تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ} (62)

أي : هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده ؟ ومن يكشف السوء أي : البلاء والشر والنقمة إلا الله وحده ؟ ومن يجعلكم خلفاء الأرض يمكنكم منها ويمد لكم بالرزق ويوصل إليكم نعمه وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم أإله مع الله يفعل هذه الأفعال ؟ لا أحد يفعل مع الله شيئا من ذلك حتى بإقراركم أيها المشركون ، ولهذا كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم أنه وحده المقتدر على دفعه وإزالته ، { قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } أي : قليل تذكركم وتدبركم للأمور التي إذا تذكرتموها ادَّكرتم ورجعتم إلى الهدى ، ولكن الغفلة والإعراض شامل لكم فلذلك ما ارعويتم ولا اهتديتم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ} (62)

ثم تنتقل السورة - للمرة الثالثة - إلى لفت أنظارهم إلى الحقيقة التى هم يحسونها فى خاصة أنفسهم ، وفى حنايا قلوبهم فتقول : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء } .

والمضطر : اسم مفعول من الاضطرار الذى هو افتعال من الضرورة .

والمراد به : الإنسان الذى نزلت به شدة من الشدائد . جعلته يرفع أكف الضراعة إلى الله - تعالى - لكى يكشفها عنه .

أى : وقولوا لنا - أيها المشركون - : من الذين يجيب دعوة الداعى المكروب الذى نزلت به المصائب والرزايا ؟ ومن الذى يكشف عنه وعن غيره السوء والبلاء ؟ إنه الله وحده ، هو الذى يجيب دعاء من التجأ إليه ، وهو وحده - سبحانه - الذى يكشف السوء عن عباده ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته .

وقولوا لنا - أيضا - : من الذى { يَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض } أى : من الذى يجعلكم يخلف بعضكم بعضا . قرنا بع قرن وجيلا بعد جيل { أإله مَّعَ الله } هو الذى فعل ذلك .

كلا ، بل الله وحده - عز وجل - هو الذى يجيب المضطر ، وهو الذى يكشف السوء ، وهو الذي يجعلكم خلفاء الأرض ، ولكنكم { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } أى : ولكنكم زمانا قليلا هو الذى تتذكرون فيه نعم الله - تعالى - عليكم ، ورحمته بكم .

وختم - سبحانه - هذه الآية بتلك الجملة الحكيمة ، لأن الإنسان من شأنه - إلا من عصم الله - أنه يذكر الله - تعالى - عند الشدائد ، وينساه عند الرخاء .

وصدق الله إذ يقول : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ} (62)

59

ثم ينتقل بهم من مشاهد الكون إلى خاصة أنفسهم :

( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ، ويجعلكم خلفاء الأرض ? أإله مع الله ? قليلا ما تذكرون ) . .

فيلمس وجدانهم وهو يذكرهم بخوالج أنفسهم ، وواقع أحوالهم .

فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين تضيق الحلقة ، وتشتد الخنقة ، وتتخاذل القوى ، وتتهاوى الأسناد ؛ وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص . لا قوته ، ولا قوة في الأرض تنجده . وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى ؛ وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى . . في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة ، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء . فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه . هو وحده دون سواه . يجيبه ويكشف عنه السوء ، ويرده إلى الأمن والسلامة ، وينجييه من الضيقة الآخذة بالخناق .

والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء ، وفترات الغفلة . يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة . فأما حين تلجئهم الشدة ، ويضطرهم الكرب ، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة ، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين .

والقرآن يرد المكابرين الجاحدين إلى هذه الحقيقة الكامنة في فطرتهم ، ويسوقها لهم في مجال الحقائق الكونية التي ساقها من قبل . حقائق خلق السماوات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، وإنبات الحدائق البهيجة ، وجعل الأرض قرارا ، والجبال رواسي ، وإجراء الأنهار ، والحاجز بين البحرين . فالتجاء المضطر إلى الله ، واستجابة الله له دون سواه حقيقة كهذه الحقائق . هذه في الآفاق وتلك في الأنفس سواء بسواء .

ويمضي في لمس مشاعرهم بما هو واقع في حياتهم : ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) . .

فمن يجعل الناس خلفاء الأرض ? أليس هو الله الذي استخلف جنسهم في الأرض أولا . ثم جعلهم قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، يخلف بعضهم بعضا في مملكة الأرض التي جعلهم فيها خلفاء ?

أليس هو الله الذي فطرهم وفق النواميس التي تسمح بوجودهم في هذه الأرض ، وزودهم بالطاقات والاستعدادات التي تقدرهم على الخلافة فيها ، وتعدهم لهذه المهمة الضخمة الكبرى . النواميس التي تجعل الأرض لهم قرارا ؛ والتي تنظم الكون كله متناسقا بعضه مع بعض بحيث تتهيأ للأرض تلك الموافقات والظروفالمساعدة للحياة . ولو اختل شرط واحد من الشروط الكثيرة المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه لأصبح وجود الحياة على هذه الأرض مستحيلا .

وأخيرا أليس هو الله الذي قدر الموت والحياة ، واستخلف جيلا بعد جيل ؛ ولو عاش الأولون لضاقت الأرض بهم وبالآخرين ؛ ولأبطأ سير الحياة والحضارة والتفكير ، لأن تجدد الأجيال هو الذي يسمح بتجدد الأفكار والتجارب والمحاولات ، وتجدد أنماط الحياة ، بغير تصادم بين القدامى والمحدثين إلا في عالم الفكر والشعور . فأما لو كان القدامى أحياء لتضخم التصادم والاعتراض ! ولتعطل موكب الحياة المندفع إلى الأمام !

إنها كلها حقائق في الأنفس كتلك الحقائق في الآفاق . فمن الذي حقق وجودها وأنشأها ? من ?

( أإله مع الله ? ) . .

إنهم لينسون ويغفلون هذه الحقائق كامنة في أعماق النفوس ، مشهودة في واقع الحياة :

( قليلا ما تذكرون ) !

ولو تذكر الإنسان وتدبر مثل هذه الحقائق لبقي موصولا بالله صلة الفطرة الأولى . ولما غفل عن ربه ، ولا أشرك به أحدا .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ} (62)

ينبه تعالى أنه هو المدعُوّ عند الشدائد ، المرجُوّ عند النوازل ، كما قال : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] ، وقال تعالى : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] . وهكذا قال هاهنا : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } أي : مَنْ هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه .

قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وُهَيْب ، حدثنا خالد الحَذّاء ، عن أبي تميمة الهُجَيْمي ، عن رجل من بلهجيم قال : قلت : يا رسول الله ، إلام تدعو ؟ قال : " أدعو إلى الله وحده ، الذي إن مَسّك ضر فدعوته كشف عنك ، والذي إن أضْلَلْت بأرض قَفْر فدعوتَه رَدّ عليك ، والذي إن أصابتك سَنة فدعوتَه أنبتَ لك " . قال : قلت : أوصني . قال : " لا تَسُبَّنَّ أحدًا ، ولا تَزْهَدنّ في المعروف ، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك ، ولو أن تُفرغَ من دَلوك في إناء المستقي ، واتزر إلى نصف الساق ، فإن أبيت فإلى الكعبين . وإياك وإسبال الإزار ، فإن إسبال الإزار من المخيلة ، [ وإن الله - تبارك تعالى - لا يحب المخيلة ]{[22108]}-{[22109]} .

وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر ، فذكر اسم الصحابي فقال : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا يونس - هو ابن عبيد - حدثنا عبيدة الهُجَيْمي{[22110]} عن أبي تَميمَةَ الهُجَيْمي ، عن جابر بن سُلَيم الهُجَيمي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ بِشَمْلَة ، وقد وقع هُدْبها على قدميه ، فقلت : أيكم محمد - أو : رسول الله ؟ - فأومأ بيده إلى نفسه ، فقلت : يا رسول الله ، أنا من أهل البادية ، وفِيَّ جفاؤهم ، فأوصني . فقال : " لا تحقرَنّ من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك مُنْبَسط ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، وإن امرؤ شَتَمك بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه ، فإنه يكون لك أجره وعليه وزْرُه . وإياك وإسبال الإزار ، فإن إسبال الإزار من المَخيلَة ، وإن الله لا يحب المخيلة ، ولا تَسُبَّنّ أحدًا " . قال : فما سببت بعده أحدًا ، ولا شاة ولا بعيرًا{[22111]} .

وقد روى أبو داود والنسائي لهذا الحديث طرقا ، وعندهما طرف صالح منه{[22112]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن هاشم{[22113]} حدثنا عبدَةَ بن نوح ، عن عمر بن الحجاج ، عن عبيد الله بن أبي صالح قال : دخل عليَّ طاوس يعودني ، فقلت{[22114]} له : ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن . فقال : ادع لنفسك ، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه .

وقال وهب بن منبه : قرأت في الكتاب الأول : إن الله يقول : بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن{[22115]} فيهن ، والأرض بمن فيها ، فإني{[22116]} أجعل له من بين ذلك مخرجًا . ومن لم يعتصم بي فإني{[22117]} أخسف به من تحت قدميه الأرض ، فأجعله في الهواء ، فأكله إلى نفسه .

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل - حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدّينَوَري ، المعروف بالدّقّيِّ الصوفي - قال هذا الرجل{[22118]} : كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزّبَدَاني ، فركب معي ذات مرة رجل ، فمررنا على بعض الطريق ، على طريق غير مسلوكة ، فقال لي : خذ في هذه ، فإنها أقرب . فقلت : لا خبرَةَ لي فيها ، فقال : بل هي أقرب . فسلكناها فانتهينا إلى مكان وَعْر وواد عميق ، وفيه قتلى كثير ، فقال لي : أمسك رأس البغل حتى أنزل . فنزل وتشمر ، وجمع عليه ثيابه ، وسل سكينا معه وقصدني ، ففررت من بين يديه وتبعني ، فناشدته الله وقلت : خذ البغل بما عليه . فقال : هو لي ، وإنما أريد قتلك . فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل ، فاستسلمت بين يديه وقلت : إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين ؟ فقال : [ صل ]{[22119]} وعجل . فقمت أصلي فَأرْتِج

عليَّ القرآن فلم يَحضرني منه حرف واحد ، فبقيت واقفًا متحيرًا وهو يقول : هيه . افرُغ . فأجرى الله على لساني قوله تعالى : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } ، فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي ، وبيده حربة ، فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده ، فخر صريعًا ، فتعلقت بالفارس وقلت : بالله مَنْ أنت ؟ فقال : أنا رسول[ الله ]{[22120]} الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء . قال : فأخذت البغل والحمل ورجعت سالما .

وذكر في ترجمة " فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية " قالت : هزم الكفار يوما المسلمين في غزاة ، فوقف جَوَاد جَيّد بصاحبه ، وكان من ذوي اليسار ومن الصلحاء ، فقال للجواد : ما لك ؟ ويلك . إنما كنت أعدّك لمثل هذا اليوم . فقال له الجواد : وما لي لا أقصّر وأنت تَكلُ علوفتي إلى السّواس فيظلمونني ولا يطعمونني{[22121]} إلا القليل ؟ فقال : لك عليَّ عهد الله أني لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في حِجْري . فجرى الجواد عند ذلك ، ونجَّى صاحبه ، وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حِجْره ، واشتهر أمره بين الناس ، وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك ، وبلغ ملك الروم أمرُه ، فقال : ما تُضَام{[22122]} بلدة يكون هذا الرجل فيها . واحتال ليحصّله في بلده ، فبعث إليه رجلا من المرتدين عنده ، فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حَسُنت نيته في الإسلام وقومه ، حتى استوثق ، ثم خرجا يوما يمشيان على جنب الساحل ، وقد واعد شخصا آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره ، فلما اكتنفاه ليأخذاه رَفَع طرفه إلى السماء وقال : اللهم ، إنه إنما خَدَعني بك فاكفنيهما بما شئت ، قال : فخرج سبعان إليهما فأخذاهما ، ورجع الرجل سالما{[22123]} .

وقوله تعالى : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } أي : يُخْلفُ قَرنا لقرن قبلهم وخَلَفًا لسلف ، كما قال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [ الأنعام : 133 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الأنعام : 165 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، أي : قومًا يخلف بعضهم بعضا كما قدمنا تقريره . وهكذا هذه الآية : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } أي : أمة بعد أمة ، وجيلا بعد جيل ، وقومًا بعد قوم . ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد ، ولم يجعل بعضَهم من ذرية بعض ، بل لو شاء لخلقهم{[22124]} كلهم أجمعين ، كما خلق آدم من تراب . ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض{[22125]} ولكن لا يميت أحدا حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد ، فكانت تضيق عليهم الأرض{[22126]} وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم ، ويتضرر بعضهم ببعض . ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن يخلقهم من نفس واحدة ، ثم يكثرهم غاية الكثرة ، ويذرأهم في الأرض ، ويجعلهم قرونا بعد قرون ، وأمما بعد أمم ، حتى ينقضي الأجل وتفرغ البَرية ، كما قدر ذلك تبارك وتعالى ، وكما أحصاهم وعَدّهم عَدًا ، ثم يقيم{[22127]} القيامة ، ويُوفي كلّ عامل عمله إذا بلغ الكتاب جله ؛ ولهذا قال تعالى : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } أي : يقدر على ذلك ، أو إله مع الله يُعْبد ، وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك { قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ }{[22128]} أي : ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق ، ويهديهم إلى الصراط المستقيم .


[22108]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[22109]:- المسند (5/64).
[22110]:- في هـ ، ف ، أ : "الهجيمي عن أبيه".
[22111]:- المسند (5/63).
[22112]:- سنن أبي داود برقم (4084) والنسائي في السنن الكبرى برقم (1049 - 1052).
[22113]:- في أ : "هشام".
[22114]:- في ف ، أ : "قال".
[22115]:- في ف : "بمن".
[22116]:- في ف : "أن" ، وفي أ : "أي".
[22117]:- في ف : "فإنه".
[22118]:- في ف : "بالرجل".
[22119]:- زيادة من ف.
[22120]:- زيادة من ف ، أ.
[22121]:- في ف ، أ : "فيظلموني ولا يطعموني".
[22122]:- في ف ، أ : "ما نظام".
[22123]:- تاريخ دمشق (19/489 "المخطوط").
[22124]:- في أ : "لجعلهم".
[22125]:- في ف ، أ : "من ذرية بعضهم بعضا".
[22126]:- في ف : "تضيق الأرض عليهم".
[22127]:- في ف : "يوم".
[22128]:- في ف ، أ : "ما تذكرون".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ} (62)

{ أمن يجيب المضطر إذا دعاه } المضطر الذي أحوجه شدة ما به إلى اللجوء إلى الله تعالى من الاضطرار ، وهو افتعال من الضرورة واللام فيه للجنس لا للاستغراق فلا يلزم منه إجابة كل مضطر . { ويكشف السوء } ويدفع عن الإنسان ما يسوءه . { ويجعلكم خلفاء الأرض } خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم . { أإله مع الله } الذي خصكم بهذه النعم العامة والخاصة . { قليلا ما تذكرون } أي تذكرون آلاءه تذكرا قليلا ، وما مزيدة والمراد بالقلة العدم أو الحقارة المزيحة للفائدة . وقرأ أبو عمرو وهشام وروح بالياء وحمزة والكسائي وحفص بالتاء وتخفيف الذال .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ} (62)

ارتقى الاستدلال من التذكير بالتصرف الرباني في ذوات المخلوقات إلى التذكير بتصرفه في أحوال الناس التي لا يخلو عنها أحد في بعض شؤون الحياة وذلك حال الاضطرار إلى تحصيل الخير ، وحال انتياب السوء ، وحال التصرف في الأرض ومنافعها . فهذه ثلاثة الأنواع لأحوال البشر . وهي : حالة الاحتياج ، وحالة البؤس ، وحالة الانتفاع .

فالأولى : هي المضمنة في قوله { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } فالمضطر هو ذو الضرورة أي الحالة المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول ، وهذه مرتبة الحاجيات فالمرء محتاج إلى أمور كثيرة بها قوام أوده ليست متصلة بذاته مثل الأقوات والنكاح والملابس اللازمة فالمرء يتطلبها بوجوه من المعاوضات ، وقد يتعسر بعضها وهي تتعسر بقدر وفرة منافعها وعزة حصولها فيسأل الله أن يعطيها .

والاضطرار : افتعال من الضرورة لا من الضر . وتقديره : أنه نالته الضرورة فطاوعها . وليس له فعل مجرد وإنما يقال : اضطره كذا إلى كذا .

واللام في { المضطر } لتعريف الجنس المسمى بلام العهد الذهني ، أي يجيب فرداً معهوداً في الذهن بحالة الاضطرار .

والإجابة : إعطاء الأمر المسؤول . والمعنى : أن المضطر إذا دعا لتحصيل ما اضطر إليه فإنه لا يجيبه إلا الله بقطع النظر عن كونه يجيب بعضاً ويؤخر بعضاً .

وحالة البؤس : هي المشار إليها بقوله { ويكشف السوء .

والكشف : أصله رفع الغشاء ، فشبه السوء الذي يعتري المضرور بغشاء يحول دون المرء ودون الاهتداء إلى الخلاص تشبيه معقول بمحسوس .

وَرُمز إلى المشبه به بالكشف الذي هو من روادف الغشاء . وهو أيضاً مستعار للإزالة بقرينة تعديته إلى السوء . والمعنى : من يزيل السوء . وهذه مرتبة الضروري فإن معظمها أو جميعها حفظ من تطرق السوء إلى مهم أحوال الناس مثل الكليات وهي : حفظ الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسب ، والمال ، والعرض .

والمعنى : إن الله يكشف السوء عن المسوء إذا دعاه أيضاً فحذف من الجملة المعطوفة لدلالة ما ذكر مع الجملة المعطوف عليها ، أي يكشف السوء عن المستاء إذا دعاه .

وظاهر التقييد بالظرف يقتضي ضمان الإجابة . والواقع أن الإجابة منوطة بإرادة الله تعالى بحسب ما يقتضيه حال الداعي وما يقتضيه معارضه من أصول أخرى ، والله أعلم بذلك .

وحالة الانتفاع : هي المشار إليها بقوله { ويجعلكم خلفاء الأرض } أي يجعلكم تعمرون الأرض وتجتنون منافعها ، فضمن الخلفاء معنى المالكين فأضيف إلى الأرض على تقدير : مالكين لها ، والملك يستلزم الانتفاع بما ينتفع به منها . وأفاد خلفاء بطريق الإلتزام معنى الوراثة لمن سبق ، فكل حي هو خلف عن سلفه . والأمة خلف عن أمة كانت قبلها جيلاً بعد جيل . وهذا كقوله تعالى حكاية لقول نوح { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } [ هود : 61 ] . وهذه مرتبة التحسيني .

وقد جمعت الآية الإشارة إلى مراتب المناسب وهو ما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً وهو من مسالك العلة في أصول الفقه .

ولما اقتضته الخلافة من تجدد الأبناء عقب الآباء والأجيال بعد الأجيال ، وما اقتضته الاستجابة وكشف السوء من كثرة الداعين والمستائين عبر في أفعال الجعل التي تعلقت بها بصيغة المضارع الدال على التجدد بخلاف أفعال الجعل الأربعة التي في الآية قبلها .

ثم استؤنف عقب هذا الاستدلال باستفهام إنكاري تكريراً لما تقدم عقب الأدلة السابقة زيادة في تعداد خطئهم بقوله { أإله مع الله قليلاً ما تذكرون } .

وانتصب { قليلاً } على الحال من ضمير الخطاب في قوله { ويجعلكم خلفاء الأرض } أي فعل ذلك لكم وأنتم في حال قلة تذكركم ، فتفيد الحال معنى التعجب من حالهم .

والتذكر : من الذُّكر بضم الذال وهو ضد النسيان فهو استحضار المعلوم ، أي قليلاً استحضاركم الافتقار إلى الله وما أنتم فيه من إنعامه فتهتدوا بأنه الحقيق بأن لا تشركوا معه غيره . فالمقصود من التذكر التذكر المفيد استدلالاً . و { ما } مصدرية والمصدر هو فاعل { قليلاً .

والقليل هنا مكنّى به عن المعدوم لأن التذكر المقصود معدوم منهم ، والكناية بالقليل عن المعدوم مستعملة في كلامهم . وهذه الكناية تلميح وتعريض ، أي إن كنتم تذكرون فإن تذكركم قليل .

وأصل { تذكرون } تتذكرون فأدغمت تاء التفعل في الذال لتقارب مخرجيهما تخفيفاً وهو إدغام سماعي .

وقرأ الجمهور { تذكرون } بتاء الخطاب . وقرأه روح عن أبي عمرو وهشام عن ابن عامر بياء الغيبة على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، ففي قراءة الجمهور نكتة توجيه الخطاب إلى المشركين مكافحة لهم ، وفي قراءة روح وهشام نكتة الإعراض عنهم لأنهم استأهلوا الإعراض بعد تذكرهم .