{ 64 - 65 } { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }
استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام مرة في نزوله إليه فقال له : " لو تأتينا أكثر مما تأتينا " -تشوقا إليه ، وتوحشا لفراقه ، وليطمئن قلبه بنزوله- فأنزل الله تعالى على لسان جبريل : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ } أي : ليس لنا من الأمر شيء ، إن أمرنا ، ابتدرنا أمره ، ولم نعص له أمرا ، كما قال عنهم : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } فنحن عبيد مأمورون ، { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } أي : له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة ، في الزمان والمكان ، فإذا تبين أن الأمر كله لله ، وأننا عبيد مدبرون ، فيبقى الأمر دائرا بين : " هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه ؟ أم لا تقتضيه فيؤخره " ؟ ولهذا قال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } أي : لم يكن لينساك ويهملك ، كما قال تعالى : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } بل لم يزل معتنيا بأمورك ، مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة ، وتدابيره الجميلة .
أي : فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد ، فلا يحزنك ذلك ولا يهمك ، واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك ، لما له من الحكمة فيه .
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، وشمول علمه ، فقال - تعالى - : { وَمَا نَتَنَزَّلُ . . . } .
التنزل : النزول على مهل . فإنه مطاوع نزل - بالتشديد - ، يقال : نزلته فتنزل ، إذا حدث النزول على مهل وتدرج . وقد يطلق التنزيل بمعنى النزول مطلقاً ، إلا أن المناسب هنا هو المعنى الأول .
والآية الكريمة حكاية لما قاله جبريل للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ذكر كثير من المفسرين أن الوحى احتبس عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفترة من الوقت بعد أن سأله المشركون أسئلة تتعلق بأصحاب الكهف . وبذى القرنين وبالروح ، حتى قال المشركون : إن رب محمد - صلى الله عليه وسلم - قد قلاه - أى : أبغضه وكرهه - فلما نزل جبريل على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد فترة من غياب - قيل خمسة عشر يوماً وقيل أكثر قال له : يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى واشتقت إليك فقال له جبريل : إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور ، إذا بعثت جئت ، وإذا حبست احتبست ، وأنزل الله - تعالى - هذه الآية وسورة الضحى " .
وقال الآلوسى : " ولا يأبى ما تقدم فى سبب النزول ما أخرجه أحمد ، والبخارى والترمذى ، والنسائى ، وجماعة ، فى سببه عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ فنزلت : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ . . } لجواز أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك فى محاورته السابقة - أيضاً - ، واقتصر فى كل رواية على شىء مما وقع فى المحاورة . . . " .
والمعنى : قال جبريل للرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سأله عن سبب احتباسه عنه لفترة من الوقت : يا محمد إنى ما أتنزل عليك وقتاً بعد وقت ، إلا بأمر ربك وإرادته ، فأنا عبده الذى لا يعصى له أمراً . . .
{ لَهُ } - سبحانه - { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك } أى : له وحده جميع الجهات والأماكن ، وجميع الأزمان الحاضرة والماضية والمستقبلية ، وما بين ذلك ، فلا نقدر أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من وقت إلى وقت إلا بأمر ربك ومشيئته .
فالجملة الكريمة مسوقة لبيان ملكية الله - تعالى - لكل شىء ، وقدرته على كل شىء وعلمه بكل شىء .
وقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } مؤكد لما قبله من إثبات قدرة الله - تعالى - وعلمه .
أى : وما كان ربك - أيها الرسول الكريم - ناسيا أو تاركاً لك أو مهملاً لشأنك ، ولكنه - سبحانه - محيط بأحوالك وبأحوال جميع المخلوقات { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
قال ابن كثير : " قال ابن أبى حاتم : حدثنا يزيد بن محمد . . . عن أبى الدرداء يرفعه قال : " ما أحل الله فى كتابه فهو حلال ، وما حرمه هو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً " ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } .
ويختم هذا الدرس بإعلان الربوبية المطلقة لله ، والتوجيه إلى عبادته والصبر على تكاليفها . ونفي الشبيه والنظير :
( وما نتنزل إلا بأمر ربك ، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ، وما كان ربك نسيا . رب السماوات والأرض وما بينهما ، فاعبده واصطبر لعبادته . هل تعلم له سميا ? ) . .
وتتضافر الروايات على أن قوله ( وما نتنزل إلا بأمر ربك . . )مما أمر جبريل عليه السلام أن يقوله للرسول [ ص ] ردا على استبطائه للوحي فترة لم يأته فيها جبريل . فاستوحشت نفسه ، واشتاقت للاتصال الحبيب . فكلف جبريل أن يقول له : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك )فهو الذي يملك كل شيء من أمرنا :
له من بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وهو لا ينسى شيئا ، إنما ينزل الوحي عندما تقتضي حكمته أن ينزل ( وما كان ربك نسيا )فناسب بعد ذلك أن يذكر الاصطبار على عبادة الله مع إعلان الربوبية له دون سواه :
{ وما نتنزل إلا بأمر ربك } حكاية قول جبريل عليه الصلاة والسلام حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيب ، ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه خمسة عشر يوما ، وقيل أربعين يوما حتى قال المشركون ودعه ربه وقلاه ، ثم نزل ببيان ذلك . والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى أنزل ، والمعنى وما ننزل وقتا غب وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته ، وقرئ " وما يتنزل " بالياء والضمير للوحي { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين لا ننتقل من مكان إلى مكان ، ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته . { وما كان ربك نسيا } تاركا لك أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة رآها فيه . وقيل أول الآية حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة والمعنى وما ننزل الجنة إلا بأمر الله ولطفه ، وهو مالك الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضله وقوله { وما كان ربك نسيا } تقرير من الله لقولهم أي وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين وما وعد لهم من الثواب عليها .
قرأ الجمهور «وما نتنزل » بالنون كأن جبريل عن نفسه والملائكة ، وقرأ الأعرج وما «يتنزل » بالياء على أنه خبر من الله أن جبريل لا يتنزل ، قال هذا التأويل بعض المفسرين ، ويرده قوله { ما بين أيدينا } لأنه لا يطرد معه وإنما يتجه أن يكون خبراً من جبريل أن القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها . ورويت قراءة الأعرج بضم الياء ، وقرأ ابن مسعود «إلا بقول ربك » ، وقال ابن عباس وغيره : سبب هذه الآية ، أن النبي عليه السلام أبطأ عنه جبريل مرة فلما جاءه قال «يا جبريل قد اشتقت اليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا »{[7992]} فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد والضحاك : سببها أن جبريل تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف{[7993]} «غداً أخبركم » حتى فرح بذلك المشركون واهتم رسول الله صلى عليه وسلم ، ثم جاء جبريل ونزلت هذه في ذلك المعنى ، فهي كالتي في الضحى{[7994]} ، وهذه الواو التي في قوله { وما نتنزل } هي عاطفة جملة كلام على أخرى وواصلة بين القولين وإن لم يكن معناهما واحداً . وحكى النقاش عن قوم أن قوله { وما نتنزل } متصل بقوله { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } [ مريم : 19 ] ، وهذا قول ضعيف ، وقوله { ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } لفظ يحتاج إلى ثلاث مراتب ، واختلف المفسرون فيها ، فقال أبو العالية «ما بين الأيدي » في الدنيا بأسرها الى النفخة الأولى ، «وما خلف » الآخرة من وقت البعث { وما بين ذلك } ما بين النفختين . وقال ابن جريج «ما بين الأيدي » هو ما مر من الزمن قبل إيجاد من في الضمير ، «وما خلف » هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة { وما بين ذلك } هو مدة الحياة .
قال القاضي أبو محمد : والآية إنما المقصد بها الإشعار بملك الله تعالى لملائكه وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان ، إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم له ، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد ب «ما بين الأيدي وما خلف » الأمكنة التي فيها تصرفهم ، والمراد ب { ما بين ذلك } هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجهها كأنه قال نحن مقيدون بالقدرة لا ننتقل ولا نتتزل إلا بأمر ربك{[7995]} . وقال ابن عباس وقتادة فيما روي وما أراه صحيحاً عنهما «ما بين الأيدي هي الآخرة وما خلف هو الدنيا » وهذا مختل المعنى إلا على التشبيه بالمكان لأن ما بين اليد إنما هو ما تقدم وجوده في الزمن بمثابة التوارة والإنجيل من القرآن وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم وهذه المقالة هي للملائكة فتأمله .
وقوله { وما كان ربك نسياً } أي ممن يلحقه نسيان بعثنا إليكم في وقت المصلحة به فإنما ذلك عن قدر له أي فلا تطلب أنت يا محمد الزيارة أكثر مما شاء الله هذا ما تقتضيه قوة الكلام على التأويل الواحد أو فلا تهتم يا محمد بتأخيري ولا تلفت لفرح المشركين بذلك على التأويل الثاني و { نسياً } فعيل من النسيان والذهول عن الأمور ، وقالت فرقة { نسياً } هنا معناه تاركاً ، ع : وفي هذا ضعف لأنه إنما نفي النسيان مطلقاً فيتمكن ذلك في النسيان الذي هو نقص وأما الترك فلا ينتفي مطلقاً ألا ترى قوله تعالى : { وتركهم في ظلمات }{[7996]} [ البقرة : 17 ] وقوله { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض }{[7997]} [ الكهف : 99 ] فلو قال نسيك أو نحوه من التقييد لصح حمله على الترك ، ولا حاجة لنا أن نقول إن التقييد في النية لأن المعنى الآخر أظهر . وقرأ ابن مسعود «وما بين ذلك وما نسيك ربك » وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهي عافيته فاقبلوا » ثم تلا هذه الآية{[7998]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل استبطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل بالوحي،... حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثنا عبد الله بن أبان العجلي، وقبيصة ووكيع وحدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي، جميعا عن عمر بن ذرّ، قال: سمعت أبي يذكر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن محمدا قال لجبرائيل: «ما يَمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثَرَ مِمّا تَزُورُنا» فنزلت هذه الآية: ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأَمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا ومَا بينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا" قال: هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم...
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "لَهُ ما بينَ أيْدِينا ومَا خَلْفَنا ومَا بينَ ذلكَ"؛ فقال بعضهم: يعني بقوله "ما بينَ أيْدِينا" من الدنيا، وبقوله: "ومَا خَلْفَنا" الآخرة "ومَا بينَ ذلكَ": النفختين...
وقال آخرون: "ما بينَ أيْدِينا" الآخرة، "ومَا خَلْفَنا": الدنيا، "ومَا بينَ ذلكَ": ما بين الدنيا والآخرة...
عن ابن جريج "ما بينَ أيْدِينا" قال: ما مضى أمامنا من الدنيا "وَما خَلْفَنا" ما يكون بعدنا من الدنيا والآخرة، "وَما بينَ ذلكَ" قال: ما بين ما مضى أمامهم، وبين ما يكون بعدهم. وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يتأوّل ذلك "له ما بينَ أيْدِينا" قبل أن نخلق "وَما خَلْفَنا" بعد الفناء "وَما بينَ ذلكَ" حين كنا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: له ما بين أيدينا من أمر الآخرة، لأن ذلك لم يجئ وهو جاء، فهو بين أيديهم، فإن الأغلب في استعمال الناس إذا قالوا: هذا الأمر بين يديك، أنهم يعنون به ما لم يجئ، وأنه جاء، فلذلك قلنا: ذلك أولى بالصواب.
"وما خلفنا" من أمر الدنيا، وذلك ما قد خلفوه فمضى، فصار خلفهم بتخليفهم إياه، وكذلك تقول العرب لما قد جاوزه المرء وخلفه هو خلفه، ووراءه. "وما بين ذلك": ما بين ما لم يمض من أمر الدنيا إلى الآخرة، لأن ذلك هو الذي بين ذينك الوقتين.
وإنما قلنا: ذلك أولى التأويلات به، لأن ذلك هو الظاهر الأغلب، وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب من معانيه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له. فتأمل الكلام إذن: فلا تستبطئنا يا محمد في تخلفنا عنك، فإنا لا نتنزّل من السماء إلى الأرض إلا بأمر ربك لنا بالنزول إليها، لله ما هو حادث من أمور الآخرة التي لم تأت وهي آتية، وما قد مضى فخلفناه من أمر الدنيا، وما بين وقتنا هذا إلى قيام الساعة، بيده ذلك كله، وهو مالكه ومصرّفه، لا يملك ذلك غيره، فليس لنا أن نحدث في سلطانه أمرا إلا بأمره إيانا به.
"وَما كانَ رَبّكَ نَسِيّا" يقول: ولم يكن ربك ذا نسيان، فيتأخر نزولي إليك بنسيانه إياك، بل هو الذي لا يعزُب عنه شيء في السماء ولا في الأرض فتبارك وتعالى، ولكنه أعلم بما يدبر ويقضي في خلقه، جل ثناؤه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا الكلام منه لا يكون إلا عن سؤال كان منه، كأنه قد كان استبطأ نزول جبريل عليه، فعند ذلك قال له: {وما نتنزل إلا بأمر ربك}]. ثم فيه أن لم يقل ذلك إلا بأمر الله؛ أخبر أنهم {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27] فلا يحتمل لأن يقول له ذلك من تلقاء نفسه، فيجعل ذلك آية في كتاب الله تُتْلَى...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وما كان ربك نسيا"... وتقديره -ههنا- وما نسيك وإن أخر الوحي عنك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إن الملائكةَ -عليهم السلام- أبداً يَنْزِلون بإِذن الحقِّ تعالى، فبعضهم بإنجاد المظلومين، وبعضهم بإِغاثة الملهوفين، وبعضهم بتدمير الجاحدين، وبعضهم بنصرة المؤمنين، وبعضهم إلى ما لا يحصى من أمور الناس أجمعين. واللَّهُ -سبحانه- لا يترك جاحداً ولا عابداً من حِفْظٍ وإنعامٍ، أو إمهالٍ ونكَال...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والتنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق... لأنه مطاوع نزل، ونزل يكون بمعنى أنزل، وبمعنى التدريج، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل، والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت ليس إلا بأمر الله، وعلى ما يراه صواباً وحكمة، وله ما قدامنا {وَمَا خَلْفَنَا} من الجهات والأماكن {وَمَا بَيْنَ ذلك} وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون، وما يحدث ويتجدد من الأحوال، لا يجوز عليه الغفلة والنسيان، فأنى لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا رأى ذلك مصلحة وحكمة، وأطلق لنا الإذن فيه. وقيل: ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة، وما بين ذلك: ما بين النفختين... وقيل: ما مضى من أعمارنا وما غبر منها، والحال التي نحن فيها. وقيل: ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا. وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض. والمعنى: أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادراً عما توجبه حكمته ويأمرنا به ويأذن لنا فيه.
وقيل: معنى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وما كان تاركاً لك، كقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3] أي: ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به. وأما احتباس الوحي فلم يكن عن ترك الله لك وتوديعه إياك، ولكن لتوقفه على المصلحة، وقيل: هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة، أي: وما ننزل الجنة إلا بأن مَنَّ الله علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها، وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة. والمترقبة والحاضرة، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازي عليها، ثم قال الله تعالى -تقريراً لقولهم -: وما كان ربك نسياً لأعمال العاملين غافلاً عما يجب أن يثابوا به، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذي ملكوت السماء والأرض وما بينهما؟
اعلم أن في الآية إشكالا وهو قوله: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا} كلام الله وقوله: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل؟ والجواب أنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كما أن قوله سبحانه: {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} هو كلام الله وقوله: {وإن الله ربي وربكم} كلام غير الله وأحدهما معطوف على الآخر.
واعلم أن ظاهر قوله تعالى: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} خطاب جماعة لواحد وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول ويحتمل في سببه ما روي أن قريشا بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه وقالت اليهود: نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن، فإن أخبركم بخصلتين منهما فاتبعوه، فاسألوه عن فتية أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح قال فجاءوا فسألوه عن ذلك فلم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم بعد ذلك، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما وقيل خمسة عشر يوما فشق عليه ذلك مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه، فنزل جبريل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك قال إني كنت أشوق، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله} وسورة الضحى ثم أكدوا ذلك بقولهم: {له ما بين أيدينا وما خلفنا} أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل وما بينهما أو الدنيا والآخرة وما بينهما فإنه يعلم إصلاح التدبير مستقبلا وماضيا وما بينهما والغرض أن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته وحكمته لا اعتراض لأحد عليه فيه...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
استثناء من الأسباب تقديره:"ما نتنزل بسبب من الأسباب إلا بأمر ربك" أي: هو السبب الذي يوجب نزولنا. (الاستغناء: 512)...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد، فلا يحزنك ذلك ولا يهمك، واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك، لما له من الحكمة فيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختم هذا الدرس بإعلان الربوبية المطلقة لله، والتوجيه إلى عبادته والصبر على تكاليفها. ونفي الشبيه والنظير: (وما نتنزل إلا بأمر ربك) فهو الذي يملك كل شيء من أمرنا: له من بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وهو لا ينسى شيئا، إنما ينزل الوحي عندما تقتضي حكمته أن ينزل (وما كان ربك نسيا) فناسب بعد ذلك أن يذكر الاصطبار على عبادة الله مع إعلان الربوبية له دون سواه:...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: أن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقول هذا الكلام جواباً عنه، فالنظم نظم القرآن بتقدير: وقل ما نتنزل إلاّ بأمر ربّك، أي قل يا جبريل، فكان هذا خطاباً لجبريل ليبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً. فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب، وأمرَ الله رسوله أن يقرأها هنا، ولأنّها نزلت لتكون من القرآن. ولا شك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لجبريل عليه السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن. والضمير لجبريل والملائكة، أعلم الله نبيئه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلاّ عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرّسل، قال تعالى: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27]. والمراد ب {مَا بَينَ أيْدِينَا} ما هو أمامنا، وب {وَمَا خَلْفَنا:} ما هو وراءنا، وب {ومَا بَينَ ذَلِكَ:} ما كان عن أيمانهم وعن شمائلهم، لأن ما كان عن اليمين وعن الشمال هو بين الأمام والخلف. والمقصود استيعاب الجهات. ولمّا كان ذلك مخبراً عنه بأنه ملك لله تعين أن يراد به الكائنات التي في تلك الجهات، فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول، مثل {واسأل القرية} [يوسف: 82]، فيعمّ جميع الكائنات، ويستتبع عمومَ أحوالها وتصرفاتها مثل التنزل بالوحي. ويستتبع عموم الأزمان المستقبل والماضي والحال، وقد فسر بها قوله {ما بين أيدينا وما خَلْفنا وما بينَ ذلِكَ}. و {نسِيّاً}: صيغة مبالغة من نَسيَ، أي كثيرَ النسيان أو شديده. والنسيان: الغفلة عن توقيت الأشياء بأوقاتها، وقد فسروه هنا بتارك، أي ما كان ربّك تاركك وعليه فالمبالغة منصرفة إلى طول مدّة النسيان. وفسر بمعنى شديد النسيان، فيتعين صرف المبالغة إلى جانب نسبة نفي النسيان عن الله، أي تحقيق نفي النسيان مثل المبالغة في قوله: {وما ربّك بظلام للعبيد} [فصّلت: 46] فهو هنا كناية عن إحاطة علم الله، أي إن تنزلنا بأمر الله لما هو على وفق علمه وحكمته في ذلك، فنحن لا نتنزل إلاّ بأمره. وهو لا يأمرنا بالتنزل إلاّ عند اقتضاء علمه وحكمته أن يأمرنا به. وجوز أبو مسلم وصاحب « الكشاف»: أنّ هذه الآية من تمام حكاية كلام أهل الجنة بتقدير فعل يقولون حالاً من قوله {من كان تقياً} [مريم: 63]، أي وما نتنزل في هذه الجنة إلاّ بأمر ربّك الخ، وهو تأويل حسن. وعليه فكاف الخطاب في قوله {بأمر ربك} خطاب كلّ قائل لمخاطبه...
وعليه فجملة {ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} من قول الله تعالى لرسوله تذييلاً لما قبله، أو هي من كلام أهل الجنّة، أي وما كان ربّنا غافلاً عن إعطاء ما وعدنا به...