يأمر تعالى الأولياء والأسياد ، بإنكاح من تحت ولايتهم من الأيامى وهم : من لا أزواج لهم ، من رجال ، ونساء ثيب ، وأبكار ، فيجب على القريب وولي اليتيم ، أن يزوج من يحتاج للزواج ، ممن تجب نفقته عليه ، وإذا كانوا مأمورين بإنكاح من تحت أيديهم ، كان أمرهم بالنكاح بأنفسهم من باب أولى .
{ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } يحتمل أن المراد بالصالحين ، صلاح الدين ، وأن الصالح من العبيد والإماء -وهو الذي لا يكون فاجرا زانيا- مأمور سيده بإنكاحه ، جزاء له على صلاحه ، وترغيبا له فيه ، ولأن الفاسد بالزنا ، منهي عن تزوجه ، فيكون مؤيدا للمذكور في أول السورة ، أن نكاح الزاني والزانية محرم حتى يتوب ، ويكون التخصيص بالصلاح في العبيد والإماء دون الأحرار ، لكثرة وجود ذلك في العبيد عادة ، ويحتمل أن المراد بالصالحين الصالحون للتزوج المحتاجون إليه{[562]} من العبيد والإماء ، يؤيد هذا المعنى ، أن السيد غير مأمور بتزويج مملوكه ، قبل حاجته إلى الزواج . ولا يبعد إرادة المعنيين كليهما ، والله أعلم .
وقوله : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ } أي : الأزواج والمتزوجين { يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فلا يمنعكم ما تتوهمون ، من أنه إذا تزوج ، افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه ، وفيه حث على التزوج ، ووعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر . { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } كثير الخير عظيم الفضل { عَلِيمٌ } بمن يستحق فضله الديني والدنيوي أو أحدهما ، ممن لا يستحق ، فيعطي كلا ما علمه واقتضاه حكمه .
ثم أنت بعد ذلك بالعلاج الإيجابى ، الذى من شأنه أن يصرف الإنسان عن فاحشة الزنا المحرمة ، لأنه سيجد فيما أحله الله - تعالى - ما يغنيه عنها ، و ذلك عن طريق الأمر بتيسير الزواج ، والحض عليه . قال - تعالى - : { وَأَنْكِحُواْ . . . } .
الخطاب فى قوله - تعالى - : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ . . . } للأولياء والسادة ، والأيامى : جمع أيم - بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة . . . وهو كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها بكرا أو ثيبا . والمراد بالأيامى هنا الأحرار والحرائر .
وقوله - تعالى - { مِنْ عِبَادِكُمْ } جمع عبد وهو الرقيق ، و " وإمائكم " جمع أمة .
والمراد من الإنكاح هنا : المعاونة والمساعدة فى الزواج ، والعمل على إتمامه بدون عوائق لا تؤيدها شريعة الله - تعالى - .
أى : زوِّجوا - أيها الأولياء والسادة - من لا زوج له من الرجال المسلمين أو النساء المسلمات ، ويسروا لهم هذا الأمر ولا تعسروه ، لأن الزواج هو الطريق المشروع لقضاء الشهوة ، ولحفظ النوع الإنسانى ، ولصيانة الأنساب من الاختلاط ، ولإيجاد مجتمع تفشو فيه الفضيلة ، وتموت فيه الرذيلة .
وزوجوا - أيضا الصالحين للزواج من عبيدكم وإمائكم فإن هذا الزواج أكرم لهم وأحفظ لعفتهم .
قال صاحب الكشاف " فإن قلت لم خص الصالحين ؟ قلت : ليحصن دينهم ، ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن الصالحين من الأرقاء . هم الذين مواليهم يشفقون عليهم . . . فكانوا مظنة للتوصية بشأنهم . . وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك " .
والأمر فى قوله - تعالى - : { وَأَنْكِحُواْ } يرى جمهور العلماء أنه للندب ، بدليل أنه قد وجد أيامى فى العهد النبوى ولم يجبروا على الزواج ، ولو كان الأمر للوجوب ، لأجبروا عليه . . . ويرى بعضهم أنه للوجوب .
قال الإمام ابن كثير : اشتملت هذه الآيات الكريمات على جمل من الأحكام المحكمة ، والأوامر المبرمة ، فقوله - تعالى - : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } هذا أمر بالتزويج ، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه ، على كل من قدر عليه ، واحتجوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : " " يا معشر الشباب . من استطاع منكم الباءة " - أى القدرة على الزواج - فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحفظ للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " أى : وقاية - .
ويبدو لنا أن الزواج يختلف حكمه باختلاف الأحوال ، فمن كان - مثلا قادرا على الزواج ، ويخشى إذا ترك الزواج أن يقع فى الفاحشة : فإن الزواج بالنسبة له يكون واجبا عليه . بخلاف من أمن الوقوع فى الفاحشة ، فإن الزواج بالنسبة له يكون مندوبا أو مستحبا .
ولذا قال الإمام القرطبى : " اختلف العلماء فى هذا الأمر - أى فى قوله - تعالى - { وَأَنْكِحُواْ } - على ثلاثة أقوال : فقال علماؤنا يختلف الحكم فى ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت ، ومن عدم صبره . . فإذا خاف الهلاك فى الدين أو الدنيا فالنكاح حتم .
وإن لم يخش شيئا ، وكانت الحال مطلقة ، فالنكاح مباح .
قال الشافعى : إنه قضاء لذة فكان مباحا كالأكل والشرب .
وقال مالك وأبو حنيفة : هو مستحب .
وقوله - سبحانه - : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } حض لمن يملك عقد الزواج على أن لا يجعل الفقر حائلا دون إتمامه . لأن الأرزاق بيد الله - تعالى - وحده .
أى : زوجوا - أيها الأولياء والسادة - من كان أهلا للزواج ، وصالحا له وراغبا فيه ، من رجالكم ونسائكم ، ولا يمنعكم فقرهم من إتمامه ، فإنهم إن يكونوا فقراء اليوم ، فالله - تعالى - قادر على أن يغنيهم فى الحال أو فى المستقبل متى شاء ذلك ، فإن قدرته - عز وجل - لا يعجزها شىء ، وكم من أناس كانوا فقراء قبل الزواج ، ثم صاروا أغنياء بعده ، لأنهم قصدوا بزواجهم حفظ فروجهم ، وتفيذ ما أمرتهم به شريعة الإسلام .
روى الإمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والغازى فى سبيل الله " .
فهذا عهد أخذه الله - تعالى - على ذاته - فضلا منه وكرما - ولن يخلف الله - عز وجل - عهده .
وقوله - سبحانه - : { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أى : والله - تعالى - واسع الغنى لا تنفد خزائنه ، ولا ينتهى ما عنده من خير ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء .
وإلى هنا كان علاج المسألة علاجا نفسيا وقائيا . ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة ، لا بد من مواجهتها بحلول واقعية إيجابية . . هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج ، والمعاونة عليه ؛ مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة الجنسية أو إغلاقها نهائيا :
وأنكحوا الأيامى منكم ، والصالحين من عبادكم وإمائكم . إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله . والله واسع عليم . وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله . والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم - إن علمتم فيهم خيرا - وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ؛ ولا تكرهوا فتيانكم على البغاء - إن أردن تحصنا - لتبتغوا عرض الحياة الدنيا . ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم . .
إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية . وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة .
فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج ، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها . والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت ، وتحصين النفوس . والإسلام نظام متكامل ، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها ، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء . فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدا غير مضطر .
لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال :
( وأنكحوا الأيامى منكم ، والصالحين من عبادكم وإمائكم . إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) . .
والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين . . والمقصود هنا الأحرار . وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك : ( والصالحين من عبادكم وإمائكم ) .
وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) . .
وهذا أمر للجماعة بتزويجهم . والجمهور على أن الأمر هنا للندب . ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لم يزوجوا . ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم . ونحن نرى أن الأمر للوجوب ، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج ؛ ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج ، وتمكينهم من الإحصان ، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية ، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة . وهو واجب . ووسيلة الواجب واجبة .
وينبغي أن نضع في حسابنا - مع هذا - أن الإسلام - بوصفه نظاما متكاملا - يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجا أساسيا ؛ فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب ، وتحصيل الرزق ، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال . ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات . . فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله . وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقا على الدولة واجبا للأفراد . أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام .
فإذا وجد في المجتمع الإسلامي - بعد ذلك - أيامى فقراء وفقيرات ، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج ، فعلى الجماعة أن تزوجهم . وكذلك العبيد والإماء . غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين .
ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقا عن التزويج - متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالا ونساء - فالرزق بيد الله . وقد تكفل الله بإغنائهم ، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) . وقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف " .
اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة ، والأوامر المبرمة ، فقوله تعالى : { وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } : هذا أمر بالتزويج . وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه ، على كل من قَدَر عليه . واحتجوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " . أخرجاه من حديث ابن مسعود{[21114]} .
وجاء في السنن - من غير وجه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تَزَوَّجوا ، توالدوا ، تناسلوا ، فإني مُبَاهٍ بكم الأمم يوم القيامة " {[21115]} وفي رواية : " حتى بالسقط " .
الأيامى : جمع أيِّم ، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها ، وللرجل الذي لا زوجة له . وسواء كان قد تزوج ثم فارق ، أو لم يتزوج واحد منهما ، حكاه الجوهري عن أهل اللغة ، يقال : رجل أيّم وامرأة أيّم أيضا .
وقوله تعالى : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : رغبهم الله في التزويج ، وأمر به الأحرار والعبيد ، ووعدهم عليه الغنى ، فقال : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن خالد الأزرق ، حدثنا عمر بن عبد الواحد ، عن سعيد - يعني : ابن عبد العزيز - قال : بلغني أن أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ، ينجز [ لكم ]{[21116]} ما وعدكم من الغنى ، قال : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .
وعن ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح ، يقول الله تعالى : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } رواه{[21117]} ابن جرير ، وذكر البغوي عن عمر بنحوه .
وعن الليث ، عن محمد بن عَجْلان ، عن سعيد المقْبُرِي ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة حَقٌّ على الله عَوْنهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتَب يريد الأداء ، والغازي في سبيل الله " . رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه{[21118]}
وقد زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد إلا إزاره{[21119]} ، ولم يقدر على خاتم من حديد ، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة ، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما يحفظه من القرآن .
والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه [ وإياها ]{[21120]} ما فيه كفاية له ولها . فأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث : " تزوجوا فقراء يغنكم الله " ، فلا أصل له ، ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن ، وفي القرآن غنية عنه ، وكذا{[21121]} هذا الحديث الذي أوردناه . ولله الحمد .
{ وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } لما نهى عما عسى يفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع بعد الزجر عنه مبالغة فيه عقبه بأمر النكاح الحافظ له والخطاب للأولياء والسادة ، وفيه دليل على وجوب تزويج المولية والمملوك وذلك عند طلبهما ، وإشعار بأن المرأة والعبد لا يستبدان به إذ لو استبدا لما وجب على الولي والمولى ، و " أيامي " مقلوب أيايم كيتامى ، جمع أيم وهو العزب ذكرا كان أو أنثى بكرا كان أو ثيبا قال :
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي *** وإن كنت أفتى منكم أتأيم
وتخصيص { الصالحين } لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم ، وقيل المراد الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه ، { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } رد لما عسى يمنع من النكاح والمعنى لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح ، أو وعد من الله بالإغناء لقوله صلى الله عليه وسلم " اطلبوا الغنى في هذه الآية " . لكن مشروط بالمشيئة كقوله تعالى : { إن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } . { والله واسع } ذو سعة لا تنفذ نعمته إذ لا تنتهي قدرته . { عليم } يبسط الرزق ويقدر على ما تقتضيه حكمته .
أردفت أوامر العفاف بالإرشاد إلى ما يعين عليه ، ويُعف نفوس المؤمنين والمؤمنات ، ويغض من أبصارهم ، فأمر الأولياء بأن يزوجوا أياماهم ولا يتركوهن متأيمات لأن ذلك أعف لهن وللرجال الذين يتزوجونهن . وأمر السادة بتزويج عبيدهم وإمائهم . وهذا وسيلة لإبطال البغاء كما سيتبع به في آخر الآية .
والآيامى : جمع أيم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة بوزن فَيْعِل وهي المرأة التي لا زوج لها كانت ثيباً أم بكراً . والشائع إطلاق الأيم على التي كانت ذات زوج ثم خلت عنه بفراق أو موته ، وأما إطلاقه على البكر التي لا زوج لها فغير شائع فيحمل على أنه مجاز كثر استعماله . والأيم في الأصل من أوصاف النساء قاله أبو عمرو والكسائي ولذلك لم تقترن به هاء التأنيث فلا يقال : امرأة أيّمة . واطلاق الأيم على الرجل الخلي عن امرأة إما لمشاكلة أو تشبيه ، وبعض أيمة اللغة كأبي عبيد والنضر بن شميل يجعل الأيم مشتركاً للمرأة والرجل وعليه درج في « الكشاف » و« القاموس » .
ووزن أيامى عند الزمخشري أفاعل لأنه جمع أيم بوزن فيعل ، وفيعل لا يجمع على فَعَالى . فأصل أيامى أيائم فوقع فيه قلب مكاني قدمت الميم للتخلص من ثقل الياء بعد حرف المد ، وفتحت الميم للتخفيف فقلبت الياء ألفاً . وعند ابن مالك وجماعة : وزنه فَعَالى على غير قياس وهو ظاهر كلام سيبويه .
و { الأيامى } صيغة عموم لأنه جمع معرف باللام فتشمل البغايا . أُمر أولياؤهن بتزويجهن فكان هذا العموم ناسخاً لقوله تعالى : { والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } [ النور : 3 ] فقد قال جمهور الفقهاء : إن هذه ناسخة للآية التي تقدمت وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد . ونقل القول بأن التي قبلها محكمة عن غير معين . وزوج أبو بكر امرأة من رجل زنى بها لما شكاه أبوها .
ومعنى التبعيض في قوله { منكم } أنهن من المسلمات لأن غير المسلمات لا يخلُون عند المسلمين من أن يكن أزواجاً لبعض المسلمين فلا علاقة للآية بهن ، أو أن يكن مملوكات فهن داخلات في قوله : { والصالحين من عبادكم وإمائكم } على الاحتمالات الآتية في معنى { الصالحين } وأما غيرهن فولايتهن لأهل ملتهن .
والمقصود : الأيامى الحرائر ، خصصه قوله بعده { والصالحين من عبادكم وإمائكم } . وظاهر وصف العبيد والإماء بالصالحين أن المراد اتصافهم بالصلاح الديني . أي الأتقياء . والمعنى : لا يحملكم تحقق صلاحهم على إهمال إنكاحهم لأنكم آمنون من وقوعهم في الزنى بل عليكم أن تزوجوهم رفقاً بهم ودفعاً لمشقة العنت عنهم .
فيفيد أنهم إن لم يكونوا صالحين كان تزويجهم آكد أمراً . وهذا من دلالة الفحوى فيشمل غيرُ الصالحين غيرَ الأعفّاء والعفائف من المماليك المسلمين ، ويشمل المماليك غير المسلمين . وبهذا التفسير تنقشع الحيرة التي عرضت للمفسرين في التقييد بهذا الوصف .
وقيل أريد بالصالحين الصلاح للتزوج بمعنى اللياقة لشؤون الزوج ، أي إذا كانوا مظنة القيام بحقوق الزوجية .
وصيغة الأمر في قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم } إلى آخره مجملة تحتمل الوجوب والندب بحسب ما يعرض من حال المأمور بإنكاحهم : فإن كانوا مظنة الوقوع في مضار في الدين أو الدنيا كان إنكاحهم واجباً ، وإن لم يكونوا كذلك فعند مالك وأبي حنيفة إنكاحهم مستحب . وقال الشافعي : لا يندب . وحمل الأمر على الإباحة ، وهو محمل ضعيف في مثل هذا المقام إذ ليس المقام مظنة تردد في إباحة تزويجهم .
وجملة : { إن يكونوا فقراء } الخ استئناف بياني لأن عموم الأيامى والعبيد والإماء في صيغة الأمر يثير سؤال الأولياء والموالي أن يكون الراغب في تزوج المرأة الأيم فقيراً فهل يرده الولي ، وأن يكون سيد العبد فقيراً لا يجد ما ينفقه على زوجه ، وكذلك سيد الأمة يخطبها رجل فقير حر أو عبد فجاء هذا لبيان إرادة العموم في الأحوال . ووعد الله المتزوج من هؤلاء إن كان فقيراً أن يغنيه الله ، وإغناؤه تيسير الغنى إليه إن كان حراً وتوسعة المال على مولاه إن كان عبداً فلا عذر للولي ولا للمولى أن يرد خطبته في هذه الأحوال .
وإغناء الله إياهم توفيق ما يتعاطونه من أسباب الرزق التي اعتادوها مما يرتبط به سعيهم الخاص من مقارنة الأسباب العامة أو الخاصة التي تفيد سعيهم نجاحاً وتجارتهم رباحاً . والمعنى : أن الله تكفل لهم أن يكفيهم مؤنة ما يزيده التزوج من نفقاتهم .
وصفة الله « الواسع » مشتقة من فعل وسِع باعتبار أنه وصف مجازي لأن الموصوف بالسعة هو إحسانه . قال حجة الإسلام : والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة ، وتضاف مرة إلى الإحسان وبذل النعم ، وكيفما قُدّر وعلى أي شيء نُزّل فالواسع المطلق هو الله تعالى لأنه إن نُظر إلى علمه فلا ساحل لبحر معلوماته وإن نُظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته ا ه .
والذي يؤخذ من استقراء القرآن وصف الواسع المطلق إنما يراد به سعة الفضل والنعمة ، ولذلك يقرن بوصف العلم ونحوه قال تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلّاً من سَعته وكان الله واسعاً حكيماً } [ النساء : 130 ] . أما إذا ذكرت السعة بصيغة الفعل فيراد بها الإحاطة فيما تُميَّزُ به كقوله تعالى : { وسع ربنا كل شيء علماً } [ الأعراف : 89 ] .
وذكر { عليم } بعد { واسع } إشارة إلى أنه يعطي فضله على مقتضى ما علمه من الحكمة في مقدار الإعطاء .