فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه ، حتى أزلهما ، أي : حملهما على الزلل بتزيينه . { وَقَاسَمَهُمَا } بالله { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } فاغترا به وأطاعاه ، فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد ، وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة .
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي : آدم وذريته ، أعداء لإبليس وذريته ، ومن المعلوم أن العدو ، يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق ، وحرمانه الخير بكل طريق ، ففي ضمن هذا ، تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا }
ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض ، فقال : { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } أي : مسكن وقرار ، { وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } انقضاء آجالكم ، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها ، وخلقت لكم ، ففيها أن مدة هذه الحياة ، مؤقتة عارضة ، ليست مسكنا حقيقيا ، وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار ، ولا تعمر للاستقرار .
ثم بين القرآن بعد ذلك ما وقع فيه آدم من خطأ فقال : { فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أي : اذهبهما عن الجنة عليهما ومقاسمته أنه لهما من الناصحين .
وأزل من الإِزلال وهو الإِزلاق : زل يزل زلا وزللا ، أي : زلق في طين أو منطق ، والاسم الزلة . وأزلة غيره واستزله : أي أزلقه . أطلق وأريد به لازمه وهو الإِذهاب .
وقرئ { فَأَزَلَّهُمَا } أي : نحاهما من الإِزالة ، تقول أزلت الشيء عن مكانه إزالة : أي : نحيته وأذهيته عنه .
ثم استعمل هذا اللفظ في ارتكاب الخطيئة كما استعمل في خطأ الرأي مجازاً . والضمير في قوله : { عَنْهَا } يعود إلى الشجرة ، ومعنى أزلهما عن الشجرة ، أوقعهما في الزلة بسببها .
والتعبير بقوله : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أبلغ في الدلالة على فخامة الخيرات التي كانا يتقلبان فيها مما لو قيل : فأخرجهما من النعيم أو من الجنة لأن من أساليب البلاغة في الدلالة على عظم الشيء أن يعبر عنه بلفظ مبهم كما هنا . لكي تذهب نفس السامع في تصور عظمته وكماله إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إليه .
ونسبة إخراجهما من الجنة إلى الشيطان في قوله : { فَأَخْرَجَهُمَا } من قبيل نسبة الفعل إلى ما كان سبباً فيه ، وذلك أن أكلهما من الشجرة الذي ترتب عليه إخراجهما من الجنة إنما وقع بسبب وسوسة الشيطان لهما .
وقوله - تعالى - { وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } الخطاب فيه لآدم وحواء ونسلهما .
والهبوط : النزول من أعلى إلى أسفل ضد الصعود . يقال : هبط يهبِط ويهبُط أي : نزل من علو إلى أسفل .
والعداوة معناها التناكر والتنافر بالقلوب .
أي : قلنا لآدم وحواء والشيطان انزلوا إلى الأرض متنافرين متباغضين ، يبغى بعضكم على بعض .
وعداوة الشيطان لآدم نشأت عن حسد وتكبر منذ أن أُمِر بالسجود فأبى وامتنع وقال : أنا خير منه .
وعداوة آدم وذريته للشيطان من جهة أنه يكيد لهم بالوسوسة والإِغراء وفي هذه الجملة الكريمة إرشاد لآدم وذريته ، ونهى لهم عن اتباع الخطوات الشيطان ، لأنه عدو لهم ، ومن شأن العدو أنه يسعى لمضرة عدوه .
قال - تعالى - { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - : { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } .
المستقر : موضع الاستقرار والثبات ، وهو مقابل القلق والاضطراب ، والمتاع : اسم لما يستمتع به من مأكل ومشرب وملبس وحياة وأنس وغير ذلك ، مأخوذ من متع النهار متوعاً إذا ارتفع ، ويطلق على الانتفاع الممتد الوقت .
والحين : الجزء من الزمان غير محدد بحد ، والمراد به هنا وقت الموت أو يوم القيامة .
والمعنى : انزلوا إلى الأرض بعضكم لبعض عدو ؛ ولكم فيها منزل وموضع استقرار . وتمتع بالعيش إلى أن يأتيكم الموت .
ومن كان على ذكر دائم من أن استقراره في الأرض وتمتعه بنعيمها سينتهي في وقت ، لا يدري متى يدركه ، فشأنه أن ينتفع بخيراتها ويتمتع بطيب العيش فيها ، وهو مقبل على العمل لمرضاة الله ما استطاع ، وشاكر لأنعمه بالقلب واللسان ، لا يشغله عن الشكر شاغل من ملذات هذه الحياة ومظاهر زينتها .
( فأزلهما الشيطان عنها ، فأخرجهما مما كانا فيه ) . .
ويا للتعبير المصور : ( أزلهما ) . . إنه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها . وإنك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحهما عن الجنة ، ويدفع بأقدامهما فتزل وتهوي !
عندئذ تمت التجربة : نسي آدم عهده ، وضعف أمام الغواية . وعندئذ حقت كلمة الله ، وصرح قضاؤه :
( وقلنا : اهبطوا . . بعضكم لبعض عدو ، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) . .
وكان هذا إيذانا بانطلاق المعركة في مجالها المقدر لها . بين الشيطان والإنسان . إلى آخر الزمان .
{ فأزلهما الشيطان عنها } أصدر زلتهما عن الشجرة وحملهما على الزلة بسببها ، ونظير " عن " هذه في قوله تعالى { وما فعلته عن أمري } . أو أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما ، ويعضده قراءة حمزة فأزلهما وهما متقاربان في المعنى ، غير أن أزل يقتضي عثرة مع الزوال ، وإزلاله قوله : { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } وقوله : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } ومقاسمته إياها بقوله : { إني لكما لمن الناصحين } . واختلف في أنه تمثل لهما فقاولهما بذلك ، أو ألقاه إليهما على طريق الوسوسة ، وأنه كيف توصل إلى إزلالهما بعدما قيل له : { اخرج منها فإنك رجيم } . فقيل : إنه منع من الدخول على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة ، ولم يمنع أن يدخل للوسوسة ابتلاء لآدم وحواء . وقيل : قام عند الباب فناداهما . وقيل : تمثل بصورة دابة فدخل ولم تعرفه الخزنة . وقيل دخل في فم الحية حتى دخلت به . وقيل : أرسل بعض أتباعه فأزلهما ، والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
{ فأخرجهما مما كانا فيه } أي من الكرامة والنعيم .
{ وقلنا اهبطوا } خطاب لآدم عليه الصلاة والسلام وحواء لقوله سبحانه وتعالى : { قال اهبطا منها جميعا } . وجمع الضمير لأنهما أصلا الجنس فكأنهما الإنس كلهم . أو هما وإبليس أخرج منها ثانيا بعدما كان يدخلها للوسوسة ، أو دخلها مسارقة أو من السماء .
{ بعضكم لبعض عدو } حال استغني فيها عن الواو بالضمير ، والمعنى متعادين يبغي بعضكم على بعض بتضليله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأزلهما الشيطان عنها}، يقول سبحانه: فاستزلهما الشيطان عنها، يعني عن الطاعة، وهو إبليس.
{فأخرجهما مما كانا فيه} من الخير في الجنة.
{وقلنا اهبطوا} منها، يعني آدم وحواء وإبليس بوحي منه.
{بعضكم لبعض عدو} فإبليس لهما عدو، وهما لإبليس عدو.
{ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} يعني بلاغا إلى منتهى آجالكم الموت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فأزلّهما"، بمعنى استزلهما من قولك: زلّ الرجل في دينه: إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه، وأزلّه غيره: إذا سبب له ما يزلّ من آجله في دينه أو دنياه. ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليس خروج آدم وزوجته من الجنة فقال: "فأخْرَجَهُما "يعني إبليس "مِمّا كانا فِيهِ "لأنه كان الذي سبب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة...
قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى: "فأزَلّهُما الشّيطان" قال: أغواهما...
فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبليس آدم وزوجته حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة؟ قيل: قد قالت العلماء في ذلك أقوالاً... وقد رويت هذه الأخبار عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم في صفة استزلال إبليس عدوّ الله آدم وزوجته حتى أخرجهما من الجنة.
وأولى ذلك بالحقّ عندنا، ما كان لكتاب الله موافقا، وقد أخبر الله تعالى ذكره عن إبليس أنه وسوس لآدم وزوجته ليبدي لهما ما وورى عنهما من سوآتهما، وأنه قال لهما: "ما نَهاكُما رَبّكُما عَنْ هَذِهِ الشجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الخالِدِينَ" وأنه قاسمهما إني لكما لمن الناصحين مدلّيا لهما بغرور. ففي إخباره جل ثناؤه عن عدوّ الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما: إنّي لَكُما لمِنَ الناصِحِينَ الدليل الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه، إما ظاهرا لأعينهما، وإما مستجنّا في غيره. وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقال: قاسم فلان فلانا في كذا وكذا، إذا سبب له سببا وصل به إليه دون أن يحلف له. والحلف لا يكون بتسبب السبب، فكذلك قوله: "فوسوس إليه الشيطان"، لو كان ذلك كان منه إلى آدم على نحو الذي منه إلى ذريته من تزيين أكل ما نهى الله آدم عن أكله من الشجرة بغير مباشرة خطابه إياه بما استزله به من القول والحيل، لما قال جل ثناؤه: "وَقَاسَمَهُمَا إنّي لَكُمَا لَمِنَ النّاصِحِينَ" كما غير جائز أن يقول اليوم قائل ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصح فيما زين لي من المعصية التي أتيتها، فكذلك الذي كان من آدم وزوجته لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليوم وذرية آدم لمّا قال جل ثناؤه: "وَقَاسَمَهُما إنّي لَكُما لَمِنَ الناصِحِينَ".
فأما سبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما رُوي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مدافعته، إذ كان ذلك قولاً لا يدفعه عقلٌ ولا خبرٌ يلزم تصديقه من حجة بخلافه، وهو من الأمور الممكنة. والقول في ذلك أنه قد وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه...وإن كان ابن إسحاق قد قال في ذلك، والله أعلم، كما قال ابن عباس وأهل التوراة: أنه خلص إلى آدم وزوجته بسلطانه الذي جعل الله له ليبتلي به آدم وذريته، وأنه يأتي ابن آدم في نومته وفي يقظته، وفي كل حال من أحواله، حتى يخلص إلى ما أراد منه حتى يدعوه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه، وقد قال الله: "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيْطانُ فأخْرَجُهُما مِما كانا فِيهِ". وقال: "يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنّكُم الشّيْطانُ كَما أخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنّةِ يَنْزِع عَنْهُما لِباسَهُما لِيُريَهُما سوآتِهِما إنه يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُه مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إنا جَعَلْنَا الشياطينَ أوْلِياءَ للذينَ لا يُؤْمِنْونَ" وقد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: "قُلْ أعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مَلِكِ النّاسِ" إلى آخر السورة. ثم ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الشّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مجرَى الدّمِ» قال ابن إسحاق: وإنما أمر ابن آدم فيما بينه وبين عدوّ الله، كأمره فيما بينه وبين آدم، فقال الله: "اهْبِطْ مِنْها فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِيها فاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ". ثم خلص إلى آدم و زوجته حتى كلمهما، كما قصّ الله علينا من خبرهما، قال: "فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشّيْطَانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أدُلّكَ على شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى" فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه، والله أعلم أيّ ذلك كان، فتابا إلى ربهما...
وأما تأويل قوله: "فأخْرَجَهُما" فإنه يعني: فأخرج الشيطان آدم وزوجته مما كانا، يعني مما كان فيه آدم وزوجته من رغد العيش في الجنة، وسعة نعيمها الذي كانا فيه. وقد بينا أن الله جل ثناؤه إنما أضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان، وإن كان الله هو المخرج لهما لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان، وأضيف ذلك إليه لتسبيبه...
"وقُلْنا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ". قال أبو جعفر: يقال: هبط فلان أرض كذا ووادي كذا، إذا حلّ ذلك...
وقد أبان هذا القول من الله جل ثناؤه عن صحة ما قلنا من أن المخرج آدم من الجنة هو الله جلّ ثناؤه، وأن إضافة الله إلى إبليس ما أضاف إليه من إخراجهما كان على ما وصفنا. ودل بذلك أيضا على أن هبوط آدم وزوجته وعدوّهما إبليس كان في وقت واحد. بجَمْعِ الله إياهم في الخبر عن إهباطهم، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبب إبليس ذلك لهما، على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم...
"وَلَكم في الأرْضِ مُسْتَقَرّ": قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم:
"وَلَكُمْ في الأرْضِ مُسْتَقَرّ": هو قوله: "الّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشا". [و] قوله: "جَعَلَ لَكُم الأرْضَ قَرَارا".
وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في الأرض قرار في القبور."مستقر": القبور.
[و] قال ابن زيد: "وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ" قال: مقامهم فيها.
والمستقرّ في كلام العرب هو موضع الاستقرار. فإذا كان ذلك كذلك، فحيث كان من في الأرض موجودا حالاّ، فذلك المكان من الأرض مستقرّه. إنما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أن لهم في الأرض مستقرّا ومنزلاً بأماكنهم ومستقرّهم من الجنة والسماء، وكذلك قوله: "وَمَتَاعٌ" يعني به أن لهم فيها متاعا بمتاعهم في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: "وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ":
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: ولكم فيها بلاغ إلى الموت.
وقال آخرون: يعني بقوله: "وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ": إلى قيام الساعة.
وقال آخرون إلى حين، قال: إلى أجل.
والمتاع في كلام العرب: كل ما استمتع به من شيء من معاش استمتع به أو رياش أو زينة أو لذّة أو غير ذلك. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه قد جعل حياة كل حيّ متاعا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان متاعا أيام حياته بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذ وجعلها من بعد وفاته لجثته كِفاتا، ولجسمه منزلاً وقرارا، وكان اسم المتاع يشمل جميع ذلك، كان أولى التأويلات بالآية إذْ لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالّة على أنه قصد بقوله: "وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ" بعضا دون بعض، وخاصّا دون عام في عقل ولا خبر، أن يكون ذلك في معنى العام، وأن يكون الخبر أيضا كذلك إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها، وذلك إلى أن تبدّل الأرض غير الأرض. فإذْ كان ذلك أولى التأويلات بالآية لما وصفنا، فالواجب إذا أن يكون تأويل الآية: ولكم في الأرض منازل ومساكن، تستقرّون فيها استقراركم كان في السموات، وفي الجنات في منازلكم منها، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش والزّيْن والملاذ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم لأرماسكم وأجداثكم، تُدفنون فيها وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدّلكم بها غيرها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وجائز معاتبة آدم مع ذلك وتسميته عصيانا بأوجه:
أحدها: أنه لم يكن امتحن بأنواع مختلفة يتعذر عليه وجه الحفظ في ذلك، وإنما امتحن بالانتهاء عن شجرة واحدة بالإشارة إليها، فجائز ألا يعذر في مثله. وكذلك النسيان في ما يعذر في الشاهد إنما يعذر في النوع الذي يبتلى به، وتكثر به النوازل؛ ألا ترى أنه يعذر بالسلام في الصلاة وترك التسمية في الذبيحة ونحو ذلك؟ ولا يعذر في الأكل في الصلاة وفي الجماع في الحج ونحو ذلك. فمثله الأمر الذي نحن فيه.
والثاني: أنه جائز أخذ الأخيار ومعاتبة الرسول بالأمر الخفيف اليسير الذي لا يؤخذ بمثل ذلك غيره لكثرة نعم الله عليهم وعظم منته عندهم، كما أوعدوا التضاعف في العذاب على ما كان من غيره وعلى ما ذكر في أمر يونس عليه السلام من العقوبة بما، لعل ذلك من عظيم خيرات غيره، إذ فارق قومه لما عاين من المناكير فيهم، وما فعل مثله من أحد ما يوصف به غيره. وكذلك ما عوتب محمد صلى الله عليه وسلم في ما خطر بباله تقريب أجلة الكفرة إشفاقا عليهم وحرصا على إسلامهم ومن تبعهم، على ذلك مما لعل من دونه لا يعدل شيء من خيراته بالذي عوتب به، وبالله التوفيق.
والثالث: أنه لما عوتب بالذي يجوز ابتداء المحنة به ولمثله خلقه حين قال: (للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) [البقرة: 30]، لكنه [يكرمه بالذي] عود خلقه من تقديم إحسانه وإنعامه في الابتلاء 299 على الشدائد والشرور، وإن كان له التقديم بالثاني؛ وذلك في جملة قوله: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) [الأعراف: 168] وقوله: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) [الأنبياء: 35]، وبالله التوفيق.
وعلى ما في ذلك من معاتبة غيره الزجر عن المعاصي وتعظيم خطره في القلوب إذ جوزي أبو البشر وأول الرسل منهم على ما فضله بما امتحن فيه ملائكته بالتعلم منه والسجود بذلك القدر من الذلة، ليعلم الخلق أنه ليس في أمره هوادة ولا في حكمه محاباة، فيكونون أبدا على حذر من عقوبته والفزع إليه بالعصمة عما يوجب مقته، وألا يكلهم إلى أنفسهم إذ علموا بابتلاء الذي ذكرت محله في قلوبهم بذلك القدر من الذلة، ولا قوة إلا بالله.
والثاني: أن يكون حفظ النهي عنه، لكنه خطر بباله النهي عن وجه لا يلحقه فيه وصف العصيان، أو نسي قوله: (فتكونا من الظالمين) [البقرة: 35]. وقد ذكرنا النهي في وقت الفعل؛ ولكن يسمى الوصف بالفعل من الظلم والنهي، لعله سبق إلى وهمه غير جهة التحريم؛ إذ يكون النهي على أوجه: أحدها: للحرمة. و [الثالث]: نهي لما فيه من الداء، وعليه في أكله ضرر، وهذا معروف في الشاهد بما عليه الطباع: نهي قوم عن أشياء محللة هي لهم ما يؤذي ويضر، فيحتمل أن يسبق إلى وهمه ذلك، لما وعد له في ذلك من عظم النفع، تحمل ما خوف به ليصل إلى ما وعد على ما سبق وجه النهي إلى ما وجه من حيث الضرر والمشقة، ونسي قوله: (فتكونا بين الظالمين) [البقرة: 35]، أو ذكرا، وعرفا أن الظلم قد يقع على الضرر كقوله: (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) [الكهف: 33] لم ينقص منه، والنقصان في النفس ضرر. وعلى ذلك فسر عامة أهل التفسير الظلم في القرآن أنه الضرر؛ واسم الضرر يأخذ ضرر الداء وضرر المأثم؛ وإن كان حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، ولا قوة إلا بالله.
وقد يحتمل النهي أن يخرج مخرج المنع ليكون غيره هو الذي يبدأ به، ويخص ذلك به لا على التحريم نحو الأمر بالمعروف في ما يمنع الرجل ولده عن التناول مما يريد به غيره لا على التحريم. وإذا احتمل ذا، ثم بين له عظيم ما في ذلك من البركة من غير أن عاين عدوه ليعلم أن ذلك صنيعه،
وجائز أن سبق إليه أن ذلك إشارة ملك أو إلهام في النفس على ما يكون لكثير من الأخبار إلا أنه من وحي عدوه، فدعته نفسه إلى الأكل، فيكون كالناسي والجاهل بحقيقة وجه النهي، وإن كان تعمد أكله. ولا قوة إلا بالله.
والأصل في هذا أن فعله عليه السلام إن كان على نسيان العهد أو على الذكر له فإن الذي أصابه عقوبة، وإن كان بالذي يكون به المحنة؛ فلولا أن الله إن يعاقبه على ما فعله لم يكن ليغير عليه نعمة بعذاب أنعمها عليه. وقد قال: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الأنفال: 53]. وما لا يحتمل العقوبة بالتغيير لم يكن ليفعل بعد وعده بذاك مع ما قد اعترفا بالظلم إذ (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف: 23]، وقد قال الله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى* [طه: 121]، وقد كان قال لهما (فتكونا من الظالمين) [البقرة: 35]، فكان ما بلي به وجهان: أحدهما: أن الله ذلك لم يُزِلْ عنهما اسم الإيمان ولا دعيا إليه بعد لفعلهما ذلك. ثبت أنه لا كل ذنب يزيل اسم الإيمان، وأن الذنوب لا يحقق فيها الكذب في ما اعتقد ألا يعصي الله في شيء...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
ومعنى قوله تعالى: {فتكونا من الظالمين} أي ظالمين لأنفسكما. والظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه، فمن وضع الأمر أو النهي في موضع الندب، أو الكراهة، فقد وضع الشيء في غير موضعه. وهذا الظلم [الذي في الآية] من هذا النوع من الظلم الذي يقع بغير قصد وليس معصية، لا الظلم الذي هو القصد إلى المعصية، وهو يدري أنها معصية.
ما قد نصه الله تعالى من أن آدم عليه السلام لم يأكل من الشجرة إلا بعد أن أقسم له إبليس أن نهي الله عز وجل لهما عن أكل الشجرة ليس على التحريم، وأنهما لا يستحقان بذلك عقوبة أصلا، بل يستحقان بذلك الجزاء الحسن، وفوز الأبد، قال تعالى حاكيا عن إبليس أنه قال لهما: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور}.
وقال عز وجل: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} فلما نسي آدم عليه السلام عهد الله إليه في أن إبليس عدو له، أحسن الظن بيمينه. ولا سلامة ولا براءة من القصد إلى المعصية و لا أبعد من الجراءة على الذنوب أعظم من حال من ظن أحدا لا يحلف حانثا، وهكذا فعل آدم عليه السلام فإنه إنما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا، بنص القرآن، ومتأولا وقاصدا إلى الخير، لأنه قدر أنه يزداد حظوة عند الله تعالى فيكون ملكا مقربا، أو خالدا فيما هو فيه أبدا، فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله عز وجل به، وكان الواجب أن يحمل أمر ربه عز وجل على ظاهره، ولكن تأول وأراد الخير فلم يصبه. ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجورا، ولكن آدم عليه السلام لما فعله وأخذ به بإخراجه عن الجنة إلى نكد الدنيا، كان بذلك ظالما لنفسه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقيل: فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما، كما تقول: زلّ عن مرتبته. وزل عنك ذاك: إذا ذهب عنك. وزل من الشهر كذا. وقرئ: «فأزالهما» {مِمَّا كَانَا فِيهِ} من النعيم والكرامة...
قيل: {اهبطوا} خطاب لآدم وحواء وإبليس: وقيل: والحية. والصحيح أنه لآدم وحواء والمراد هما وذريتهما، لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم. والدليل عليه قوله: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123] ويدل على ذلك قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}. وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم. ومعنى بعضكم لبعض {لِبَعْضٍ} ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. والهبوط: النزول إلى الأرض. {مُسْتَقَرٌّ} موضع استقرار أو استقرار {ومتاع} وتمتع بالعيش.
{فأزلهما الشيطان عنها} تحقيقه، فأصدر الشيطان زلتهما عنها، ولفظة (عن) في هذه الآية كهي في قوله تعالى: {وما فعلته عن أمري} [الكهف: 82].
قال القفال رحمه الله: هو من الزلل يكون الإنسان ثابت القدم على الشيء فيزل عنه ويصير متحولا عن ذلك الموضع، ومن قرأ {فأزالهما} فهو من الزوال عن المكان، وحكي عن أبي معاذ أنه قال: يقال أزلتك عن كذا حتى زلت عنه وأزللتك حتى زللت ومعناهما واحد، أي: حولتك عنه، وقال بعض العلماء: أزلهما الشيطان أي استزلهما، فهو من قولك زل في دينه إذا أخطأ وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
... لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له؛ لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة. والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي، إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف، فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة، ولله أن يفعل ما يشاء. وقد قال "إني جاعل في الأرض خليفة "وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة، وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض، وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: "قلنا اهبطوا"
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها» رواه مسلم والنسائي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم بين أنهما أسرعا المواقعة بقضية خلقهما على طبائع الشهوة لما نهيا عنه فقال: {فأزلهما}، قال الحرالي: من الزلل وهو تزلق الشيء الذي لا يستمسك على الشيء الذي لا مستمسك فيه كتزلل الزلال عن الورق وهو ما يجتمع من الطل فيصير ما على الأوراق والأزهار، وأزالهما من الزوال وهو التنحية عن المكان أو المكانة وهو المصير بناحية منه؛ {الشيطان} هو مما أخذ من أصلين: من الشطن وهو البعد الذي منه سمي الحبل الطويل، ومن الشيط الذي هو الإسراع في الاحتراق والسمن، فهو من المعنيين مشتق كلفظ إنسان وملائكة {عنها} أي عن مواقعة الشجرة وعن كلمة تقتضي المجاوزة عن سبب ثابت كقولهم: رميت عن القوس -انتهى.
وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما أو زوالهما عنها {فأخرجهما} أي فتسبب عن إيقاعهما في الزلل الناشئ عن تلك المواقعة أنه أخرجهما {مما كانا فيه} من النعمة العظيمة التي تجل عن الوصف. قال الحرالي:"في" كلمة تقتضي وعاء مكان أو مكانة، ثم قال: أنبأ الله عز وجل بما في خبء أمره مما هو من وراء علم الملائكة بما أظهر من أمر آدم عليه السلام وبما وراء علم آدم بما أبدى من حال الشيطان باستزلاله لآدم حسن ظن من آدم بعباد الله مطلقاً حين قاسمهما على النصيحة، وفيه انتظام بوجه ما بتوقف الملائكة في أمر خلق آدم فحذرت الملائكة إلى الغاية، فجاء من وراء حذرهما حمد أظهره الله من آدم، وجاء من وراء حسن ظن آدم ذنب أظهره الله من الشيطان على سبيل سكن الجنة فرمى بهما عن سكنها بما أظهر له بما فيها من حب الشجرة التي اطلع عليها. ثم قال: وحكمة ذلك أي نسبة هذا الذنب إلى الشيطان بتسببه، إن الله عز وجل يعطي عباده الخير بواسطة وبلا واسطة ولا ينالهم شر إلا بواسطة نفس، كما وقع من الإباء للشيطان، فكانت خطيئته في ذات نفسه أو بواسطة شيطان كما كانت مخالفة آدم، فكانت خطيئته ليست من ذات نفسه وعارضةً عليه من قبل عدو تسبب له بأدنى مأمنه من زوجه التي هي من أدنى خلقه فمحت التوبة الذنب العارض لآدم وأثبت الإصرار الإباء النفساني للشيطان؛ وذكر الحق تعالى الإزلال منه باسمه الشيطان لا باسمه إبليس لما في معنى الشيطنة من البعد والسرعة التي تقبل التلافي ولما في معنى الإبلاس من قطع الرجاء، فكان في ذلك بشرى استدراك آدم بالتوبة- انتهى.
ولما بين أنه غرهما فضرهما بين إهباط الغارّ والمغرور وبين أنه أنعم على المغرور دون الغار مع ما سبق له من لزوم العبادة وطول التردد في الخدمة، وفي ذلك تفخيم للنعمة استعطافاً إلى الإخلاص في العبادة فقال عاطفاً على ما يرشد إليه السياق من نحو أن يقال فتداركناهما بالرحمة وتلافينا خطأهما بالعفو لكونه عارضاً منهما بسبب خارج، وأبّدنا تلافي الغار بشقائه لعصيانه بالضلال والإضلال عن عمد فكان مغضوباً عليه {وقلنا} أي له وللمغرور: {اهبطوا} وفي ذلك لطف لذريته بالتنفير من الخطأ والترهيب الشديد من جريرته والترغيب العظيم على تقدير الوقوع فيه في التوبة والهبوط.
قال الحرالي: سعى في درك والدرك مَا يكون نازلاً عن مستوى، فكأنه أمسك حقيقته -أي آدم- في حياطته تعالى وحفظه وتوفيقه لضراعته وبكائه وسر ما أودعه من أمر توبته؛ وأهبط صورته ليظهر في ذلك فرق ما بين هبوط آدم وهبوط إبليس على ما أظهر من ذلك سرعة عود آدم توبة وموتاً إلى محله من أنسه المعهود وقربه المألوف له -من ربه، وإنظار إبليس في الأرض مصراً منقطعاً عن مثل معاد آدم لما نال إبليس من اللعنة التي هي مقابل التوبة {بعضكم لبعض} البعض ما اقتطع من جملة وفيه ما في تلك الجملة، {عدو} من العداء أي المجاوزة عن حكم المسالمة التي هي أدنى ما بين المستقلين من حق المعاونة- انتهى. فالمعنى فليحذر كل واحد منكم عدوه باتباع الأوامر واجتناب النواهي.
قال الحرالي: وفيه إشعار بما تمادى من عدواء الشيطان على ذرء من ولد آدم حتى صاروا من حزبه، وفيه أيضاً بشرى لصالحي ولد آدم بما يسبونه من ذرء إبليس فيلحقون بهم بالإيمان والإسلام والتوبة فيهتدون بهداه من حيث عمّ بالعداوة، فاعتدى ذو الخير فصارت عدواه على أهل الشر خيراً، واعتدى ذو الشيطنة فصارت عدواه على أهل الخير شراً. {ولكم في الأرض مستقر} تكونون فيه، وهو من القرار وهو كون الشيء فيما له فيه تنام وظهور وعيش موافق؛ {ومتاع} تتمتعون به، والمتاع هو الانتفاع بالمنتفع به وقتاً منقطعاً يعرف نقصه بما هو أفضل منه، يعني ففيه إشعار بانقطاع الإمتاع بما في هذه الدنيا ونقص ما به الانتفاع عن محل ما كانا فيه، من حيث إن لفظ المتابع أطلق في لسان العرب على الجيفة التي هي متاع المضطر وأرزاق سباع الحيوان وكلابها، فكذلك الدنيا هي جيفة متع بها أهل الاضطرار بالهبوط من الجنة وجعلها حظ من لا خلاق له في الآخرة؛ {إلى حين} أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي إبهام الحين إشعار باختلاف الآجال في ذرء الفريقين، فمنهم الذي يناله الأجل صغيراً، ومنهم الذي يناله كبيراً -انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال تعالى {فأزلهما الشيطان عنها} أي حولهما وزحزحهما عن الجنة أو حملهما على الزلة بسبب الشجرة وقرأ حمزة (فأزالهما) والشيطان إبليس الذي لم يسجد ولم يخضع وقد وسوس لهما بما ذكر في سورتي الأعراف وطه حتى أوقعهما في الزلل وحملهما على الأكل من الشجرة فأكلا {فأخرجهما مما كانا فيه} أي من ذلك المكان أو النعيم الذي كانا فيه، فكان الذنب متصلا بالعقوبة اتصال السبب بالمسبب ثم بين الله تعالى كيفية الإخراج بقوله {وقلنا اهبطوا} يعني آدم وزوجه وإبليس فلا حاجة لتقدير إرادة ذرية آدم بالجمع كما فعل مفسرنا (الجلال) فإن العداوة في قوله عز وجل {بعضكم لبعض عدو} تنافي هذا التقدير فإن العداوة بين الإنسان والشيطان لا بين الإنسان وذريته. والأصل في الهبوط أن يكون من مكان عال إلى أسفل منه، ولذلك احتج به من قال: إن آدم كان في السماء، وقد يستعمل في مطلق الانتقال أو مع اعتبار العلو والسفل في المعنى. وقال الراغب: الهبوط الانحدار على سبيل القهر ولا يبعد أن تكون تلك الجنة في ربوة فسمى الخروج منها هبوطا أو سمى بذلك لأن ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه أو هو كما يقال هبط من بلد إلى بلد، كقوله تعالى لبني إسرائيل (اهبطوا مصرا).
ثم قال تعالى {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها ينتهيان إلى زمن محدود وليسا بدائمين، ففي الكلام فائدتان:
(إحداهما): أن الأرض ممهدة مهيأة للمعيشة فيها والتمتع بها.
(والثانية): أن طبيعة الحياة فيها تنافي الخلود والدوام، فليس الهبوط لأجل الإبادة ومحو الآثار، وليس للخلود كما زعم إبليس بوسوسته إذ سمى الشجرة المنهي عنها (شجرة الخلد وملك لا يبلى) يعنى أن الله أخرجهم من جنة الراحة إلى أرض العمل لا ليفنيهم، وعبر عن ذلك بالاستقرار في الأرض، ولا ليعاقبهم بالحرمان من التمتع بخيرات الأرض، وعبر عن ذلك بالمتاع، ولا ليمتعهم بالخلود وعبر عن ذلك بكون الاستقرار والمتاع إلى حين.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه، حتى أزلهما، أي: حملهما على الزلل بتزيينه. {وَقَاسَمَهُمَا} بالله {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} فاغترا به وأطاعاه، فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد، وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي: آدم وذريته، أعداء لإبليس وذريته، ومن المعلوم أن العدو، يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق، وحرمانه الخير بكل طريق، ففي ضمن هذا، تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}
ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض، فقال: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي: مسكن وقرار، {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} انقضاء آجالكم، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها، وخلقت لكم، ففيها أن مدة هذه الحياة، مؤقتة عارضة، ليست مسكنا حقيقيا، وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار، ولا تعمر للاستقرار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتفيد الآية إثارة الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى، وموعظة تُنبِّهُ بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي، والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى هذه الجنة التي كانت لأبيهم، وتربيةِ العداوة بينهم وبين الشيطان وجنده إذ كان سبباً في جر هذه المصيبة لأبيهم، حتى يكونوا أبداً ثأراً لأبيهم مُعادين للشيطان ووسوسته، مسيئين الظنون بإغرائه كما أشار إليه قوله تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27] وقوله هنا: {بعضكم لبعض عدو}. وهذا أصل عظيم في تربية العامة ولأجله كان قادة الأمم يذكرون لهم سوابق عداوات منافسيهم ومَن غلبهم في الحروب ليكون ذلك باعثاً على أخذ الثأر..
وقوله: {بعضكم لبعض عدو} يحتمل أن يراد بالبعض بعض الأنواع وهو عداوة الإنس والجن. إن كان الضمير في {اهبطوا} لآدم وزوجه وإبليس، ويحتمل أن يراد عداوة بعض أفراد نوع البشر، إن كان ضمير {اهبطوا} لآدم وحواء فيكون ذلك إعلاماً لهما بأثر من آثار عملهما يورث في بنيهما، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلاف في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في بنيهما، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلال في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في أنفسهما وأنفس ذريتهما داعية التغرير والحيلة على حد قوله تعالى: {إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم} فإن الأخلاق تورث وكيف لا وهي مما يعدى بكثرة الملابسة والمصاحبة... ووجه المناسبة بين هذا الأثر وبين منشئه الذي هو الأكل من الشجرة أن الأكل من الشجرة كان مخالفة لأمر الله تعالى ورفضاً له وسوء الظن بالفائدة منه دعا لمخالفته الطمع والحرص على جلب نفع لأنفسهما، وهو الخلود في الجنة والاستئثار بخيراتها مع سوء الظن بالذي نهاهما عن الأكل منها وإعلامه لهما بأنهما إن أكلا منها ظلما أنفسهما لقول إبليس لهما: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} [الأعراف: 20] فكذلك كانت عداوة أفراد البشر مع ما جبلوا عليه من الألفة والأنس والاتحاد منشؤها رفض تلك الألفة والاتحاد لأجل جلب النفع للنفس وإهمال منفعة الغير، فلا جرم كان بين ذلك الخاطر الذي بعثهما على الأكل من الشجرة وبين أثره الذي بقي في نفوسهما والذي سيورثونه نسلهما فيخلق النسل مركبة عقولهم على التخلق بذلك الخلق الذي طرأ على عقل أبويهما، ولا شك أن ذلك الخلق الراجع لإيثار النفس بالخير وسوء الظن بالغير هو منبع العداوات كلها لأن الواحد لا يعادي الآخر إلا لاعتقاد مزاحمة في منفعة أو لسوء ظن به في مضرة. وفي هذا إشارة إلى مسألة أخلاقية وهي أن أصل الأخلاق حسنها وقبيحها هو الخواطر الخيرة والشريرة ثم ينقلب الخاطر إذا ترتب عليه فعل فيصير خلقاً وإذا قاومه صاحبه ولم يفعل صارت تلك المقاومة سبباً في اضمحلال ذلك الخاطر، ولذلك حذرت الشريعة من الهم بالمعاصي وكان جزاء ترك فعل ما يهم به منها حسنة وأمرت بخواطِر الخير فكان جزاء مجردِ الهمِّ بالحسنة حسنةً ولو لم يعملها وكان العمل بذلك الهَم عشرَ حسنات كما ورد في الحديث الصحيح:"مَن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة" ثم قال "ومَنْ همَّ بسيئة فعملها كُتبت له سيئةٌ واحدة "وجعل العفو عن حديث النفس مِنَّة من الله تعالى ومغفرة في حديث "إن الله تجاوز عن أمتي فيما حدثت به نفوسها "
إن الله تعالى خلق الإنسان خَيِّراً سالماً من الشرور والخواطر الشريرة على صفة مَلَكية وهو معنى {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4] ثم جعله أطواراً فأولها طور تعليمِه النطقَ ووضعِ الأسماء للمسميات لأن ذلك مبدأُ المعرفة وبه يكون التعليم أي يعلم بعض أفراده بعضاً ما علِمَه وجَهِلَهُ الآخر فكان إلهامُه اللغة مبدأَ حركة الفكر الإنساني وهو مبدأ صالح للخير ومعين عليه لأن به علَّم الناسُ بعضهم بعضاً ولذلك ترى الصبي يرى الشيءَ فيسرعُ إلى قرنائه يُناديهم ليَرَوْهُ معه حرصاً على إفادتهم فكان الإنسان معلِّماً بالطبع وكان ذلك معيناً على خيريته إلا أنه صالح أيضاً لاستعمال النطق في التمويه والكذب؛ ثم إن الله تعالى لما نهاه عن أمر كلَّفه بما في استطاعته أن يمتثله وأن يخالفه فتلك الاستطاعة مبدأ حركة نفسه في الحرص والاستئثار فكان خَلْق الله تعالى إياه على تلك الاستطاعة مبدأ طَور جديد هو المشار إليه بقوله: {ثم رَدَدْناه أَسفل سافلين} [التين: 5]، ثم هداه بواسطة الشرائع فصار باتباعها يبلغ إلى مراتب الملائكة ويرجع إلى تقويمه الأول وذلك معنى قوله: {إلا الذين آمنُوا وعملوا الصالحات} [التين: 6] وقد أشير إلى هذا الطور الأخير بقوله فيما يأتي: {فإما يأتينكم مني هُدى فَمَنْ تَبِعَ هُداي} [البقرة: 38] الآية.