بطاعته ، سوق إكرام وإعزاز ، يحشرون وفدا على النجائب . { إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } فرحين مستبشرين ، كل زمرة مع الزمرة ، التي تناسب عملها وتشاكله . { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا } أي : وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة والمنازل الأنيقة ، وهبَّ عليهم ريحها ونسيمها ، وآن خلودها ونعيمها . { وَفُتِحَتْ } لهم { أَبْوَابُهَا } فتح إكرام ، لكرام الخلق ، ليكرموا فيها . { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } تهنئة لهم وترحيبا : { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي : سلام من كل آفة وشر حال . عليكم { طِبْتُمْ } أي : طابت قلوبكم بمعرفة اللّه ومحبته وخشيته ، وألسنتكم بذكره ، وجوارحكم بطاعته . { ف } بسبب طيبكم { ادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } لأنها الدار الطيبة ، ولا يليق بها إلا الطيبون .
وقال في النار { فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } وفي الجنة { وَفُتِحَتْ } بالواو ، إشارة إلى أن أهل النار ، بمجرد وصولهم إليها ، فتحت لهم أبوابها من غير إنظار ولا إمهال ، وليكون فتحها في وجوههم ، وعلى وصولهم ، أعظم لحرها ، وأشد لعذابها .
وأما الجنة ، فإنها الدار العالية الغالية ، التي لا يوصل إليها ولا ينالها كل أحد ، إلا من أتى بالوسائل الموصلة إليها ، ومع ذلك ، فيحتاجون لدخولها لشفاعة أكرم الشفعاء عليه ، فلم تفتح لهم بمجرد ما وصلوا إليها ، بل يستشفعون إلى اللّه بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، حتى يشفع ، فيشفعه اللّه تعالى .
وفي الآيات دليل على أن النار والجنة لهما أبواب تفتح وتغلق ، وأن لكل منهما خزنة ، وهما الداران الخالصتان ، اللتان لا يدخل فيهما إلا من استحقهما ، بخلاف سائر الأمكنة والدور .
{ وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً } أى : جماعات .
قال الآلوسى : أى : جماعات مرتبة حسب ترتب طبقاتهم فى الفضل .
وفى صحيح مسلم وغيره عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول زمرة تدخل الجنة من أمتى على صورة القمر ليلة البدر " .
والمراد بالسوق هنا : الحث على المسير للإِسراع إلى الإِكرام بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة ، وتعجيلهم إلى العقاب والآلام ، واختير للمشاكلة . .
ثم بين - سبحانه - ما أعده هؤلاء المتقين من نعيم مقيم فقال : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ } .
والواو فى قوله { وَفُتِحَتْ } للحال ، والجملة الحالية بتقدير قد ، وجواب { إِذَا } مقدر بعد قوله { خَالِدِينَ } .
أى : حتى إذا جاءوها ، وقد فتحت أبوابها على سبيل التكريم لهم ، وقال لهم خزنتها بفرح وحبور : سلام عليكم من جميع المكاره ، طبتم من دنس المعاصى ، فادخلوها خالدين أى : حتى إذا جاءوها وقالوا لهم ذلك سعدوا وابتهجوا .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : وحتى هنا هى التى تحكى بعدها الجمل . والجملة المحكية بعدها هى الشرطية ، إلا أن جزاءها محذوف لأنه صفة ثواب أهل الجنة ، فدل بحذفه على أنه شئ لا يحيط به الوصف . وحق موقعه ما بعد " خالدين " .
( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا . حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها . وقال لهم خزنتها : سلام عليكم . طبتم . فادخلوها خالدين ) . .
فهو الاستقبال الطيب . والثناء المستحب . وبيان السبب . ( طبتم )وتطهرتم . كنتم طيبين . وجئتم طيبين . فما يكون فيها إلا الطيب . وما يدخلها إلا الطيبون . وهو الخلود في ذلك النعيم . .
{ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة } إسراعا بهم إلى دار الكرامة ، وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين . { زمرا } على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة . { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } حذف جواب إذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف ، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين ، وقرأ الكوفيون " فتحت " بالتخفيف . { وقال لهم خزنتها سلام عليكم } لا يعتريكم بعد مكروه . { طبتم } طهرتم من دنس المعاصي . { فادخلوها خالدين } مقدرين الخلود فيها ، والفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم ، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه لأنه مطهره .
قوله : { الذين اتقوا ربهم } لفظ يعم كل من يدخل الجنة من المؤمنين الذي اتقوا الشرك ، لأن الذين لم يتقوا المعاصي قد يساق منهم زمر وهم الذي سبق لهم أن يغفر الله لهم من أهل المشيئة ، وأيضاً فالذين يدخلون النار ثم يخرجون منها قد يساقون زمراً إلى الجنة بعد ذلك فيصيرون من أهل هذه الآية ، والواو في قوله : { وفتحت } مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم إليها ، وقد قالت فرقة : هي زائدة . وجواب { إذا } ، { فتحت } ، وقال الزجاج عن المبرد : جواب { إذا } محذوف ، تقديره بعد قوله : { خالدين } فيها سعدوا{[9939]} . وقال الخليل : الجواب محذوف تقديره : حتى جاؤوها وفتحت أبوابها ، وهذا كما قدر الخليل قول الله تعالى :
{ فلما أسلما وتله للجبين }{[9940]} [ الصافات : 103 ] وكما قدر أيضاً قول امرىء القيس : [ الطويل ]
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى . . . {[9941]}
أي أجزنا وانتحى . وقال قوم : أشار إليهم ابن الأنباري وضعف قولهم : هذه واو الثمانية مستوعباً في سورة الكهف ، وسقطت هذه الواو في مصحف ابن مسعود فهي كالأولى . و { سلام عليكم } تحية . ويحتمل أن يريد أنهم قالوا لهم سلام عليكم وأمنة لكم . و : { طبتم } معناه : أعمالاً ومعتقداً ومستقراً وجزاء .
أطلق على تَقْدِمَة المتقين إلى الجنة فعلُ السَّوق على طريقة المشاكلة ل { سيقَ } [ الزمر : 71 ] الأولِ ، والمشاكلةُ من المحسنات ، وهي عند التحقيق من قبيل الاستعارة التي لا علاقة لها إلاّ المشابهة الجُملية التي تحمل عليها مجانسة اللفظ . وجَعلهم زُمراً بحسب مراتب التقوى .
والواو في جملة { وفتحت أبوابها } واو الحال ، أي حين جاءوها وقد فتحت أبوابها فوجدوا الأبواب مفتوحة على ما هو الشأن في اقتبال أهل الكرامة .
وقد وهِم في هذه الواو بعض النحاة مثل ابن خالويه والحريري وتبعهما الثعلبي في « تفسيره » فزعموا أنها واو تدخل على ما هو ثامن إمّا لأن فيه مادة ثمانية كقوله : { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] ، فقالوا في { وفُتحَت أبوابها } جيء بالواو لأن أبْواب الجنة ثمانية ، وإما لأنه ثامن في التعداد نحو قوله تعالى : { التائبون العابدون } إلى قوله : { والناهون عن المنكر } [ التوبة : 112 ] فإنه الوصف الثامن في التعداد ووقوع هذه الواوات مُصادفة غريبة ، وتنبُّه أولئك إلى تلك المصادفة تنبه لطيف ولكنه لا طائل تحته في معاني القرآن بَلْهَ بلاغتِه ، وقد زينه ابن هشام في « مغني اللبيب » ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { التائبون العابدون } في سورة [ التوبة : 112 ] وعند قوله : { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } في سورة [ الكهف : 22 ] .
( و { إذا } هنا لمجرد الزمان غير مضمنة معنى الشرط ، فالتقدير : حتّى زمننِ مجيئهم إلى أبواب الجنة ، أي خلَّتهم الملائكة الموكلون بإحفافهم عند أبواب الجنة ، كحالة من يُهدي العروس إلى بيتها فإذا أَبلغها بابه خَلَّى بينها وبين بيتها ، كأنهم يقولون : هذا منزلكم فدونكموه ، فتلقتهم خزنة الجنة بالسلام .
و { طبتم } دعاء بالطيب لهم ، أي التزكية وطيب الحالة ، والجملة إنشاء تكريم ودعاء .
والخلاف بين القراء في { فتحت } هنا كالخلاف في نظيره المذكور آنفاً .