{ و } كذلك لقد تاب الله { عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } عن الخروج مع المسلمين ، في تلك الغزوة ، وهم : " كعب بن مالك " وصاحباه ، وقصتهم مشهورة معروفة ، في الصحاح والسنن .
{ حَتَّى إِذَا } حزنوا حزنا عظيما ، و { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي : على سعتها ورحبها { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ } التي هي أحب إليهم من كل شيء ، فضاق عليهم الفضاء الواسع ، والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منه ، وذلك لا يكون إلا من أمر مزعج ، بلغ من الشدة والمشقة ما لا يمكن التعبير عنه ، وذلك لأنهم قدموا رضا اللّه ورضا رسوله على كل شيء .
{ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ } أي : تيقنوا وعرفوا بحالهم ، أنه لا ينجي من الشدائد ، ويلجأ إليه ، إلا اللّه وحده لا شريك له ، فانقطع تعلقهم بالمخلوقين ، وتعلقوا باللّه ربهم ، وفروا منه إليه ، فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة .
{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي : أذن في توبتهم ووفقهم لها { لِيَتُوبُوا } أي : لتقع منهم ، فيتوب اللّه عليهم ، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ } أي : كثير التوبة والعفو ، والغفران عن الزلات والعصيان ، { الرَّحِيمِ } وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين ، في جميع اللحظات ، ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية .
وفي هذه الآيات دليل على أن توبة اللّه على العبد أجل الغايات ، وأعلى النهايات ، فإن اللّه جعلها نهاية خواص عباده ، وامتن عليهم بها ، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها .
ومنها : لطف الله بهم وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة .
ومنها : أن العبادة الشاقة على النفس ، لها فضل ومزية ليست لغيرها ، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر .
ومنها : أن توبة اللّه على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد ، وأن من لا يبالي بالذنب ولا يحرج إذا فعله ، فإن توبته مدخولة ، وإن زعم أنها مقبولة .
ومنها : أن علامة الخير وزوال الشدة ، إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقا تاما ، وانقطع عن المخلوقين .
ومنها : أن من لطف اللّه بالثلاثة ، أن وسمهم بوسم ، ليس بعار عليهم فقال : { خُلِّفُوا } إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم ، [ أو خلفوا عن من بُتّ في قبول عذرهم ، أو في رده ]{[387]} وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير ، ولهذا لم يقل : " تخلفوا " .
ومنها : أن اللّه تعالى من عليهم بالصدق ، ولهذا أمر بالاقتداء بهم فقال :
وكما تقبل الله - تعالى - توبة المهاجرين والأنصار الذين اتبعوا رسولهم - صلى الله عليه وسلم - في ساعة السعرة . فقد تقبل توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن الاشتراك في غزوة تبوك ، فقال - تعالى - : { وَعَلَى الثلاثة الذين . . . } .
هذه الآية الكريمة معطوفة على الآية السابقة لها . والمعنى : لقد تقبل الله - تعالى - بفضله وإحسانه توبة النبى والمهاجرين والأنصار ، وتقبل كذلك توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن هذه الغزوة كسلا وحبا للراحة ، والذين سبق أن أرجأ الله حكمه فيهم بقوله { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ . . } وقوله : { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ } كناية عن شدة تحيرهم ، وكثرهم حزنهم ، واستسلامهم لحكم الله فيهم .
أى : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض على سعتها ، بسبب إعراض الناس عنهم ، ومقاطعتهم لهم ، وضاقت عليهم أنفسهم ، بسبب الهم والغم الذي ملأها واعتقدوا أنهم ملجأ ولا مهرب لهم من حكم الله وقضائه إلا إليه .
حتى إذا كان كذلك ، جاءهم فرج الله ، حيث قبل توبتهم ، وغفر خطأهم وعفا عنهم .
وقوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } أى : بعد هذا التأديب الشديد لهم ، تقبل - سبحانه - توبتهم ، ليتوبوا إليه توبة نصوحا ، لا تكاسل معها بعد ذلك عن طاعة الله وطاعة رسوله ، إن الله - تعالى - هو الكثير القبول لتوبة التائبين ، وهو الواسع الرحمة بعباده المحسنين .
هذا ، والمقصود بهؤلاء الثلاثة الذين خلفوا : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ؛ وكلهم من الأنصار .
وقد ذكرت قصتهم في الصحيحين وفى غيرهما من كتب السنة والسيرة ، وهناك خلاصة لها :
قال الإِمام ابن كثير : روى الإِمام " أن كعب بن مالك قال ، لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزة غزاها قط إلا في تبوك .
وكان من خبرى حين تخلفت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك . أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه في تلك الغزوة .
وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والضلال ، وتجهر لها المؤمنون معه ، فطفقت أغدو لكى أتجهز معهم . فأرجع ولم أقض من جهازى شيئاً . . فأقول لنفسى أنا قادر على ذلك إذا أردت . . . ولم يزل ذلك شأنى أسرعوا وتفارظ الغزوة ، فهممت أن أرتحل فألحقهم - وليتنى فعلت - ولكن لم يقدر لى ذلك .
ولم يذكرنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك فقال : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بنى سلمة : حبسه برداه والنظر في عطفيه .
فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت . والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال كعب : فلما بلغنى أن رسول الله قد توجه قافلا من تبوك ، حضرنى بثى ، وطفقت أتذكر الكذب وأقوال بماذا أخرج من سخط غدا ؟ .
وعندما عاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة جاءه المتخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه . . وجئت إليه فقال : تعالى . . ما خلفك ؟ ! ألم تكن قد اشتريت ظهرا ؟
فقلت يا رسول الله ؛ إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر . والله لقد علمت لئن حدثتك اليم بحديث كذاب ترضى به عنى ، ليوشكن الله أن يسخطك على . ولئن حدثتك بصدق تغضب على فيه ، إنى لأرجو عقبى ذلك من الله - تعالى - والله ما كان لى من عذر .
قال - صلى الله عليه وسلم - أما هذا فقد صدق . فقم حتى يقضى الله فيك . وكان هناك رجلان قد قالا مثل ما قلت هما مرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية .
قال : ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلامنا ، فاعتزلنا الناس وتغيروا لنا . . . ولبثنا على ذلك خمسين ليلة . . . . ثم أمرنا أن نعتزل نساءنا ففعلنا .
قال : ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتها فبينا أنا على الحال التي ذكرها الله عنا ، قد ضاقت على نفسى . . سمعت صراخا يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك .
وذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أبشر بخير يوم مر عليك منذر ولدتك أمك . قال : وأنزل الله - تعالى - { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ } "
قال الإِمام ابن كثير بعد أن ساق هذا الحديث بتمامه : هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته ، وقد تضمن تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد ذكرتا جانبا من فضل الله على عباده ، حيث قبل توبتهم ، وغسل حوبتهم . إنه بهم رءوف رحيم .
( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
حديث كعب بن مالك عن المخلفين الثلاثة
هذه هي العسرة التي تخلف فيها المتخلفون وكثرتهم من المنافقين الذين سلف بيان أمرهم . ومن المؤمنين الذين لم يقعدوا شكاً ولا نفاقاً ، إنما قعدوا كسلاً واسترواحاً للظلال في المدينة . وهؤلاء جماعتان ؛ جماعة قضي في أمرهم من قبل ، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، واعترفوا بذنوبهم ، وجماعة أخرى : ( مرجون لأمر اللّه إما يعذبهم وإما يتوب عليهم )وهم هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا ، أي تركوا بلا حكم . وأرجئوا حتى يحكم اللّه فيهم . وهنا تفصيل أمرهم بعد الإرجاء في الحكم والإرجاء في السياق . .
وقبل أن نقول نحن عن هؤلاء شيئاً في تفسير النص المصور لحالهم ؛ وقبل أن نعرض الصورة الفنية المعجزة التي رسمها التعبير لهم ولحالهم ، ندع أحدهم يتحدث عما كان . . هو كعب بن مالك - رضي اللّه عنه - : أخرج أحمد والبخاري ومسلم من طريق الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك أن عبد اللّه بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول اللّه - [ ص ] - في غزوة تبوك ، قال كعب : لم أتخلف عن رسول اللّه - [ ص ] - في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها ، إنما خرج رسول اللّه - [ ص ] - المسلمون يريدون عير قريش حتى جمع اللّه بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .
ولقد شهدت مع رسول اللّه [ ص ] ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر ، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول اللّه [ ص ] في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، واللّهما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ؛ وكان رسول اللّه [ ص ] قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول اللّه [ ص ] في حر شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز ، واستقبل عدواً كثيراً ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم بوجههم الذي يريد ، والمسلمون مع رسول اللّه [ ص ] كثير لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - .
قال كعب رضي اللّه عنه : فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من اللّه عز وجل . وغزا رسول اللّه [ ص ] تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، وأنا إليها أصغو ، فتجهز إليها رسول اللّه [ ص ] والمسلمون معه ، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئاً ، فأقول لنفسي : قادر على ذلك إن أردت . فلم يزل ذلك يتهادى بي حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسول اللّه [ ص ] غادياً والمسلمون معه ولم أقض في جهازي شيئاً ، فلم يزل يتهادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم ، وليت أني فعلت ؛ ثم لم يقدر لي ذلك ، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول اللّه [ ص ] يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلاً ممن عذر اللّه . ولم يذكرني رسول اللّه [ ص ] حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : " ما فعل كعب بن مالك " ? فقال رجل من بني سلمة : يا رسول اللّه حبسه برداه والنظر في عطفيه . فقال له معاذ بن جبل : بئسما قلت ، واللّه يا رسول اللّه ما علمنا عنه إلا خيراً .
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول اللّه [ ص ] توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي ، فطفقت أتذكر الكذب ، وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً ? وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي . فلما قيل : إن رسول اللّه [ ص ] قد أظل قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً ، فأجمعت صدقه ، وأصبح رسول اللّه [ ص ] قادماً ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له . وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً ؛ فقبل رسول اللّه [ ص ] منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى اللّه ؛ حتى جئت ؛ فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي : " تعال " فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : " ما خلفك ? ألم تكن قد اشتريت ظهرك ? " فقلت يا رسول اللّه ، واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، لقد أعطيت جدلاً ، ولكني واللّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن اللّه أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه ، وإني لأرجو فيه عقبى من اللّه . واللّه ما كان لي عذر ، واللّه ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ! فقال [ ص ] : " أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي اللّه فيك " فقمت . وبادرني رجال من بني سلمة وأتبعوني فقالوا لي : واللّه ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ، لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللّه [ ص ] بما اعتذر به المتخلفون ، فلقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول اللّه [ ص ] . قال : فواللّه ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول اللّه [ ص ] فأكذب نفسي ، ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد ? قالوا : نعم ، لقيه معك رجلان قالا ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك . فقلت : من هما ? قالوا مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً ، لي فيهما أسوة ، فمضيت حين ذكروهما لي
قال : ونهى رسول اللّه [ ص ] الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس - أو قال تغيروا لنا - حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما . وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول اللّه [ ص ] فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ? ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه . فواللّه ما رد علي السلام . فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك اللّه تعالى . هل تعلم أني أحب اللّه ورسوله ? قال فسكت ، قال فعدت فنشدته فسكت ؛ فعدت فنشدته . قال : اللّه ورسوله أعلم . ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار .
وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب ابن مالك ? فطفق الناس يشيرون له إلي ، حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان ، وكنت كاتباً ، فقرأته فإذا فيه :
أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك اللّه بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . فقلت حين قرأتها : وهذه أيضاً من البلاء . فتيممت بها التنور فسجرتها . . حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذ برسول رسول اللّه [ ص ] يأتيني فقال : إن رسول اللّه - [ ص ] - يأمرك أن تعتزل امرأتك ، فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ? قال : بل اعتزلها ولا تقربنها . وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك . فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي اللّه في هذا الأمر . فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول اللّه [ ص ] فقالت : يا رسول اللّه ، إن هلالاً شيخ ضائغ ، وليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ? قال " لا ، ولكن لا يقربنك " فقالت : إنه واللّه ما به من حركة إلى شيء ، وواللّه ما زال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا . فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول اللّه [ ص ] في امرأتك ! فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه . فقلت : واللّه لا أستأذن فيها رسول اللّه - [ ص ] - وما أدري ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب .
قال : فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا . قال : ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللّه منا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، سمعت صارخاً أوفى على جبل سَلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر . فخررت ساجداً ؛ وعرفت أن قد جاء الفرج ؛ فآذن رسول اللّه [ ص ] بتوبة اللّه علينا حين صلى الفجر . فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قبل صاحبي مبشرون ، وركض إليَّ رجل فرساً وسعى ساع من أسلم قِبلي ، وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته ، واللّه ما أملك غيرهما يومئذ ؛ فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول اللّه - [ ص ] - يتلقاني الناس فوجاً بعد فوج يهنئونني بالتوبة ويقولون :
ليهنك توبة اللّه عليك . حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول اللّه - [ ص ] - جالس في المسجد وحوله الناس ، فقام إليّ طلحة ابن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني ، واللّه ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره ، قال : فكان كعب رضي اللّه عنه لا ينساها لطلحة .
قال كعب رضي اللّه عنه : فلما سلمت على رسول اللّه [ ص ] قال وهو يبرق وجهه من السرور : " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " قلت : أمن عندك يا رسول اللّه أم من عند اللّه ? قال : " لا بل من عند اللّه " وكان رسول اللّه - [ ص ] - إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك منه . فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول اللّه ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه وإلى رسوله [ ص ] ، قال : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت يا رسول اللّه إنما أنجاني اللّه بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت . فواللّه ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه اللّه من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - أحسن مما أبلاني اللّه تعالى ، واللّه ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - إلى يومي هذا كذباً ، وإني لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي . وأنزل اللّه : لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار - إلى قوله - وكونوا مع الصادقين .
قال كعب : فواللّه ما أنعم اللّه علي من نعمة قط بعد أن هداني اللّه للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول اللّه - [ ص ] - يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه . فإن اللّه قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، فقال ( سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس - إلى قوله - الفاسقين ) .
هذه هي قصة الثلاثة الذين خلفوا - كما رواها أحدهم كعب بن مالك - وفي كل فقرة منها عبرة ، وفيها كلها صورة بارزة الخطوط عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي ، ومتانة بنائها ، وصفاء عناصرها ، ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة ، ولتكاليف الدعوة ، ولقيمة الأوامر ، ولضرورة الطاعة .
فهذا كعب بن مالك - وزميلاه - يتخلفون عن ركب رسول اللّه - [ ص ] - في ساعة العسرة . يدركهم الضعف البشري الذي يحبب إليهم الظل والراحة ، فيؤثرونهما على الحر والشدة والسفر الطويل والكد الناصب . ولكن كعباً ما يلبث بعد خروج رسول اللّه - [ ص ] - أن يحس ما فعل ، يشعره به كل ما حوله : " فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول اللّه - [ ص ] - يحزنني أنني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلاً ممن عذر اللّه " - يعني بمن عذر اللّه الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون .
فالعسرة لم تقعد بالمسلمين عن تلبية دعوة رسول اللّه - [ ص ] - الى الغزوة البعيدة الشقة . لم يقعد إلا المطعون فيهم المظنون بهم النفاق ، وإلا العاجزون الذين عذرهم اللّه . أما القاعدة الصلبة للجماعة المسلمة فكانت أقوى روحاً من العسرة ، وأصلب عوداً من الشدة . .
هذه واحدة . والثانية هي التقوى . التقوى التي تلجئ المخطئ إلى الصدق والإقرار . والأمر بعد ذلك للّه : " فقلت : يا رسول اللّه ، واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر . لقد أعطيت جدلاً . ولكني واللّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن اللّه أن يسخطك علي . ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى من اللّه . واللّه ما كان لي عذر . واللّه ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك " .
فاللّه حاضر في ضمير المؤمن المخطئ . ومع حرصه البالغ على رضى رسول اللّه - [ ص ] -وهذا الرضى يومئذ يعز ويذل ويرفع ويخفض ويترك المسلم مرموقاً بالأنظار أو مهملاً لا ينظر إليه إنسان - مع هذا فإن مراقبة اللّه أقوى وتقوى اللّه أعمق ؛ والرجاء في اللّه أوثق .
" ونهى رسول اللّه - [ ص ] - الناس عن كلامنا . أيها الثلاثة . من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس - أو قال : تغيروا لنا - حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف . فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما ؛ وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم . فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف بالأسواق ، فلا يكلمني أحد . وآتي رسول اللّه - [ ص ] - فأسلم عليه في مجلسه بعد الصلاة ، وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ? ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني . حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه فواللّه ما رد علي السلام . فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك اللّه تعالى . هل تعلم أني أحب اللّه ورسوله ? قال : فسكت . قال : فعدت فنشدته فسكت ، فعدت فنشدته . قال : " اللّه ورسوله أعلم " . ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار " . .
هكذا كان الضبط ، وهكذا كانت الطاعة في الجماعة المسلمة - على الرغم من كل ما وقع من خلخلة بعد الفتح ومن بلبلة في ساعة العسرة - . . نهى رسول اللّه [ ص ] عن كلامنا أيها الثلاثة . فلا مخلوق يفتح فمه بكلمة ، ولا مخلوق يلقى كعباً بأنس ، ولا مخلوق يأخذ منه أو يعطي . حتى ابن عمه وأحب الناس إليه ، وقد تسور عليه داره ، لا يرد عليه السلام ، ولا يجيبه عن سؤال . فإذا أجاب بعد الإلحاح لم يطمئن لهفته ولم يسكن قلقه ، إنما قال : " اللّه ورسوله أعلم " .
وكعب في لهفته - وقد تنكرت له الأرض فلم تعد الأرض التي كان يعرف - يتلمس حركة من بين شفتي الرسول - [ ص ] - ويخالسه النظر لعله يعلم أن رسول اللّه قد ألقى إليه بنظرة يحيا على الأمل فيها ، ويطمئن إلى أنه لم يقطع من تلك الشجرة ، ولم يكتب له الذبول والجفاف !
وبينما هو طريد شريد ، لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة - ولو على سبيل الصدقة - يجيئه من قبل ملك غسان كتاب يمنيه بالعزة والكرامة والمجد والجاه . . ولكنه بحركة واحدة يعرض عن هذا كله ، وما يزيد على أن يلقي بالكتاب إلى النار ، ويعد هذا بقية من البلاء ، ويصبر على الابتلاء .
وتمتد المقاطعة فتعزل عنه زوجه . لتدعه فريدا طريدا من الأنس كله ، مخلفاً بين الأرض والسماء . فيخجل أن يراجع رسول اللّه - [ ص ] - في امرأته ، لأنه لا يدري كيف يكون الجواب .
هذه صفحة . والصفحة الأخرى هي صفحة البشرى . بشرى القبول . بشرى العودة إلى الصف . بشرى التوبة من الذنب . بشرى البعث والعودة إلى الحياة . . " فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللّه منا . قد ضاقت علي نفسي ، وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صارخاً أوفى َ على جبل سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر . فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج . فآذن رسول اللّه - [ ص ] - بتوبة اللّه علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا وذهب قِبلَ صاحبيّ مبشرون ، وركض إلي رجل فرساً ، وسعى ساع من أسلم قِبلي وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس . فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته . واللّه ما أملك غيرهما يومئذ ، فاستعرت ثوبين فلبستهما ، فانطلقت أؤم رسول اللّه - [ ص ] - يتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنئونني بالتوبة ، ويقولون : ليهنك توبة اللّه عليك . حتى دخلت المسجد فإذا رسول اللّه - [ ص ] - جالس في المسجد وحوله الناس ، فقام إلي طلحة بن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني ، واللّه ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره . قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة " . .
هكذا كانت الأحداث تقدر وتقوّم في هذه الجماعة . وهكذا كانت توبة مقبولة تستقبل وتعظم ؛ كانت بشرى يركض بها الفارس إلى صاحبها ، ويهتف بها راكب الجبل ليكون أسرع بشارة . وكانت التهنئة بها والاحتفاء بصاحبها جميلاً لا ينساه الطريد الذي رد إلى الجماعة واتصلت بها وشائجه ، فهو في يوم كما قال عنه رسول اللّه - [ ص ] - : " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " قالها - [ ص ] - وهو يبرق وجهه من السرور ، كما قال كعب ، فهذا القلب الكبير الكريم الرحيم قد فاض به السرور أن تقبل اللّه توبة ثلاثة من أصحابه وردهم مكرمين إلى جماعته .
تلك هي قصة الثلاثة الذين خلفوا ثم تاب اللّه عليهم ، وهذه هي بعض لمحات من دلالتها الواضحة على حياة الجماعة الإسلامية ، وعلى القيم التي كانت تعيش بها .
والقصة كما رواها أحد أصحابها ، تقرب إلى نفوسنا معنى الآية :
( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه . . ) . .
( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) . . فما الأرض ? إن هي إلا بأهلها . إن هي إلا بالقيم السائدة فيها . إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها . فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني ، الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين ، وتتقاصر أطرافها ، وتنكمش رقعتها ، فهم منها في حرج وضيق .
فكأنما هي وعاء لهم تضيق بهم ولا تسعهم ، وتضغطهم فيتكرب أنفاسهم .
( وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ) . .
وليس هناك ملجأ من اللّه لأحد ، وهو آخذ بأقطار الأرض والسماوات . ولكن ذكر هذه الحقيقة هنا في هذا الجو المكروب يخلع على المشهد ظلاً من الكربة واليأس والضيق ، لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى اللّه مفرج الكروب . .
ثم يجيء الفرج . . ( ثم تاب عليهم ليتوبوا إن اللّه هو التواب الرحيم ) .
تاب عليهم من هذا الذنب الخاص ، ليتوبوا توبة عامة عن كل ما مضى ، ولينيبوا إلى اللّه إنابة كاملة في كل ما سيأتي . ومصداق هذا في قول كعب : قلت : يا رسول اللّه ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه وإلى رسوله . قال : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " قال فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يا رسول اللّه إنما نجاني اللّه بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت . قال : فواللّه ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه اللّه من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - أحسن مما أبلاني اللّه تعالى . واللّه ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني اللّه عز وجل فيما بقي .
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا - في ظلال القرآن - مع هذه القصة الموحية ومع التعبير القرآني الفريد فيها . فحسبنا هنا ما وفق اللّه إليه فيها .
{ وعلى الثلاثة } وتاب على الثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع . { الذين خُلّفوا } تخلفوا عن الغزو أو خلف أمرهم فإنهم المرجئون . { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } أي برحبها لإعراض الناس عنهم بالكلية وهو مثل لشدة الحرية . { وضاقت عليهم أنفسهم } قلوبهم من فرط الوحشة والغم بحيث لا يسعها أنس ولا سرور . { وظنوا } وعلموا . { أن لا ملجأ من الله } من سخطه . { إلا إليه } إلا إلى استغفاره . { ثم تاب عليهم } بالتوفيق للتوبة . { ليتوبوا } أو أنزل قبول توبتهم ليعدوا من جملة التائبين ، أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم . { إن الله هو التواب } لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة . { الرحيم } المتفضل عليهم بالنعم .
ومعنى { خلفوا ] ُأِّخُروا وُترك أمُرهم ولم ُتقبل منهم معذرة ولا ردت عليهم ، فكأنهم خلفوا عن المعتذرين ، وقيل معنى { خلفوا } أي عن غزوة تبوك ، قاله قتادة وهذا ضعيف وقد رده كعب بن مالك بنفسه وقال : معنى { خلفوا } تركوا عن قبول العذر وليس بتخلفنا عن الغزو ، ويقوي من اللفظة جعله إذا ضاقت غاية للتخليف ولم يكن ذلك عن تخليفهم عن الغزو ، وإنما ضاقت عليهم الأرض عن تخليفهم عن قبول العذر ، وقرأ الجمهور «خُلِّفوا » بضم الخاء وشد اللام المكسورة ، وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد وأبو عمرو أيضاً «خَلَفوا » بفتح الخاء واللام غير مشددة ، وقرأ أبو مالك «خُلِفوا » بضم الخاء وتخفيف اللام المكسورة ، وقرأ أبو جعفر محمد بن علي وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد وأبو عبد الرحمن «خالفوا » والمعنى قريب من التي قبلها ، وقال أبو جعفر ولو خلفوا لم يكن لهم ذنب ، وقرأ الأعمش «وعلى الثلاثة المخلفين » ، وقوله : { بما رحبت } معناه برحبها كأنه قال : على ما هي في نفسها رحبة ، ف «ما » مصدرية ، { وضاقت عليهم أنفسهم } استعارة لأن الغم والهم ملأها { وظنوا } في هذه الآية بمعنى أيقنوا وحصل علما لهم{[5962]} وقوله : { ثم تاب عليهم ليتوبوا } لما كان هذا القول في تعديد نعمه بدا في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله عز وجل ليكون ذلك منبهاً على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره ، ولو كان القول في تعدد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال الله تعالى :
{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم }{[5963]} ليكون هذا أشد تقريراً للذنب عليهم ، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه ، وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث «الثلاثة » الذين خلفوا في الكتب التي ذكرنا{[5964]} ، وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطلبهم من الجد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه إذ هم أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين ، إذ كان كعب من أهل العقبة وصاحباه من أهل بدر .
وفي هذا يقتضي أن الرجل العالم والمقتدي به أقل عذراً في السقوط من سواه ، وكتب الأوزاعي رحمه الله{[5965]} إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة : واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظماً ولا طاعته إلا وجوباً ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكاراً والسلام ، ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله : [ الكامل ]
والعيب يعلق بالكبير كبير*** وفي بعض طرق حديث «الثلاثة » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ليلة نزول توبتهم في بيت أم سلمة ، وكانت لهم صالحة{[5966]} فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أمَّ سلمة : تيب على كعب بن مالك وصاحبيه » ، فقالت يا رسول الله ألا أبعث إليهم ؟ فقال «إذاً يحطمكم الناس سائر الليلة فيمنعوكم النوم » .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة الذين خلفوا، وهؤلاء الثلاثة الذين وصفهم الله في هذه الآية بما وصفهم به فيما قبل، هم الآخرون الذين قال جلّ ثناؤه:"وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إمّا يُعَذّبَهُمْ وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" فتاب عليهم عزّ ذكره وتفضل عليهم، وقد مضى ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فتأويل الكلام إذًا: ولقد تاب الله على الثلاثة الذين خلّفهم الله عن التوبة، فأرجأهم عمن تاب عليه ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم... "حتى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ "يقول: بسعتها غمّا وندما على تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ" بما نالهم من الوجد والكرب بذلك. "وَظَنّوا أنْ لا مَلْجَأَ" يقول: وأيقنوا بقلوبهم أن لا شيء لهم يلجؤون إليه مما نزل بهم من أمر الله من البلاء بتخلفهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينجيهم من كربه، ولا مما يحذرون من عذاب الله إلا الله، ثم رزقهم الإنابة إلى طاعته، والرجوع إلى ما يرضيه عنهم، لينيبوا إليه ويرجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه.
"أنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحيمُ" يقول: إن الله هو الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته الموفق من أحبّ توفيقه منهم لما يرضيه عنه، "الرحيم" بهم أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذل من أراد منهم التوبة والإنابة ولا يتوب عليه...
عن جابر، في قوله: "وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا": قال: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، وكلهم من الأنصار...
قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قطّ إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. فكان من خبري حين تخلفت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز، واستقبل عدوّا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد بذلك الديوان قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا يظنّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليهما أصعر. فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فلم أقض من جهازي شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا. فلم يزل ذلك يتمادى حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، فلم يقدرّ ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصا عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مالكٍ؟» فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه بُرْداه والنظر في عطفيه. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبينا هو على ذلك رأى رجلاً مبيضا يزول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثَمَةَ» فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدّق بصاع التمر، فلمزه المنافقون. قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني همي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك بكلّ ذي رأي من أهلي. فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه. وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت، فلما سلمت تبسمّ تبسمّ المغضب، ثم قال: «تَعَالَ» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خَلّفَكَ، ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» قال: قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أُعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، قُمْ حتى يَقْضِيَ اللّهُ فِيكَ» فقمت، وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني وقالوا: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا، لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال: فوالله ما زالوا يؤنبونني، حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذّب نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، قال: فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجْلَدَهُم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي هل حرّك شفتيه بردّ السلام أم لا؟ ثم أصلي معه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفت نحوه أعرض عني. حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليّ، فسلمت عليه، فوالله ما ردّ عليّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلم أني أحبّ الله ورسوله؟ فسكت، قال: فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا بنبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني، فدفع إليّ كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا، فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك قال: فقلت حين قرأته: وهذا أيضا من البلاء فتأممت به التنّور فسجرته به. حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربها قال: وأرسل إلى صاحبيّ بذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك تكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال: فجاءت امرأة هلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: «لا، وَلَكِنْ لا يَقْربَنّكِ» قالت: فقلت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يوم هذا قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه قال: فقلت لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول لي إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. فلبثت بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عنا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج. قال: وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قِبَل صاحبي مبشرون، وركض رجل إليّ فرسا، وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، ويقولون: لتهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبْشرْ بِخَيْرِ يَوْمّ مَرّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدتْكَ أُمّكَ» فقلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: «لا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ». وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمْسِكْ بَعْضَ مالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقا ما بقيت قال: فوالله ما علمت أحدا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام أحسن مما ابتلاني، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني أرجو أن يحفظني الله فيما بقى. قال: فأنزل الله: "لَقَدْ تابَ اللّهُ على النّبِيّ" حتى بلغ:"وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا" إلى: "اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ" قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد: "سَيَحْلِفُونَ باللّهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأعْرِضُوا عَنْهُمْ أنّهُمْ رِجْسٌ وَمأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءً بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ" إلى قوله: "لا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ" قال كعب: خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم توبتهم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله: "وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا" وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه، فقبل منهم...
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} يعني مع سعتها {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} يعني ضاقت صدورهم بالهمّ الذي حصل فيها من تأخير نزول توبتهم ومن تَرْكِ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كلامهم ومعاملتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم.
قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} يعني أنهم أيقنوا أن لا مخلص لهم ولا معتصم في طلب الفرج مما هم فيه إلا إلى الله وأنه لا يملك ذلك غيره ولا يجوز لهم أن يطلبوا ذلك إلا من قِبَلِ العبادة له والرغبة إليه، فحينئذ أنزل الله تعالى على نبيه قبول توبتهم، وكذلك عادة الله تعالى فيمن انقطع إليه وعلم أن لا كاشف لهمه غيره أنه سينجيه ويكشف عنه غمّه، وكذلك حكى جلّ وعلا عن لوط عليه السلام في قوله: {ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب} [هود: 77] إلى أن قال: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80]، فتبرأ من الحَوْلِ والقوة من قِبَلِ نفسه ومن قِبَلِ المخلوقين وعلم أنه لا يقدر على كشف ما هو فيه إلا الله تعالى، حينئذ جاءه الفرج فقالوا: {إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} [هود: 81]، وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} [الطلاق: 2]، ومن يَنْوِ الانقطاع إليه وقطع العلائق دونه؛ فمتى صار العبد بهذه المنزلة فقد جعل الله له مخرجاً لعلمه بأنه لا ينفكّ من إحدى منزلتين: إما أن يخلصه مما هو فيه وينجيه كما حكي عن الأنبياء عند بلواهم مثل قول أيوب: {إني مسني الشيطان بنصب وعذاب} [ص: 41] فالتجأ إلى الله في الخلاص مما كان يوسوس إليه الشيطان بأنه لو كان له عند الله منزلة لما ابتلاه بما ابتلاه به، ولم يكن صلوات الله عليه قابلاً لوساوسه إلا أنه كان يشغل خاطره وفكره عن التفكر فيما هو أوْلى به، فقال الله له عند ذلك: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} [ص: 42]؛ فكذلك كل من اتّقى الله بأن التجأ إليه وعلم أنه القادر على كشف ضره دون المخلوقين كان على إحدى الحسنيين من فرج عاجل أو سكون قلب إلى وعد الله وثوابه الذي هو خير له من الدنيا وما فيها.
{ثم تاب عليهم ليتوبوا} يعني والله أعلم تاب على هؤلاء الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيه صلى الله عليه وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله تعالى قابل توبتهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا صَدَقَ منهم اللجاء، تداركهم بالشِّفاء وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكَوِّرُ نهار اليُسْرِ على ليالي العُسْر، ويُطلِعُ شموسَ المحنة على نحوس الفتنة، ويُدِير فلكَ السعادة فيمحق تأثير طوارق النكاية؛ سُنَّةٌ منه -تعالى- لا يُبَدِّلها، وعادةٌ منه في الكَرَمِ يُجْرِيها ولا يحوِّلها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بِمَا رَحُبَتْ} برحبها، أي: مع سعتها، وهو مثل للحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرّون فيه قلقاً وجزعاً مما هم فيه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وقوله: {ثم تاب عليهم ليتوبوا} لما كان هذا القول في تعديد نعمه بدا في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله عز وجل ليكون ذلك منبهاً على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره، ولو كان القول في تعدد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ليكون هذا أشد تقريراً للذنب عليهم، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه...وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطلبهم من الجد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه إذ هم أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين، إذ كان كعب من أهل العقبة وصاحباه من أهل بدر.وفي هذا يقتضي أن الرجل العالم والمقتدي به أقل عذراً في السقوط من سواه، وكتب الأوزاعي رحمه الله إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة: واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظماً ولا طاعته إلا وجوباً ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكاراً والسلام...
هذا معطوف على الآية الأولى، والتقدير: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى الثلاثة الذين خلفوا، والفائدة في هذا العطف أنا بينا أن من ضم ذكر توبته إلى توبة النبي عليه الصلاة والسلام، كان ذلك دليلا على تعظيمه وإجلاله، وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النبي عليه الصلاة والسلام وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد، وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك...
واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاثة:
الصفة الأولى: قوله: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت}...
والصفة الثانية: قوله: {وضاقت عليهم أنفسهم}...
والصفة الثالثة: قوله: {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} ويقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسلام في دعائه: «أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك» ومن الناس من قال معنى قوله: {وظنوا} أي علموا كما في قوله: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} والدليل عليه أنه تعالى ذكر هذا الوصف في حقهم في معرض المدح والثناء، ولا يكون كذلك إلا وكانوا عالمين بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه.
وقال آخرون: وقف أمرهم على الوحي وهم ما كانوا قاطعين أن الله ينزل الوحي ببراءتهم عن النفاق ولكنهم كانوا يجوزون أن تطول المدة في بقائهم في الشدة فالطعن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما صرح بالتوبة على من قارب الزيغ وخلط معهم أهل الثبات إشارة إلى أن كل أحد فقير إلى الغني الكبير وليكون اقترانهم بأهل المعالي، وجعلهم في حيزهم تشريفاً لهم وتأنيساً لئلا يشتد إنكارهم، أتبعه التوبة على من وقع منه الزيغ فقال غير مصرح بالزيغ تعليماً للأدب وجبراً للخواطر المنكسرة: {وعلى} أي ولقد تاب الله على {الثلاثة الذين}.
ولما كان الخلع للقلوب مطلق التخليف، بني للمفعول قوله: {خلفوا} أي خلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجران ونهى الناس عن كلامهم، وأخر الحكم فيهم ليأتي أمر الله في بيان أمرهم واستمر تخليفهم {حتى إذا ضاقت} أشار إلى عظيم الأمر بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم الأرض} أي كلها {بما رحبت} أي مع شدة اتساعها، أي ضاق عليهم فسيحها وواسعها.
ولما كان هذا قد يراد به الحقيقة، وكان ضيق المحل قد لا يستلزم ضيق الصدر، أتبعه الدلالة على أن المراد المجاز فقال: {وضاقت عليهم} بالهم المزعج والغم المقلق {أنفسهم} أي من شدة ما لاقوا من الهجران حتى بالكلام حتى برد السلام؛ ولما كان ذلك لا يقتضي التوبة إلا بالمراقبة، أتبعه -بيانا للتخلق بها- قوله: {وظنوا} أي أيقنوا، ولعله عبر بالظن إيذانا بأنهم لشدة الحيرة كانت قلوبهم لا تستقر على حال، فكان يقينهم لشدة الخواطر كأنه ظن، أو يقال -وهو حسن -: إن التعبير به عن يقين المخلصين إشارة إلى أن أعلى اليقين في التوحيد لا يبلغ الحقيقة على ما هي عليه أن لا يقدر أحد أن يُقدر الله حق قدره- كما قال أصدق الخلق صلى الله عليه وسلم "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك "وهذا من النفائس فاستعمله في أمثاله {أن لا ملجأ} أي مهرب ومفزع {من الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {إلا إليه} أي بما يرضيه، وهو مثل لتحيرهم في أمرهم، وجواب {إذا} محذوف دل عليه صدر الكلام تقديره: تداركهم بالتوبة فردهم إلى ما كانوا عليه قبل مواقعة الذنب.
ولما كان ما عملوه من التخلف عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عظيماً بمجرد المخالفة ثم يترك المواساة ثم بالرغبة عنه صلى الله عليه وسلم ثم بأمور عظيمة شديدة القبح وخيمة فكان يبعد معه الزيادة عن رتبة التوبة، أعلم سبحانه أنه رقاهم في رتب الكمال بأن جعل ذلك سبباً لتطهيرهم من جميع الأدناس وتنقيتهم من سائر الأدران المقتضي لمزيد القرب بالعروج في مصاعد المعارف -كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم لكعب رضي الله عنه "أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك"، أتبع ذلك سبحانه الإعلام به بقوله- مشيراً إلى ما بعده لولا فضل الله -بأداة الاستبعاد: {ثم تاب عليهم} أي رجع بهم بعد التوبة إلى مقام من مقامات سلامة الفطرة الذي هو أحسن تقويم يعلو لعلوه بالنسبة إلى ما دونه، توبة {ليتوبوا} أي ليرجعوا إلى ما تقتضيه الفطرة الأولى من الثبات على ما كانوا عليه من الإحسان في الدين والتخلق بأخلاق السابقين، ولعله عبر بالظن موضع العلم إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من جلاله للانقطاع إليه مجرد الظن بأنه لا سبب إليه إلا منه لأنه محيط بكل شيء لا يعجزه شيء، ويمكن أن يكون التعبير –ب {ثم} إشارة إلى عظيم ما قاسوا من الأهوال وما ترقوا إليه من مراتب الخوف، وامتنان عليهم بالتوبة من عظيم ما ارتكبوا، وإنما خصوا عن رفقائهم بأن أرجئوا لأمر الله لعلو مقامهم بما لهم من السابقة ورسوخ القدم في الإسلام، فالمخالفة اليسيرة منهم أعظم من الكثير من غيرهم لأنهم أئمة الهدى ومصابيح الظلم، ومن هذا البارق- حسنات الأبرار سيئات المقربين -ثم علل التوبة بأمر يعم غيرهم ترغيباً فقال معبراً بما يشير مع أعلى مقامهم إلى نزوله عن مقام من قبلهم: {إن الله} أي الذي له الكمال كله {هو} أي وحده {التواب} أي البليغ التوبة على من تاب وإن عظم جرمه وتكررت توبته لتكرر ذنوبه {الرحيم} أي المكرم لمن أراد من عباده بأن يحفظه على ما يرتضيه فلا يزيغ، ويبالغ في الإنعام عليه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} أي وتاب أيضا على الثلاثة الذين خلفوا عن الخروج إلى تبوك معه صلى الله عليه وسلم، وهم المرجون لأمر الله في الآية (106)، أو خلفوا بمعنى أرجئوا حتى ينزل فيهم أمر الله، وهم كعب بن مالك من بني سلمة، وهلال بن أمية من بني واقف، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف.
{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي خلفوا وأبهم الله أمرهم إلى أن شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم برحبها، أي بما وسعت من الخلق، خوفا من العاقبة وتألما وامتعاضا من إعراض النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنهم، وهجرهم إياهم في المجالسة والمحادثة والتحية.
{وضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي وضاقت أنفسهم على أنفسهم، وإنما كان ذلك بما كانوا يشعرون به من ضيق صدورهم بامتلاء قلوبهم من الهم والغم، حتى لا متسع فيها لشيء من البسط والسرور، فكأنهم لا يجدون لأنفسهم مكانا ترتاح إليه وتطمئن به.
{وظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} واعتقدوا أنه لا ملجأ لهم من سخط الله يلجئون إليه إلا إليه تعالى، بأن يتوبوا إليه ويستغفروه ويرجون رحمته، فإن الرسول البر الرؤوف الرحيم بأصحابه ما عاد ينظر إليهم ولا يكلمهم حتى يطلبوا دعاءه واستغفاره، وهو صلى الله عليه وسلم لا يشفع في الدنيا ولا في الآخرة إلا لمن ارتضى الله أن يشفع لهم.
{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي بعد ذلك كله عطف تعالى ورجع عليهم وأنزل قبول توبتهم أو وفقهم للتوبة المقبولة عنده.
{لِيَتُوبُواْ} ويرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ اللّهَ هُو التَّوابُ الرَّحِيمُ} إنه تعالى هو كثير القبول لتوبة التائبين، الواسع الرحمة للمحسنين، وتقدم مثله قريبا.
وإن العبرة بهذه القصة لا تتم إلا بذكر أصح الروايات وأوسعها في شرح ما بين الله من حالهم فيها، وهو حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
أقول: إن في هذه القصة لأكبر عبرة تفيض لها عبرات المؤمنين، وتخشع لها قلوب المتقين، وكان الإمام أحمد لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات وحديث كعب في تفصيل خبرهم فيها. وأي مؤمن يملك عينيه أي تفيض من الدمع، وقلبه أن يجف ويرجف من الخوف إذا قرأ أو سمع هذا الخبر، وتأمل ما فيه من العبر، التي لا يمكن بسطها إلا في كتاب مستقل، ولا أدري ما عسى أن ينال من قسوة قلوب المقلدين، وجهل المغرورين، الذين يقترفون الفواحش والمنكرات، ويتركون الفرائض والواجبات، ويصرون على ما فعلوا وهم يعلمون. فلا يتوبون ولا هم يذكرون وإذا وعظهم واعظ أو ذكرهم مذكر وجد اللابسين لباس الإسلام منهم بين جازم بالمغفرة والعفو عنه، وبين متكل على شفاعة الشافعين له، ومنهم من يحفظ من أخبار المكفرات للذنوب ما لا يصح له سند، ولا يستقيم له على أصول الدين متن، وما له أصل من هذه الأخبار يراد به تكفير الصغائر بشرط اجتناب الكبائر، لقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وما كان العمل الصالح فيه مقرونا بالتوبة أخذا من قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل:119] وتقدم بيان هذه المسألة في مواضع (آخرها ج 10).
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
...وفي هذه الآيات دليل على أن توبة اللّه على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن اللّه جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها.
ومنها: أن توبة اللّه على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة. ومنها: أن علامة الخير وزوال الشدة، إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقا تاما، وانقطع عن المخلوقين. ومنها: أن من لطف اللّه بالثلاثة، أن وسمهم بوسم، ليس بعار عليهم فقال: {خُلِّفُوا} إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، [أو خلفوا عن من بُتّ في قبول عذرهم، أو في رده] وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير، ولهذا لم يقل:"تخلفوا". ومنها: أن اللّه تعالى من عليهم بالصدق، ولهذا أمر بالاقتداء بهم فقال:...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه هي قصة الثلاثة الذين خلفوا -كما رواها أحدهم كعب بن مالك- وفي كل فقرة منها عبرة، وفيها كلها صورة بارزة الخطوط عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي، ومتانة بنائها، وصفاء عناصرها، ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة، ولتكاليف الدعوة، ولقيمة الأوامر، ولضرورة الطاعة. فهذا كعب بن مالك -وزميلاه- يتخلفون عن ركب رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- في ساعة العسرة. يدركهم الضعف البشري الذي يحبب إليهم الظل والراحة، فيؤثرونهما على الحر والشدة والسفر الطويل والكد الناصب. ولكن كعباً ما يلبث بعد خروج رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- أن يحس ما فعل، يشعره به كل ما حوله: "فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- يحزنني أنني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر اللّه "-يعني بمن عذر اللّه الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون. فالعسرة لم تقعد بالمسلمين عن تلبية دعوة رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -الى الغزوة البعيدة الشقة. لم يقعد إلا المطعون فيهم المظنون بهم النفاق، وإلا العاجزون الذين عذرهم اللّه. أما القاعدة الصلبة للجماعة المسلمة فكانت أقوى روحاً من العسرة، وأصلب عوداً من الشدة.. هذه واحدة. والثانية هي التقوى. التقوى التي تلجئ المخطئ إلى الصدق والإقرار. والأمر بعد ذلك للّه: "فقلت: يا رسول اللّه، واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر. لقد أعطيت جدلاً. ولكني واللّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن اللّه أن يسخطك علي. ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى من اللّه. واللّه ما كان لي عذر. واللّه ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك". فاللّه حاضر في ضمير المؤمن المخطئ. ومع حرصه البالغ على رضى رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -وهذا الرضى يومئذ يعز ويذل ويرفع ويخفض ويترك المسلم مرموقاً بالأنظار أو مهملاً لا ينظر إليه إنسان -مع هذا فإن مراقبة اللّه أقوى وتقوى اللّه أعمق؛ والرجاء في اللّه أوثق.
"ونهى رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -الناس عن كلامنا. أيها الثلاثة...فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك اللّه تعالى. هل تعلم أني أحب اللّه ورسوله؟ قال: فسكت. قال: فعدت فنشدته فسكت، فعدت فنشدته. قال:"اللّه ورسوله أعلم". ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار".. هكذا كان الضبط، وهكذا كانت الطاعة في الجماعة المسلمة- على الرغم من كل ما وقع من خلخلة بعد الفتح ومن بلبلة في ساعة العسرة -.. نهى رسول اللّه [صلى الله عليه وسلم] عن كلامنا أيها الثلاثة. فلا مخلوق يفتح فمه بكلمة، ولا مخلوق يلقى كعباً بأنس، ولا مخلوق يأخذ منه أو يعطي. حتى ابن عمه وأحب الناس إليه، وقد تسور عليه داره، لا يرد عليه السلام، ولا يجيبه عن سؤال. فإذا أجاب بعد الإلحاح لم يطمئن لهفته ولم يسكن قلقه، إنما قال: "اللّه ورسوله أعلم". وكعب في لهفته -وقد تنكرت له الأرض فلم تعد الأرض التي كان يعرف- يتلمس حركة من بين شفتي الرسول -[صلى الله عليه وسلم]- ويخالسه النظر لعله يعلم أن رسول اللّه قد ألقى إليه بنظرة يحيا على الأمل فيها، ويطمئن إلى أنه لم يقطع من تلك الشجرة، ولم يكتب له الذبول والجفاف! وبينما هو طريد شريد، لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة -ولو على سبيل الصدقة- يجيئه من قبل ملك غسان كتاب يمنيه بالعزة والكرامة والمجد والجاه.. ولكنه بحركة واحدة يعرض عن هذا كله، وما يزيد على أن يلقي بالكتاب إلى النار، ويعد هذا بقية من البلاء، ويصبر على الابتلاء.
هذه صفحة. والصفحة الأخرى هي صفحة البشرى. بشرى القبول. بشرى العودة إلى الصف. بشرى التوبة من الذنب. بشرى البعث والعودة إلى الحياة.." فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللّه منا. قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صارخاً أوفى َ على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر...هكذا كانت الأحداث تقدر وتقوّم في هذه الجماعة. وهكذا كانت توبة مقبولة تستقبل وتعظم؛ كانت بشرى يركض بها الفارس إلى صاحبها، ويهتف بها راكب الجبل ليكون أسرع بشارة. وكانت التهنئة بها والاحتفاء بصاحبها جميلاً لا ينساه الطريد الذي رد إلى الجماعة واتصلت بها وشائجه، فهو في يوم كما قال عنه رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم] -: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك" قالها- [صلى الله عليه وسلم] -وهو يبرق وجهه من السرور، كما قال كعب، فهذا القلب الكبير الكريم الرحيم قد فاض به السرور أن تقبل اللّه توبة ثلاثة من أصحابه وردهم مكرمين إلى جماعته. تلك هي قصة الثلاثة الذين خلفوا ثم تاب اللّه عليهم، وهذه هي بعض لمحات من دلالتها الواضحة على حياة الجماعة الإسلامية، وعلى القيم التي كانت تعيش بها.
والقصة كما رواها أحد أصحابها، تقرب إلى نفوسنا معنى الآية: (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه..).. (ضاقت عليهم الأرض بما رحبت).. فما الأرض؟ إن هي إلا بأهلها. إن هي إلا بالقيم السائدة فيها. إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها. فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني، الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين، وتتقاصر أطرافها، وتنكمش رقعتها، فهم منها في حرج وضيق. (وضاقت عليهم أنفسهم).. فكأنما هي وعاء لهم تضيق بهم ولا تسعهم، وتضغطهم فيتكرب أنفاسهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وعلى الثلاثة} معطوف {على النبي} [التوبة: 117] بإعادة حرف الجر لبُعد المعطوف عليه، أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا. وهؤلاء فريق له حالة خاصة من بين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك غير الذين ذكروا في قوله: {فرح المخلفون بمقعدهم} [التوبة: 81] الآية، والذين ذكروا في قوله: {وجاء المعذرون} [التوبة: 90] الآية.
والتعريف في {الثلاثة} تعريف العهد فإنهم كانوا معروفين بين الناس، وهم: كَعب بن مالك من بني سَلِمَة، ومُرارة بن الربيع العَمْري من بني عَمرو بن عَوْف، وهلال بن أمية الواقفي من بني واقف، كلهم من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر. ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك سألهم عن تخلفهم فلم يكذبوه بالعذر ولكنهم اعترفوا بذنبهم وحزنوا. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم، وأمرهم بأن يعتزلوا نساءهم. ثم عفا الله عنهم بعد خمسين ليلة. وحديث كعب بن مالك في قصته هذه مع الآخرين في « صحيح البخاري» و« صحيح مسلم» طويل أغر وقد ذكره البغوي في « تفسيره».
و {خلفوا} بتشديد اللام مضاعف خَلَف المخفف الذي هو فعل قاصر، معناه أنه وراء غيره، مشتق من الخلف بسكون اللام وهو الوراء. والمقصود بَقي وراء غيره. يقال: خَلَف عن أصحابه إذا تخلف عنهم في المشيء يَخْلُف بضم اللام في المضارع، فمعنى {خُلِّفوا} خَلّفهم مُخَلِّف، أي تركهم وراءه وهم لم يخلفهم أحد وإنما تخلفوا بفعل أنفسهم. فيجوز أن يكون {خلفوا} بمعنى خلَّفوا أنفسهم على طريقة التجريد. ويجوز أن يكون تخليفهم تخليفاً مجازياً استعير لتأخير البت في شأنهم، أي الذين خُلفوا عن القضاء في شأنهم فلم يعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا آيسهم من التوبة كما آيس المنافقين. فالتخليف هنا بمعنى الإرجاء. وبهذا التفسير فَسره كعب بن مالك في حديثه المروي في « الصحيح» فقال: وليس الذي ذكر الله مما خُلفنا عن الغزو وإنما تخليفُه إياناً وإرجاؤه أمرنا عَمَّن حَلَف له واعتذر إليه فقُبل منه. اه.
يعني ليس المعنى أنهم خَلَّفوا أنفسهم عن الغزو وإنما المعنى خلَّفهم أحد، أي جعلهم خَلْفاً وهو تخليف مجازي، أي لم يُقض فيهم. وفاعل التخليف يجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو الله تعالى.
وبناء فعل {خلفوا} للنائب على ظاهره، فليس المراد أنهم خلفوا أنفسهم.
وتعليق التخليف بضمير {الثلاثة} من باب تعليق الحكم باسم الذات. والمراد: تعليقه بحاللٍ من أحوالها يعلم من السياق، مثلُ {حُرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3].
وهذا الذي فَسَّر كعب به هو المناسب للغاية بقوله: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت} لأن تخيل ضيق الأرض عليهم وضيقِ أنفسهم هو غاية لإرجاء أمرهم انتهى عندها التخليف، وليس غايةً لتخلفهم عن الغزو، لأن تخلفهم لا انتهاء له.
وضيق الأرض: استعارة، أي حتى كانت الأرض كالضَّيقة عليهم، أي عندهم. وذلك التشبيه كناية عن غمهم وتنكر المسلمين لهم. فالمعنى أنهم تخيلوا الأرض في أعينهم...
وقوله: {بما رحبت} حال من {الأرض}. والباء للملابسة، أي الأرض الملابسة لسعتها المعروفة. و {ما} مصدرية.
{ورحُبت} اتسعت، أي تخيلوا الأرض ضيقة وهي الأرض الموصوفة بسعتها المعروفة.
وضيق أنفسهم: استعارة للغم والحزن لأن الغم يكون في النفس بمنزلة الضيق. ولذلك يقال للمحزون: ضاق صدره، وللمسرور: شُرح صدره.
والظن مستعمل في اليقين والجَزمِ، وهو من معانيه الحقيقية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} في سورة البقرة (46) وعند قوله تعالى: {وإنّا لنظنك من الكاذبين} في سورة الأعراف (66)، أي وأيقنوا أن أمر التوبة عليهم موكول إلى الله دون غيره بما يُوحي به إلى رسوله، أي التجأوا إلى الله دون غيره. وهذا كناية عن أنهم تابوا إلى الله وانتظروا عفوه.
وقوله: ثم تاب عليهم} عطف على ضاقت عليهم الأرض وما بعده، أي حتى وقع ذلك كله ثم تاب عليهم بعده.
و {ثُم} هنا للمهلة والتراخي الزمَني وليست للتراخي الرتبي، لأن ما بعدها ليس أرفع درجة مما قبلها بقرينة السياق، وهو مغن عن جواب (إذا) لأنه يفيد معناه، فهو باعتبار العطف تنهية للغاية، وباعتبار المعطوف دال على الجواب.
واللام في {ليتوبوا} للتعليل، أي تاب عليهم لأجل أن يكفوا عن المخالفة ويتنزهوا عن الذنب، أي ليدوموا على التوبة، فالفعل مستعمل في معنى الدوام على التلبس بالمصدر لا على إحداث المصدر.
وليس المراد ليذنبوا فيتوبوا، إذ لا يناسب مقام التنويه بتوبته عليهم. وجملة {إن الله هو التواب الرحيم} تذييل مفيد للامتنان.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... ولقد تخلف المنافقون فلم يبال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بهم، وتخلف مؤمنون، واعتذروا فقبل النبي أعذارهم، ولكن هؤلاء الثلاثة أحسوا بأنهم لا أعذار لهم، وأبوا أن يكذبوا فالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى فيهم خيرا، ورأى فيهم قصورا قد وقعوا فيه، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى أن يهذب نفوسهم بالاستنكار للفعل من جماعة المؤمنين فأمر المؤمنين ألا يخاطبوهم...
وهنا نقف وقفة قصيرة نتحدث فيها بثلاث أمور: أولها- لماذا أهمل أمر الذين تخلفوا وقدموا معاذير جلها كاذب، وأقلها فيه صدق، نقول: ترك أولئك لأن الكاذب منهم لا يرجى منه خير، ولو عوقب ذلك العقاب ما أجدى معه، وربما عاند فزاد ضلالا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقدم على عمل يزيد الضلال ولا ينقصه، وربما كان الترك أجدى، والله يهدي من يشاء. أما هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا، والصدق بر وهو يهدي إلى البر، وكان لا بد من أن يرحض عن نفوسهم ما علق من شائبة التخلف، وذلك بالهجر الجميل، الذي أحسوا فيه بمغبة عملهم، وزاد نفوسهم صفاء.
الأمر الثاني: أنهم صبروا أعنف الصبر وأقواه، وهو الصبر على الحرمان من الأنس بالناس، والالتقاء نفسيا بمن يحبونهم، ويخالطونهم، فإن الإنسان اجتماعي مدني، تعيش نفسه في وسط نفوس متجاوبة. الأمر الثالث- أن استنكار القبيح، أو ما يظن فيه قبح يغسل النفس منه، وإن المجتمعات الفاسدة هي التي لا يستنكر فيها فعل القبيح، ولو تكاثر عدد الصالحين، فالاستنكار مهذب الإثم، والله سبحانه هو الحكيم العليم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} بعدما اطلع على صدق موقفهم وصحة إيمانهم {لِيَتُوبُواْ} ويرجعوا إليه ويستقيموا في طريقه ويتحركوا في هداه ويسيروا مع المسيرة الإلهية، بكل ما تفرضه من مسؤوليات، وما تواجهه من مشاكل {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الذي يقود عباده إلى التوبة ويتقبلها منهم ويشملهم برحمته. وهكذا عاد هؤلاء الثلاثة... ودخلوا في المجتمع الإسلامي من جديد، ليكونوا أعضاءً عاملين صالحين، بعيداً عن كل ما يثقل حركتهم، ويضعف موقفهم، ويبعدهم عن تحمّل مسؤولياتهم في حركة الإسلام من جديد. وتلك هي قصة القافلة في مسيرتها الطويلة، التي قد يتساقط فيها الكثيرون، ولكن الله يفسح لهم المجال للرجوع إليه من جديد، ليأخذوا بأسباب القوّة بعد الوقوع في وهدة الضعف، وينطلقوا في اتجاه المسؤولية بعد أن ابتعدوا عنها. وهكذا يقود الله الناس إلى الاستقامة بعد الانحراف من أقرب طريق، وتلك هي قصة التوبة في تصحيح مسار الإنسان.